ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 69344
تحميل: 5862

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69344 / تحميل: 5862
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال عبد الله وهو يصوب بصره بعيداً: إلى أين المفر الآن يا ابن أبي طالب؟ معاوية في الشام والزبير وطلحة ومعهما أم المؤمنين سيكونون قريباً في العراق. ماذا بقي لك؟! حان الوقت لنثأر منك ونلعب بك ونروي الأرض من دمك ودم أصحابك، ثم تابع بصوت حديد ولهجة منكرة، وهو يوجه كلامه إلى أبيه وطلحة: والله إني لأبغض علياً وأبغض أباه أبا طالب وأبغض عبد المطلب وأبغض هاشماً ومن أنجب ومن نسل. والله إني لأبغض حتى جدتي صفية بنت عبد المطلب. والله لو استطعت لاستأصلت كل الهاشميين ولما تركت هاشمياً يمشي على وجه الأرض.

قال الزبير: قف هنا ولا تبلغ حد الكفر.

وكان عبد الله بن الزبير حين بويع له بالخلافة فيما بعد، قد ترك الصلاة على النبي مدة أربعين يوماً قائلاً إن له أهيل سوء يشمخون بآنافهم إن ذكرناه - يعني النبي - ولم يعد إلى الصلاة عليه إلا بعد أن خوّفه أصحابه عاقبة ذلك، وهو يحارب أعداءه الأمويين. قال طلحة وهو ينهض للخروج: إذن لم يبق أمامنا غير الجد والاسراع فيما اتفقنا عليه، وكتمان الأمر عن كل أحد حتى لا ينكشف ونحن بعد في المدينة، وعند الباب شد على يد عبد الله قائلاً: لا حرمنا الله من سديد رأيك يا ابن أخي.

وفي اليوم التالي تكرّر اللقاء ولكن في بيت طلحة هذه المرة.

قال محمد بن طلحة وهو يسرع إلى أبيه: إن أبا عبد الله بالباب.

قال طلحة: أبو عبد الله: الزبير تعني.

قال محمد: ومن يكون إذن غير عمي الزبير.

قال طلحة: والله ما جاء به إلا أمر، وكنا بالأمس معاً في اجتماع طويل؛ لابد أن شيئاً مهماً استجد جاء ليخبرنا به. وقام فلبس ملابسه واتجه نحو الباب يستقبل الزبير الذي كان قد دخل.

قال طلحة وهو يقود الزبير إلى إحدى الغرف: إنه لأمر، هذا الذي جاء بأبي عبد الله في مثل هذه الساعة.

قال الزبير: أي والله إنه لأمر، لكنه سار، لم أستطع أن أنتظر به حتى الغد.

٨١

وحين اطمأن بهما المجلس أخرج الزبير من كمّه كتاباً دفعه إلى طلحة قائلاً: هذا هو الذي جاء بي، اقرأ ما فيه.

كانت إمارات السعادة ظاهرة عليه وهو يدفع الكتاب إلى طلحة وقرأ طلحة: (من معاوية للزبير أمير المؤمنين. قد أخذت لك البيعة من أهل الشام لك ولطلحة من بعدك، فدونك البصرة والكوفة لا يسبقك ابن أبي طالب).

قال طلحة بعد أن انتهى من قراءة الكتاب: والله إنها لبشرى جاءت في أنسب وقت. لم يبق لنا عذر في الإبطاء. سيعرف علي ثمن رفضه ولاية البصرة والكوفة. سيعرف قريشاً حين تجتمع وتتوحد. هل أبلغت السيدة عائشة بذلك وبأننا على وشك اللحاق بها في مكة.

قال الزبير: لا، ليس قبل أن أطلعك عليه. أتراني أبلغ أحداً به قبل أبي محمد. أما عن لحاقنا بالسيدة عائشة فإن الرسل، كما تعلم، لم تنقطع بيننا وبينها، ثم أردف: لكنني لا أثق بمعاوية يا أبا محمد. لا آمن مكر ابن أبي سفيان فهو امرؤ لا عهد له ولا وفاء، وهو مثلنا يطلب الحكم ويريده لنفسه ويقاتل عليه. هل تدري لم أرسل هذا الكتاب، وماذا كان يدور في رأسه قبل أن يكتبه؟ لكأني أراه الآن وهو يقول لنفسه: ها هي فرصتي سأضرب خصومي بعضهم ببعض: يقتل أحدهم الآخر، وأكون قد تخلصت من أحدهم في كل حال. ومن خرج منهم منتصراً فسيخرج ضعيفاً قد استنفدت الحرب قواه وأنهكها طول القتال. وستكون الأحقاد قد فرقت الباقين من الجيشين، بين موتور من هؤلاء وموتور من أولئك وسأكون الرابح الوحيد. أليس هذا ما كان يدور في رأس ابن أبي سفيان، ولست أعرف به منك؟!

قال طلحة: مالك يا أبا عبد الله! رجل يأخذ لك البيعة من أهل الشام يريد نصرك، وهو يكره علياً أكثر ماتكره. أهذا وقت تشكيك أم تشمير للأمر وجدّ فيه! قال ذلك وهو يكلم نفسه: لا والله لن أدعها للزبير، لن يكون خليفة وأكون ولي عهد. ما يدريني ماذا سيفعل بعد ما يتولاها؟ أليس من الجائز أن يعهد بها إلى ابنه ولن أستطيع منعه عند ذاك، وهو يملك كل شيء ولا أملك شيئاً. ثم أكنت في سن ابنه حتى أنتظر دوري في الخلافة بعده؟

وبعد ساعات كان عبدالله بن الزبير في طريقه إلى مكة ومعه كتاب من طلحة والزبير إلى السيدة عائشة، يدعوانها فيه لإكبار قتل عثمان، واتهام علي به والتحريض عليه، وأنهما قادمان إلى مكة، ومنها إلى البصرة.

٨٢

الفصل الخامس عشر

السيدة عائشة، المسير إلى البصرة

مكة تبدو مضطربة على غير عادتها، نشاط ريب في كل زاوية منها. سلاح يدخل وسلاح يخرج. طلحة والزبير وصلا قبل أيام، وهما لا يكفّان عن عقد الاجتماعات ولقاء هذا أو ذاك من وجوه الناس وأصحاب النفوذ والمال، وقد انضم إليهما عدد من كبار الأمويين، شيء ما. شيء خطير يبدو قريب الوقوع.

وما أسرع ما سارت الأنباء بأن السيدة عائشة؛ ومعها طلحة والزبير وآخرون على وشك المسير إلى البصرة للاستيلاء عليها ومقاتلة علي.

وكانت هذه الأنباء تحمل معها الخوف والحزن والقلق. وتساءل المسلمون عما تريده السيدة عائشة من خطواتها تلك؟! إنها ستهز دون أي شك، وحدة المسلمين وتثير بينهم فتنة لا تنطفئ نارها أبداً.

وكان أهل المدينة أشد الناس خوفاً وقلقاً من هذا الخروج فهم يعرفون السيدة عائشة جيداً، ويعرفون حبها للسيطرة والتفرّد وحقدها العميق القديم لعلي.

وها هي تتجه إلى البصرة ومعها أشخاص يشاركونها الحقد على علي والرغبة في التخلص منه، وجيش كبير يبلغ ثلاثة آلاف رجل وستمئة بعير، غير من سينضم إليهم في البصرة أو قبل الوصول إليها، وكانت السيدة عائشة قد كتبت إلى رؤوس القبائل هناك، تنعى إليهم عثمان وتتهم علياً بقتله وتطلب منهم ترك علي والالتحاق بها.

وفي بيت عبيد بن أبي سلمة الليثي، كان بعض الحاضرين يتناقشون في هذا الأمر الذي آثار دهشة المسلمين واستغرابهم، وعبيد هذا هو أول من أخبر السيدة عائشة، وكانت في طريق عودتها من مكة إلى المدينة، بمقتل عثمان وتولي على الخلافة.

٨٣

قال عبيد معبّراً عن دهشته واستغرابه: ما للسيدة عائشة دون نساء النبي جميعاً لا تهدأ ولا تستقر على حال؟! ألم تكن حتى الأمس القريب تحرّض على عثمان وتدفع بالناس إلى قتله؟! أليست هي التي كانت تقول: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر)! أهناك أكبر من الكفر يتهم به المسلم، أي مسلم، فضلاً عن خليفتهم؟! وها هو قد قتل كما أرادت وحرّضت، فما لها اليوم تحرض على علي وتطالب المسلمين بحربه وتتهمه بقتل عثمان الذي لم يقتله غير تحريضها عليه، وتحريض واشتراك بعض من يرافقونها وأولهم طلحة؟! إني لأستغرب أمر هذه المرأة التي كنا نريدها أداة إصلاح وسلام بين المسلمين إذا اختلفوا، فإذا بها أداة الخلاف بينهم ومثيرة الفتن ومشعلة الحروب؟! أكان النبي أوصاها بذلك قبل أن يموت؟!

آه لو رأيتموها وأنا انقل لها خبر مقتل عثمان، كيف بدآ عليها السرور! حتى إذا أخبرتها بتولي علي الخلافة بعده، كيف انقلبت فجأة وتبدل ذاك السرور غضباً عارماً، ثم انفجرت بالسب واللعن لعلي ومن ناصره ومن سعى في بيعته. لقد بايع المسلمون علياً باختيارهم ورضاهم. لم يطلب البيعة ولم يسعَ إليها، عرضوها عليه فرفضها أكثر من مرة، وكان راغباً عنها؛ فأصروا وحمّلوه تبعة ما يمكن أن يحصل للمسلمين أن هو أصر على رفضه ولم يقبل. وحين تمت له البيعة لم يكره أحداً عليها، حتى أن بعض الصحابة رفضوا أن يبايعوه، فلم يعرّض لهم بشيء ولم يطلب منهم أن يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون، وبين هؤلاء سعد بن أبي وقاص الذي کان مرشحاً للخلافة بعد عمر، مع طلحة والزبير، وعبد الله بن عمر.

ما الذي أنكرته من علي؟! سابقته، بلاءه، فضله! أذنبه أن يكون أبوه أبا طالب وجده عبد المطلب، وليس لأبيها أب كأبيه ولا جد كجده؟! ألم يكن علي فارس المسلمين في جميع حروبهم مع المشركين؟! ألم يكن علي فارس أُحد وواحداً من أربعة أو خمسة ثبتوا مع النبي فيها ودافعوا عنه وحالوا دون وصول المشركين إليه وقتله، يوم لم يكن لأبيها ولا لغير أبيها ذكر ولا موقف؟!

٨٤

قال أحد الحاضرين: لكنها كانت تطمع أن يكون الخليفة ابن عمها طلحة بن عبيد الله بعد ما يقتل عثمان، فلما صار الأمر إلى علي الذي لا تطيق حتى ذكر اسمه، أنكرت كل ما كانت تقوله سابقاً عن عثمان لتعصب نقمتها على علي وتتهمه بقتل عثمان وتهاجم وتحرض عليه أشد وأعنف ما يكون الطعن والتحريض.

قال عبيد بلهجة قوية واضحة: وما ذنب علي في ذاك؟ ماذا بيده أن يفعل؟! هل منع المسلمين من مبايعة طلحة، أو منع طلحة أو أي مسلم سواه، أن يرشح نفسه للخلافة؟!

ما لها تقود الجيوش من مكة إلى البصرة لتشعل الحرب بين المسلمين، وهي تعلم أن لن يصيبها شيء، ولن تخسر شيئاً، وأن الخاسر غيرها في جميع الحالات. لن تطحن الحرب غير هؤلاء المساكين المضللين الذين تأبى عليهم شيمهم أن تقتل زوجة النبي بينهم، سيستميتون في الدفاع عنها دون أن تخسر هي شيئاً لو انتهت الحرب على غير ما تشتهي.

قال آخر: يقولون إنها ذهبت إلى البصرة من أجل الإصلاح.

قال ذلك بأسلوب ساخر وصوت خفيض ورأسه ينحني قليلاً إلى الأرض.

قال عبيد وقد ارتفعت نبرة صوته: إصلاح من؟! هل كانت في البصرة ثورة أو قتال أو شيء قريب منهما فذهبت لإصلاحه؟!

هل يكون الإصلاح بثلاثة آلاف رجل، ستمئة منهم على ستمئة بعير بكامل أسلحتهم؟! هل سمعتم عن مصالحة يقوم بها ثلاثة آلاف؟ ذلك جيش للحرب لا للمصالحة، أكان صعباً على السيدة عائشة، لو كان هناك فعلاً ما يستوجب المصالحة، أن تجد اثنين أو ثلاثة من خيار المسلمين المقبولين لدى جميع الأطراف وتذهب بهم إلى البصرة، بدلاً من جيش كامل تقوده بحجّة المصالحة؟!

قال آخر: هل نسيتم حديث الإفك واتهام السيدة عائشة بما اتهمت به مع صفوان بن المعطل؟ ربما كان موقفها من علي رداً على موقفه منها في تلك الحادثة المشهورة.

٨٥

قال آخر مجيباً؟ وماذا كان موقفه منها ليكون سبباً فيما تحمله عليه من حقد؟ لقد كان أخف المواقف في هذه الحادثة التي لم يبق أحد من المسلمين لم يخض فيها. فلم الحقد على علي وحده؟ أنسيتم حسان بن ثابت شاعر النبي والمؤيد بروح القدس؟ ومسطح بن أثاثة: ابن خالة أبي بكر؟ و... ألم يرجعها النبي نفسه إلى بيت أبيها رافضاً بقاءها معه وفي بيته؟ ماذا تريد أن يكون موقف علي، وهو يرى الكثيرين من المسلمين والمنافقين يتحدثون ويسخرون في السر والعلن، ويستغربون، لا من فعل السيدة عائشة وحدها، بل من سكوت النبي وهو يرى ويسمع ما يخرص فيه الناس من أمر زوجته، وكأنه راضٍ بما فعلت. أكنتم تريدونه أن يسمع ويسكت، دون أن يكون له موقف في قضية خطيرة تهم النبي وستنعكس آثارها على الإسلام كله؟ ماذا فعل غير أن قال حين استشاره النبي في أمرها إن النساء لكثير وإنك قادر على أن تستخلف، أرسلها إلى بيت أبيها.

لم يتهمها كما اتهمها الآخرون، ولم يطعن فيها ولم يزد كلامه على الحد الأدنى في قضية كهذه، ليخرس الأصوات التي بدأت تتعالى وتنتشر هازئة بهذا النبي الذي يقبل بما لا يقبله أي رجل، لا نبي. لقد كان النبي ومقامه أهمّ عند علي وعند المسلمين كافة، من السيدة عائشة.

ولو لم يبرئها الله فيما بعد، أكنتم ستبرئونها؟! امرأة تخرج لقضاء حاجتها في الليل، غير بعيد عن جيش المسلمين، وفيهم النبي نفسه.

ولابد أنها كانت أولهم علماً بأمر الرحيل الذي لا يستطيع أحد أن يتصرف فيه ويحدده غير النبي، زوجها الذي معها في خباء واحد.

٨٦

ويتحرك الجيش استعداداً، للرحيل، بين من يجمع متاعه وبين من يحزمه على ظهر جمله، وبين من يذهب هو أيضاً لقضاء حاجته، في حلية ونشاط ورواح ومجيء ككل جيش عندما يريد أن يتحرك. كل ذلك يجري أمامها فلا تنتبه ولا تنهض ولا تسرع ولا تصيح على الأقل، لتنبه الآخرين حتى لا يتركوها، إن لم تكن قد قضت حاجتها بعد. وحين تفرغ من قضاء حاجتها وتقوم لتلتحق بالناس تفتقد عقدها فتبقى تجوب الطريق بحثاً عنه في الليل. ويطول بحثها عنه حتى يتحرك الجيش ويغادر المكان؛ عند ذاك فقط تعود فلا تجد أحداً، كأنهم لم يكونوا على مرأى ومسمع منها، وكأنها لا تعلم بموعد رحيلهم، وكأنها لا تحس حركتهم ولا تسمع أصواتهم منذ بدؤوا يتهيؤون إلى أن ارتحلوا، وهم ليسوا بعيدين عنها، في أرض منبسطة لا يحجب الرؤية فيها شيء.

ألم تر النيران وهي تضعف وتخف لاقتراب موعد الرحيل؟!

أتراها ذهبت لقضاء الحاجة ککل الناس، من رجال ونساء، أم ذهبت في سفر إلى مكان بعيد؟ كم لزمها التفتيش عن عقدها الذي لم يسقط إلا تلك الليلة، من وقت؟ إنه لم يسقط إلا بين مكان قضاء حاجتها وبين المكان الذي خرجت منه حيث يقيم الجيش، وهو ما لا يتجاوز في أي حال العشرين أو الثلاثين أو حتى الخمسين متراً.

أكانت الخمسون متراً في الصحراء تمنع الرؤية لمن كان على هذه المسافة، ونيران المسلمين يراها من هو أبعد، وأصواتهم يسمعها من هو أبعد؟ أكانوا كلهم خرساً لا ينطقون؟ يقومون ساكتين، ويتحركون ساكتين، ويجمعون متاعهم ساكتين ويقيمون إبلهم ساكتين؟ ويسأل بعضهم بعضاً ويتحدث بعضهم إلى بعض بالإشارات؟ حتى الإبل، لا رغاء لها ولا صوت!!

ألم يعلمها النبي بوجوب استعدادها للسفر، وهي زوجته وأقرب الناس إليه وأولى أن تعرف موعد السفر قبل الآخرين ولم تكن بعيدة عنه؟! أم تراه اتخذ قراره وبلغ جميع المسلمين، من كان قريباً ومن كان بعيداً، من كان مستيقظاً ومن كان نائماً، بعد ما ذهبت السيدة عائشة لقضاء حاجتها فقاموا وجمعوا متاعهم وركبوا إبلهم وساروا، وهي بعد لم تقضي حاجتها!! كم يأخذ قضاء الحاجة عند الإنسان؟! وكم كانت المسافة بين المكان الذي قصدته لقضاء حاجتها وبين المكان الذي كانت فيه؟!

٨٧

أأكثر من بضعة أمتار خصوصاً في الليل، تسترها عن الأنظار؟! ثم ألم تخبر النبي بأنها ذاهبة لقضاء حاجتها ليتأكد من عودتها قبل رحيل الجيش؟!

وحين أراد المكلفون من المسلمين بأن يضعوا هودجها على ظهر الجمل، ألم يشعروا بأن الهودج خال لا أحد فيه؟! أكانت عديمة الوزن عديمة الحركة؟! أكان الهودج من حديد مصفح لا يرى من فيه ولا يميل جانب منه حين يرفعه المكلفون برفعه ووضعه على ظهر الجمل؟!

كل ذاك لابد أن يفكر فيه الإنسان وهو يسمعه، كما ترويه السيدة عائشة نفسها أو كما يرويه من ينقله عنها، دون أن يضيف إليه شيئاً من خياله. إن السيدة عائشة لم تذهب لقضاء الحاجة، وإنما ذهبت لغير هذا، إلى مكان بعيد سبق الاتفاق عليه وعلى موعده.

ألا يكفي أن النبي نفسه هجرها وأرسلها إلى بيت أبيها؟

هذه هي الظروف التي أحاطت بحادثة الإفك. والله لو لم يبرئها الله لما برأها أحد من المسلمين. أمّا بعد أن برأها الله فليس لمسلم أن يشك في براءتها، وليس لمن برأه الله من متهم، لكنني أتحدث عما قبل ذاك.

وبدا وكأنه قد استراح من هم كان يثقله بعد أن انتهى من حديثه الطويل، في عرض موضوعي نزيه كما يقولون في هذه الأيام.

قال عبيد: وهذا ما يعزز رأيي ويدعمه. فما دام المسلمون غير علي قد اتهموا السيدة عائشة، وما دام النبي نفسه لم يبقها في بيته، فلمَ هذا الحقد على علي وحده من بين الجميع؟!

٨٨

قال الآخر: لقد كان حقد السيدة عائشة أسبق بكثير من حادثة الإفك ورأي علي فيها، ربما كانت السبب الذي فجر ما تراكم من حقد قديم لدى السيدة عائشة على علي. أنسيتم أنه زوج بنت ضرتها خديجة التي كانت أفضل مكان من قلب النبي، وكانت عائشة لا تذكرها إلا بما يسوء النبي ويسوء ابنتها زوجة علي وأم أولاده، لم تترك غيرتها منها وهي ميته، ولم تحترم ما قدمته للإسلام من جليل الأعمال، حتى نهاها النبي أكثر من مرة، وحتى قال لها بكلام صريح إن خديجة أفضل منها، مذكراً إياها بما للسيدة خديجة من يد عليه وعلى الإسلام. ثم - وهذا هو الأهم في رأيي - إن السيدة عائشة لم تنجب للنبي ولداً، إذ كانت عاقراً، فانحصر نسل النبي في أولاد علي من فاطمة، وهذا في ذاته كافٍ لأن يشعل الحقد عند واحدة كالسيدة عائشة.

وإلى كل ما تقدم فهل يمكن أن تفعل ما كان يتمتع به علي من منزلة لدى النبي، لا بوصفه ابن عمه وزوج ابنته الوحيدة وأبا سبطيه، وهي أسباب كافيه لأن يقربه النبي وأن يختلف شعوره نحوه عن شعوره نحو أيٍّ من أصحابه، ولكن لأسباب ذاتية لم تجتمع عند غير علي، أي من الصحابة له سابقته وشجاعته وزهده وبلاؤه وفهمه ودينه وعدله؟

أي مؤقف يعدل موقف علي في بدر وأحد والخندق وخيبر، وكل واحدة من هذه، كانت حاسمة في تاريخ الإسلام ومنعطفاً خطيراً في مسيرته؟!

كيف تطيق السيدة عائشة علياً وهي لا تطيق حفصة، ضرتها المفضلة وموضع سرها! لقد كانت تتآمر وتحوك الدسائس حتى على حفصة بنت عمر وتحاول أن تثير المشاكل بينها وبين النبي، مع أن حفصة كانت دائماً في صف عائشة التي جعلت من بيت النبي مسرحاً للنزاع والعراك، ومن نسائه فريقين لا يكفان عن الاقتتال. طبع فيها لا تستطيع التخلص منه، وحب للاستئثار والتسلّط لازمها طول حياتها وكلّف المسلمين غالياً.

٨٩

الفصل السادس عشر

يوم اغتيل الإسلام

في فجر يوم ١٩ رمضان طار نبأ مروّع من مسجد الکوفه أقلق الناس وأفزعهم في کل مکان:  لقد طُعن الإمام - وهذا هو الاسم الذي أطلقه عليه المسلمون وعرفوه به - عند صلاة الفجر. طعنه أحد المجرمين: عبد الرحمن بن ملجم، أثناء الصلاة.

وذُهل الناس، أذهلهم النبأ، لم يريدوا أن يصدقوه. كانوا قد ودعوا الإمام منذ ساعات. لقد قسم عليهم، بعد الانتهاء من صلاة العشاء، حقوقهم وأرزاقهم في بيت المال، ثم كنسه وكنسوه معه، قبل أن ينهض ويطفئ الشمعة، وغادر وغادروا، وراح إلى بيته، يرافقه ابناه: الحسن والحسين.

وبكى أب، ولطمت أم ...، وصرخت عجوز وانتحب شاب. الجميع في حزن عميق، قلوب الجميع وجلة مضطربة، تتمنى وتترقب، وتقرأ الوجوه، لا تريد أن تسمع الباب يطرق، رغم أن عيونها مسمّرة على الباب. إنها تخاف، تخاف القادم أن يحمل النبأ... النبأ الذي لا تطيقه ولا تريده، وتتمنى لو استطاعت أن تبدله بكل ما تملك، وهو قليل فيه.

ومضى يوم ثقيل حزين، الوجوه تلتقي بعضها، لا تتكلم؛ ليست في حاجة لأن تتكلم، تكاد تسمع الصمت.

وأعقبه يوم ثان ثقيل حزين. الإمام لا يرجى شفاؤه. الجرح عميق. لقد نفذ إلى داخل الرأس. الآمال بدأت تضعف، لكن الناس ما يزالون يعللون أنفسهم، ما يزال الأمل يراودهم، ما يقترب حتى يبتعد سريعاً. إنه مجرد أمل، وقلما تتحقق الآمال.

الكبير يبكي فيه أخاه، والصغير أباه، واليتيم كافله ومعيد البسمة إليه، والفقير معيله ومواسي جروحه. لقد كان الإمام كل أولئك للمسلمين، كان أقربهم إلى إنفسهم، يعيش معهم، فإن غاب أو غابوا، عاش همومهم وآمالهم وآلامهم. إنه الإمام، الأخ والأب، إنه... إنه... وبكى الربيع. قال والدموع تنصب على خديه وتخفق صوته: إنه الذي لن يرى الناس مثله.

٩٠

ومرت الساعات ثقيلة حزينة طويلة. الناس واجمون يترقبون، والخوف هو المتحدث الوحيد بينهم. إنهم يملؤون الشوارع والأزقة مرة أخرى، ولكن، لا للبيعة. يسألون الداخل والخارج، ويتصفحون الوجوه يقرؤون فيها ما يسألون عنه، فهي الآن أبلغ من كل جواب. لم يبق أمل في شفاء الإمام.

وسمع الناس البكاء داخل البيت، لم يحتاجوا إلى من يخبرهم بوفاة الإمام.

وتعالى البكاء خارج البيت، في كل مكان، أكثر مما تعالى داخل البيت.

وصرخ الجميع: لقد مات الذي لن يكون مثله، لقد مات الإمام.

لكن الإمام لم يمت، لن يموت إلا إذا تخلى الإنسان عن طلب المثل الأعلى، إلا إذا تخلى الإنسان عن أن يكون إنساناً.

٩١

الفصل السابع عشر

معاوية... مأساة المسلمين التي ستطول

لم يكن أحد من الناس يتصور يوماً أن يرى معاوية خليفة للمسلمين والمتولي لأمورهم. لماذا؟! دين؟! سابقة؟! جهاد؟! أم لغياب من يصلح للخلافة من المسلمين؟!

من واحد من مسلمة الفتح، أو الطلقاء كما سماهم النبي، إلى خليفة للمسلمين؟! كيف حصل هذا؟! ما الذي جرى؟! أية رابطة لمعاوية بالإسلام، ليكون خليفة؟! أيحارب الإسلام والمسلمين ثماني عشرة سنة متصلة، يحرض ويتآمر ويقاتل، لا يترك وسيلة إلا استعملها ولجأ إليها، ثم يكون خليفة لهم؟! أكان معاوية  ابن أبي سفيان وابن هند، يحلم هو نفسه بأن يكون يوماً خليفة لرسول الله في أمته، وما كان لمثله أن يحلم بأكثر من أن يعيش آمنا على دمه وماله، ولم يأمن المسلمون على دمهم وما لهم حين كان يستطيع أن يسلبها منهم؟! هل خلت ديار المسلمين من ذوي السابقة والدين والفضل، وهم الذين قاتلوا معاوية وقاتلوا أباه طويلاً على الإسلام، أم تحول الإسلام إلى ملك وقهر وخداع واستعباد، وقيم لا إسلام فيها ولا دين ولا أخلاق؟!

كيف استطاع معاوية أن يتجاوز كل أولئك ويستبعدهم ويتخلص منهم ويصبح الآمر الناهي في شؤون المسلمين؟!

هذا السؤال كان يلح على كعب بن عمير من زمن بعيد. طالما فكر فيه. كان أمامه أكثر من جواب. أجوبة متعددة، يوازن بينها فلا يجد ما يرضيه ويطمئن إليه؛ فقرر أخيراً أن يحملها معه وهو ذاهب بزيارة إلى صديقه الربيع بن حنظلة الذي انقطع في بيته منذ أيام فلم يره. إنه صديقه القريب، ويستحق - أقل ما يستحق - زيارة من صديقه. ربما كان مريضاً؟ ربما كان في حاجة إليه؟ ربما كان يريد أن يفضي إليه بشيء مما يجهله، وهو قريب من الأحداث عارف بها وبأسبابها؟!

كان الربيع قد أبلّ لتوّه من مرض ألزمه البيت. وما كان أشد سروره وهو يرى كعباً داخلاً عليه، ولم يكن كعب أقل سروراً منه.

٩٢

وجلس الرجلان ...

قال الربيع إيه يا أبا زهير كيف خلفت الناس، فأنا بعيد عنهم كما ترى. لقد ألزمني المرض البيت، لا أخرج منه، فأنا أنتقل من زاوية لأخرى فيه.

قال كعب: كما تعهد، ليس من جديد. إن أيامنا تدور بين السيء والأسوأ.

ما ساءنا يوم إلا ساءنا أكثر منه اليوم الذي بعده. هذه حالنا في حكم معاوية. لكأنه عقاب لنا من الله. بين ابن أبي سفيان وابن العاص وابن سميه، والآخرين ممن تعرف.

قال الربيع: وماذا كنت تنتظر بعد الإمام؟ لقد دفنتم معه، الخير والعدل والفضل. لقد ذهب مع الإمام الزمن الذي لا يطمع فيه القوي، ولا يستبعد الضعيف. ذاك زمان يا عمير لن يعود، لقد اغتالوه، وسالت دموعه وهو ينطق بها، ليضيف بعدها بصوت حزين، وها أنت أمام حكم بني أمية يقودهم معاوية، بكل ما يحمل ويحملون من حقد واستعلاء وطغيان، ووراءهم قريش تدعمهم وتسندهم، ثم هؤلاء المنتفعون والطامعون من الذين يتاجرون في أسواق الضمائر والذمم، هذا هو الحكم اليوم، ماذا كنت تنتظر غير ما رأيت؟! وربما حمدت الله يوماً على ما رأيت فما أظن غدك إلا شراً من يومك.

قال كعب: والله ما أراك يا أبا حنظلة إلا صادق كما كنت دائماً. إن حديث معاوية حديث طويل، من أين بدأته واجهتك الجرائم، لكني أعجب من هؤلاء الذين يزعمون أنه داهية وأنه حليم وأنه جواد. لم يتركوا صفة مما يمدح بها الإنسان إلا أضافوها إليه.

أكان داهية من يحقق الزنا على أبيه ويؤكده بادعاء زياد بن سمية؟!

أين الدهاء في أن يقول الشخص إن أباه كان زانياً؟! أفخر لمعاوية أن يكون أبوه زانياً فاجراً دون خلق ولا دين ولا شرف، مبتذلاً يطوف بين البغايا؟!

وأين الحلم ممن يقتل ألوف المسلمين في أمر يعلم هو قبل غيره أن لا حق له فيه؟!

أحليم من يقتل خيار المسلمين لأنهم رفضوا أن يلعنوا علياً؟!

أحليم من يدفن عبد الرحمن بن حسان العنزي حياً في التراب حتى يموت؟!

أحليم من لا يشفي حقده قتل عمرو بن الحمق فيأمر بأن يطاف برأسه على الرمح بين البلدان، ثم لا يكتفي فيأمر بأن يلقى رأسه في حضن زوجته التي حبسها في قصرة، لترى مأساة زوجها أو مأساة المسلمين بعينيها، لا نقلاً ولا حديثاً ولا رواية؟!

٩٣

وأين الجود من أفعال معاوية؟! أجواد من يبذر أموال المسلمين فيما يضرهم ويؤذيهم ويسوؤهم؟! أكانت أموال أبي سفيان التي ورثها معاوية فهو يتصرف فيها كيف شاء، أم أموال المسلمين، مؤتمن هو عليها ومسؤول عنها؟!

أكان معاوية جواداً وهو يعطي مصر طعمة لعمرو بن العاص؟!

أكان معاوية جواداً وهو يوزع أموال المسلمين على أهله وحاشيته وأنصاره؟!

أكان معاوية عادلاً وهو يعتزم قتل نصف الموالي، وكان يريد قتلهم كلهم لو لا حاجته إلى النصف الآخر للعمارة والبناء كما اعترف، هو؟! ما ذنبهم؟! ما الذي فعلوه ليستحقوا هذا؟! ألأنهم أصبحوا مسلمين؟! ربما، فكل مسلم يمثل هماً يحمله معاوية. ألأنهم لم يكونوا عرباً؟! فالإسلام جاء للناس جميعاً عرب وغير عرب، لا فضل لأحدهم إلا بما يقدم.

ودع عنك كل هذا وقل لي: أسلم من يقول عن النبي: (... وإن ابن أبي كبشة - يعني النبي محمداً، هكذا كانت قريش تسميه - ليصاح به كل يوم خمس مرات (أشهد أن محمداً رسول الله) فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا...)؟!

أسلم من يشق عليه ويؤذيه ويحزنه أن يسمع (أشهد أن محمداً رسول الله). وهل الإسلام إلا الشهادتان: (أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).

ماذا تسمي من ينكر الشهادتين ويرفضهما أو ينكر ويرفض إحداهما؟! قال ذاك وهو يديم النظر في الربيع كأنه ينتظر رأيه فيما سمع قال الربيع: هل انتهيت أم بقي عندك ما تقوله؟

قال كعب: بل انتهيت. هل بقي شيء مما يقال بعد؟!

قال الربيع: الكثير الكثير. أراك تعالج النتائج وتترك الأسباب! من منا لا يعرف معاوية، ولا يعرف ماذا سيفعل حين يتولى أمر المسلمين؟! أكان المسلمون يجهلون معاوية؟! لا والله، إنهم يعرفونه كما تعرف وأكثر مما تعرف، ويعرفون من أوصافه أكثر مما وصفت، أليس هو ابن هند التي أكلت كبد حمزة، أسد الله وعم النبي؟! ولم تعرف امرأة قبلها ولا بعدها فعلت فعلها؛ في هذا البيت نشأ معاوية وفي حضن هذه الأم تربى ومن اخلاقها أخذ اخلاقه.

٩٤

كان الأولى بك إذن أن تسأل عمن أوصل معاوية ومهّد له الطريق. كيف أصبح معاوية خليفة؟! هذا هو السؤال الذي لو وجدت جوابه، لاكتفيت به ولأغناك عما أتعبت نفسك فيه من تعداد جرائمه، وليس ما ذكرت إلا جزأ يسيراً منها.

كان الأولى بك أن تسأل كيف استدرج المسلمون وخدعوا، وأفسدت أخلاقهم، وعطلت عقولهم، وخربت ذممهم حتى استسهلوا أن يكون معاوية خليفة لهم.

قال كعب وقد أثاره كلام الربيع: أي والله، هذا ما لم أفكر فيه. لقد شغلتني جرائم معاوية عن البحث في أسبابها. والله يا أبا حنظلة، إني لمغفل حين أبحث عن أفعال معاوية وأنسی کيف بلغ ما بلغ. قال ذالك وهو ينظر إلی الربيع طالباً منه إکمال حديثه.

قال الربيع وكأنه يستعرض الماضي البعيد: هناك يا كعب، هناك عند بني ساعدة، وفي سقيفتهم، وفيما أعقبها وتلاها؛ ستجد الجواب عما سألت. هناك كانت البداية، هناك تحول الإسلام إلى حكم. هناك كانت قريش تقاتل على الحكم، هناك يا كعب أهدرت القيم واستبيح الكذب وزور الإسلام. هناك ستجد الجواب عن سؤالك يا كعب، ستجد الجواب الصحيح.

٩٥

الفصل الثامن عشر

معاوية

الإرهاب

احتضنت الأم طفليها وهي ترفع رأسها إلى السماء أن يحفظهما الله لها من سيف بسر: هذا المتوحش الظالم الذي سلّطه معاوية على الناس، يقتل الصغار قبل الكبار، لا حدود للقتل عنده. إنهما كل ما تملك، وقُتل أبوهما، قتله جيش معاوية، وهي تخشی عليهما سيف بسر.

كانت الأخبار قد وصلت المدينة أن بسر قادم إليها. ولم يكن بسر مجهولاً في المدينة ولا في غيرها من مدن الإسلام.

لقد كان سفاحاً قلّ أن عرف الناس مثله. إنهم ما يزالون يذكرون بحزن ورعب قصته مع ابني عبيد الله بن العباس حين هاجم اليمن قبل سنتين. لم يكن لهما ذنب ولم يعرفا الذنب وهما طفلان، غير أن بسراً أبى إلا أن يقتلهما، فانتزعهما من حضن أمهما وهما يتشبثان بها وهي تتشبث بهما ثم حزّ رأسيهما بسيف غليظ، فعميت الأم وجنت. ولم يكن لعبد الرحمن وقثم من ذنب إلا أنهما ابنان لعبيد الله بن العباس والي علي على اليمن.

وها هي الأخبار تتوالى: أن بسراً يتجه نحو المدينة على رأس جيش كبير.

وفزعت الأمهات وفزع الأطفال وفزع أهل المدينة كلهم، فهم يعرفون ما ينتظرهم على يدي هذا الجلاد السفاح بامتياز. ولكن ما السبيل إلى النجاة منه؟ إلى أين سيذهبون وقد أخذت قوات معاوية جميع المسالك المؤدية إلى المدينة والخارجة منها، والحكم بيد من لا يرحم، وأمراء معاوية يتسابقون في قتل المسلمين على الظنة والشبهة والشك، لا يردعهم خلق ولا دين.

وقبل أن يصل بسر، وصل تهديده بأنّ له ثأراً عند أهل المدينة، هؤلاء الذين لم يمنعوا قتل عثمان ولم ينهضوا للدفاع عنه. إنه يحمّلهم دم عثمان، وقد جاء يوم الثأر منهم.

٩٦

دم عثمان؟!! قال ساخراً عبد الله بن قبيس أحد أفراد حلقة من هذه الحلقات التي ملأت شوارع المدينة تفكر فيما تفعل بعد تهديد بسر: والله ما كان بسر يوماً أكذب منه اليوم عندي. ليس ذنب أهل المدينة أن عثمان قتل في مدينتهم وأنهم لم يستطيعوا أن يدفعوا القتل عنه، ولم يكونوا قادرين. إن أهل المدينة مطلوبون بغير ذلك، بأكثر من ثأر وبأقدم من دم عثمان. أنسيتم بدراً وقتلی بدر؟! أنسيتم عتبة وأبا جهل وأمية بن خلف؟! أنسيتم كيف أطاح أهل المدينة - مهاجروهم وأنصارهم - بكبرياء قريش وهيبتها؟! هناك، هناك في بدر فتشوا عن الأسباب، وما أظن قتل عثمان إلا حجة للثأر مما كان قبله. قال ذلك ثم أضاف: لِم لم يهب معاوية، وهو أمير الشام والمطاع فيها، لنصرة عثمان وقد امتدت الأحداث التي انتهت بقتله أربعين يوماً، وليست الشام إلا على مسيرة أيام لمن يريد الوصول إلى المدينة وهو يملك من الجيش والقوة ما يستطيع أن يدفع القتل عن عثمان لو شاء، مع مطالبة عثمان له والتأكيد عليه بالإسراع لنصرته قبل فوات الأوان.

ما الذي منع معاوية من ذلك؟! لقد كان معاوية يفكر في السلطة. كان يفكر فيها ويخطط لها منذ زمن بعيد، ولم يكن يريد أن يستنفد قومه في حرب قد لا يضمن نتائجها وهو يواجه المسلمين من جميع بلدانهم: من الكوفة والبصرة ومصر ومكة وغيرها. ولم تكن المدينة إلا واحدة منها. ما ذنبها إن كانت الأحداث قد جرت فيها، لأنها مركز الخلافة؟ لم يبق أحد من خيار المسلمين من يستطيع الدفاع عن عثمان الذي لم تبق أفعاله عذراً للسكوت عنه أكثر مما سكتوا وأطول مما سكتوا، ملتزمين الصبر والخوف من فتنة لا أحد يعرف إلى أين ستنتهي. ولقد كان بين أشد المحرضين على عثمان، السيدة عائشة، كانت تحرّض عليه قائلة: (اقتلوا نعثلاً - تعني عثمان - قتل الله نعثلاً فقد كفر). أأكثر من أن ترميه زوجه النبي بالكفر؟!

لم يكن معاوية إذن يجهل قاتلي عثمان والمحرضين على قتله. لكنه لم يكن يهتم بذاك. ما كان يهمه ويشغله هو التهيؤ لحرب وشيكة أخرى سيخوضها، وعليه أن يدخر قوته لها. تلك هي حربه مع علي: خصمه القديم الجديد الذي لم يسبق من يحول دون توليه الخلافة غيره، يلتف حوله أفاضل المسلمين وذوو السابقة والجهاد منهم.

٩٧

ولهذا فلم يكتف معاوية بهذا الموقف السلبي من عثمان وتركه يقتل دون أن يحاول نصره. بل كان يتمنى قتله ويدفع إليه في السر ليتخذ منه حجة يتقوى بها على خصمه بتحميله مسؤولية قتل عثمان أو المشاركة فيه. وهذا ما كان، فقد استغل معاوية قتل عثمان ليحصل منه السبب وراء قتال علي الذي يتهمه به واستثارة الناس للطلب بدم الخليفة الشهيد، مع أن علياً بذل أقصى ما يمكن لإصلاح الأمور بين عثمان وبين الثائرين عليه، لولا موقف بعض حاشية عثمان وتعنتهم، وعلى رأسهم مروان بن الحكم.

قال ذاك وهو ينظر في وجوه الآخرين من أفراد الحلقة الذين بدا عليهم الاهتمام والتفكير. ثم مضى في حديثه، وكأنه يقرأ المستقبل بنظرة واثقة سليمة: إن معاوية يلاحق بثأره كل من وقف مع علي أو ساعده أو انتصر له، وكل من يشك أنه ما يزال يوالي علياً أو يميل إليه، أو يمتنع عن سبّه ولعنه، وكل من يشك أنه يرفض حكم آل أبي سفيان ويمتنع عن تأييده.

وسترون هذا إن كنتم في شك منه حتى اليوم. ليست المدينة وحدها، المقصودة، وليست مقصودة لأنّها لم تنصر عثمان. بل لأنها، وهي مدينة الرسول وبلد الصحابة الذين ما يزالون يعيشون على ذكراه ومع ذكراه، ترفض أن يحكم المسلمين معاوية بن أبي سفيان، وهو من تعرفون سابقاً وحاضراً. وليس عثمان إلا حجة يمسك بها ضد من لا يرضى حكمه. سيكون لغير المدينة ما تنتظره المدينة غداً أو بعد.

وأسرع الرجال إلى ما يملكون من وسائل دفاع يهيئوونها لمواجهة هذا الطاغية السفاح الذي بات على مشارف مدينتهم، لا يدرون متى سيدخلها. وهم يعلمون أن ميزان القوى ليس لصالحهم، لكن الاستسلام لهذا الجبار المتوحش وفتح المدينة أمام جيشه لن ينفع في شيء. فالحروب مع معاوية لا تقوم على موازين خلقية متعارف عليها بين المتحاربين، إنه القتل، قاوموا أم استسلموا ولم يقاوموا، ثم فتح المدينة صلحاً أو فتحها الجيش عنوة.

وباتت المدنية ليالي سوداء مرعبة حزينة، النساء في هلع، والأطفال بوجوههم البريئة الشاحبة، لا يعرفون ما يجري غير دموع لا تنقطع على وجوه أمهاتهم وهن يحتضنهم. والآباء يتجنبون رؤية النساء والأطفال، وهم يرون الثكل في عيونهن واليتم في عيونهم.

٩٨

ويدخل الطاغية الجبار على رأس جيش أقنعوه بأن أهل المدينة هم مجموعة قتلة ومجرمين، شاركوا كلهم في قتل الخليفة الشهيد، بين من باشر القتل أوالحصار وبين من حرض عليه وبين من سكت عنه أو رفض الدفاع عنه. إنهم كلهم مشاركون في قتل الخليفة، وكلهم مسؤولون عنه.

وماذا تنتظر من جيش يدخل المدينة غازياً حاقداً قد ملأ الكره وطلب الثأر قلوب أفراده، ويقوده وحش كابن أرطاة. وعلى امتداد شهر كامل، كان بسر يستعرض الناس في المدينة، فلا يقال له إن شخصاً قد أعان أو شارك أو تخلف أو رضي بقتل عثمان إلا قتله. حتى أن قوماً ومعهم غلمانهم وأطفالهم كانوا على بئر يستقون، فلما رآهم على البئر ألقاهم فيه.

إنها إحدى المجازر المعروفة في التأريخ الإسلامي في عهد أمير المؤمنين معاوية.

وبعد مدة في زمن معاوية نفسه، قتل سمرة بن جندب، ثمانية آلاف شخص في غير ذنب، لم يقوموا بثورة ضد السلطة ولم يحملوا السلاح في وجهها.

وكان سمرة قد تولى البصرة نائباً عن زياد الذي ذهب إلى الكوفة ليشرف عليها مباشرة بعد أن جمعت له ولايتي البصرة والكوفة.

وحين عاد سمرة إلى الكوفة سأله أحدهم قائلاً: ألا تخاف يا سمرة أن يكون بين قتلاك بعض الأبرياء.

فأجاب سمرة غير مكترث: والله لو قتلت مثلهم - ثمانية الاف آخرين - ما خشيت.

ومم يخشى سمرة؟ ومن سيحاسبه، والإنسان هو الشيء الوحيد الذي لا قيمة له ولا حساب عليه. وليس كالقتل وسيلة لإخافة الناس وإرهابهم.

وتذكر عبد الله بن قيس أيام بسر وما نشره في المدينة من خوف وذعر. وتذكر ما قاله في تلك الحلقة التي ضمته إلى بعض أصحابه. وكان سيف الجلاد قد أخطأه فبقي حياً بعدهم: ليتهم أحياء الآن ليروا صدق كلامي: إن عثمان لم يكن إلا وسيلة معاوية للاستيلاء على السلطة واغتصابها.

ليتهم! قال ذلك وهو يسير متثاقلاً ويده تمسح دموعه التي أسالتها ذكريات حزينة.

٩٩

الفصل التاسع عشر

معاوية - سنة اللعن -

عمر بن عبد العزيز

ما بال الشيخ بادر إلى الصلاة حين رآني مقبلاً، ثم أطال فيها على غير عادته، وكأنه لا يريد أن يراني؟! ماذا فعلت مما أغضب الشيخ ليتجنب لقائي، وقد جاء وقت ورودي عليه، لم أتأخر عنه ولم أقصر فيه؟! قال عمر ذلك، وراح يستعرض الأسباب ويتذكر منذ مر الشيخ وهو يلعب مع بعض فتيان بني أمية، لعل فيه ما أغضب شيخه منه. لكنه لم يفعل شيئاً غير ما كان يفعله كل يوم خلال اللعب من لعن هذا الفاسق الذي اسمه علي بن أبي طالب. وليس من المعقول أن يكون هذا ما أغضب الشيخ منه، مع أن كل بني أمية، صغاراً وكباراً، ومعهم كل أهل الشام يلعنونه ويسبونه في كل صلاة وفي غير الصلاة، يتقربون بهذا إلى الله.

إذن لم يطل الشيخ صلاته على غير ما اعتاد، قاصداً ذلك كما يبدو، ما دام شيء مما أفكر فية لم يحصل؟

أتراه استقل ما ندفع له من أجر فهو يريد الزيادة ويتحرج من طلبها؟! ما أيسر الأمر إذن! لم يكن عليه أكثر من مجرد الإشارة أو التلميح لتأتيه الزيادة مضاعفة. لا، ما أظن هذا هو السبب، فالشيخ ليس من هؤلاء، ولو أراد المال لكان له منه الكثير. لقد مرت مدة طويله وأنا أدرس عليه، لم يكلفني شيئاً ولم يطلب مني شيئاً وليس أسهل من إجابة طلبه لو شاء، على ابن عبد العزيز بن مروان، وأبوه ولي العهد وأمير مصدق وعمه الخليفة.

ودارت في رأس الفتى أفكار كثيرة قبل أن ينتهي الشيخ من صلاته. وانزاح عن قلب عمر همٌّ ثقيل، ها هو الشيخ يقبل عليه، ولكن ماله يقبل متثاقلاً بوجه غير الذي كان يقبل به حين يرى عمر، فلم يهش له ولم يبتسم؟! أتراه يشكو شيئاً أصابه في جسمه أو في أهله؟

قال عمر وهو يرد السلام: ما بال الشيخ عابساً متجهماً على خلاف ما عودني؟ أرجو ألا يكون شيء مما يسوء.

قال الشيخ وهو ما يزال عابساً متجهماً وبلهجة اتسمت بالجفاف: أأنت اللاعن علياً منذ اليوم؟!

١٠٠