مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)0%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437
المشاهدات: 235753
تحميل: 9483

توضيحات:

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 235753 / تحميل: 9483
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: 964-8163-70-7
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهؤلاء إلى أمثالهم برئت منهم الذمّة وانقطعت العصمة وإن استفادت الاُمّة بنهضتهم من ناحية استئصال شأفة أعدائها من آل حرب واُميّة:

طـمعت ابـناء حـرب ان تـرى

فـيه لـلضيم انـعطافاً وانـكسارا

حـاولـت تـصطاد مـنه اجـدلا

نـفض الـذلَّ عـلى الوكر وطارا

ورجــت لـلـخسف أن تـجذبه

ارقـماً قـد ألـف الـعزّ وجـارا

كـيف يـعطي بـيد الـهون إلى

طـاعة الـرجس عن الموت حذارا

فـأبـى إلا الـتـي إن ذكــرت

هـزَّت الـكون انـدهاشاً وانذعارا

فـأتى مـن بـأسه فـي جـحفل

زحـفه سـدَّ عـلى الباغي القفارا

ولـيوث مـن بـني عـمرو العلى

لـبسوا الـصبر عـلى الطعن دثارا

أشـعـروا ضـرباً بـهيجاء غـدا

لـهم فـي ضـنكها الموت شعارا

فـقضوا حـقّ الـمعالي ومـضوا

طـاهري الأعراض لم يدنس عارا

بـذلـوهـا أنـفـسـاً غـالـية

كبرت بالعزِّ أن ترضى الصغارا (١)

____________________________

(١) من قصيدة للسيد عبد المطلب الحلي، ذكرت بتمامها بترجمته من شعراء الحلة للخاقاني.

١٢١

١٢٢

حديث كربلاء

١٢٣

بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إنَّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً »

(مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢١٧)

١٢٤

هلَّ المحرم

هـلَّ الـمحرَّم فـاستهل مـكبِّراً

وانـثر به درر الدموع على الثرى

وانـظر بـغرته الهلال إذا انجلى

مـسـترجعاً مُـتـفجِّعاً مُـتفكِّراً

واخلع شعار الصبر منك وزرَّ من

خـلع الـسّقام عـليك ثوباً أصفرا

فـثياب ذي الأشـجان ألـقيها به

مـا كـان من حُمر الثياب مزررا

شـهر بـحكم الـدهر فيه تحكَّمت

شـر الكلاب السّود في اُسد الشرى

لـلّـه أي مـصـيبة نـزلت بـه

بـكت الـسّماء لـه نجيعاً أحمرا

خَـطبٌ دهـى الإسلام عند وقوعه

لـبست عـليه حدادها (اُمّ القرى)

أو ما ترى الحرم الشريف تكاد من

زفـراته الـجمرات أن تـتسعَّرا

(وأبـا قبيس) في حشاه تصاعدت

قـبسات وجد حرها يصلي (حرا)

عَـلِمَ (الـحطيمُ) به فحطَّمه الأسى

ودرى (الـصفا) بـمصابه فتكدَّرا

واسـتشعرت مـنه المشاعر بالبلا

وعـفا (مـحسرها) جوىً وتحسَّرا

قُـتل الـحسين فـيا لها من نكبة

أضحى لها الإسلام منهدم الذرى (١)

شهر المحرّم

مُـحـرَّمٌ فـيه الـهنا مُـحرَّمُ

والـحزن فـرضٌ والبكا مُحتَّمُ

شـهرٌ بـه الإيـمان ثَل عرشه

والـكفر بـالإسلام بـان بطشه

هـلاله قوس رمى قلب الهدى

والدِّين في سهم الحتوف والردى

قـد كـان عند الكفر والإسلام

فـيـه الـقتال أعـظم الآثـام

____________________________

(١) ديوان معتوق بن شهاب الموسوي ط مصر سنة ١٣٣٠ﻫ.

١٢٥

وآل حرب حاربوا ربَّ السّما

فـيه وحـلَّلوا الدم المحرَّما

وانتهكوا حرمة سادات الحرم

وارتكبوا ما أمطر السّماء دم

يـا آل حـرب لا لقيتم سَلَماً

ولا وقـيتم مـن لـسان ذما

لُـعنتُمُ في الأرض والسّماء

عـلى لـسان جملة الأحياء

بـشراكُمُ بـالويل والـثبون

وبـالعذاب يوم نَفخ الصور

كـم حـرة للمصطفى هتكتُمُ

وكــم دم لِـولـده سـفكتُمُ

يـا امـة الخذلان والكفران

وعـصبة الضلال والشيطان

بـأي عـين تبصرون جَده

وقـد فـعلتم مـا فعلتم بعده

جزرتُمُ جزر الأضاحي نسله

وسـقتُمُ سـوق الاماء أهله

نـسيتُمُ احـسان يـوم الفتح

نـسيتُمُ فـيه جميل الصفح

قـد كـنتُمُ لولا بدور هاشم

سـراً يضيع في ضلوع كاتم

بـهم تـسنمتم ذرى المنابر

كما علوتم صهوة المفاخر (١)

يزيد بعد معاوية

لمّا هلك معاوية بدمشق للنصف من رجب سنة ستين هجرية، كان ابنه يزيد في حوران، فأخذ الضحّاك بن قيس أكفانه ورقى المنبر، فقال بعد الحمد لله والثناء عليه: كان معاوية سور العرب وعونهم وجدّهم، قطع الله به الفتنة وملّكه على العباد وفتح به البلاد، إلا أنّه قد مات وهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره ومخلّون بينه وبين عمله، ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمَن كان منكم يريد أنْ يشهد فليحضر.

ثمّ صلّى عليه الضحّاك، ودفنه بمقابر باب الصغير وأرسل البريد إلى يزيد يعزّيه بأبيه، والإسراع في القدوم؛ ليأخذ بيعةً مجددةً من النّاس(٢) ، وكتب في أسفل الكتاب(٣) :

____________________________

(١) المقبولة الحسينية ص٩ للحجة آية الله الشيخ هادي كاشف الغطاءقدس‌سره .

(٢) البداية والنهاية لابن كثير ٨ / ١٤٣.

(٣) مقتل الخوارزمي ج١ ص١٧٨.

١٢٦

مضى ابن أبي سفيان فرداً لشأنه

وخلفت فانظر بعده كيف تصنع

أقمنا على المنهاج واركب محجة

سداداً فأنت المرتجى حين نفزع

فلما قرأ يزيد الكتاب أنشأ يقول(١) :

جـاء الـبريد بقرطاس يخبُّ به

فـأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قـلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم

قـال الخليفة أمـسى مثقلا وجعا

مادت بنا الأرض أو كادت تميد بنا

كـأن مـا عـزَّ من أركانها انقلعا

من لم تزل نفسه توفي على وجل

تـوشك مقادير تلك النفس أن تقعا

لـما وردت وباب القصر منطبق

لـصوت رملة هُدَّ القلب فانصدعا

وسار إلى دمشق، فوصلها بعد ثلاثة أيام من دفن معاوية(٢) ، وخرج الضحّاك في جماعة لاستقباله، فلمّا وافاهم يزيد جاء به الضحّاك أولاً إلى قبر أبيه، فصلّى عند القبر.

ثمّ دخل البلد ورقى المنبر، وقال: أيّها النّاس، كان معاوية عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه ثمّ قبضه إليه. وهو خير من بعده ودون من قبله. ولا أزكّيه على الله عزّ وجلّ؛ فإنّه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه. وقد ولِّيتُ الأمر من بعده، ولستُ آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان. ولقد كان معاوية يغزو بكم في البحر، وإنّي لستُ حاملاً أحداً من المسلمين في البحر. وكان يشتيكم بأرض الروم، ولستُ مشتياً أحداً بأرض الروم. وكان يخرج عطاءكم أثلاثاً، وأنا أجمعه كلّه لكم(٣) .

فلم يقدم أحد على تعزيته حتّى دخل عليه عبد الله بن همام السّلولي، فقال: يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرزيّة، وبارك لك في العطيّة، وأعانك على الرعيّة، فقد رزئت عظيماً واُعطيت جسيماً، فاشكر الله على ما اُعطيت، واصبر على ما رزئت. فقد فقدتَّ خليفة الله واُعطيت خلافة الله، ففارقت جليلاً ووهبت جزيلاً، إذ قضى

____________________________

(١) الاغاني ج١٦ ص٣٤ طبعة دي ساسي.

(٢) مقتل الخوارزمي ج١ ص١٧٨ وفي الاستيعاب على هامش الاصابة بترجمة معاوية عن الشافعي: أن معاوية لما ثقل كتب إلى يزيد وكان غائباً يخبره بحاله فأنشأ يزيد يقول وذكر أربع أبيات الاول والثالث واثنان لم يذكرا هنا.

(٣) البداية لابن كثير ج٨ ص١٤٣.

١٢٧

معاوية نحبه، وولِّيت الرياسة واُعطيت السّياسة، فاورده الله موارد السّرور ووفقك لصالح الامور، ثمّ أنشأ:

إصـبر يـزيد فقد فارقت ذا كرم

واشـكر حباء الذي بالملك أصفاك

لا رزء أصبح في الأقوام قد علموا

كـما رزئـت ولا عـقبى كعقباك

أصـبحت راعي أهل الدين كلهُمُ

فـأنـت تـرعاهُمُ والله يـرعاك

وفـي مـعاوية الـباقي لنا خلف

إذا نـعيت ولا نـسمع بـمنعاك

فانفتح بذلك للخطباء(١) ، وقال له رجل من ثقيف: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، إنّك قد فُجعت بخير الآباء، واُعطيت جميع الأشياء، فاصبر على الرزيّة، واحمد الله على حُسن العطيّة، فلا أحد اُعطي كما اُعطيت ولا رزئ كما رزئت.

وأقبل الناس عليه يهنّئونه ويعزّونه فقال يزيد: نحن أنصار الحقّ وأنصار الدِّين، وأبشروا يا أهل الشام، فإنّ الخير لم يزل فيكم وستكون بيني وبين أهل العراق ملحمة؛ وذلك إنّي رأيت في منامي منذ ثلاث ليال كأنّ بيني وبين أهل العراق نهراً يطّرد بالدم جرياً شديداً، وجعلتُ أجهد نفسي لأجوزه فلم أقدر حتّى جازه بين يدي عبيد الله بن زياد وأنا أنظر إليه!.

فصاح أهل الشام إمض بنا حيث شئت، معك سيوفنا التي عرفها أهل العراق في صفّين، فجزاهم خيراً وفرّق فيهم أموالاً جزيلة.

وكتب إلى العمّال في البلدان يخبرهم بهلاك أبيه، وأقرّهم على عملهم، وضمّ العراقَين إلى عبيد الله بن زياد - بعد أن أشار عليه بذلك سرجون مولى معاوية -، وكتب إلى الوليد بن عتبة وكان على المدينة:

أمّا بعد: « فإنّ معاوية كان عبداً من عباد الله أكرمه واستخلصه ومكّن له، ثمّ قبضه إلى روحه و ريحانه ورحمته وعقابه، عاش بقدر ومات بأجل، وقد كان عَهَدَ إليَّ وأوصاني بالحذر من آل أبي تراب؛ لجرأتهم على سفك الدماء، وقد علمتَ يا وليد أنّ الله تبارك وتعالى منتقم للمظلوم عثمان بآل أبي سفيان؛ لأنّهم أنصار الحقّ وطلاب العدل، فإذا ورد عليك كتابي هذا، فخذ البيعة على أهل المدينة ».

____________________________

(١) البيان والتبيين للجاحظ ٢ / ١٠٩، ط ٢، باب وصية معاوية، وكامل المبرد ٣ / ٣٠٠، والعمدة لابن رشيق ٢ / ١٤٨، باب الرثاء (وبينهم اختلاف يسير)، والعقد الفريد لابن عبد ربّه ٢ / ٣٠٩، باب طلب معاوية البيعة ليزيد.

١٢٨

ثمّ أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها: خُذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ومَن أبى فاضربْ عنقه، وابعث إليَّ برأسه(١) !

وقام العامل بهذه المهمّة، فبعث على الحسين وابن الزبير نصف الليل، رجاء أنْ يغتنم الفرصة بمبايعتهما قبل النّاس، فوجدهما رسوله عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان بن عفّان(٢) في مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فارتاب ابن الزبير من هذه الدعوة التي لم تكن في الوقت الذي يجلس فيه للناس(٣) ، لكن حُجّة الوقت (حسين الإصلاح) أوقفه على أمر غيبي، وهو هلاك معاوية، وأنّه يطلب منهم البيعة ليزيد وأيّدهعليه‌السلام بما رآه في المنام من اشتعال النّيران في دار معاوية، وإنّ منبره منكوس(٤) .

ورام ابـن ميسون على الدين امرة

فـعاثت بـدين الله جهراً جرائمه

فـقام مغيثاً شرعة الدِّين شبل مَنْ

بـصمصامه بـدءاً اقيمت دعائمه

وحفَّ به (إذ محصَّ الناسَ) معشر

نـمته إلى اوج الـمعالي مكارمه

فـمن اشوس ينميه للطعن (حيدر)

وينميه جد في قرى الطير (هاشمه)

ورهط تفانى في حمى الدين لم تهن

لـقـلته بـين الـجموع عـزائمه

إلى أن قضوا دون الشريعة صرَّعاً

كما صرعت دون العرين ضراغمه

أراد ابن هند خاب مسعاه أن يرى

(حسينا) بأيدي الضيم تلوى شكائمه

ولـكن أبـى المجد المؤثل والإبا

لـه الـذلُّ ثـوباً والحسام ينادمه

أبـوه عـلي وابـنة الـطُّهر اُمّه

وطـه لـه جَـدٌّ وجـبريل خادمه

إلـى ابن سمي وابن ميسون ينثني

يـمدُّ يـداً والـسّيف في اليد قائمه

____________________________

(١) مقتل الخوارزمي ١ / ١٧٨ - ١٨٠، طبع النجف، وقد أشرنا في المقدّمة إلى السّر في إنشاء هذا الكتاب الصغير فاقرأه.

(٢) ابن عساكر ٤ / ٣٢٧.

(٣) الطبري ٦ / ١٨٩.

(٤) مثير الاحزان لابن نما / ١٠، ومقتل الخوارزمي ١ / ١٨٢ الفصل الثامن. ولا يخفى أنّ رؤيا الإمامعليه‌السلام مشاهدة لحقيقة الحال، إبصار بنور الإمامة الذي لا تمنعه الحواجز عن ادراك ما في الكون، ولا بدع في ذلك ممَّن كوّنه الله تعالى حُجّة على العالمين، فهوعليه‌السلام في مقام الكناية عن نكوس منبره بانقلاب الأمر من يده وانقطاع شهواته بهلاكه، واشتعال النيران كناية عن احتدام الفتن بمثل فاجعة الطفّ، و واقعة الحرة، وهدم البيت الحرام إلى أمثالها.

١٢٩

فصال عليهم صولة الليث مغضباً

وعسا له خصم النفوس وصارمه

فـحكَّم فـي أعـناقهم نافذ القضا

صقيلاً فلا يستأنف الحكم حاكمه

الى أن أعاد الدين غضّاً ولم يكن

بغير دماء السّبط تسقى معالمه(١)

و وضّح لابن الزبير ما عزم عليه الحسين من ملاقاة الوالي في ذلك الوقت، فأشار عليه بالترك حذار الغيلة، فعرّفه الحسينعليه‌السلام القدرة على الامتناع(٢) .

وصار إليه الحسين في ثلاثين(٣) من مواليه وأهل بيته وشيعته، شاكين بالسّلاح، ليكونوا على الباب فيمنعونه إذا علا صوته(٤) وبيده قضيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولمّا استقرّ المجلس بأبي عبد اللهعليه‌السلام ، نعى الوليد إليه معاوية، ثم عرض عليه البيعة ليزيد، فقالعليه‌السلام :«مثلي لا يبايع سرّاً، فإذا دعوتَ النّاس إلى البيعة دعوتنا معهم، فكان أمراً واحداً» (٥) .

فاقتنع الوليد منه، لكن مروان ابتدر قائلاً: إن فارقك السّاعة ولم يبايع، لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه.

فقال الحسين:«يابن الزرقاء (٦) أنت تقتلني أم هو؟! كذبت وأثمت» (٧) .

____________________________

(١) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٢) ابن الأثير ٤ / ٦.

(٣) اللهوف للسيّد رضي الدين ابن طاووس.

(٤) مقتل الخوارزمي ١ / ١٨٣ الفصل الثامن.

(٥) الطبري ٦ / ١٨٩.

(٦) في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي / ٢٢٩، طبع ايران، والاداب السلطانية للفخري / ٨٨، كانت جدّة مروان من البغايا. وفي كامل ابن الأثير ٤ / ٧٥، كان الناس يعيّرون ولد عبد الله بن مروان بالزرقاء بنت موهب؛ لانّها من المومسات ومن ذوات الرايات. وفي تاريخ ابن عساكر ٧ / ٤٠٧، جرى كلام بين مروان وعبد الله بن الزبير فقال له عبد الله: وإنك لههنا يابن الزرقاء. وفي أنساب الاشراف للبلاذري ٥ / ١٢٩، قال عمرو بن العاص لمروان - في كلام جرى بينهما -: يابن الزرقاء، فقال مروان: إن كانت زرقاء، فقد أنجبت وأدت الشبه إذا لم تؤده غيرها.

وفي تاريخ الطبري ٨ / ١٦، كان مروان بن محمّد بن الأشعث يقول: لم يزل بنو مروان يعيَّرون بالزرقاء وان بني العاص من أهل (صفورية).

غير خفي أنّ أدب الشريعة وإن حرج على المؤمن التنابز بالالقاب والطعن في الأنساب، ومَن تستفاد منه الحكم والآداب الإلهيّة أحرى بالأخذ بها، إلا أنّ إمام الاُمّة والحُجّة على الخليفة العارف بالملابسات لا يتعدّى هذه المقررات، وابتعادنا عن مقتضيات أحوال ذلك الزمن يلزمنا بالتسليم للإمام المعصومعليه‌السلام في كلّ ما يصدر منه خصوصاً مع مطابقته للقرآن العزيز الذي هو مصدر الأحكام، والتعيير الصادر من الحسين لمروان صدر مثله من الجليل عزّ شأنه مع الوليد بن المغيرة المخزومي إذ يقول في سورة القلم / ١٣:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) والزنيم، في اللغة: الدعي في النسب، اللصيق به.=

١٣٠

ثم أقبلعليه‌السلام على الوليد وقال:«أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النّفس المحرَّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة» (١) .

فأغلظ الوليد في كلامه، وارتفعت الأصوات، فهجم تسعة عشر رجلاً قد انتضوا خناجرهم وأخرجوا الحسين إلى منزله قهراً(٢) .

فقال مروان للوليد: عصيتني، فولله لا يمكّنك على مثلها. قال الوليد: وَبِّخ غيرك يا مروان! اخترت لي ما فيه هلاك ديني، أقتل حسيناً أنْ قال لا اُبايع! والله لا أظن امرءاً يحاسب بدم الحسين إلا خفيف الميزان يوم القيامة(٣) ، ولا ينظر الله إليه، ولا يزكّيه، وله عذاب أليم(٤) .

وعتبت أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، امرأة الوليد عليه؛ لمّا جرى منه مع الحسين، فاعتذر بأنّه بدأه بالسّب، قالت: أتسبّه وتسبّ أباه إنْ سبّك! فقال: لا أفعل أبداً(٥) .

وفي هذه الليلة زار الحسين قبر جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسطع له نور من القبر(٦) فقال:«السّلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفتني في اُمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم خذلوني ولم

____________________________

= و ورد في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في كنز العمال ١ / ١٥٦:«العتل الزنيم: الفاحش اللئيم».

ويروي الآلوسي في روح المعاني ٢٩ / ٢٨: إنّ أباه المغيرة ادّعاه بعد ثمان عشرة سنة من مولده.

فإذا كان (ينبوع الأدب والأسرار) يغمز في حقّ رجل معيّن ويسمّه بالقبيح في كتابه الذي يتلى في المحاريب ليلاً ونهاراً، فلا يستغرب من ابن النبوة إذا رمى مروان بالشائنة، وهو ذلك المتربّص بهم الغوائل.

(٧) تاريخ الطبري، وابن الأثير، والإرشاد، وإعلام الورى.

(١) مثير الاحزان لابن نما الحلّي، من أعلام القرن السادس.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ٢ / ٢٠٨.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ١٩.

(٤) اللهوف / ١٣.

(٥) ابن عساكر ٤ / ٣٢٨.

(٦) امالي الصدوق / ٩٣ المجلس الثلاثون.

١٣١

يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك»، ولم يزل راكعاً وساجداً حتّى الصباح(١) .

وأرسل الوليد من يتعرّف له خبر الحسين، وحيث لم يصبه الرسول في منزله، اعتقد أنّه خارج من المدينة، فحمد الله على عدم ابتلائه به.

وعند الصباح لقي مروان أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فعرفه النصيحة التي يدخرها

____________________________

(١) مقتل العوالم ص ٥٤ والبحار ج ١٠ ص ١٧٢ عن محمد بن أبي طالب إن مسألة وجود الأنبياء والأوصياء في قبورهم أو أنهم مرفوعون إلى السماء محل الخلاف لاختلاف الآثار. ففي كامل الزيارات والتوحيد والمجالس والعيون والخصال للصدوق والخرايجك للراوندي والبصائر ص ١٣٠ أخبار دلت على وجود نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي والحسين ونوح وشعيب وخالد العبسي ويوشع بن نون وعظام آدم وعظام يوسف وعظم النبي المذكور في خبر الاستسقاء في الأرض وإنها أول ما تنشق عن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله ولهذه الأخبار اختار السيد محمود بن فتح الله الحسيني الكاظمي في رسالة كتبها في المسألة انهم موجودون في قبورهم، ولكن في كامل الزيارات ص ٣٩٠ باب ١٠٨ وتهذيب الطوسي آخر المزار باب الزيارات ما من نبي أو وصي يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه وعظمه إلى السماء، وفي تهذيب الشيخ الطوسي لا يبقى اكثر من أربعين يوماً فيرفع إلى السماء. والاختلاف بينهما أما لبيان الغاية في القلة والكثرة أو للاختلاف في مراتبهم، وفي شرح الأربعين للمجلسي ص ٧٦ جمع آخر بين الخبرين وهو أن بعضهم يرفع بعد الثلاثة وبعضهم بعد الأربعين. واحتمل أن تكون الاخبار واردة لقطع طمع الخوارج عن النبش. وممن وافق على رفع الاجساد الأصلية الشيخ المفيد في المقالات ص ٨٤ والكراجكي في كنز الفوائد ص ٢٥٨ والمجلسي في مرآة العقول ج ١ ص ٣٧٣ والشيخ يوسف البحراني في الدرة النجفية ص ٢٦٦ والمحدث النوري في دار السلام ج ٢ ص ٣٣١ وذهب الفيض في (الوافي) الى أنهم يرتفعون بالأجساد المثالية وتبقى العنصرية في الأرض، وفي مرآة العقول ج ١ ص ٢٢٧ أن جماعة ذهبوا الى رجوعهم الى ضرائحهم بعد الرفع. ولما سأل ابن الحاجب شيخنا المفيد عن معنى حضور الوافدين الى هذه الضرائح؟ حينئذ أجابه الشيخ المفيد بأنه انما جاء العباد الى محال قبورهم وان لم يكونوا فيها اكباراً لهم وتقديساً للمواضع التي حلوا فيها ثم ارتفعوا عنها وهذا مثل تبعد الله العباد بالسعي الى بيته الحرام مع انه سبحانه لا يحويه مكان وانما ذلك ذلك تعظيم له وتجليل لمقامه جل شأنه. وفي الفتاوى الحديثية لابن حجر في ٢١٣ عن ابن العربي ان الأنبياء ترد اليهم أرواحهم في القبور ويؤذن لهم في الخروج والتصرف في الملكوت العلوي أو السفلي فلا مانع من أن يرى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الكثيرون لانه كالشمس. وفي وفاء الوفاء للسمهودي ج ٢ ص ٤٠٧ الفصل الثاني في بنية المزارات روى عنه انهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ما من نبي دفن الا وقد رفع بعد ثلاث غيري فاني سألت الله تعالى أن أكون بينكم إلى يوم القيامة وروى عبد الرزاق ان سعيد بن المسيب رأى قوماً يسلمون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين... وفي روح المعاني للآلوسي ج ٢ ص ٣٧ سورة الاحزاب آية (ما كان محمداًَ أبا أحد من رجالكم) أحاديث عن أنس قالصلى‌الله‌عليه‌وآله ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحاً. وعن سعيد بن المسيب وأبي المقدم ثابت بن هرمز ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوماً.. ومن الأخبار ما ذكره امام الحرمين في النهاية والرافعي في الشرح ان النبي قال: أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث.. زاد امام الحرمين وروى أكثر من يومين ونقل عن القاضي ابن العربي والروض: ان الأنبياء ترد اليهم أرواحهم بعد ما قبضوا ويؤذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، ثم ذكر رأيه.

١٣٢

لأمثاله، وهي البيعة ليزيد؛ فإنّ فيها خير الدِّين والدنيا، فاسترجع الحسين وقال:«على الإسلام السّلام؛ إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان (١) ، فاذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، وقد رآه أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا فابتلاهم الله بيزيد الفاسق» ، وطال الحديث بينهما حتّى انصرف مروان مغضباً(٢) .

وفي الليلة الثانية جاء الحسين إلى قبر جدّه، وصلّى ركعات ثم قال:«اللهمّ، إنّ هذا قبر نبيّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهمّ إنّي اُحبّ المعروف واُنكِر المنكر، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضىً ولرسولك رضىً» ، وبكى.

ولمّا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فغفا، فرأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يدَيه، فضمّ الحسين إلى صدره وقبَّل ما بين عينيه، وقال: حبيبي يا حسين، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كربلا بين عصابة من اُمّتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تروى، وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! حبيبي يا حسين، إنّ أباك واُمّك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك. فبكى الحسين وسأل جدّه أنْ يأخذه معه ويدخله في قبره.

ولكن الرسول الأقدس أبى إلا أنْ يمضي ولده على حال أربى في نيل الجزاء وآثر عند الجليل سبحانه يوم الخصام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لابد أنْ ترزق الشهادة؛ ليكون لك ما كتب الله فيها من الثواب العظيم، فانّك وأباك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة.

فانتبه الحسين وقصّ رؤياه على أهل بيته فاشتد حزنهم وكثر بكاؤهم(٣)

____________________________

(١) اللهوف / ١٣، ومثير الأحزان / ١٠.

(٢) مقتل الحوارزمي ١ / ١٨٥، الفصل التاسع.

(٣) مقتل العوام / ٥٤، عن محمّد بن أبي طالب، وهذا التذمّر بيان لمقتضى الحال وتعليم للاُمّة بأنّ في مشاهدة تلكم الأحوال من تداول المنكرات وإزهاق المعروف ممّا يستهان معه الموت، وذلك بقضاء من الشهامة والتعرّق في الدين، ولم يكن هذا من سيّد الشهداء نكوصاً عن الأفضل ولا جزعاً - وحاشاه - ممّا قدّر له ورضى به، وأخذ عليه العهد والمواثيق المؤكّدة وهو جدّ عليم بأنّه لابدّ من وقوع ما جرت به المقادير، لكنّ أبي الضيم حسب أنّ دعاء جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بغير القضاء فعرفه صاحب الدّعوة الإلهيّة أنّ الله تعالى أجرى قضاءه بإعطائه منازل لا تحصّل إلا مع الشهادة. وفي كلّ حرف من قضيّة السّبط الشهيد دروس راقية، وهل في الاُمّة مَن يعتبر بها أو يدرسها؟

١٣٣

وعلموا قرب الموعد الذي كان رسول الله يخبر به، ولحرصهم على نور النبوّة أنْ لا يحجب عنهم ولا يفقدوا تلك الهبات العلويّة اجتمعوا عليه، وطلبوا منه الموافقة ليزيد أو الابتعاد عن هذه البلاد.

جماعة يتخوّفون على الحسين

١- رأي عمر الأطرف

فقال له عمر الأطرف بن أمير المؤمنين(١) : حدّثني أبو محمّد الحسن عن أبيه أمير المؤمنين، أنّك مقتول، فلو بايعت لكان خيراً لك. قال الحسين:«حدّثني أبي أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي، وإنّ تربته تكون بالقرب من تربتي، أتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه؟، وإنّي لا أعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريّتها من اُمّته، ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريّتها» (٢) .

وجاء عمر بن علي بن أبي طالب إلى المختار - حينما نهض بالكوفة - فقال له المختار: هل معك محمّد بن الحنفيّة؟ فقال: لا. فطرده عنه. فسار إلى مصعب حتّى حضر الوقعة وقُتل فيمَن قُتل من النّاس(٣) .

لا بـد أن تـرد الـقيامة فاطم

وقـميصها بـدم الحسين ملطّخ

ويـلٌ لـمَن شـفعاؤه خصماؤه

والصور في يوم القيامة ينفخ(٤)

٢- رأي ابن الحنفية

وقال محمّد بن الحنفية(٥) : يا أخي أنت أحبّ النّاس إليَّ وأعزّهم عليَّ

____________________________

(١) ذكرنا ترجمته في هامش كتابنا زيد الشهيد / ١٠٠ الطبعة الثانية.

(٢) اللهوف / ١٥، طـ صيدا.

(٣) الاخبار الطوال للدينوري / ٢٩.

(٤) في مناقب ابن شهرآشوب ٢ / ٩١: إنّها لمسعود بن عبد الله القايني.

(٥) ذكرنا في كتابنا (قمر بني هاشم / ١٠٤): أنّ له يوم البصرة عشرين سنة، فهو أكبر من العبّاس بعشر سنين، وكانت راية أمير المؤمنين معه في الجمل والنهروان، وذكرنا في كتابنا (زين العابدين / ٣١٦) بعض أحواله.

وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ٧٩ كتاب يزيد إلى ابن الحنفية بعد قتل الحسين وحضوره عنده؛ وهذا ممّا يحطّ من مقامه، وإنّي أقطع بالافتعال عليه؛ لأنّه لا يعقل صدوره من غيور موتور.

١٣٤

ولستُ أدّخر النّصيحة لأحد من الخلق إلا لك وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث برسلك إلى النّاس، فإنْ بايعوك حمدتَ الله على ذلك، وإنْ اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك، وإنّي أخاف عليك أنْ تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف النّاس بينهم فطائفة معك واُخرى عليك فيقتتلون، فتكون لأول الأسنّة غرضاً، فإذا خيرُ هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً، أضيعها دماً، وأذلّها أهلاً.

فقال الحسين:«فأين أذهب؟»، قال: تنزل مكّة فإنْ اطمأنّت بك الدار، وإلا لحقت بالرمال وشعب الجبال وخرجت من بلد إلى آخر حتّى تنظر ما يصير إليه أمر النّاس، فإنّك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حتّى تستقبل الاُمور استقبالاً ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها استدباراً(١) .

فقال الحسين:«يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى، لَما بايعت يزيد ابن معاوية» .

فقطع محمّد كلامه بالبكاء.

فقال الحسين:«يا أخي، جزاك الله خيراً، لقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت فلا عليك أنْ تقيم بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم لا تخفي عنّي شيئاً من اُمورهم» (٢) .

وقام من عند ابن الحنفية ودخل المسجد، وهو ينشد:

لا ذعرت السوام في فلق الصبح

مغـيراً ولا دعـيت يـزيدا(٣)

يوم أُعطي مخالفة الموت ضـيم

والمنايا يرصدنني أن احيدا(٤)

____________________________

(١) الطبري ٦ / ١٩١، وكامل ابن الأثير ٤ / ٧.

(٢) مقتل محمّد بن أبي طالب، ولم يذكر أرباب المقاتل هذا العذر، واعتذر العلامة الحلّي في أجوبة مسائل ابن مهنا بالمرض.

في (أخذ الثأر) لابن نما الحلي ص٨١: أصابته قروح من عين نظرت إليه، فلم يتمكّن من الخروج مع الحسينعليه‌السلام ، وجلالة ابن الحنفية ومواقفه المشهودة، واعترافه بإمامة السّجادعليه‌السلام لا يدع لنا إلا الاذعان بمشروعيّة تأخيره عن هذا المشهد على الإجمال.

(٣) هو يزيد بن مفرغ.

(٤) في أنساب الاشراف ٤ / ٦٦: تمثل بهما في مكة.

١٣٥

وسمعه أبو سعيد المقبري فعرف أنّه يريد أمراً عظيماً(١) .

٣- رأي اُمّ سلمة

وقالت اُمّ سلمة: لا تحزنني بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك رسول الله يقول:«يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلا» ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليَّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال الحسين:«يا اُمّاه، وأنا أعلم أنّي مقتول مذبوح ظلماً وعدواناً، وقد شاء عزّ وجلّ أنْ يرى حرمي ورهطي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً».

قالت اُمّ سلمة: وآعجباً! فأنّى تذهب وأنت مقتول؟!.

قالعليه‌السلام :«يا اُمّاه، إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب في غد ذهبت بعد غد، وما من الموت والله بدّ، واني لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه والسّاعة التي اُقتل فيها والحفرة التي اُدفن فيها، كما أعرفك، وأنظر إليها كما أنظر إليك، وإنْ أحببتِ يا اُمّاه أنْ أريك مضجعي ومكان أصحابي»، فطلبت منه ذلك، فأراها تربة أصحابه(٢) ، ثمّ أعطاها من تلك التربة، وأمرها أنْ تحتفظ بها في قارورة، فإذا رأتها تفور دماً تيقّنت قتله. وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت إلى القارورتين فإذا هما يفوران دماً(٣) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ١٩١، والاغاني ١٧ / ٦٨، والمقتل للخوارزمي ١ / ١٨٦ الفصل التاسع، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩.

(٢) مدينة المعاجز / ٢٤٤، عن ثاقب المناقب لمؤلّفه الجليل أبي جعفر محمّد بن علي بن محمّد المشهدي الطوسي، كما في دار السلام للنوري ١ / ١٠٢، وحكى في روضات الجنات / ٥٩٣: نسبة الكتاب إليه عن كامل البهائي، وعلى ما في دار السلام من ذكر روايته عن جعفر بن محمّد الدرويستي الراوي عن المفيد في سنة ٤٠١ يكون من أعلام القرن الخامس.

(٣) الخرايج في باب معجزاته ومقتل العوالم / ٤٧.

١٣٦

الهاشميّات:

وكَبُرَ خروجه على نساء بني عبد المطّلب فاجتمعن؛ للنياحة، فمشى إليهنّ الحسين وسكّتهن وقال:«اُنشدكنّ الله أنْ تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله» ، فقلن: ولِمَن نستبقي النّياحة والبكاء؟! فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله وعلي وفاطمة والحسن وزينب واُمّ كلثوم، فننشدك الله - جعلنا الله فداك - من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور. وأخبرته بعض عمّاته أنّها سمعت هاتفاً يقول(١) :

____________________________

(١) في كامل الزيارة ص ٩٦ ذكر بيتين ثم هذا البيت وورد في أربعة أبيات في حماسة أبي تمام كما في شرحها للتبريزي ج ٢ ص ١٤، ومروج الذهب ج ٢ ص ٩٢ نقلاً عن انساب الزبير بن بكار ومناقب ابن شهر اشوب ج ٢ ص ٢٢٨ ومثير الأحزان عن المرزباني وتذكرة الخواص ص ١٢٤ وورد في خمسة أبيات في معجم البلدان ج ٦ ص ٥٢ ومقالات الاسلاميين لأبي الحسن الأشعري ج ١ ص ١٤٢ وفي ست أبيات في كامل ابن الأثير ج ٤ ص ٣٧ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ٢ ص ٢١٥ وفي سبع أبيات في مقاتل الطالبيين ص ١٩ ط ايران ونسب قريش لمصعب الزبيري ص ٤١ وفي ثمان أبيات في البداية لابن كثير ج ٨ ص ٢١١ ومقتل الخوارزمي ج ٢ ص ١٤٩ ومثير الأحزان لابن نما. وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٣٤٣. (واختلفوا في قائلها) ففي كامل ابن الأثير ج ٤ ص ٣٧ انها للتيمي تيم مرة وكان منقطعاً لبني هاشم، وفي الاصابة ج ٤ ص ٧٤ ومقالات الاسلاميين انها لأبي رمح الخزاعي وهي رواية ابن نما عن المرزباني، وفي شرح التبريزي على الحماسة ج ٣ ص ١٣ انها لأبي رمج الخزاعي بالجيم المعجمة وفي الاستيعاب انها لأبي زميج الخزاعي وسماه البكري في المعجم مما استعجم ج ٣ ص ٨٩١ ابن رمح الخزاعي ولم يذكر الا هذا البيت الذي في روايته (اذل رقاب المسلمين فذلت).

ويذهب الزبير بن بكار في أنساب قريش كما ذكره المسعودي في مروج الذهب انها لسليمان بن قبه بالباء الموحدة وعند ابن عساكر في تاريخه ج ٤ ص ٣٤٢ والذهبي في سير اعلام النبلاء ج ٣ ص ٢١٥ وابي عمرو في الاستيعاب (قنة) بالنون بعد القاف ويضيف ابن شهر اشوب الى ذلك (الهاشمي).

وفي تهذيب كامل المبردج (٢) ص ٢٣٥ واعيان الشيعة ج ٣٥ ص ١٣٦ ونسب قريش لمصعب الزبيري ص ٤١ سليمان بن قته ويضيف اليه ابو تمام في الحماسة (العدوي) وفي شرح التبريزي منسوب الى عدي وفي وفي الحماسة البصرية لصدر الدين بن أبي الفرج بن الحسين البصري المتوفى سنة ٦٥٩ هـ ج ١ ص ٢٠٠ رقم ١٠ قال سليمان ابن قته العدوي مولى عمر بن عبد الله التيمي:

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها يوم يوم حلت

وكتب المعلق عليه انها خمسة ولم يذكرها وقال مثلها في الاستيعاب. وفي تذكرة الخواص ص ١٥٤ ط. ايران مر سليمان بن قته فنظر الى مصارع القوم فبكى ثم قال: وان قتيل الطف... الى أربعة أبيات.

وفي مقاتل أبي الفرج ص ٤٩ والبداية لابن كثير ج ٨ ص ٢١١ سليمان بن (قتيبة) بالتاء المثناة من فوق بعد القاف ثم الياء المثناة من تحت بعدها باء موحدة ملحقه بهاء، وفي مثير الاحزان لابن نما ان سليمان بن قتيبة العدوي مولى بني تميم مر بكربلا بعد قتل الحسين بثلاث فنظر الى مصارعهم فاتكأ على قوس له عربية وانشأ الأبيات وفي اللهوف لابن طاووس ص ١١٩ ط صيدا ولقد احسن ابن قتيبةرحمه‌الله ، وفي معجم البلدان ج ٦ ص ٥٢ انها لأبي دهبل الجمحي، ووافقه في تاج العروس بمادة الطف مع الاقتصار على نفس البيت (وابو =

١٣٧

وإنَّ قتيل الطف من آل هاشم

أذلَّ رقاباً من قريش فذلَّتِ

فصبَّرها الحسين وعرَّفها أنّه أمر جارٍ وقضاء محتوم.

٤- رأي عبد الله بن عمر

وطلب منه عبد الله بن عمر بن الخطاب البقاء في المدينة فأبى الحسين وقال:«يا عبد الله، إنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، وأنّ رأسي يُهدى إلى بغي من بغايا بني اُميّة، أما علمت أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً؟! فلم يُعجّل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام» (١) .

ولما عرف ابن عمر من الحسين العزم على مغادرة المدينة والنّهضة في وجه أتباع الضلال وقمع المنكرات وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المقدّسة، قال له: يا أبا عبد الله أكشف لي عن الموضع الذي لم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّله منك، فكشف له عن سرّته، فقبّلها ثلاثاً وبكى(٢) .

فقال له:«اتّق الله يا أبا عبد الرحمن، ولا تَدَعَنَّ نصرتي» (٣) .

____________________________

دهبل) كما في الأغاني ج ٦ ص ١٤٩ وهب بن زمعة بن اسد مادح معاوية وعبد الله بن الزبير والوالي على اليمن من قبله وهذا يضعف كون الشعر له، وفي الاغاني ج ١٧ ص ١٦٥ دخل مصعب بن الزبير الكوفة وأخذ يسأل عن الحسين وقتله وعروة بن المغيرة يحدثه فقال متمثلا بقول سليمان بن قته:

فان الأولى بالطف من آل هاشم

تآسوا فسنوا للكرام التآسيا

وفي طبقات القراء لابن الجزري ج ١ ص ٣١٤ سليمان بن قتة بفتح القاف والمثناة من فوق المشددة، وقته امه، التيمي مولاهم البصري ثقة عرض على ابن عباس ثلاث عرضات وعرض عليه عاصم الجحدري.

(ويمضي) على الألسن ان التي سمعت الهاتف أم هاني ولا يصح لانها ماتت أما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في مناقب ابن شهر آشوب ج ١ ص ١١٠ أو أيام معاوية كما في تقريب التهذيب لابن حجر ص ٦٢٠ ط لكنهو.

(١) ابن نما واللهوف.

(٢) أمالي الصدوق مجلس ٣٠ / ٩٣.

(٣) اللهوف / ١٧.

١٣٨

الوصيّة

وكتب الحسين قبل خروجه من المدينة وصيّةً قال فيها:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن عليعليه‌السلام إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، إنّ الحسين يشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحقّ من عنده، وأنّ الجنة حقّ والنّار حقّ، والسّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور.

وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين.

وهذه وصيّتي إليك يا أخي. وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب، ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمّد» (١) .

رافـعٌ رايـة الـهدى بمهجته

كـاشفٌ ظـلمة العمى ببهجته

بـه اسـتقامت هـذه الشريعة

بـه عـلت أركـانها الرفيعة

بـنى الـمعالي بمعالي هممه

ما اخضرَّ عود الدين إلا بدمه

بـنفسه اشـترى حـياة الدين

فـيا لـها مـن ثـمن ثـمين

أحـيا مـعالم الـهدى بروحه

داوى جروح الدين من جروحه

جـفت ريـاض العلم بالسموم

لـم يـروها إلا دم الـمظلوم

فـأصبحت مـورقة الأشجار

يـانـعة زاكـيـة الـثـمار

أقـعـد كـل قـائم بـنهضته

حتّى أقـام الدين بعد كبوته

قـامت بـه قـواعد التوحيد

مـذ لـجأت بـركنها الشديد

____________________________

(١) مقتل العوام ص ٥٤، والمقتل للخوارزمي ١ / ١٨٨ الفصل التاسع.

وغير خاف مغزى السبط المقدس من هذه الوصية، فإنّه أراد الهتاف بغايته الكريمة من نهضته المقدسة، وتعريف الملأ نفسَه ونفسيته ومبدأ أمره ومنتهاه، ولم يبرح يواصل هذا بأمثاله إلى حين شهادته دحضاً لما كان الأمويّون ولفائفهم يموهون على النّاس بأنّ الحسين خارج على خليفة الوقت يريد شقّ العصا وتفريق الكلمة واستهواء النّاس إلى نفسه؛ لنهمة الحاكمية وشره الرياسة؛ تبريراً لأعمالهم القاسية في استئصال آل الرسول، ولم يزلعليه‌السلام مترسلاً كذلك في جميع مواقفه هو وآله وصحبه حتّى دحروا تلكم الاُكذوبة، ونالوا اُمنيتهم في مسيرهم ومصير أمرهم.

١٣٩

غـدت بـه سـامية الـقباب

مـعـاهد الـسّـنة والـكتاب

أفـاض كـالحيا عـلى الورِّاد

مـاء الـحياة وَهوَ ظامٍ صادي

وكـظَّه الظما وفي طيِّ الحشا

ريِّ الورى والله يقضي ما يشا

والـتهبت أحـشاؤه من الظما

فأمطرت سحائب القدس دما(١)

الخروج من المدينة

وخرج الحسين من المدينة متوجّهاً نحو مكّة ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه الحسن وأهل بيته(٢) ، وهو يقرأ:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (٣) .

ولزم الطريق الأعظم، فقيل له: لو تنكّبت الطريق كما فعل ابن الزبير؛ كيلا يلحقك الطلب، قال:«لا والله، لا أفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض».

ودخل مكّة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان وهو يقرأ:( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل ) (٤)(٥) .

فنزل دار العبّاس بن عبد المطلب(٦) واختلف إليه أهل مكّة ومَن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير ملازم جانب الكعبة، ويأتي إلى الحسين فيمَن يأتيه وكان ثقيلاً عليه دخول الحسين مكّة؛ لكونه أجلَّ منه وأطوع في النّاس، فلا يبايَع له ما دام الحسين فيها.

وخرجعليه‌السلام في بعض الأيام إلى زيارة قبر جدّته خديجة، فصلّى هناك وابتهل إلى الله كثيراً(٧) .

____________________________

(١) للعلامة الحجة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني قدّس الله سرّه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٠.

(٣) سورة القصص الآية ٣١.

(٤) سورة القصص الآية ٢٢.

(٥) إرشاد المفيد.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٨.

(٧) الخصائص الحسينية للشيخ جعفر الشوشتري ص ٣٥ ط تبريز، ومقتل العوالم ص ٢٠.

١٤٠