ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 69325
تحميل: 5860

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69325 / تحميل: 5860
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويستمر الصراع

أحمد عبد الله

١

الإهداء

إلى كل الثوّار في العالم، فإنهم - علموا أم لم يعلموا - من مدرسة الحسينعليه‌السلام

٢
٣

الفصل الأول

في الطريق إلى المدينة

السنة الثامنة للهجرة، مكّة لم تعد سعيدة فخورة آمنة کما کانت؛ الناس فيها قلقون. تعلو وجوههم الحيرة والكآبة، وأسئلة لا يجدون الاجابة عليها. الإسلام يتقدّم وينتشر ويكسب في كل يوم أنصاراً جدداً وانتصارات جديدة.

مشيخة قريش لم تعد تمسك بزمام الأمور كسابق عهدها، والعبيد والمستضعفون والحلفاء يتمردون ويهربون للالتحاق بمحمدٍ. الأمور لا تبدو مطمئنة لهم. إنهم لا يعرفون الخطوة القادمة لمحمد، لكنها بكل تأكيد ستزيدهم ضعفاً وتزيد خصومهم قوة. فمحمدٌ لن يقف حيث انتهى. إنّ خطوته القادمة ستكون أخطر من كل ما تقدّمها، وقد تقضي على ما بقي لقريش من عزٍّ وسلطان.

قبائل العرب بدأت تفقد الثقة في قريش وقدرتها على مواجهة محمّد. إنّهم يسخرون الآن منها. ومن يدري فلعلّهم سينضمون قريباً إلى محمّد ويحاربونها إلى جانبه؟

حتى شباب قريش، هؤلاء الذين كانوا أشدّ أعداء محمّد، بدؤوا يلتحقون به، طامعين في الجاه والسلطة التي يفتقدونها في مكة. ماذا يجدي عليهم بقاؤهم في مكة التي أصبحت ماضياً يثير الحسرة والحزن. وقصائد الرثاء وذكريات وآلام لا تنفع حاضراً ولا تبني مستقبلاً.

لم تعد المدينة التي يستطيعون تحقيق طموحهم فيها، أمامهم (المدينة): مدينة الأمل والمستقبل، فليسرعوا إليها. هناك يستطيعون أن يحققوا ما يريدون. لقد أصبحت المدينة - منذ اتخذها محمّد مسكناً له - مركز الدعوة وحاضرة المسلمين. وإذا كان الإسلام اليوم ديناً، فإنّه سيكون غداً حكماً وسلطاناً. ها هي المدينة تعج بالحركة والنشاط، إنها دولة تتشكل، ستتجاوز عن قريب، مكة وغير مكة، لتحتكر المستقبل إلى زمن طويل قادم.

٤

وعلى الطريق الذاهب من مكة إلى المدينة وفي زاوية منه، كان اثنان من رجال قريش يتبادلان الحديث في موضوع يبدو أنه على جانب كبير من الخطورة. فقد كانت إمارات الجد والقلق واضحة عليهما وهما يتحدّثان.

قال أحدهما بلهجة حزينة، وهو يطيل النظر نحو مكة: والله يا عمرو ما أدري إلى متى سنستمر في حرب محمّد. أكثر من عشرين عاماً ونحن نحاربه فما يزداد إلا قوّة وما نزداد إلاّ ضعفاً. ماذا نفعل أكثر مما فعلنا - ولم نترك شيئاً إلا فعلناه - للقضاء عليه وعلى دينه، فلم نجني إلا الخيبة والاخفاق. وها هو دينه يعلو وأصحابه يزيدون وكأنه يملك سحراً فيجذبهم إليه. ما أدري ما سر هذا الرجل؟! لقد فتن الناس بهذا الدين الذي يزعم أنه يتلقاه من الله. أتذكر كم سخرنا منه عندما بدأ في مكة يدعو إلى دينه الجديد، مسفهاً ديننا، ولم يكن معه أحد غير زوجته خديجة وابن عمه علي وأبي بكر؟ إني لأذكره الآن وكأنه أمس القريب. أذكره ونحن نهزأ به وبدينه. أيمكن لواحد، ليس معه إلاّ اثنان أو ثلاثة، أن يواجه هبل واللات وعبد العزّى، ووراءها قريش بكل قوّتها وسطوتها وجبروتها، لولا ذلك الشيخ: أبي طالب الذي ما تزيدني الأيام إلا كرهاً له.

لقد بسط حمايته علی محمّد ومنع قريشاً من الوصول إليه ووأد فتنته، وهو بعد ضعيف لا يملك الدفاع عن نفسه. ما أظن أبا طالب إلاّ قد دخل في دين محمّد وهو يردّ قريشاً كلّها عنه. ليس هذا ظنّاً، إني لأتيقنه، وإلا فما بال أبي طالب وحده دون باقي أعمامه، يتحمل ما تحمل، لو لم يكن مؤمناً بدينه؟! لقد تحمل مقاطعة قريش له ومن معه من أهل بيته، وفيهم الأطفال والنساء والعجزة، ثلاث سنين لم يضعف ولم يتراجع. إنه الإيمان يا أبا عبد الله لا الحمية والعصبية. ثم تابع: هل تذكر يا أبا عبد الله؟ هل تذكر سُمية وياسر وبلال؟ ما أسرع ما تدور الأيام!! إني لأخشى أن نصبح يوماً موالي لهؤلاء الذين كانوا حتى وقت قريب موالي لنا. قال ذلك بصوت فيه ضعف وانكسار.

٥

قال الثاني: لكأنك تنطق بلساني يا أبا سليمان. ما رأيتك أقرب إلي منك اليوم. ماذا جنينا من حرب محمد غير الفشل يتبعه الفشل. والله لو علمت أنه سيبلغ ما بلغه لأسرعت إلى الدخول في دينه، ولما تركت الآخرين يسبقونني إليه. لكنه الغرور وقلة التبصر والكره لمحمد ودينه حال كل ذلك دون ما أنا نادم عليه اليوم. إني لأكره محمداً مثلما تكرهه أو أشد. أأكثر من أنه لعن أبي في قرآنه ولم يلعن معه إلا أبا لهب؟! إن أي مسلم يقرأ (إنّ شانئك هو الأبتر) ليعلم أنها نزلت في العاص بن وائل. لقد ركبت البحر إلى النجاشي في الحبشة طامعاً أن أجد عنده العون على هذا الذي سخر من ديننا ويوشك أن يزيلنا عن سلطاننا، فلم أظفر بشيء مما طمعت فيه، بل بدا لي أنه أقرب إلى محمد، وربما مؤمنا به. والله لو وثقت أننا نستطيع أن نفعل شيئاً في قابل الأيام للانتصار على محمد والانتهاء منه ومن دينه لما ترددت ولما ادخرت وسيلة ولا حيلة إلا لجأت إليها وتعلقت بها. إنني لا أفكر الآن في الماضي يا أبا سليمان، فليس لعودته من سبيل. أنا أفكر في المستقبل الّذي سنخسره بعد أن

خسرنا الماضي. أنا علي يقين أننا سنخسره إن بقينا على عنادنا وحمقنا، وإن لم نلحق بمحمد، لا إيماناً به وبدينه، ونحن نخوض الحرب ضده منذ عشرين عاماً، لكن رعاية لمصالحنا وصيانة لقريش أن تستذل. علينا أن نقرر، أن نسرع في القرار. إن الوقت يضيق علينا، وستذكر قولي هذا يا أبا سليمان وستندم حيث لا ينفع الندم. أمامنا تجربة السنين الطويلة التي مرت مع محمد، وهي كافية لأن ترينا الطريق.

قال الأوّل: وماذا سنفعل مع قومنا في مكة؟! ماذا سنقول لهم إذا تركناهم واتجهنا صوب محمد؟! أليس ذلك خذلانا لهم في وقت صعب، وهم في حرب مع هذا الذي نفكر في اللحاق به؟! هل يرضيك أن يقال إننا تخلينا عن قومنا ونسينا ثأرنا عند محمد، وهو من أذلنا وسلبنا عزنا وسلطاننا؟!.

٦

كيف سيواجه أهلنا واولادنا قريشاً بعد اليوم؟ هل من حل غير اللحاق بمحمد؟! أليس هناك من حل آخر؟! لا يا أبا عبدالله، لا. ابحث عن حل آخر.

قال الثاني: والله لا أجد من حل لنا ولقريش نفسها غير ما عرضت عليك، وليتني أملك غيره. أتظنه سهلاً علي أن أفارق ديني ودين آبائي لأتبدل به ديناً حاربته عشرين سنة، وعلى استعداد لأن أحاربه عشرين سنة أخرى لو وثقت بأنني ساهزمه وأستريح منه. لكن ذلك يبدو لي مستحيلاً. ماذا بيدي بعد تجربة العشرين؟!

قال الأول: والله إني لأراك محقاً يا أبا عبد الله. لا خيار أمامنا لنفاضل ونختار ونقبل ونرفض. لقد ضيق محمد الخيار علينا، لكن أفكر في قومنا كما قلت ذلك. أفكر في وقع النبأ عليهم حين يسمعون به.

قال الثاني بشيءٍ من الغضب يحاول أن يكتمه: لقد صرت معك يا أبا سليمان. ما أراك تقترب مني، حتى تعود لتبتعد! مالك؟! قومنا. قومنا!! ماذا سينفعنا أبو سفيان وقد فقدنا خيرة رجالنا وسنفقد الباقين؟! ماذا سيغني عنا عناده، غير هزائم جديدة بعد هزائم قديمة؟! إنه مجنون قتله الحقد على محمد، ما يزال يذكر أيامه الماضية ويحلم بها.

قال الأول وبدا كالمقتنع بكلام صاحبه: لقد ذكرت أبا سفيان. فهل نسيت أنه من آل عبد مناف، وحين تسد بوجهه السبل سيجري مسرعاً إلى (ابن عمه) معلناً إسلامه وتاركاً وراءه كل ما كان ينادي به من الثأر والانتقام من محمد. هل تعلم يا أبا عبد الله كم قتل من بني مخزوم، ومن آل المغيرة وحدهم؟! إن حزني لا ينقطع عليهم.

٧

قال الثاني وهو يتهيأ للنهوض: اسمع يا أبا سليمان. سأختصر الحديث معك لألحق بمحمد في المدينة. لقد حاربنا محمداً سنين طوالاً، لم نقصر في حربه. لم ندخر جهداً فيه، حاربناه في بدر وفي أحد، وفي حنين والأحزاب، حرضنا القبائل عليه. ذهبنا إلى الحبشه طلباً لنصرة النجاشي هناك. لم نترك أحداً نرجو منه أن ينصرنا على حربه إلاّ اتصلنا به والتمسنا عونه. فماذا كانت نتيجة كل ذاك؟! سلطان يقوى ويتسع في جانب، وهزائم تتوالى في جانب؟! هل ترى يثرب؟! يثرب التي صار اسمها الآن المدينة. لم تعد يثرب التي نعرف. إنها اليوم عاصمة المسلمين وحاضرة الحكم. وكأني بها في يوم قريب، عاصمة لدولة كبرى، لن تكون مكة وأهل مكة إلا تبعاً لها. ونحن الآن في ساعة القرار: إما أن نفقد مستقلبنا كما فقدنا ماضينا، وإما أن نتدارك خطأ طويلاً لنا فنلحق بمحمد، نحاول أن نجد - رغم فوات الأوان - مكاناً لنا نضمن به مستقبلنا.

وربما مستقبل قريش معنا، ولنا بين قومنا من المهاجرين السابقين أهل وأصحاب لن يتنكروا لنا ولن يجفونا، وسيساعدوننا فيما جئنا له. فإن وافقتني فتعال معي، وإلا فإني ذاهب وحدي الى المدينة ومعلن إسلامي فيها. هذا رأيي الذي لا عدول عنه؟ وابق أنت إن شئت مع مجموعة الحمقى في مكة.

ونهض الاثنان وأخذا الطريق إلى المدينة. كان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص أعلنا إسلامهما هناك في عام الثامنه للهجرة، قبل وقت قصير من فتح مكة.

وعمرو بن العاص هو أحد الذين أفسدوا الحياة السياسية والدينية للمسلمين. كان من أشد الناس على عثمان. هو الذي كان يقول (والله إني لأحرض الراعي عليه - يقصد عثمان) و(أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة أدميتها).

٨

وحين كان عثمان محاصراً في المدينة، تركه عمرو وذهب إلى أرض له في فلسطين يترقب الأخبار.

وقبل أن تنشب حرب صفين، كان عمرو يساوم معاوية على مصر. يريدها طعمة له ما بقي حياً، فهو يعرف أن المسلمين لا يمكن أن يعدلوه بعلي، وأن لا سبيل أمام معاوية إلا الخداع والرشوة وشراء الذمم والضمائر. وهو قد تنازل عن ذمته وضميره.

قال لمعاوية وهو يساومه ليكون في صفّه ضد علي (... إن في النفس منها ما فيها حيث تقاتل مَن تعلم سابقته وفضله وقرابته. ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا).

وقبل معاوية شرط عمرو. وكانت مصر أول بلد في التاريخ يعطى رشوة.

٩

الفصل الثاني

البدايات

الركض إلى السقيفة

مرت الأيام التي سبقت موت النبي حزينة ثقيلة على المسلمين كانوا يمنون أنفسهم بأن يبرأ النبي من المرض الذي أصابه، وأن يعود إليهم يلقاهم كما اعتاد في المسجد، أو يستقبلهم في بيته إن منعه شيء من لقائهم في المسجد. لكن الأخبار تتوالى، عن تراجع صحته. المرض يشتد عليه ليشتد القلق بالمسلمين. لم يعد يستطيع الخروج إلى الصلاة في المسجد. الناس يتحسسون الأخبار في كل مكان. يسأل بعضهم بعضاً. دون انتظار الجواب، فليس فيهم من يملك الجواب. لم يعد هناك أمل في شفائه. إنه ميت بين ساعة وأخرى.

ويعلن خبر موت النبي. ويفزع الناس مذهولين من هذا الخبر إلى الشوارع، يحركهم الحزن على نبيهم والوفاء له، يريدون أن يودعوه قبل أن يفارقهم إلى الأبد.

وفي الطريق الذاهب إلى دور الأنصار، كان ثلاثة من أصحابه القريبين يسرعون الخطى معجلين، ورابع يسبقهم بخطى أسرع. الأربعة معجلون، والحديث همس. وبين لحظة وأخرى يلتفت الرابع إليهم طالباً أن يسرعوا أكثر. إن نفسهم يكاد ينقطع من شدة العدو. يسقط أحدهم فينهضه صاحباه وهو يلعن الأنصار وبني ساعدة والاجتماع.

 قال واحد من أهل المدينة لصاحبه: أليس هذا أبا بكر ومعه عمر وأبو عبيدة؟ والرابع الذي يسبقهم، أليس هو عويم بن ساعدة؟ لكن إلى أين يقصدون في هذه الساعة؟ إنهم يأخذون الطريق إلى بيوت الأنصار، وبني ساعدة خصوصاً. أيكونون قد نسوا بيت النبي من شدة الصدمة فأخذوا طريق بني ساعدة وهم يريدون بيت النبي؟ إن الصدمة شديدة على المسلمين جميعاً، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أصحاب النبي المقربين إليه.

١٠

قال الآخر: لكن رأيت عمر على باب بيت النبي كأنه ينتظر شيئاً. كان بادي الاضطراب، يتلفت يميناً وشمالاً، يفرك يديه حيناً ويقبض على لحيته حيناً، وعيناه مصوبتان إلى ناحية من الطريق. وكان يقف إلى جانبه عويم بن ساعدة، يساره بشيء يبدو أنه خطير، وهو في مثل حالته من الترقب والاضطراب. وفجأة ظهر أبو بكر الذي كان قد سبقه قبل قليل ابو عبيدة بن الجراح، وما أن اقترب من الثلاثة حتى أسرعوا إليه. لم يدخل بيت النبي كما توقعت، بل مضوا جميعاً في اتجاه بني ساعدة.

قال الأول: وما الّذي منع الثلاثة أو الأربعة من دخول بيت النبي وإلقاء نظرة الوداع عليه؟! أهناك أهم من النبي عندهم، فتركوه وذهبوا للأهم؟! أم أن النبي أصبح ماضياً وذكريات. لم يعد يضر وينفع. لم يعد يخافه الناس ويرجونه ويطمعون في رضاه كما كانوا يفعلون.

قال الآخر: والله لا أعلم أكثر مما قلت. لقد رأيتهم يتجهون إلى بني ساعدة حيث يجتمع الأنصار هناك كما سمعت. هذا كل ما رأيته وسمعته.

وكان الأنصار ينظرون بقلق إلى ما يخبئه لهم المستقبل بعد رحيل النبي. فهم يعرفون قريشاً ومكرهم، وقد عاشوا معهم في مدينتهم مهاجرين. ويعرفونهم قبل أن يهاجروا إليهم حين كانوا بعد في مكة. سيحاولون أن يستأثروا بالحكم دونهم ودون باقي المسلمين. والحكم عند قريش يعني استعباد الآخرين واستذلالهم ومصادرة حقوقهم، ولهذا فقد قرروا أن يتركوا خلافاتهم ويتوحدوا في مواجهة قريش؛ ليمنعوها من الوصول إلى ما تريد. ولم يكن ذلك ممكنا إلا بالاتفاق على رجل يبايعونه ويولونه أمورهم. وكان هذا الرجل هو سعد بن عبادة، أحد زعماء الخزرج المعروفين، والذي تم ترشيحه بعد مشاورات طويلة استغرقت المدة التي مرض فيها النبي، وربما قبلها أيضاً. ولم يبق إلا إعلان بيعته في اجتماع حددوا مكانه.

١١

ولكن كيف سيواجهون النبي لو بايعوا سعداً دون استئذانه وموافقته، وهو في تلك الحالة من المرض؟ أليس في ذلك ما يؤذيه ويزيد من مرضه، وهم الذين سعوا دائماً، منذ دخلوا الإسلام، إلى رضاه وتجنب ما يسؤوه ويؤذيه، حتى لو كان فيه ما يسؤوهم ويؤذيهم؟ ماذا سيقول عنهم المسلمون عندما يرونهم يبرمون أمراً في مثل هذه الخطورة دون الرجوع إلى النبي وهو بينهم لم يمت بعد؟!

ما الذي يعجلهم، وكانوا يستطيعون أن ينتظروا حتى تتبين حالة النبي ثم يتخذون ما يشاؤون بعد ذلك؟ بل ماذا سيقول بعضهم لبعض، وماذا سيقولون لأنفسهم وذويهم إذا تذكروا يوماً أنهم أخطأوا مع النبي وأساؤوا إليه في أواخر أيام حياته.

هذا ما كان يفكر فيه الأنصار وهم يواجهون قضية مستقبلهم، ومرض النبي، وقريشاً، ولكل في تفكيرهم مكان. وانتهوا إلى إرجاء الاجتماع الذي حددوا مكانه عند بني ساعدة إلى أن تتضح حالة النبي.

أما كتلة قريش فقد زاد مرض النبي من حدّة نشاطها وتحركها لتسلّم الحكم الذي كانت تخطط له من زمن بعيد، لولا وجود النبي الذي حال دونه. لكن النبي قد جاوز الكهولة أو قارب أن يتجاوزها، ولن يلبث طويلاً أن يموت. وحينذاك قد يفلت الأمر منها، فلا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل ولا أحد يعرف ما يحمله لهم ولغيرهم. ربما لم يكن في صالحهم ما يحمله المستقبل. إذن عليهم أن يحكموا أمرهم من الآن، ويسرعوا فيه ولا يتركوا للمفاجات منفذاً إلا أغلقوه.

وكان أمام قريش عقبتان عليها أن تفكر فيهما، وهي تفكر في الحكم.

١٢

كان أمامها علي يلتف حوله بنو هاشم وأنصارهم، ويختلفون مع قريش أكثر مما يتفقون. ولعلي أنصار وأتباع ومؤيدون، ثم هو ابن عم النبي وزوج ابنته وابو سبطيه. وسابقة علي وبلاؤه في الدفاع عن الإسلام ليس لأحد من قريش. لكن قريشاً لا تريده أو تكرهه.

وكان هناك الأنصار في المدينة: الخصم القوي الذي لابد أن تواجهه قريش مستقبلاً، وهو ما يقلقها ويفزعها كلما فكرت في الحكم. فالمدينة مدينة الأنصار الذين لاتجهل قوتهم وبأسهم. هم أعداء المستقبل والعائق الوحيد أو شبه الوحيد أمام طموحهم.

والأنصار قبيلتان يمانيتان من الأزد، هما الأوس والخزرج، يجمعهما أب واحد. وكانت بينهم في الجاهلية حروب وقتل ودماء أخرها يوم (بُعاث) الذي لم يمض عليه زمن طويل حين جاءت الدعوة الإسلامية.

وحروب الأقارب الذين يعيشون على أرض واحدة أقسى وأشد من حروب غيرهم ممّن لا يلتقون إلا في ساحة الحرب، فإذا انتهت عاد كل إلى أرضه وشأنه.

وليس بعيداً عن الذاكرة حرب البسوس بين بكر وتغلب ابني وائل. وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان ابني بغيض من غطفان، وهما أطول حربين عرفهما تأريخ العرب.

هذه هي الحال بين الأوس والخزرج. حروب وقتلى ودماء، لا يتصالحون إلا ليعودوا للاقتتال، ولا ينتهون من حرب إلا ليتهيؤوا لأخرى. وجاء الإسلام، ودخل الأوس والخزرج فيه، لكنه لم يستطع أن يزيل أحقادهما القديمة. وإن خفّف منها.

هكذا إذن بدا المشهد في المدينة:

١ - قريش، وهي كتلة تضم إلى جانب المهاجرين القدماء منها، هؤلاء الذين أسلموا حديثاً في فتح مكة أو قبله بقليل بعد اليأس من الانتصار على الإسلام، وهاجروا إلى المدينة ليلتحقوا بمن سبقهم من قريش إليها، ثم عدو من حلفائهم واتباعهم.

وقد برزت هذه الكتلة كقوة متماسكة تربطها القرشية، ويوحدها هدف مشترك هو الحكم الذي لا تريد أن يشاركها فيه أحد من المسلمين، بعد وفاة النبي، التي باتت قريبة.

١٣

٢ - كتلة بني هاشم وانصارهم وهم يقفون خلف علي بن أبي طالب، ويتألفون من ذوي السابقة بين المسلمين وأهل الدين والفضل فهم، مع نفوذ أدبي وعاطفي، لا نفوذ عدوي.

٣ - الأنصار من الأوس والخزرج، ومعهم حلفاؤهم الذين يسري عليهم نفس التوزيع. وهم أهل المدينة والقوة الضاربة فيها. لكنهم كانوا مختلفين أو - على الأقل - لم يكونوا متفقين: الأوس تحذر الخزرج وتراقبها، والخزرج تحذر الأوس وتراقبها، وكل غير آمن من صاحبه. وإلى الخلافات القديمة جاءت لتضاف، خلافات أخرى أفرزها الواقع الجديد.

ها نحن في أواخر العقد الأول للهجرة، وقد انتهت مرحلة الخوف والقلق، وانتهت بعدها مرحلة الغزو والغزو المقابل، وبدر وأحد وغير بدر وأحد.

وها هو الإسلام ينتصر أخيراً ويبسط سلطانه على الجزيرة العربية، ويخف أو ينتهي الحديث عن الغزو والقتال، ليبدأ حديث آخر عن النظام والحكم والتطلّع إلى المستقبل والنظر إلى ما وراء الجزيرة.

وتتهيأ كتلة قريش، تفكر وتخطط لتضمن الحكم وتأمن المستقبل.

لكن هذه الكتلة، وهي تفكر وتخطط، لا يمكن ان تنسى خصمها القوي الذي ستصطدم به يوماً في معركة الحكم، وهي تعلم أن وحدة هذا الخصم - الأنصار - سوف تحول دون نجاح مشروعها لتحقيقه. وتعلم أيضاً ما كان بين طرفي الأنصار - الأوس والخزرج - من عداء طويل وجروح لم تلتئم.

إذن هذه هي نقطة الضعف لدى الخصم، وهذا هو المدخل الذي ستعمل من خلاله قريش لبلوغ هدفها.

١٤

وبدأت قريش العمل، وانطلق دعاتها وعملاؤها في نشاط كبير ينفذون مخططها في ضرب وحدة الأنصار وإضعاف صفّهم؛ فكانوا يحرضون الأنصار على بعضهم، الأوس على الخزرج والخزرج على الأوس، ويثيرون المخاوف والشكوك بينهما، وبين أبناء الفرع الواحد منهما. كما لم يفتهم أن يؤكدوا على حق قريش في تولي الأمر بعد وفاة النبي، وأن الأنصار ليس لهم أن ينازعوها فيه، وأنهم سيفشلون لو نازعوها ولن يجنوا إلا الخيبة والفشل وعداء قريش التي سترد على موقفهم بأشد منه حين تتولى الحكم، وهي ستتولاه حتماً.

هذا ما كان يبثه عملاء قريش وعيونها لكسر شوكة الأنصار، والتأثير فيهم وإضعاف روح المقاومة والثبات لديهم.

وكانت قريش من خلال أولئك العيون، ترصد نشاط الأنصار وتتابع تحركاتهم واجتماعاتهم، لا يفوتها شيء مما يجري فيها.

ثم لم تكتف، فالتفتت إلى بعض زعماء الأنصار تستميلهم وتجذبهم إلى صفها.

كان أسيد بن حضير من زعماء الأوس البارزين؛ وهو يخاف الخزرج ويخاف سعد بن عبادة من الخزرج، وبشير بن سعد، من كبار رجال الخزرج وسعد بن عبادة المنافس له على زعامة الخزرج.

والتقى الاثنان عند الخوف من سعد، كل له حسابه.

هذه هي صورة المدينة والقوى النافذة فيها آنذاك.

ويعلن موت النبي ليهز المدينة وكل البقاع التي يسكنها المسلمون من بلاد العرب.

ويتهيأ الأنصار لعقد اجتماعهم الذي أرجؤوه حياءً من النبي وهو حي.

ولكن قبل أن يجتمعوا، كان اثنان من عيون قريش وجواسيسها هما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي، يهرولان نحو المدينة. يتجه عويم إلى بيت النبي حيث ينتظره عمر بن الخطاب على بابه، ويذهب الثاني إلى بيت أبي عبيدة بن الجراح يعلمه بخبر الاجتماع وضرورة اللحاق بأبي بكر وعمر.

١٥

ويأخذ الثلاثة طريقهم إلى بني ساعدة، مسرعين...

لكم هو طويل هذا الطريق اللعين: طريق بني ساعدة، لم يكن يوماً بهذا الطول! متى سنصل؟! قال ذلك أحد الثلاثة لصاحبيه وهم يحثون الخطى نحو بني ساعدة.

وما أن بدأ الاجتماع حتى فوجیء الجميع بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة في وسطهم.

ووجم الحاضرون وسط صمت غريب. وتلاقت عيونهم وهي تحمل سؤالاً واحداً: كيف وصل هؤلاء؟! من الذي أخبرهم بالاجتماع وموعده ومكانه؟! لِم جاؤوا؟! ماذا يريدون؟!

وبعد بضع كلمات من أبي بكر، وأقل منها من عمر، كان الأنصار يبايعون أبا بكر، هاهو زعيم الأوس، أسيد بن حضير يخرج من الجمع ويتقدّم نحو أبي بكر لمبايعته. وحين رآه بشير بن سعد، ترك هو الآخر مكانه واتجه إلى حيث يقف أبو بكر ومعه عمر وأبو عبيدة.

لقد رفض أن يكون زعيم الأوس أول المبايعين فيكون له الفضل وأعداؤه على الحكم الجديد، ويحرمه من منزلة كان يريدها لنفسه.

وصاح الحباب بن المنذر، وهو يرى ما يفعل بشير، بصوت مليء باللوم والمرارة: بئس ما تصنع يا ابن سعد! أنفت على ابن عمك الإمارة؟! أين ما اجتمعنا واتفقنا عليه؟! أين العهود والمواثيق؟! أنسيت فأذكرك؟

ماذا ستجدي عليك قريش؟! هلا رجعت وجنبت قومك عار اليوم وذل الغد. والله لن يبعد الندم عنك حيث لا ينفع الندم.

والحباب هو أحد فرسان الخزرج ورجالهم المعدودين ومن ذوي النجدة والبأس فيهم، وكان إلى جانب سعد ابن عبادة المزمل بملابسه لوعكة ألمّت به ذلك اليوم.

لكن ابن سعد مضى مسرعاً وكأنّه يخاف من نفسه أن يكسره الصوت ويتراجع فيسبقه أسيد.

١٦

لقد هزم الأنصار من الداخل وهم يرون اثنين من كبار رجالهم يتسابقون لكسر الاتفاق. وخسروا المعركة بفعل المؤامرات التي تتقنها قريش، والمنافسة بين الزعماء في ظرف لا يحتمل المنافسة.

وكسبت قريش المعركة ضد الأنصار: القوة الكبيرة في المدينة والتي كان من المنتظر أن تقلب الموازين بين الأطراف في موضوع الخلافة.

وخرج الموكب المنتصر من سقيفة بني ساعدة يجوبون شوارع المدينة وسيوفهم مجردة يلوحون بها، وهم يدكون الأرض بقوة والأعلام ترفرف فوقهم والطبول تضرب أمامهم احتفالا بالنصر وتخويفاً لهم للناس حتى يسارعوا إلى البيعة.

وكان أبو بكر يتقدم الموكب وعلى يمينه عمر وعلى يساره أبو عبيدة، وخرج الناس من بيوتهم على صوت الطبول ليروا الثلاثة المنتصرين وهم يرفعون أيديهم، سعداء بالنصر الذي حققوه، وابتسامة عريضة تعلو وجوههم.

قال أحد هؤلاء وهو يكلّم جاره الذي خرج هو أيضاً لمشاهدة الموكب: ترى إلى أين يتجهون الآن؟ لقد طافوا المدينة كلها. لم يتركوا سكة ولا طريقاً إلا مروا به ورآهم أهله. ألم يتعبوا من طول السير؟!

قال جاره: أظنهم يتجهون الآن إلى بيت علي وفاطمة. ما أعجب الأيام: لقد أصبح علي وفاطمة، العدوين اللذين يجب التخلص، منهما: بنت محمد وبطل الإسلام! من منهم مثل علي؟! من منهم له بعض ما لعلي الذي لم يقم الإسلام إلا بسيفه وبلائه؟! أين كانوا يوم بدر وأحد والخندق وأيام الاسلام الكبيرة الأخرى؟! أين كانت شجاعتهم التي تظهرالآن، بعد ما أمنوا واطمأنوا وزال الخوف وانتهت الحروب وشجع الجبان؟! لِم الخوف من علي؟! ألأنّ خيار المسلمين وصالحهم لا يعدلون به أحداً؟! ألأنه لم يترك النبي دون غسل وتكفين ودفن، كما تركوه؟! ألأنه أبو سبطي النبي الذي لا ذرية له إلا منه؟! ألأنهم لا يملكون أباً وجداً كأبي طالب وعبد المطلب في الجاهلية، فهم يغارون منه جاهلية، ويغارون منه إسلاماً؟!

١٧

قال الأول: أليس في بعض ما تقوله سبب كافٍ للغيرة والحسد وطلب الثأر، من هذا الذي لا يستطيعون أن يجاروه جاهلية ولا إسلاماً؟!

قال الثاني: ألم يكفهم أن الأنصار وقريشاً قد بايعوا؟! أكانت بيعة هؤلاء كلهم لا تعدل بيعة علي فهم يطلبونها ويلحون في طلبها؟! أكان علي عندهم يعدل كل المسلمين الذين بايعوا؟! فلِم إذن تجاوزوه ولم يولوه؟! إن حكماً لا يقوم إلا بالخداع والتضليل، لبئس الحكم هو.

قال ثالث وهو يصغي إلى حوار جاريه: ما أراكما يا صاحبي إلا كمن يدور حول نفسه. تسألان وأنتما تجيبان على الأسئلة. إنه الحكم، يقاتل كل من يظن انه يقف في طريقه. وليس مثل علي من يخشونه، حتى لو لم يحمل سلاحاً، حتى لو لم ينطق بكلمة، حتى لو كان في اقصی الأرض. إنهم يريدونه أن يبايع. لن يزول قلقهم بغير بيعته بأي ثمن، بأي ثمن، مشدداً على الكلمة. قال ذلك ثم أغلق بابه، والموكب لم يترك الطريق بعد.

١٨

الفصل الثالث

البدايات

ماذا جری في السقيفة؟

انتهى اجتماع السقيفة بانتصار حاسم لقريش التي خرجت منه وقد ضمنت الحكم لزمن طويل قادم. لن ينازعها بعد اليوم أحد، وقد بايع الأنصار بأوسهم وخزرجهم.

أما بالنسبة للأنصار أنفسهم، فقد كان هزيمة موجعة ما أسرع ما ندموا عليها. عادوا يتساءلون، وكأنهم أفاقوا من حلم مرعب. ما الذي جرى في السقيفة؟ كيف استدرجوا لإعطاء البيعة؟ أين ذهبت العهود والمواثيق؟ من الملوم في ذلك؟ أسيد بن حضير؟ نعم! بشير بن سعد؟ نعم! هما اللذان كسرا الأنصار وهدما كل ما بنوه. كان العداء لسعد بن عبادة وراء فعلهما. ليس ذنب الآخرين. رأوا الكبار يسرعون إلى البيعة فتبعوهم. كل يسأل ويطلب الجواب من الآخر. وكل يلقي باللوم على الآخر ويتهمه محاولاً تبرئة نفسه ممّا حصل في ذلك الاجتماع.

هذه كانت حال الأنصار بعد البيعة: ندم ولوم واتهام يلقيه كل طرف على الآخر، وهزيمة لحقت بكل الأطراف.

وذلك ما يعكسه لنا حوار دار بين اثنين من الخزرج بعدما انتهى الاجتماع بالنتائج التي انتهى بها.

قال أحدهما: ما الذي جرى في الاجتماع، إني أكاد لا أصدق أذني! لقد كنت في سفر، كما تعلمه، فلم أحضره. أحق هذا الذي أسمعه هنا وهناك؟ لقد كنت بين من حضروا الاجتماع وأريد أن أسمع منك. كيف نسيتم كل ما اتفقتم عليه وكل ما أعطيتموه من عهود ومواثيق لبعضكم ولسعدٍ! كيف تركتم سعداً حتى كاد المجتمعون، وهم الأنصار، أن يطؤوه بأقدامهم؟! سعد؟!

١٩

سعد بن عبادة، رجل الأنصار وصاحب الجفان التي كانت تتبع رسول الله في أي بيت كان من بيوت زوجاته. ألم تفكروا قبل أن تجتمعوا بما ستفعله قريش لشق صفكم وتفريق كلمتكم؟! هل غابت عنكم، وأنتم أعرف الناس بها وبمكرها؟ ألم يكن فيكم من فكر في قريش، وجواسيسها وعيونها بينكم. والله لقد كنت أخوف ما أكون عليكم منها. كان واضحاً عندي، على البعد، أنها ستكيدكم ببعضكم، وقد فعلت. هل رضي الأنصار أن يكونوا تبعاً لقريش، وما كانت، حتى في الجاهلية، لتطمع فيما هو دون ذلك منهم. والله إني لشديد الحزن لو كان الحزن مما ينفع. قال ذلك بصوت مختنق يزداد ضعفاً كلما مضى في الحديث أكثر.

قال الآخر: لا تذكرني، إنه حلم مرعب لا أريد أن أتذكرة ولا أن أفكر فيه. أريد أن أبعده عن خاطري.

قال الأول: لكم تمنيت أن يكون حلماً. ليس حلماً يا صاحبي، هذا الذي لا تريد أن تفكر فيه. إنه الواقع الذي نعيشه، أنت وأنا وأجيال طويلة من بعدنا. لكنك لم تجبني على سؤالي. كيف حصل هذا الذي حصل في السقيفة ذلك اليوم؟ هذا ما أريد أن أسمعه منك.

   قال الثاني: لقد أبيت إلاّ أن تنكأ جرحاً لم يندمل. سأوجز لك الأمر. لم يبدأ اجتماعنا في سقيفة بني ساعدة ذلك اليوم، ونحن نتهيأ لمبايعة سعد كما اتفقنا، حتى فوجئنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة يتوسطوننا. كان أمراً غير متوقع، لم يحسب له أحد حساباً. ما الذي جاء بهم؟ ماذا يريدون؟ من الذي أخبرهم باجتماعنا؟ كيف عرفوا مكانه وزمانه؟ ليس غير عويم بن ساعدة لقد رأوه معهم وهم يخرجون من المدينة متجهين إلينا. كان يقدمهم، وحين وصلوا أول بيوت بني ساعدة فارقهم. فدخلوا وحدهم حتى يبعد التهمة عنه. كنا نعرفه عينا لقريش، لم يكن وحده. كان معه معن بن عدي وآخرون غيرهما من عيون قريش وجواسيسها، ينقلون إليها كل ما كان يدور بيننا. ولكن ماذا كان يستطيع ان يفعل لو كنا محصنين من داخل نفوسنا؟! كان العيب فينا، وعلينا يقع اللوم لا عليه.

٢٠