الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)33%

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67866 / تحميل: 8082
الحجم الحجم الحجم
الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

المكانة العلميّة لفاطمة ( عليها السلام )

إنّ حب أولياء الله لشخص دون الآخر ليس حبّاً عاديّاً، فلا بد أن يكون قائماً على أسس مهمة منها العلم والإيمان والتقوى، وما علاقة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) القوية بابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، إلاّ دليل على تمتعها بتلك الصفات الفاضلة، إضافةً إلى ذلك، وعندما يقول ( عليه الصلاة والسلام ): ( فاطمة أفضل نساء العالمين ) أو ( أفضل نساء الجنة )، والتي ذكرنا أسانيدها من قبل، فإنّ هذا بحدِّ ذاته دليل على أنّها أعلم نساء العالمين.

وبعد ذلك هل يمكن لشخص لم يصل إلى مقام رفيع في العلم والمعرفة، أن يكون رضاه من رضا الله، وغضبه من غضب الخالق ورسوله؟ كما تبيّن لنا ذلك في الروايات السابقة.

علاوةً على ذلك فقد وردت في المصادر الإسلامية المعروفة روايات مهمةٌ، تكشف عن المقام العلمي الرفيع لهذه السيدة العظمية.

٢٨- نقل ( أبو نعيم الأصفهاني ) عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال يوماً لأصحابه ما خير النساء؟

فلم يدرِ الحاضرون ما يقولون، فسار علي ( عليه السلام ) إلى فاطمة فأخبرها بذلك.

فقالت: ( فهلاّ قلت له خير لهنَّ أَلاّ يَرينّ الرجال ولا يرونهنّ )، فرجع علي ( عليه السلام ) فأخبره بذلك.

٦١

فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ): ( من علّمك هذا؟ قال: فاطمة ( عليها السلام )، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ): إنّها بضعة مني )(١) .

يظهر من هذا الحديث أنّ أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، رغم ما كان يتمتع به من مقام عظيم في العلوم والمعارف، الذي اعترف به الصديق والعدو، وإنّه باب مدينة علم الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله )، إلاّ أنّه كان يستفيد أحياناً من علم زوجته فاطمة الزهراء ( عليها السلام ).

إنّ ما ذُكر في نهاية هذه الرواية من أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال ( فاطمة بضعة مني )، إنّما يشير إلى حقيقة مهمة، وهي أنّ القصد من ( بضعة ) لا يقتصر على كونها جزء من بدنه فقط كما فسّره البعض، بل هي جزء من روح الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وإيمانه وعلمه وفضله وأخلاقه، فهي شعاع من تلك الشمس وقبس من تلك المشكاة.

٢٩ - جاء في ( مسند أحمد ) عن ( أمّ سلمة ) - أو طبقاً لرواية أمّ سلمى - أنّها قالت:

اشتكت فاطمة شكواها التي قُبضت فيها، فكنت أُمرّضها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت وخرج علي لبعض حاجته، فقالت يا أمَة، اسكبي لي غسلاً، فسكبت لها غسلاُ، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثمّ قالت: يا أَمَة، أعطيني ثيابي الجُدد، فأعطيتها فلبستها، ثمّ قالت: يا أمَة، قدّمي لي فراشي وسط البيت، ففعلت، واضطجعت واستقبلت القبلة، وجعلت يدها تحت خدها، ثمّ قالت: يا أَمَة، إنّي مقبوضة الآن، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد، فقُبضت مكانها، قالت فجاء عليٌّ فأخبرته(٢) .

____________________

١. حلية الأولياء، ج٢ ص ٤٠.

٢. مسند أحمد، ج٦، ص٤٦١ وأورد هذا الحديث ( ابن الأثير ) في ( أسد الغابة )، كما رواه جمع آخر من المحدثين والرّواة.

٦٢

نستدل من هذه الرواية أنّ فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كانت تعلم بوقت وفاتها؛ حيث استعدت للرحيل دون أن تظهر عليها علاماته، ولمّا كان الإنسان لا يعلم بحلول أجله إلاّ بعلم إلهي، لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى كان يلهم فاطمة ( عليها السلام ). نعم، فقد ارتبطت روحها بعالم الغيب، وحدّثتها ملائكة السماء.

وطبقاً لِما جاءت به الروايات فإنّها أفضل من مريم بنت عمران ( أمّ عيسى ( عليه السلام ) )، وفي هذا الكفاية، إضافةً إلى تصريح القرآن المجيد في أنّ الملائكة قد تحدّثت إلى مريم وهي قد حدّثتها - ذكرت ذلك آيات من سورة آل عمران وسورة مريم - لذا فمن الأَولى أن تكون فاطمة ( عليها السلام ) - وهي ابنة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) - محدّثة من ملائكة السماء(١) .

____________________

١. يوجد في الروايات التي روتها الشيعة الوفير من الدلائل، التي تدل على سعة علمها ومعرفتها، وقد ذكرنا قسماً منها في الفصول التي تحدّثنا بها عن حياتها.

٦٣

كرامات فاطمة ( عليها السلام )

عندما تقوى روح الإنسان، وتمتلئ بالصفات الإلهية، وينال منزلة القرب من الله، فإنّ إرادته ( بمشيئة الله ) ستؤثّر في العالم التكويني، وسيحدث له ما يريد، وهذه هي الولاية التكوينية التي تمتع بها أولياء الله، وهي منبع كراماتهم المختلفة، التي تميّز الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) بأعلى مراتبها وهي المعجزات.

و لقد حبا الله فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بمقدار كبير من تلك العناية الإلهية، وهذا ما تدلُّ عليه الرواية التالية:

٣٠- نقل كثير من مفسري العامة ومنهم ( الزمخشري ) في ( الكشّاف ) و ( السيوطي ) في ( الدرّ المنثور ) في أسفل الآية الشريفة:

( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال:

أقام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أيّاماً لم يُطعم طعاماً، حتى شقَّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه، فلم يجد عند واحدة منهنَّ شيئاً، فأتى فاطمة ( عليها السلام ) فقال: يا بُنية، هل عندك شيء آكله، فإنّي جائع، فقالت: لا والله، فلمّا خرج من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة، فأخذته منها فوضعته في جَفنة لها،

٦٤

وقالت: والله لأؤثرنّ بهذا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) على نفسي ومَن عندي، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمّي قد أتى الله بشيء قد خبّأته لك، فقال: هلمّي يا بنية، بالجَفنة، فكشفت عن الجَفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلمّا نظرت إليها بهتت، وعرفت أنّها بركة من الله، فحمدت الله تعالى، وقدّمته إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله )، فلمّا رآه حمد الله، وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبت، هو من عند الله إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب، فحمد الله ثمّ قال، الحمد لله الذي جعلكِ شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت إذا رزقها الله رزقاً فسُئلت عنه، قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب.

ثمّ جمع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام )، والحسن والحسين ( عليهما السلام )، وجميع أهل بيته، فأكلوا منه حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة ( عليها السلام ) على جيرانها(١) .

____________________

١. نقله الزمخشري في الكشّاف في ذيل آية ٣٧ من سورة آل عمران، وكذلك السيوطي في الدر المنثور، والثعلبي في قصص الأنبياء، ص ٥١٣.

٦٥

أَوّل مَن يرد الجنة

إنّ سعادة المرء الواقعية تكمن في دخوله الجنة، حيث الرحمة الإلهية الواسعة، وأفضل الناس مَن سبق إليها.

وقد ثبت من خلال روايات أهل السنّة المعروفة، أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) نسب هذه المنقبة إلى فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ولعدة مرّات.

٣١- جاء في ( ميزان الاعتدال ) للذهبي نقلاً عن الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ):

( أَوّل شخص يدخل الجنة فاطمة ( عليها السلام ) )(١) .

٣٢- ونقل عنه ( صلّى الله عليه وآله ) في حديث آخر أنّه قال:

( أوّل شخص يدخل الجنة فاطمة بنت محمّد ( صلّى الله عليه وآله )، ومَثَلها في هذه الأمّة مَثل مريم في بني إسرائيل )(٢) .

وبغض النظر عمّا سبق، نستدل من الروايات الإسلامية المعروفة على أنّ ورودها إلى ساحة المحشر، ومنها إلى الجنة سيكون مصحوباً بمراسم وتشريفات غاية في العظمة، ممّا يدل على سمو منزلتها وعِظم مقامها.

٣٣- نقل عليّ بن أبي طالب عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال:

( تُحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة، وعليها حُلّة الكرامة، قد عُجنت بماء

____________________

١. ميزان الاعتدال، ج٢، ص١٣١.

٢. كنز العمّال، ج٦، ص٢١٩.

٦٦

الحَيَوان، فتنظر إليها الخلائق فيتعجبون منها ).

ويضيف ( صلّى الله عليه وآله ) في آخر الحديث:

( فتُزف إلى الجنة كالعروس لها سبعون ألف جارية )(١) .

٣٤ - وتروي عائشة حديثاً آخر عن الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ):

( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ، يا معشر الخلائق، طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمّد )(٢) .

٣٥- ونقرأ في حديث آخر يشير إلى نفس المعنى:

( فتمرّ مع سبعين ألف جارية من الحور العين كمِّر البراق )(٣) .

٣٦- والأعجب من ذلك ما نقله كتاب ( تاريخ بغداد ) عن الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، أنّه قال:

( عندما عُرج بي إلى السماء في تلك الليلة، رأيت باب الجنة وقد كُتب عليها:

لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، علي حبيب الله، والحسن والحسين صفوة الله، وفاطمة خيرة الله، على باغضهم لعنة الله )(٤) .

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٤٨.

٢. تاريخ بغداد، ج٨، ص١٤١.

٣. كنز العمّال، ج٦، ص٢١٨.

٤. تاريخ بغداد، ج١، ص٢٥٩.

٦٧

معاني أسماء فاطمة ( عليها السلام )

تكشف الأسماء عادةً عن ماهية المسمّى، خصوصاً إذا كان واضع الاسم حكيماً، ونستشف من مجموع الأحاديث أنّ تسمية هذه السيدة الجليلة كانت بواسطة حكيم الحكماء المطلق، أَلا وهو ربُّ العالمين ( جلّ وعلا ).

ومن ناحية أخرى فإنّ فاطمة على وزن ( فطم ) على ( وزن فعل )، وهو بمعنى انقطاع الطفل عن الرضاعة، ثمّ أُطلق على كلِّ ما يحمل معنى الانفصال.

والآن لنتعرّف على ما جاء في الروايات الإسلامية.

٣٧- رُوي عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال:

( إنّما سمّاها فاطمة؛ لأنَّ الله فطمها ومحبيها من النار )(١) .

يُستفاد من هذا التعبير أنّ تسمية هذه السيدة الجلية بهذا الاسم، إنّما كان من قِبل الله سبحانه وتعالى، ومعناه أنّه وعد فاطمة( عليها السلام ) ومحبيها والمنتهجين نهجها أن لا تمسهم النار.

٣٨- نقرأ في ( ذخائر العقبى ) عن علي ( عليه السلام ): ( إنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قال لفاطمة ( عليها السلام ): يا فاطمة، أتدرين لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟

____________________

١. تاريخ بغداد، ج٢، ص٣٣١.

٦٨

فقال علي ( عليه السلام ): لِمَ سُمِّيت فاطمة يا رسول الله؟

فقال رسول الله:

( إنّ الله عزّ وجل قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة )(١) .

من البديهي أنّ القصد من ( ذرية )، هم الذين يسيرون على نهج هذه الأمّ العظيمة، وليس كمثل ابن نوح حيث جاء الخطاب:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

ولهذا نرى أنّ بعض الأحاديث قد جمعت بين كلمتي ( ذرية ) و ( محبي ) في آن واحد، ومَن كان يظن منّا أنّ معنى الروايات الأخيرة، هو نجاة العاصي منهم وحتى الكافر المشرك من العذاب الإلهي لمحبته لفاطمة الزهراء ( عليها السلام )، فهو على خطأ؛ لأنّ ذلك لا يتفق مع أي من المعايير الإسلامية، إضافةً إلى أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) - وهو أصل هذه الشجرة الطيبة - قد خوطب في القرآن المجيد بهذه الصورة في الآية الشريفة:

( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٢) .

و صرّحت آية أخرى:

( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (٣) .

فهل يمكن للفرع أن يعلو على الأصل؟ وهل أنَّ أبناء رسول الله أفضل منه؟!

ممّا لا شك فيه أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لم يطرأ على تفكيره الشرك بالله أبداً،

____________________

١. ذخائر العقبى، ص٢٦.

٢. سورة الزمر، آية ٦٥.

٣. سورة الحاقّة، آية ٤٤-٤٧.

٦٩

ولم ( والعياذ بالله ) يكذب على الله، لكن هذه الآيات تضمر في محتواها درساً كبيراً للأمّة الإسلامية، حتى يعلم الجميع أنّ نجاة المرء مقرونة بإخلاصه لله، وهذا لا يتنافى مع المقام السامي والدرجة الرفيعة لأئمة الأمّة الإسلامية وساداتها.

من المتعارف عند العرب أن يُكنّى الرجل بـ ( أب )، وتُكنّى المرأة بـ ( أمّ )، هذا بالإضافة إلى أسمائهم، ومن بين الكنى التي كُنّيت بها فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، تبرز كنية عجيبة تدل على عظمة الزهراء ( عليها السلام )، كما في الرواية التالية:

٣٩- ورد في كتاب ( أسد الغابة ):

( كانت فاطمة تُكنّى أمّ أبيها )(١) .

وورد نفس المعنى في كتاب ( الاستيعاب ) نقلاً عن الإمام الصادق ( عليه السلام ):(٢)

( لم يُرَ لهذا التعبير العجيب نظيراً في أي من نساء الإسلام، وهو يدل على أنَّ هذه البنت الوفية كانت تقوم بدور الأمّ في رعايتها لأبيها والسهر عليه ).

نعلم أنّ الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) فقد أُمّه، وهو في مرحلة الطفولة، لكن ابنته هذه لم تُقصّر في محبتها وحنانها وقلقها عليه رغم صغر سنها، فهي بنت مضحّية وفدائية من ناحية، وهي أمّ مؤثرة حنونة من ناحية أخرى، ومواسية وفية من ناحية ثالثة، وقد شهدت بذلك الروايات التي ذكرناها.

____________________

١. أسد الغابة، ج ٥، ص ٥٢٠.

٢. الاستيعاب، ج ٢، ص ٧٥٢.

٧٠

هدية الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لفاطمة ( عليها السلام )

٧١

٧٢

سجّلت صفحات التاريخ بعضاً من الهدايا المعنوية، التي منحها الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) لابنته فاطمة ( عليها السلام )، والتي فاقت كل واحدة منها الأخرى، لا سيما تسبيحة الزهراء، هذا بالإضافة إلى هدية مادية معنوية منحها ( صلّى الله عليه وآله ) لفاطمة ( عليها السلام ) بأمر إلهي، كما نصّ على ذلك متن الرواية التالية:

٤٠ - جاء في الدر المنثور ( للسيوطي )، عن البزّاز وأبي يعلى، وابن حاتم وابن مردويه، عن سعيد الخدري أنّه قال:

( لمّا نزلت الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (١) دعا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، وأعطاها فدكاً )(٢) .

وبالطبع ( كما سيأتي شرحه في فصل - أحداث فدك المؤلمة - ) فإنّ منح فدك لفاطمة ( عليها السلام ) لم تكن مسألةً أو هديةً عادية، بل كانت سنداً ودعامةً لولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام )، وعاملاً في تقوية وتثبيت مقام هذه العائلة الكريمة، ومن هذا المنطلق فهي تعدُّ هديةً معنوية.

ولكنَّ النظام الذي أدرك معنى هذه الهدية جيداً، سارع بعد رحيل الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) إلى انتزاعها من فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، وضمها إلى بيت المال، مستنداً في ذلك إلى حديث موضوع وحجة باطلة، وهذه قصة طويلة

____________________

١. سورة الإسراء، آية ٢٦.

٢. الدُرّ المنثور في ذيل آية ٢٦ من سورة الإسراء، وميزان الاعتدال، ج ٢، ص ٢٨٨، وكنز العمّال، ج ٢، ص ١٥٨.

٧٣

مملوءة بالعِبر والأحداث المؤلمة والظالمة، والتي يمكن اعتبارها سنداً إسلامياً مهماً في تحليل تاريخ صدر الإسلام، والحوادث التي أعقبت رحيل النبي ( صلّى الله عليه وآله )، ونوكل الحديث إلى محله.

( إلهي )، أحينا ما أحييتنا على محبة وموالاة هذه السيدة وأبيها وبعلها وبنيها ( صلوات الله عليهم )، واحشرنا في زمرتهم.

( يا ربّ )، وفّقنا في اتّباع نهجهم، والاهتداء بنور هدايتهم، والاقتداء بسُنتهم.

واجعلنا ممّن يأخذ بحُجزتهم، ويمكث في ظلهم، ويهتدي بهداهم.

آمين يا ربّ العالمين

٧٤

أحداث فدك المؤلمة

تُعد قصة ( فدك ) من أَغمِّ القصص التي مرت بحياة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) خصوصاً، وأهل البيت عموماً، وتاريخ الإسلام بشكل أوسع وأَعم، والتي حيكت أحداثها مع المؤامرات السياسية الوضعية، كما أنّها منفذ لحل بعض من ألغاز تاريخ صدر الإسلام.

فدك ماذا كانت، وأين كانت؟

ذكر كثير من المؤرّخين وأرباب اللغة بأنّ ( فدك ) قرية بالحجاز - قريبة من خيبر - بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، ( وكتب البعض أنّها تبعد عن المدينة بمسافة مقدارها ١٤٠ كيلومتر )، أفاءها الله على رسوله ( صلّى الله عليه وآله )، وفيها عين فوّارة ونخل كثير،(١) وتُعد مركزاً مهماً لليهود في أرض الحجاز بعد خيبر.

وفي كيفية انتقال هذه الأرض الخضراء المعمورة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، فالمعروف هو أنّ الانتصار الذي حقّقه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في فتح حصون خيبر، أرعب أهل فدك المتعصبين، فأرسلوا إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن يصالحهم على نصف ( فدك )، فقبل الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ذلك منهم وأمضى ذلك الصلح،

____________________

١. معجم البلدان، مادة فدك.

٧٥

بهذا فهي ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.

وبما أنّ القرآن ينص على( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ ) (١) ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغنياءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢) ؛ لذا فهي خالصة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، يصرف ما يأتيه منها في ( أبناء السبيل ) وأمثال ذلك.

نقل هذا الحديث كل من ياقوت الحموي في ( معجم البلدان )، وابن منظور الأندلسي في ( لسان العرب )، وآخرون كثيرون.

وأشار إلى ذلك أيضاً ( الطبري ) في تاريخه، و ( ابن الأثير ) في كتاب ( الكامل )(٣) .

كما كتب الكثير من المؤرّخين أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، قد منح ابنته الزهراء ( عليها السلام ) فدكاً في حياته(٤) .

الدليل البيّن الذي يثبت هذه الحقيقة هو ما نقله المفسّرون الكبار، منهم مفسّر أهل السنة المعروف ( جلال الدين السيوطي ) في كتاب ( الدر المنثور )، حيث نقل في ذيل الآية السادسة عشرة من سورة الإسراء حديثاً عن ( أبي سعيد الخدري ) يقول فيه:

( لمّا نزل قوله تعالىَ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، أعطى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فاطمة فدكاً )(٥) .

____________________

١. سورة الحشر، آية ٦.

٢. سورة الحشر، آية ٧.

٣. راجع كتاب ( فدك ) القيّم للسيد محمّد القزويني الحائري.

٤. لأنّها كانت ملكاً لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

٥. الدُرّ المنثور، مجلد ٤، ص ١٧٧. وكان مِمّن روى هذا الحديث من رواة العامّة، هم ( البزّاز ) و ( أبو يعلى ) و ( ابن مردويه ) و ( ابن أبي حاتم ) عن أبي سعيد الخدري، ( راجع كتاب الاعتدال، ج ٢، ص ٢٨٨، وكنز العمّال، ج ٢، ص ١٥٨ ).

٧٦

الدليل الحي الآخر الذي يعتبر سنداً مهماً في هذا الأمر - أو لهذا الادعاء - هو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في نهج البلاغة:

( بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ )(١) .

يشير هذا الحديث بوضوح إلى أنّ فدكاً كانت بيد علي وفاطمة ( عليها السلام ) في حياة الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، لكن بعض الحُكام البخلاء تعلّقوا بها، فتخلّى علي وزوجته ( عليها السلام ) عنها مجبرين، ومن البديهي أنّهم لم يكونوا موافقين لِما حدث، وإلاّ فما معنى سؤال وطلب الأمير ( عليه السلام ) من الله سبحانه وتعالى في أن يحكم بينه وبينهم.

نقل الكثير من علماء الشيعة أيضاً في كتبهم المعتبرة روايات تتعلّق بهذه المسألة منهم: المرحوم الكليني ( الكافي )، والمرحوم ( الصدوق )، والمرحوم ( محمّد بن مسعود العياشي ) في تفسيره، و ( علي بن عيسى الأربلي ) في ( كشف الغمة )، وآخرون في كتب الحديث والتاريخ والتفسير، لا يسع المقام لذكرهم.

الآن... لنرى لماذا وبأيِّ دليل انتُزعت الزهراء ( عليها السلام ) فدكها؟.

____________________

١. نهج البلاغة، ( رسالة ٤٥ رسالته إلى عثمان بن حنيف ).

٧٧

١ - العوامل السياسية في غصب فدك

لم تكن مسألة انتزاع ( فدك ) من الزهراء (عليها السلام ) مسألةً عادية، لا تحمل إلاّ الجانب المادي فحسب، بل إنّ جانبها الاقتصادي قد انصبَّ في قالب المسائل السياسية، التي حكمت المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وفي الحقيقة لا يمكن فصل مسألة ( فدك ) عن سائر أحداث ذلك العصر، وإنّما هي حلقة من سلسلة كبيرة، وظاهرة من وقائع شاملة وواسعة!

إنَّ لهذا الغصب التاريخي الكبير عوامل نوردها في النقاط التالية:

١- يعتبر وجود ( فدك ) في حيازة آل بيت النبوة ( عليه الصلاة والسلام ) ميزةً كبيرة لهم، وهذا بحد ذاته دليل على علوِّ مقامهم عند الله، وقربهم الشديد من الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، خصوصاً ما نقلته كتب الشيعة والسنّة في الروايات التي ذكرناها آنفاً، من أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) استدعى فاطمة ( عليها السلام ) بعد نزول الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى ) ، وأعطاها فدكاً.

من الواضح أنّ وجود ( فدك ) في حيازة آل بيت محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) منذ البداية، يكون مدعاةً لالتفاف الناس حولهم، والبحث عن سائر آثار النبيّ الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) في هذه العائلة خصوصاً مسألة الخلاقة، وهذا الأمر لم يكن ليتحمله مؤيدو انتقال الخلافة إلى الآخرين.

٢- كانت هذه المسألة مهمة في بعدها الاقتصادي، كما هو أثره

٧٨

الفعّال في بعدها السياسي؛ لأنّ وقوع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وآله في مضيقة اقتصادية، يؤدي إلى تدهور وضعهم السياسي بنفس النسبة، بعبارة أخرى فإنَّ حيازتهم على فدك يوفّر لهم امتيازات، تكون بمثابة المتكأ الذي تستند عليه مسألة الولاية، كما فعلت أموال خديجة ( عليها السلام ) في انتشار الإسلام في بدء دعوة نبي الإسلام ( صلّى الله عليه وآله ).

من المتعارف عليه في جميع أنحاء العالم أنّه إذا أريد طمس شخصية كبيرة، أو تقييد دولة ما لتعيش حالة الانزواء، فإنّه يُعمل على محاصرتها اقتصادياً، وقد نصَّ تاريخ الإسلام في قصة ( شِعب أبي طالب )، عندما حوصر المسلمون من قِبل المشركين حصاراً اقتصادياً شديداً.

في تفسير سورة المنافقين، وفي ذيل الآية( لَئِنْ رَجَعْنا إلى الَمدينةِ لَيُخرجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَّ ) (١) أُشير إلى مؤامرة شبيهة بهذه المؤامرة قد حاكها المنافقون، لكنَّ اللطف الإلهي أخمد نارها، وهي في المهد؛ لذا فليس من العجب في شيء أن يسعى المخالفون، إلى انتزاع هذه الثروة من آل بيت النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وإخلاء أيديهم ودفعهم بعيداً عن الساحة.

٣- وإن هم وافقوا على أنّ فدكاً ميراث النبي ( صلّى الله عليه وآله )، أو هديته لابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام )، وبالتالي تسليمها إليها، فإنّ ذلك سيفتح الطريق لها في المطالبة بمسألة الخلافة، هذه النقطة يطرحها العالم السُني المشهور ( ابن أبي الحديد المعتزلي ) في شرح ( نهج البلاغة ) بصورة ظريفة حيث يقول:

( سألت علي بن الفارقي مدرّس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقةً؟

قال: نعم، قلت: فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟

____________________

١. سورة المنافقين، آية ١.

٧٩

فتبسّم، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والمدافعة بشيء؛ لأنّه يكون قد سجّل على نفسه أنّها صادقة فيما تدعيه كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيِّنة ولا شهود )، وبعدها يضيف ( ابن أبي الحديد ) قائلاً:

( وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل )(١) .

إنَّ هذا الاعتراف الصريح الذي أدلى به اثنان من علماء أهل السنة، لشاهد حي على أنّ لقصة فدك جانباً سياسياً هاماً.

ولكي يتضح هذا المعنى، سنقف في البحث التالي على مصير هذه القرية، عبر تاريخ الإسلام منذ قرونه الأُولى، وكيف أنّها انتقلت من يد إلى أخرى؟ وكيف تباينت آراء الخلفاء بخصوصها؟.

____________________

١. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج ٤، ص ٧٨.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣