الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)44%

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67879 / تحميل: 8085
الحجم الحجم الحجم
الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

٣- محبوبة الرسول وبضعته.

٤- مقرّبة إلى الله، يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

٥- صاحبة التضحية الكبرى والفداء.

٦- المقام العلمي لفاطمة.

٧- كرامات سيدة النساء.

٨- أوّل مَن يدخل الجنة.

٩- أسامي فاطمة.

١٠- هدية النبي لابنته الزهراء.

٤١

سيدة نساء العالمين

من الطبيعي أن تختلف منزلة البشر من واحد لآخر، فمنهم مَن علا بفضيلته على الملائكة المقرّبين، ومنهم مَن هو أحطَّ من الحيوانات، وطبقاً لِما ينصُّ عليه القران ويوصي به الإسلام، فإنَّ ( العلم والإيمان والتقوى والصفات الإنسانية الفاضلة ) هي التي ترفع من مقام الإنسان وقيمته، وبالاستناد إلى هذه المعايير فإنّ السيدة فاطمة الزهراء - وعلى لسان رسول الله - سيدة نساء العالمين.

لقد ورد في مصادر أهل السنة المعروفة كثيراً من الروايات تنصُّ على أنّ فاطمة الزهراء أفضل نساء العالمين؛ حيث تحدث الرسول، بهذه لعدة مرات وبتعابير مختلفة.

١- قال:

( إنّ أفضل نساء الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم )(١) .

٢- ونقرأ في حديث آخر للرسول حين اعتلّ علة الموت، عندما شاهد قلق واضطراب فاطمة أنّه قال:

( يا فاطمة، أَلا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه

____________________

١. نقل هذا الحديث في مستدرك الصحيحين، ج ٢، ص٤٩٧ ثمّ صرّح بأنّ سنده صحيح.

٤٢

الأمّة، وسيدة نساء المؤمنين )(١) .

و هنا تظهر أفضلية فاطمة المطلقة؛ حيث لم يورد الرسول في حديثه اسماً آخر.

٣- نقل أبو نعيم الأصبهاني عن جابر بن سمرة، قال: جاء نبيّ الله فجلس وقال:

إنّ فاطمة وَجِعة، فقال القوم: لو عدناها؟

فقام فمشى حتى انتهى إلى الباب - والباب عليها مصفق - قال، فنادى: شُدّي عليك ثيابك فإنّ القوم جاؤوا يعودونكِ.

فقالت: يا نبيّ الله، ما عليَّ عباءة. قال: فأخذ رداءً فرمى به إليها من وراء الباب، فقال: شُدّي بهذا رأسك، فدخل ودخل القوم، فقعد ساعةً فخرجوا، فقال القوم: تالله بنت نبيّنا على هذا الحال؟

قال فالتفت فقال:

( أَما إنّها سيدة النساء يوم القيامة )(٢) .

٤ - وبتعبير آخر رواه صحيح(٣) البخاري - وهو من أشهر مصادر الحديث عند العامة - نقلاً عن عائشة أنّها قالت:

أقبلت فاطمة كأنّ مشيتها مشية رسول الله فقال: مرحباً بابنتي، ثمّ أجلسها عن يمينه، ثم أسرَّ إليها حديثاً فبكت، فقلت استخصك رسول الله وأنت تبكين؟ ثمَّ أنّه أسرَّ لها فضحكت.

قالت: فقلت لها ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من حزن، ما أسرّ إليك؟

____________________

١. مستدرك الصحيحين، ج٣، ص١٥٦، كما صرّح بصحة سند هذا الحديث.

٢. حلية الأولياء، ج٢، ص٤٢.

٣. صحيح البخاري كتاب بدء الخلق.

٤٣

فقالت فاطمة: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله.

حتى إذا قُبض الرسول سألتها، فقالت:

( إنّه أسرّ إليّ وقال: كان جبرئيل يعارضني بالقران في كلّ عام، وإنّه عارضني به هذا العام مرتين، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي، وإنّكِ أوّل أهلي لحوقاً بي، ولنِعمَ السلف أنا لكِ، فبكيت لذلك، فقال: أَما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ونساء المؤمنين؟! فذلك الذي أضحكني ).

ويُتضح جيداً من التأمل في هذه الأحاديث، أنّه إذا قيل إنّ فاطمة واحدة من أربع من النساء الفاضلات، فإنّ ذلك لا ينافي كونها أفضل تلك النساء الأربع.

ودليلنا على هذا ما يفيده الحديث التالي:

٥ - نُقل في كتاب ( ذخائر العقبى ) عن ابن عباس أنّ الرسول الكريم قال: ( أربع نسوة سيدات سادات عالمهنَّ: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهنّ فاطمة )(١) ، وبالطبع فإنّ كلمة ( أفضلهنّ ) تشتمل على عدة معان، وتشير إلى المنزلة العلمية، والتقوى والإيثار، وسائر المَلَكات الفاضلة.

لقد صرّح القران قائلاً: أنّ الملائكة كانت تكلّم مريم، كما في الآية الشريفة:( إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

وقد كلّمت مريم الملائكة، وهذا ما تنصّ عليه آية ١٦ والى آية ٢١ من

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٤٤، وأيضاً السيوطي في ( الدر المنثور ) ذكر هذا الحديث في أسفل آية ٤٢ من سورة آل عمران.

٢. سورة آل عمران، آية ٤٢ كذلك آية ٤٣و٤٥.

٤٤

سورة مريم، وينص القران على أنّه كان يؤتى لمريم بطعام من الجنة، حيث نقرأ في الآية الشريفة:( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُول حَسَن وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب ) (١) .

ويصفها في مكان آخر بأنّها ( صدّيقة )، كما في الآية الشريفة:

( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (٢) .

وغير ذلك من الفضائل التي يثبتها للسيدة مريم وباقي النساء الفاضلات كآسية بنت مزاحم، وكذلك يثبت النبي مثل هذه الفضائل والكرامات للسيدة خديجة الكبرى.

ومن هذا المنطلق نعرف أنَّ لفاطمة مقام عالي أو منزلة رفيعة مكرّمة، خصوصاً ما جاء في رواية ( الأفضلية ) التي تدل على أنَّ هذه المفاخر والمناقب، هي في الواقع جزء ممّا تتحلّى وتتميّز به فاطمة.

____________________

١. سورة آل عمران، آية ٣٧.

٢. سورة المائدة، آية ٧٥.

٤٥

حوراء إنسية

إنّ اللبنة الأُولى في بناء كيان الإنسان هي انعقاد ( النطفة )؛ لأنّها على أية حال تحمل قسماً مهماً من قيمه الوجودية؛ ولذلك تواترت الروايات التي توصي بضرورة سلامة هذه اللبنة وصحة تكوينها.

وعند ما نطالع تاريخ حياة سيدة النساء، نرى أنّها قد امتازت في هذا المجال عن جميع شخصيات العالم رجالاً ونساءً.

ومن الأفضل أن نسمع هذا الحديث من فم رسول الله:

٦ - عن ابن عباس قال:

كان النبي يكثر تقبيل فاطمة فقالت له عائشة:

إنّك تكثر تقبيل فاطمة.

فقال: ( إنّ جبرئيل ليلة أُسري بي أدخلني الجنة فأطعمني من جميع ثمارها، فصار ماءً في صلبي، فحملت خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت لتك الثمار قبّلت فاطمة، فأصبت من رائحتها جميع تلك الثمار التي أكلتها )(١) .

٧- وجدير بالذكر أنّ بعض الروايات قد نصّت على فاكهة ( التفاح )، كما هو في كتاب ( ذخائر العقبى )، حيث ينقل ( الطبري ) حديثاً للرسول

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٣٦.

٤٦

عن جمع من الصحابة أنّه قال: ( لمّا أُسري بي أدخلني جبريل الجنة فناولني تفاحةً فأكلتها، فصارت نطفةً في ظهري، فلمّا نزلت من السماء واقعت خديجة، ففاطمة من تلك النطفة )(١) .

٨ - وقد نقل في حديث آخر، أنّ الرسول قد تناول فاكهة ( السفرجل ) عند مروره بالجنة ليلة المعراج، جاء ذلك في ( مستدرك الصحيحين ) نقلاً عن ( سعد بن مالك )(٢) .

٩ - وجاء في حديث آخر، أنّ الفاكهة التي تناولها الرسول كانت غير معروفة لأهل الدنيا، كما أنّها كانت لذيذةً وعطرة النكهة، حيث نقل ( السيوطي ) في ( الدرّ المنثور ) عن الرسول أنّه قال:

( لمّا أُسري بي إلى السماء أُدخلت الجنة، فوقفت على شجرة من أشجار الجنة، لم أرَ في الجنة أحسن منها ولا أبيض ورقاً ولا أطيب ثمرةً، فتناولت من ثمرتها، فأكلتها فصارت نطفةً في صلبي، فلمّا هبطتُ إلى الأرض واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة )(٣) .

وفي الواقع فإنّ الحديث الأوّل في هذا الفصل يحوي ويفسّر مجموع هذه الأحاديث، فطبقاً لِما جاء فيه فإنّ الرسول قد تناول من جميع فواكه الجنة، وإنَّ نطفة فاطمة قد انعقدت من عصارة تلك الثمار، هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الدنيا التي نعيشها تختلف عن عالم الجنة، بقدر تعجز معه ألفاظنا عن تبيان حقائقها، وما نذكره عنها ما هو إلاّ إشارات مختصرة لِما تتمتع بها.

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٤٤.

٢. مستدرك الصحيحين، ج٣، ص١٥٦.

٣. ( السيوطي ) في ( الدّر المنثور ) في تفسير آية( سبحانَ الذي أَسرى بعبدِهِ ) سورة الإسراء آية١.

٤٧

على كلِّ حال فإنّ حوراءً إنسية بالمواصفات الخلقية والطبيعية لأهل الجنة، لابد وأن تكون نطفتها من عصارة فاكهة الجنة، وهذا ما امتازت به هذه السيدة على سائر نساء العالمين.

كانت من نساء الجنة، نفسها وخلقتها، قلبها وروحها، لونها وهيئتها، قولها وحديثها، وغير ذلك من صفات وميزات أهل الجنة، وخلاصة القول أنّها من الجنة من رأسها إلى أخمص قدميها.

فهل في تاريخ البشرية مثل هذا الوسام المشرّف لغير هذه السيدة؟

٤٨

فاطمة ( عليه السلام ) أحب الناس إلى الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )

الحب والعشق، أقوى ما يربط بين موجودين.

يفيد قانون الجاذبية الذي يحكم عالم المادة، أنّ قوة الجذب تتناسب طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وعكسياً مع مربع المسافة بينهما.

ويسري حكم هذا القانون في العالم المعنوي والعشق الإلهي أيضاً، فكلما سمت قيمة الأشخاص وتقاربت نفوسها، زادت علاقة الحب والعشق بينها!

مع وجود اختلاف بسيط يختص به عالم المادة، فأحياناً يولّد الاختلاف والتضاد تجاذباً بين الجسمين ( كما في التجاذب الحاصل بين الشحنتين الموجبة والسالبة )، على خلاف ما يحدث في عالم الأرواح، حيث تقوى رابطة الجذب كلما زاد الشبه فيما بينها، وتضعف إذا ما وُجد التضاد والاختلاف.

نتجه بعد هذه المقدمة القصيرة صوب عالم الأحاديث؛ لنتعرّف على مدى علاقة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) بابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، وإلى أيِّ مقدار كان يحبها؟

١٠ - يُروى عن عائشة أنّها قالت:

( ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وكانت

٤٩

إذا دخلت عليه رحّب بها، وقام إليها، فأخذ بيدها فقبّلها، وأجلسها في مجلسه )(١) .

١١- وجاء في رواية أخرى.

( كان كثيراً ما يقبّل عرف فاطمة )(٢) .

١٢- وتنص رواية ثالثة على:

( كان كثيراً ما يقبّلها في فمها )(٣) .

١٣- لقد كان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) يظهر الكثير من محبته لفاطمة ( عليها السلام )، حتى أثار ذلك حفيظة عائشة، حيث قالت لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

يا رسول الله، ما لكَ إذا جاءت فاطمة قبّلتها، حتى تجعل لسانك في فيها كله، كأنّك تريد أن تطعمها عسلاً؟!

قال ( صلّى الله عليه وآله ): نعم يا عائشة، إنّي لمّا أُسري بي إلى السماء... وقصَّ عليها قصة ثمار الجنة التي تناولها )(٤) .

١٤- وجاء في صحيح أبي داوود

( كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة ( عليها السلام )، وأَوّل مَن يدخل عليه إذا قَدم فاطمة ( عليها السلام ) )(٥) .

كما نقل ( أحمد بن حنبل ) هذه الرواية في مسنده(٦) .

لكن نعلم أنّ للحب والحنان الواقعيين طرفين، فالحنان المطلق له

____________________

١. مستدرك الصحيحين، ج٣، ص١٥٤.

٢. كنز العمّال، ج٧، ص١١١.

٣. فيض الغدير، ص١٧٦.

٤. تاريخ بغداد، ج٥، ص٨٧.

٥. صحيح أبي داود، ج٢٦، باب ما جاء في الانتفاع بالعاج.

٦. مسند أحمد بن حنبل، ج٦، ص٢٨٢.

٥٠

جانب سلبي، ويكون سطحياً عديم القيمة، وكما أسلفنا فإنّ العشق الواقعي دليل على التشابه، وعندما يحصل التشابه ستتولّد الجاذبية بين الطرفين.

لذا فإنّ الروايات الإسلامية تعكس حقيقةً مهمةً، أَلا وهي أنّ العلاقة التي كانت تربط الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) بابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، كانت علاقة متبادلة وبنفس الشدة، وإليك شواهد ما أشرنا إليه:

١٥- جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان الجعفي، بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه له جلوس، وقد نُحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيّكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلمّا سجد النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وضعه بين كتفيه، قال فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر لو كانت لي مِنعة طرحته عن ظهر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، والنبي ( صلّى الله عليه وآله ) ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت، وهي جويرية فطرحته عنه، ثمّ أقبلت عليهم تشتمهم، فلمّا قضى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) صلاته، رفع صوته ثمّ دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثمّ قال: ( اللَّهمَّ عليك بقريش، ثلاث مرات، فلمّا سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته ثمّ قال: اللّهمَّ عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط )، فو الذي بعث محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) بالحق، لقد رأيت الذي سمّى صرعى يوم بدر، ثمّ سُحبوا إلى القليب قليب بدر(١) .

____________________

١. صحيح مسلم ( كتاب الجهاد والسّير )، وصحيح البخاري ( كتاب بدء الخلق، باب، ما لقي النبيّ وأصحابه من المشركين ).

٥١

نعم، لقد كانت الزهراء ( عليها السلام ) منذ صغرها خليطاً من ( المحبة ) و ( الشجاعة )، وهي دائماً على أُهبة الاستعداد في الدفاع عن أبيها ( صلّى الله عليه وآله ).

١٦- ونطالع أيضاً في نفس المصدر السابق عن أحداث غزوة أحد ما يأتي:

( قال سهل بن سعد: جُرح وجه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وكُسرت رباعيته، وهُشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) تغسل الدم، وكان عليُّ بن أبي طالب يسكب عليها بالمِجَن، فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدم إلاّ كثرةً، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً، ثمّ ألصقته بالجرح فاستمسك الدم )(١) .

١٧- نقل ( أبو نعيم الأصفهاني ) في ( حلية الأولياء )، عن عليّ بن محمد بن إسماعيل، عن...عن أبي ثعلبة الخشني أنّه قال: قَدم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) من غزاة له، فدخل المسجد فصلّى فيه ركعتين - وكان يعجبه إذا قدم أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين - ثمّ خرج فأتى فاطمة فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فاستقبلته فاطمة ( عليها السلام )، وجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي.

فقال لها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ): ( ما يبكيك؟ قالت: أراك قد شحب لونك، فقال لها: يا فاطمة إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر، لم يبقَ على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزاً أو ذُلاً، يبلغ حيث بلغ الليل )(٢) .

١٨- وروي فيما روي عن أحداث الخندق عن عليٍّ ( عليه السلام ) في حفر

____________________

١. صحيح مسلم ( كتاب الجهاد والسير ) وصحيح البخاري ( كتاب بدء الخلق، باب ( ما لقي النّبيّ وأصحابه من المشركين ).

٢. حلية الأولياء ج٢، ص٣٠.

٥٢

الخندق، إذ جاءته فاطمة بكسرة من خبز فرفعتها إليه، فقال: ما هذه يا فاطمة؟ قالت: من قرص اختبزته لابنيَّ جئتك منه بهذه الكسرة، فقال: يا بنية، أَما إنّها لأوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث(١) .

ما أعظم قوى الجذب التي تربط بين هذا الأب وابنته؟

جاذبية متأصلة في أعماق روحيهما، ومحبة قد ارتشفت من منبع وجودهما، وعلاقة عشق تمخض عنها اتحاد روح الأب بروح ابنته في الملكوت الأعلى.

فهل هناك أفضل من هذا الافتخار لفاطمة الزهراء ( عليها السلام )؟.

فخر وفضيلة لم تكن لأي أحد عبر تاريخ الإسلام، سوى لمعلمها علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ).

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٤٧.

٥٣

قرب فاطمة ( عليها السلام ) من الله

نعلم أنّ الفناء هو أعلى مراتب القرب من الله سبحانه وتعالى.

( الفناء ) يعني تجاهل ونسيان كل شيء، وكل ذي نفس، بل وحتى الذات في مقابل الخالق الجبار، أي أن يصل المرء إلى مرحلة لا يرى فيها الوجود الدنيوي إلاّ سراباً، ولا يشاهد هذا العالم المخلوق إلاّ كظلٍّ باهت زائل.

يرى الله في كل مكان، ويبحث عنه في كلِّ مكان.

كالفراشة التي تدور حول شمعة تحترق، يصهر ذاته في وجود الله، فلا يرى قيمةً لكيانه في حضرة الإله.

يُعد ( التسليم المطلق ) لإرادة الله ( سبحانه وتعالى ) واحداً من الآثار المرتّبة على وصول المرء لهذا المقام، فما يريده الله هو المراد، وما يحبه هو الأصلح.

فرضاه من رضا الله، ورضا الله من رضاه.

وبهذه المعايير العرفانية نتوجه صوب المقام العرفاني لسيدة نساء العالمين، ونتعرّف على مدى سمو منزلتها عند الله، ونطّلع على الحقيقة التي أشار إليها رسول الإسلام الكريم ( صلّى الله عليه وآله ).

١٩ - نصّت الكتب المعروفة لأهل السنة على الكثير من الروايات التي

٥٤

تشير إلى أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قال لابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام ):

( إنّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك )(١) .

٢٠ - ورد في ( صحيح البخاري ) الذي يُعد من أشهر مصادر الحديث عند العامة، أنّ الرسول ( ص ) قال:

( فاطمة بضعة مني فمَن أغضبها فقد أغضبني )(٢) .

٢١ - ونطالع في مكان آخر من نفس المصدر هذا الحديث:

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

( فإنّما هي فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها )(٣) .

وكما أشرنا سابقاً فإنَّ الأحاديث كثيرة في هذا المجال، وكلها تحكي عن المقام العالي لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في معرفة الخالق، وعن درجة عصمتها، وإيمانها وإخلاصها، فقد سمت بمقامها إلى الله سبحانه وتعالى، حتى صار رضاها وغضبها مرآةً لرضا الله ورسوله، وسخطهما، ولا يمكن أن تُعادل هذه الدرجة السامية بأي شيء.

٢٢ - وننهي بحثنا هذا بحديث آخر ينقله لنا ( صحيح الترمذي )، فقد قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):

( إنّما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما نصبها )(٤) .

من البديهي أنّه لا يمكن لظاهرة الحنان التي تربط الوالد بولده أن

____________________

١. مستدرك الصحيحين، ج ٣، ص ١٥٣. كما نقل هذا الحديث ( ابن حجر ) في ( الإصابة ) و ( ابن الأثير ) في ( أسد الغابة ).

٢. صحيح البخاري ( كتاب بدء الخلق ) باب، مناقب قرابة رسول الله.

٣. صحيح البخاري ( كتاب النّكاح ) باب ذبّ الرّجل عن ابنته، ورد مضمون هذين الحديثين في كتب معروفة مثل ( خصائص النسائي )، ( فيض الغدير )، ( كنز العمّال )، ( مسند أحمد )، ( صحيح أبى داوود ) و ( حلية الأولياء ).

٤. صحيح الترمذي، ج ٢، ص ٣١٩.

٥٥

تُفسّر هذا الأمر، أنّ النبي ( ص ) رسول الله لا يريد إلاّ ما أراد الله، وأنّ رضا وسعادة فاطمة ( عليها السلام ) من رضا الله ورسوله، ما هو إلاّ دليل على صهر إرادتها فيما يريده الله ويرضاه.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى نقطة مهمة، وهي أنّ البعض فسّر جملة ( فاطمة بضعة مني ) على أنّها جزء من جسد الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، في الوقت الذي يدل مفهوم الحديث، على أنّ فاطمة ( عليها السلام ) جزء من كيان ووجود أبيها محمّد ( صلّى الله عليه وآله )، ومن الناحيتين المادية والروحية، وهذا ما ستشير إليه الروايات التي سنستعرضها إن شاء الله تعالى.

٥٦

زهد فاطمة ( عليها السلام )

( حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ).

بالاستناد إلى الحديث النبوي الشريف، وإلى ما تمخّضت عنه تجاربنا ومشاهداتنا في الحياة، فإنَّ كلَّ التجاوزات، الجنايات، الأكاذيب، الخيانات، الظلم، كانت نتيجةً لحب ( المال ) و ( الجاه ) و ( الشهوة )، هنا يتضح أنّ الزهد والورع هما أساس التقوى والطهارة والصلاح.

ولكن يجب معرفة ماهية الزهد، فالزهد لا يعني ترك الدنيا، والرهبنة والاعتزال عن المجتمع، بل أنّ حقيقة الزهد هي الحرية وعدم الوقوع في شراك الدنيا.

فالزاهد مَن لم يتعلّق قلبه بالدنيا وإن كانت عنده، فلو أحسّ يوماً بأنّ رضا الله سبحانه وتعالى منوط بتركه لِما في يديه، كان مستعداً لهذا العمل، ويقول من أعماقه:

يا ليت بيني وبينك عامرٌ

وبيني وبين العالمين خرابُ

وإذا استدعى الحفاظ على الحرية والشرف والإيمان، أن يضحّي بحياته وروحه وماله، لم يتوانَ في ذلك، ويصرخ من أعماقه هيهات منا الذلة.

وعلى حد قول القرآن الكريم في تعريفه للزاهد:

٥٧

( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (١)

بعد هذه المقدمة القصيرة نتوجه إلى أحاديث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، ونتعرّف من خلالها على وجهة نظره بشأن شخصية فاطمة ( عليها السلام ).

٢٣- نقل ( ابن حجر ) وآخرون في رواية عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ):

( أخرج أحمد وغيره ما حاصله، أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) كان إذا قَدم من سفر أتى فاطمة، وأطال المكث عندها، ففي مرة صنعت لها مسكينِ من ورق وقلادة وقرطين، وستر باب بيتها، فقَدم ( صلّى الله عليه وآله ) ودخل عليها، ثمّ خرج وقد عُرف الغضب في وجهه، حتى جلس على المنبر فظنت أنّه إنّما فعل ذلك لمّا رأى ما صنعته، فأرسلت به إليه ليجعله في سبيل الله، فقال: ( فعلت فداها أبوها - ثلاث مرات - ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله في الخير جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء )، ثمّ قال: فدخل ( صلّى الله عليه وآله ) عليها )(٢) .

من الواضح أن يكون ثمن السوارين والقرطين الفضيين والعقد الفضي زهيداً، والأزهد ثمناً منها ذلك الستار الذي يعلّقه الإنسان على باب الغرفة، غير أنّ الرسول ( ص ) كان يعتبر أنّ ذلك ليس من شأن فاطمة ( عليها السلام )، بل يرى أنّ فضيلتها وكرامتها تكمن في خصالها الإنسانية.

تعلّمت فاطمة ( عليها السلام ) هذا الدرس من أبيها مباشرةً، حيث رمت بالدنيا وزخرفها جانباً، محرّرةً نفسها من ذلك الأسر من ناحية، وأنفقت ما في يدها في سبيل الله من ناحية أخرى.

لقد عرفنا من خلال الحديث الذي سبق ذكره - برقم ٣- نقلاً عن كتاب

____________________

١. سورة الحديد، آية ٢٣.

٢. الصواعق المحرقة، ص ١٠٩.

٥٨

( حلية الأولياء ) لم تكن تملك الحجاب الكافي، عند مجيء الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وأصحابه لعيادتها، ممّا حدا به ( صلّى الله عليه وآله ) أن يناولها عباءته؛ لتستر نفسها وتستعد للضيوف الذين جاؤوا لعيادتها.

إنّ جهاز فاطمة ( عليها السلام ) ومراسم الزفاف التي جرت بمنتهى البساطة، وتفانيها في القيام على شؤون بيتها، حيث تحضن طفلها في إحدى يديها، وفي الأخرى تطحن الشعير لتهيّئ لهم الخبز، كل ذلك شواهد صادقة على زهدها العالي وإيمانها الصادق، ويشير الحديث التالي إلى هذا المعنى:

٢٤- نقل أبو نعيم الأصفهاني في ( حلية الأولياء ):

( لقد طحنت فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، حتى مجُلَت يدها، وربا وأثّر قطب الرحى في يدها )(١) .

٢٥- نُقل في ( مسند أحمد ) وهو أحد أشهر مصادر أهل السنة عن ( أنس بن مالك ) أنّه قال:

إنّ بلالاً بطأ عن صلاة الصبح، فقال له النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ( ما حبسك ) فقال: مررت بفاطمة وهي تطحن، والصبي يبكي، فقلت لها إن شئتِ كفيتك الرحى وكفيتيني الصبي، وإن شئتِ كفيتك الصبي وكفيتيني الرحى، ( فقالت أنا أَرفق بابني منك )، فذاك حبسني، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):

( فرحمتها يرحمك الله )(٢) .

من الفضائل الأخلاقية التي تتحلّى بها سيدة النساء، هي الشجاعة والشهامة، في دفاعها عن أبيها الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) ضد مشركي مكة، كما أنّ

____________________

١. حلية الأولياء، ج٢، ص٤١.

٢. مسند أحمد، ج٣، ص١٥٠.

٥٩

مجيئها إلى ميدان أُحُد، وتضميدها جراح الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، لم يكن ليخفى عن أي أحد، وهذا ما أثبتته الأحاديث التي ذكرناها آنفاً.

لقد سارت على طريق العبودية، وعبادة الله منذ ولادتها، وهي على هذا الحال إلى أن فارقت روحها الحياة، والحديث الآتي يدل على هذا المعنى.

٢٦- جاء في ( ذخائر العقبى ) ما جاء في قصة ولادة فاطمة الزهراء ( عليه السلام )، وانعقاد نطفتها من ثمار الجنة، وحضور النساء الأربع عند ولادتها: ( فوُلدت فاطمة ( عليها السلام )، فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدةً )(١) .

٢٧- ونطالع في نفس المصدر روايةً تدلُّ على سموها وعفتها، حيث تنقل ( أسماء بنت عميس ) هذه القصة العجيبة:

قالت فاطمة ( عليها السلام ) لأسماء بنت عميس: ( يا أسماء، إنّي استقبحت ما يُصنع بالنساء، إنّه يُطرح على المرأة الثوب فيصفّها، وقالت أسماء: يا بنة رسول الله، أَلا أُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فحنّتها، ثمّ طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة (عليها السلام ): ما أحسن هذا وأجمله، تُعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فاغسليني أنتِ وعلي ولا يدخل عليَّ أحد ).

وجاء في نهاية هذا الحديث.

إنّ فاطمة ( عليها السلام ) لمّا رأت النعش تبسّمت، وما رُؤيت مبتسمةً بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قط(٢) .

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٤٤.

٢. ذخائر العقبى، ص٥٤.

٦٠

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173