أيام الرعب

أيام الرعب0%

أيام الرعب مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 92

أيام الرعب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 92
المشاهدات: 23489
تحميل: 6999

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 92 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23489 / تحميل: 6999
الحجم الحجم الحجم
أيام الرعب

أيام الرعب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال الثاني: والله ليس لديّ شيء محدّد. لقد سمعته كما سمعته أنت، لكنّي لا أستطع تصديقه، فما أظن الحزب نسي جرائم البعثيين، معه قبل غيره، ما أظنه سيخاطر بماضيه وحاضره ومستقبله، ومستقبل الجماهير التي وضعت ثقتها فيه، وائتمنته على مصالحها وآمالها، بالدخول في جبهة مع حزب فاشي مجرم.

عاد الأول ليقول، وكأنّه يريد أن يطمئن نفسه: ما أظنّها إلاّ إشاعات ينشرها أعداء الحزب. ربما البعثيون أنفسهم من ينشرها ويذيعها، لتلميع صورتهم وتشويه صورة الحزب. كيف يمكن لشيوعيّ أن يأمن بعثيّاً في عمل على هذا المستوى!! والله لو أمنت الذئب، لم آمن البعثي. هل تذكر كيف هجموا علينا في إضرابنا بعد فترة قصيرة من استيلائهم على الحكم؟! ما الّذي فعلناه غير أنّنا مارسنا حقّنا الطبيعي في الإضراب؟! كيف يعبّر العمّال أمثالنا عن مطالبهم، إذا لم تسمع؟! هل ارتكبنا جريمةً؟! هل قتلنا أو سرقنا أحداً؟!

هل تذكر هجومهم علينا بالرشاشات والسكاكين. لقد رأيت الرفيق (ك) وقد أصابته إحدى الطلقات في صدره، فسقط ودمه ينزف. والرفيق (ف) الذّي أصيب في أكثر من موضع من جسمه. لقد مزّقوه، ثم تناولته السكاكين حتى بعد سقوطه. لقد جرى الدم غزيراً يومها: من لم يقتل جرح أو اعتقل، قلّ منّا الّذين سلموا.

قال الثاني: واحتفال ساحة السباع في ٧/١١/١٩٦٨؟! لقد تحوّل إلى معركة من طرف واحد ما الّذي غاظهم منه؟! ما الّذي أثارهم؟! كيف هجموا علينا ونحن نحتفل؟! أي ضير في أن يحتفل الإنسان، لا يؤذي أحداً ولا يهتف ضد أحد ولا يحرّض على أحد؟! إنّه احتفال في مناسبة عالمية يحتفل بها الملايين من العمّال وغيرهم في كل أنحاء العالم، لا العراق وحده. أكان رفع الشعارات والهتاف ضد الرأسماليّة، هو الّذي أثار حزب البعث العربي (الاشتراكي)؟!

٤١

قال الأوّل: والله لقد تعبت من التفكير. لا أريد أن أصدق. أتمنّى أن يكون ما أسمع مجرّد إشاعة يقف وراءها أعداء الحزب. لكن الأخبار لا تنقطع، كلها تشير إلى اتجاه نحو إقامة الجبهة. هناك نشاط كبير، واجتماعات ولقاءات متواصلة بين قياديين في الحزب وبين آخرين بعثيين، وما أحسب كل هذا عبثاً. إنّي لأظن... ثم قطع كلامه وضحك قائلاً: لا، لا. لا تحمل كلامي محمل الجد. إنّي أبالغ أحياناً في سوء الظن. لا يمكن أن يبلغ الأمر بالرفاق حد الدخول في جبهة مع البعثيين. إنّه لن يكون عند ذاك خطأ. سيكون جريمةً. لا، لا. لا أصدق. لا يمكن.

ومرت سنتان أو أكثر على هذا الحديث، وأعلن عن قيام الجبهة. وعند الغداء في مطعم الشركة ظهر اليوم التالي لإعلانها، التقى صاحبانا كما اعتادا أن يلتقيا كل يوم في وجبة الغداء. كان كل منهما ينظر في وجه الآخر صامتاً قبل أن يقول أحدهما، والاثنان في شبه ذهول: أتذكر ما قلناه قبل سنتين؟ إنّي لأذكره الآن جيداً قال ذاك، وعلى شفتيه ابتسامة مرّة، ثم أضاف: ها هو قد تحقّق ما كنّا نستبعده ونحن نتناقش فيه طويلاً، كل يوم تقريباً. لم تصدقنّي فيه، بل لم أصدّق نفسي وأنا أسمع ما كان يدور من كلام عن جبهة مع البعثيين. لقد كان شيئاً لا يصدّق. ما الّذي جرى حتى يقبل الحزب الشيوعي: أعرف الناس بالبعثيين، أن يدخل في جبهة سياسيه واحدة معهم؟! هل نسي شباط ١٩٦٣ وانقلابهم الأسود؟! هل نسي قيادته وكوادره الّذين قتلوهم بوحشيّة قلّ نظيرها؟! هل نسي الحرس القومي وما فعلوه؟! هل نسي الدماء التي جرت في كل حيّ وشارع من بغداد وغير بغداد؟! هل نسي الكاظميّة والصالحيّة و (عگد الكراد)؟!(١)

ولتترك ذلك الانقلاب ومآسيه. فما الّذي تغيّر من سلوك البعثيين في انقلابهم الجديد هذا؟! هل نسي الحزب مجزرة إضراب العمّال في شركة الزيوت؟! وهل نسي بعدها مجزرة ساحة السباع؟! هل نسي القتل اليومي لأعضاء الحزب وكوادره ومناصريه. ليس ذلك ممّا ينسى.

____________________

(١) هذه مناطق في بغداد شهدت معارك عنيفة بين الشيوعيين ومعهم قوى المقاومة الوطنية الأخرى وبين البعثيين والعصابات الفاشيّة وأجهزة الأمن والمخابرات.

٤٢

قال الآخر: وما العمل الآن؟ ماذا علينا وماذا نستطيع أن نفعل؟! لا سبيل إلى إلغاء الجبهة في ظل القيادة الحالية، وهي التي عقدتها.

قال الأوّل: لكن القيادة لم تكن جميع أعضائها مع الجبهة. لقد كانت الأغلبية في التصويت الأول ضد الجبهة ( ثمانية مقابل سبعة ) لكن ( الجبهويين ) فازوا حين انتقل واحد من المعارضين إلى صفّهم. إذن فازوا، وقامت الجبهة بزيادة صوت واحد أضيف إليهم، لا أحد يعلم كيف أضيف. أرى أن نجمع أكبر عدد من الرافضين للجبهة، ثم يتم الضغط بعد ذاك على القيادة. وسيدعمنا طبعاً الأعضاء الّذين كانوا في الأصل ضدها.

واتّفق الاثنان على ذلك قبل أن يفترقا ويعود كل منهما إلى عمله في الشركة.

بقي الحزب الشيوعي على تعاونه مع البعثيين، رغم تضاؤل دوره الّذي اقتصر على مجرّد لقاءات متفرقة يعرض الحزب فيها شكاواه من تعرّض أعضائه لعمليات قتل ومطاردات ومضايقات يوميّة. لم يعد له دور ولم يعد البعثيون يريدون أن يكون له دور. لقد استنفدوه وانتهت مهمّته.

وكانت الصفقه الأخيرة والخطيرة التي تلقّاها الحزب، هي إعدام أكثر من ثلاثين من عناصره خلال شهر مايس من عام ١٩٧٨.

وبقيت رسالة الرفيق دون جواب.

٤٣

الفصل التاسع

رمت السيدة بتول بنفسها على بقايا جسم مزّقه الرصاص، وهي تصيح بصوت لم يعد يسعفها: لماذا قتلوك؟! ماذا فعلت؟! هل بعثوك ليقتلوك هناك، بعيداً في الشمال؟! أهذه مكافأتهم لك؟! ألم يكفهم ما قتلوا حتى الآن من شباب ورجال ونساء؟! ألم يملّوا منظر الدم؟! أتراهم جاؤوا لقتل العراقيين؟!

وكان صوت السيدة بتول قد بدأ يضعف وهي تبكي زوجها السيد عبد الحسين الدخيلي، وقريباً منها وقفت صبيتان هما فاطمة وزينب، في العاشرة والثامنة من العمر. كانت عيونهما التي أغرقها الدمع، تدور بين الأم وبين الأب الممدد على الأرض، صامتتين لا تقولان شيئاً. الحزن على وجهيهما البريئين الشاحبين، تتساءلان: لن نرى أبانا بعد اليوم. كنا سعيدتين، ونحن نتلقّاه عائداً إلى البيت. كان يحملنا على صدره، أو يأخذنا في حضنه. لن نراه. ثم تعتنق إحداهما الأخرى، تريد أن تواسيها أو تطلب منها أن تواسيها. لقد فرّقهما الموت عن أبيهما، فرّقهما إلى الأبد. لن يعود الفرح إلى البيت، ثم تنظران إلى الجسد الممدد: ربما هذه آخر مرة نراه فيها، سيحملونه عما قريب إلى مثواه الأخير، إلى القبر.

وأمهما الحزينة الثكلى لن تعود البسمة إلى وجهها. سيلفّ الحزن البيت كله. لقد غاب عنه من كان يبعث البسمة فيه. إنّه الحزن المقيم. لن تلاطفهما ولن تضحك معهما كما كانت. ليس قليلاً ما حصل لها. لقد كان السيد عبد الحسين، الزوج والأب والأخ. فقدته فجأة. لم يتمرّض، لم تعالجه، لم تتوقّع موته. غادرها بالأمس في مهمّة، قال إنّه سيعود غداً، وسيحمل بعض الهدايا إلى البنات من الشمال، فالشمال غنيّ بفواكهه وأثماره التي لا توجد في غيره من مناطق العراق. لكنّه لم يعد إلاّ في كفن... ثم سقطت جنب الجسد الممدد - لم يكن السيد عبد الحسين يعلم أنّ الجهاز الّذي ربطه رجال صدام على بطنه هو حزام ناسف، سيقتله في كل حال، قتل أم لم يقتل، من أريد به قتله. قالوا له حين سألهم مستغرباً عنه:

٤٤

إنّه جهاز لتسجيل الأحاديث والآراء والحوارات التي يطرحها الجانب الكردي أثناء التفاوض، فربما نسيت أو نسي بعضها أو أسيء نقلها وروايتها بعدما تعودون - سالمين - إلى بغداد فالقيادة حريصة على أن تسمع بشكل دقيق وجهة نظر (الإخوة) الأكراد وتصوّرهم لحل الأزمة التي ستناقشونها معهم كما لو أنّها هي التي كانت تناقشهم هناك. إنّكم تعرفون خطورة الموضوع ودقّته. إنّ القيادة تثق فيكم وفي إخلاصكم وقدرتكم على إنجاح هذه المهمّة الوطنية التي اختارتكم لها، اصغوا جيداً لما يقول الملا مصطفى. حاولوا ألاّ يفوتكم شيء من كلامه. والتفت إلى السيد عبد الحسين: خصوصاً أنت سيّدنا، لا تبتعد عن الملا. فليكن المسجّل دائماً قريباً منه.

وقبل السيد هذا التبرير الّذي بدا له منطقيّاً، مع شعور بالنشوة للإطراء. قال في نفسه: أظنني ظلمتهم وأنا أشك فيهم. يبدو أنّهم على حق، فهذا الجهاز لا يمكن أن يخطئ، إنّه مسجّل أمين لا يغفل ولا ينسى، ونحن مهما اجتهدنا وحرصنا، فقد نخطئ، وقد ننسى شيئاً مما دار، خصوصاً ونحن لا نعلم متى نعود، فقد نضطر إلى البقاء، أياماً طويلة تبعاً لطبيعة المفاوضات، وقد يكون هذا الّذي نسيناه أو أخطأنا في نقله شيئاً مهماً في نظر القيادة لرسم صورة الحل الّذي تراه للمشكلة التي ذهبنا من أجلها.

والمشكلة الكردية هي من أطول وأعقد المشاكل في تاريخ العراق الحديث، لا تخمد يوماً إلاّ لتثور في يوم آخر. وكانت على امتداد أجيال، مصدر قلق للعراق واستنزافاً لطاقاته، ودماً لا ينقطع جريانه. عهود وحكومات عديدة ومختلفة تعاقبت على العراق، وهذه المشكلة تبحث عن حل، وكلّما طال عليها الزمن، تعقّدت وتعقّد حلّها أكثر.

والأكراد قوميّةٌ مستقلةٌ مختلفةٌ عن القومية العربية. حدودها في العراق معروفةٌ، تكاد تكون منفصلةً، في منطقة جبليّة من شماله. ومطلبهم المرفوع دائماً هو الحكم الذاتي، وهو حق لهم مشروع، ليس هناك من ينكره أو ينازع فيه إلاّ أن يكون من هؤلاء المتعصّبين الّذين لا يعترفون بأيّ حق، لا للأكراد ولا لغيرهم من العراقيين.

وكان من الممكن حل هذه المشكلة، كما حلّت مشكلات أخرى مماثلة في دول غير العراق، لو وجد نظام سياسي يملك الحكمة والشجاعة، ويقبل بشكل صريح وصادق منح الحكم الذاتي للأكراد بكل ما تقتضيه من حقوق وصلاحيّات.

٤٥

لكن الحل غاب بغياب الحكمة والشجاعة وبقيت المشكلة تتفاقم مع طول الزمان عليها. وزاد من تعقيدها وصعوبة حلّها، وجود العامل الأجنبي الّذي لا يريد للعراق أن يهدأ ويستقر، ويسعى دائماً لإبقائه قلقاً مضطرباً حتى يجد المنفذ للتدخل في شؤونه. ثم هناك الحذر والاحتراس وانعدام الثقة، وخوف بعض من بعض، وشك بعض في بعض، بفعل التباعد وانقطاع الاتّصال وطول الوقت الّذي لازم هذه المشكلة دون حل.

والحكومة الوحيدة التي حاولت، ولا يعرف على وجه الدقّة، أسباب الفشل فيما حاولت، هي حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم. سارت في طريق الحل خطوات جادّة أسعدت غالبية العراقيين، لكنّها انتهت إلى الفشل كما انتهت سابقاتها.

وتوالت ثورات الشعب الكردي منذ العهد الملكي، والشعار هو الشعار، والهدف هو الهدف: الحكم الذاتي.

وكان الجواب نفس الجواب: تسيير الجيش للقتال وفرض الحل، وهو جواب غبيّ حين يتعلّق الأمر بشعب يطالب بحق له.

وتوالت المعارك. وتوالى سقوط الضحايا من الشباب، الخزين الدائم حين تثور المعارك وينشب القتال.

ودفع العراقيون الثمن، غالياً، من دمهم، في غير سبب ولا داع، لا دفاعاً عن نفس، ولا عن وطن، وهم يقاتلون أبناء الوطن واستمر القتال أو التهيّؤ للقتال، مع ما يجرّه ذلك من كوارث على كل صعيد.

وحين استولى البعثيون على السلطة في تموز من عام ١٩٦٨، كان أمامهم قوّتان كبيرتان: الأكراد والحزب الشيوعي (وأرجئ الحديث عن القوّة الثالثة - حزب الدعوة) التي سيكون لها دور خطير فيما بعد.

ولم يكن البعثيون قادرين على مواجهة هاتين القوّتين مجتمعتين، فعملوا على الإنفراد بكل منهما، والاتّفاق معها بعيداً عن الثانية.

وبدأت المفاوضات مع الأكراد. استمرت فترةً طويلة قبل أن تنتهي بإعلان ١١ آذار ١٩٧٠.

٤٦

ولم يكن صدام جاداً ولا صادقاً في موضوع الحكم الذاتي. كان يحمل فكراً شوفينيّاً متطرفاً لا يعترف بأي حق للأكراد، ولا يخفي العداء لهم، ربّما أكثر من غيره من البعثيين، أراد أن يستريح مؤقّتاً من جبهة الأكراد التي تنذر بالاستقلال: ضحك في سرّه وهو يوقّع الاتّفاق:

- ستعرفون قريباً أيها الأكراد أيّة مسرحيّة تلعبونها. ستعرفون صدام كما لم تعرفوه. ستندمون على ما جنيتم على أنفسكم، وعلى نفسها جنت براقش.

كان صدام قد هيّأ جيشه للانقضاض على الأكراد بعد أن يكونوا قد أمنوا واطمأنّوا، واستبعدوا احتمالات الحرب بتوقيع الاتفاق. كما استمال عدداً من رجالهم للتعاون معه، وكأنّهم الممثّلون الحقيقيون للأكراد.

لكن هاتين الخطّتين لم يحملا لصدام الرضا والراحة كما يريد، وليست نتائجهما بالمضمونة. كان يفكّر بشيء آخر إلى جانب هاتين أو قبلهما. كان يخطط لعمل آخر. عليه أن يضرب القيادة الكرديّة ويتخلّص منها. هذا الملا مصطفى البرزاني، قائدها الّذي يكرهه صدام ولا يطيق ذكر اسمه. إنّه يفكّر في قتله. سيكون سعيداً لو قتل، وسيكون أسعد لو قتل ومعه عدد من القيادة الكرديّة.

صحيح أنّ الثورة لا تختزل برجل، لكن الثورة ستتأثر كثيراً بقتل الزعيم الّذي اجتمع على قيادته كل المقاتلين الأكراد تقريباً، الزعيم الّذي قاد الثورة زمناً طويلاً حتى أصبح جزءاً منها وأصبحت جزءاً منه، إنّه الآن الرمز، والرمز في بلداننا الشرقية ما يزال يلعب دوره الكبير. تتجسّد فيه آمال الشعوب وتطلعاتها.

وكانت الأمور قد تأزّمت مع الأكراد بعد أن بدأ الجانب البعثي يتخلّص من التزامة ويسوّف في تنفيذها أو يفرغها من مضمونها.

ها هي الفرصة سانحة الآن: وفد يتوجّه إلى كردستان لمقابلة القيادة الكردية وعلى رأسها البرزاني نفسه، والوفد يضم، عدداً من رجال الدين، والشيعة على وجه الخصوص، وهذا ما يسمح له بشيء من حريّة الحركة وسعة الاتصالات دون رقابة شديدة. سيستطيع صدام إذن أن ينفّذ ما يريد من خلال هذا الوفد. سينتهي من البرزاني، ومن أي قياديّ كردي يكون معه حين يفجر الحزام.

٤٧

- ما أروعك يا صدام وأذكاك! هذا ما لا يستطيع الملا أن ينجو منه؛ لأنّه لا يستطيع أن يفكّر فيه. ما أدهاك وأدهى خططك: ردّد صدام ذلك في نفسه، وهو ينادي مدير أمنه ناظم كزار.

- متى سيسافر الوفد يا ناظم؟ هل أنت مطمئن إلى الخطة؟ عليك أن تشرف بنفسك عليها وعلى جميع تفاصيلها. متى سأسمع الخبر؟ أريد أن أسمعه قريباً.

قال ناظم: غداً صباحاً سيسافر الوفد. لقد أشرفت بنفسي على كل شيء واخترت السيد عبد الحسين الدخيلي ليكون حامل الحزام، فهو رجل دين وسيّد وشيعيّ ولا موضع للشك فيه. سنقول للدخيلي إنّه جهاز لتسجيل المفاوضات التي ستدور بينهم وبين الأكراد حين يلتقونهم. لن ينجو أبو إدريس هذه المرة. ونجا البرزاني نجا بمحض الصدفة. وعاد السيد عبد الحسين إلى بغداد، لكن في كفن. لقد مزّقه المسجل الّذي كان يحمله.

٤٨

الفصل العاشر

لم يكن اللقاء مناسباً للأحاديث السياسيّة، فهما لم يلتقيا منذ زمن طويل. لقد أبعدتهما الحياة عن بعضهما، وفي الأحاديث الأخرى، وهي كثيرة بعد هذا الفراق، ما يشغل وقت اللقاء مهما طال، لكن العراقيين، وأظنهم الوحيدين في هذا، لا يستطيعون، حين يلتقون، إلاّ أن يتحدثوا في السياسة، إلاّ أن تكون السياسة محور حديثهم، فتراهم لا يبتعدون عنها إلاّ ليسرعوا في العودة إليها، فكأنهم يندمون أن يمضوا بعض الوقت في غير حديثها. هذا إلى أن حدثاً كبيراً كان يهز المنطقة في بدايات عام ١٩٧٩ هزّاً عنيفاً. لقد اقتلعت ثورة ( الكاسيتات ) كما أطلق على الثورة الإيرانية، أعتى نظام فيها، فكانت هذه الثورة موضوع الحديث في أي لقاء يجمع اثنين من العراقيين. بل إنّ العراقي لا يحتاج في الحديث عنها إلى من يشاركه فيه. كان هو يطرح الأمثلة ثم يجيب عنها، ولم يكن العراقيون في الحقيقة وحدهم، المهتمّين بهذا الأمر وإن كانوا الأكثر اهتماماً والأكثر تأثّراً به. لقد كانت المنطقة كلها تنتظر وتترقّب وتتابع.

كان فاضل وحسين صديقين منذ الصبا، ربط أحدهما إلى الآخر، قرب السكن وتقارب العمر والمدرسة الواحدة. أنهيا الدراسة المتوسطة والإعداديّة معاً في النجف. ثم جاءا إلى بغداد. دخل الاثنان كلية الحقوق في بغداد. وبعد التخرّج، عاد فاضل إلى النجف ليمتهن المحاماة، وعمل حسين في وزارة المالية، وتدرّج في وظائفها حتى أصبح مديراً عاماً فيها.

وذهبت بهما الحياة مذاهبها بعد التخرّج: الأوّل محام في النجف، مع المحاكم والدعاوى والموكّلين، والثاني مع الوظيفة والترفيعات والعلاوات، ولم يلتقيا إلاّ مرات قليلة أو معدودة منذ أكملا دراستهما، وفي يوم من أيّام الخميس من شهر نيسان ١٩٧٩، وقبل أن ينتهي الدوام رنّ جرس التلفون في غرفة حسين الّذي كان يتابع ملفّاً ضخماً من ملفات الوزارة يريد أن ينتهي منه قبل نهاية الأسبوع وبداية أسبوع جديد. قال المتحدّث على الطرف الثاني من الخط: إنّه فاضل وقد جاء اليوم إلى بغداد في دعوى أمام إحدى محاكمها، وسيعود ظهراً إلى النجف، وأراد أن يسلّم عليه. إنّه توّاق إلى رؤيته وسماع أخباره. لقد مضى زمن طويل دون أن يراه.

٤٩

ولم يكن حسين بأقل شوقاً، كان سعيداً جداً بلقائه، ودعاه إلى الغداء سويّاً في مطعم الواحة القريب من المصرف التجاري العراقي، في الساعة الثانية ظهراً، حين يكون الاثنان قد فرغا من عملهما.

وحاول فاضل أن يعتذر لكن حسين رفض كل عذر بشكل قاطع. قال: إنّها فرصةٌ كان ينتظرها منذ زمن بعيد، ولن يفرّط فيها ولن يتنازل عنها، وقد منحت له. إنّه في غاية الشوق إليه والحديث معه ولن يقبل أيّ عذر.

ورغم أنّ العراقيين، والعرب عموماً لا يلتزمون بالموعد ولا يهتمون به، فقد حرص الصديقان ألاّ يضيعا دقيقةً واحدة من اللقاء. كانا قد سبقا إلى المطعم قبل الثانية. كان الشوق يستعجل كلاًّ منهما للقاء الآخر. لقد مضى وقت طويل لم يلتقيا فيه، وكانا لا يفترقان في الماضي.

وحين أخذا مجلسيهما، تناول حسين قائمة الطعام الموضوعة على المائدة واختار منها ما اعتاد العراقيون أن يطلبون في الغداء عندما يتناولونه خارج البيت، ومع أحد الضيوف، ثم قال وهو يستعيد ذكريات قديمة بدت له حلوة سعيدة، رغم أنّها لم تكن كذلك قبل أن تتحوّل إلى ذكريات: ما أسرع هذا الزمان يا صاحبي! أتراه كان دائماً سريعاً كهذا، أم كنّا نحن لا نشعر به. إنّ الزمان ليسرع بنا، ساخراً منا، ونحن نلهث وراءه، نتوسّل إليه أن يرفق بنا، أن يتوقف قليلاً، لعل عندنا ما نريد أن نقوله له. أتذكر؟ كنّا نستعجل السنين، نتمنّى، لو استطعنا أن نعيدها ونتجاوزها. كانت بطيئة ونحن معجلون؟! والآن...؟! هل تغيّر الزمن أم تغيّرنا؟! إني لأذكر حتى تفاصيل حياتنا، حتى الكلمات التي تداولناها وأماكنها، كانت الذاكرة آنذاك فتيّة قويّة.

قال فاضل ضاحكاً: وهل تشكو ذاكرتك الآن؟! ألا يعني تذكّرك ما مرّ عليه أكثر من خمسين عاماً، إنّ ذاكرتك ما تزال إلى اليوم قوية، لم تضعف ولم يوهنها الزمان؟! ما هذا الزمان يا عزيزي؟! هو هذا الّذي ينضج الثمرة ثم يقتلها.

هو هذا الّذي يبعد القريب ويقرّب البعيد. هو هذا الّذي يعطيك ما تريد ثم يسلبه منك. هل أشكره على العطاء أم أذمّه على الاسترداد؟!

٥٠

قال حسين وهو يعود إلى حديث الذاكرة: كم تمنيّت أن تكون ذاكرتي كما تقول! لقد ذهبت يا عزيزي. ذهب بها هذا الزمان الّذي تتحدّث عنه. هذا الّذي يعطيك ما تريد ثم يسلبه منك. الذاكرة؟! هل تعلم أنّي أنسى اليوم ما سمعت بالأمس، وسأنسى غداً ما سمعت اليوم. وما تسمع منّي الآن، إن هو إلاّ استمرارية ذاكرة كانت قويّة، هو عمل ممتد لذاكرة قديمة قوية. ولكن دعنا من هذا. ماذا عندك من أخبار السياسة؟ يبدو أننا بانتظار أخبار دسمة، وهذا ما يبحث عنه الإعلام ويجعل سوقه رائجة، سوقه الكذب والتضليل والإثارة. ماذا فعل الإعلام، هذا الخطر الجديد، إنّه أخطر من جيش كامل، بل من جيوش.

قال فاضل وهو يعدّل وضع نظارتيه: أظنّك تريد الحديث عن الثورة الإيرانيّة: هذا الحدث الّذي يهز المنطقة ويشغل الناس اليوم، وربما لزمن طويل قادم.

قال حسين. أترى الناس يسألون هنا عن غير الثورة الإيرانيّة، هذه الأيام؟! إنّه الحدث الأكبر في المنطقة، وقد يكون كذلك في العالم. وبقدر ما يتعلّق الأمر بنا، فأظننا المعنيين به والمتأثرين بنتائجه أكثر من غيرنا، إنّ المنطقة كلها ستتأثر به وبنتائجه.

قال فاضل يبدو لي يا صاحبي أنّ كل شيء قد انتهى. قال ذلك بلهجة الواثق، ثم أضاف: لقد انتصرت الثورة، مشدداً على اللفظ، وعلى الأميركان أن يعترفوا بهزيمتهم ولا يكرروا تجربة فيتنام. إنّ الفشل يجب ألاّ يكرّر، والتجربة درس قد يكون ضرورياً إن استطاع أن يحصّنك ويدفع عنك مخاطر تجربة أخرى.

تجارب الحروب يا عزيزي أقسى التجارب، وهي تعني خسارة الأرواح والأموال، وهدر فرص للتقدّم ستكون مشلولةً أو معطّلة. لقد رحل الشاه، رجلهم في المنطقة. لم يعد إلاّ ذكرى مقيتة للطغيان والاسبتداد الّذي ما أسرع ما ينهار عند أول مواجهة مع الشعب حين يصمّم على استراد حقّه. لقد كان نموذجاً حقيراً لهؤلاء الحكّام الذين فرضوا على شعوبهم المقهورة بقوة الخارج وعملاء الداخل. ما أظن الغرب قادراً على أن يفعل اليوم ما فعله في بداية الخمسينات مع ثورة الدكتور مصدّق. هل تذكر؟! فر الشاه تحت غضب الجماهير وثورتهم. لكنّ الغرب ما لبث أن التّف على الثورة، بانقلاب قاده من الداخل أحد رجالهم: الجنرال زاهدي. لم تكن الثورة قد تمكّنت بعد من ترسيخ وجودها، فقضي عليها بوحشيّة.

٥١

قتل الكثيرون من قادتها أو أعدموا، واعتقل زعيمها الدكتور مصدّق. كانت ثورةً عظيمةً. لم تكن انقلاباً عسكرياً كما حصل قبلها وبعدها في دول المنطقة. أيام مشرقة من أيام الشعوب، حين تنهض وتبحث عن ذاتها من خلال الثورة على الحاضر البائس، سيسجّلها التأريخ، وسيحفظ لها مكانها بين ثورات الشعوب، رغم النهاية المأساويّة التي انتهت إليها. لقد تآمروا عليها وقتلوها فتيّةً. أرادوا أن يستريحوا منها. كانت أكبر مما ظنوا. بقيت حيّةً في النفوس لتلهب فيما بعد، ثورات وانتفاضات مزلزلةً، في إيران وغير إيران.

قال حسين وهو يتابع بانتباه ( محاضرة ) صديقه التي ليس مكانها المطعم: على أية حال لست متفقاً تماماً معك، فأرى أنّ الحكم على الأحداث الجارية الآن في إيران ما يزال مبكراً. ما أظن الأميركان سيعترفون بهزيمتهم فيها.

سيبقون يحاولون ويحاولون، حتى بعد رحيل الشاه. أميركا كما تعلم قوةٌ عظمى، أو حتى أكون أدقّ، هي الأولى بين أعظم قوّتين في العالم. إن فشلت في معركة اليوم، فهذا لا يعني أنّها استسلمت. إنّ لها من قوّتها العسكرية ونفوذها السياسي وقواعدها المنتشرة في كل أنحاء العالم وقدرتها على تحريك جماعاتها، ما قد يزعزع البلد الّذي تستهدفه، خارجيّاً: عقوبات ومقاطعة وإعلام واتهامات. وداخلياً: فتنٌ واضطرابات ومؤامرات ومشاكل في الأمن والاقتصاد. عملاؤها في كل مكان. ولولا هؤلاء العملاء، وبعضهم مسؤولون كبار في دولتهم، وبعضهم دول، بملوكها وحكامها ورؤسائها، لما كان لأميركا كل هذا النفوذ، وكل هذه السيطرة التي تمتلكها الآن. إنّ أميركا تسيطر بعملائها أكثر مما تسيطر بجيوشها؛ إنّهم الّذين يهيؤون لها أسباب التدخّل.

٥٢

نظر فاضل إلى ساعته ثم قال وهو ينهض. أظن الوقت قد تأخّر، وعليّ أن أعود، لقد مضى دون أن أشعر، مضى سريعاً كما هو، حين نريده أن يبطئ في لحظات سعيدة نحاول أن نغتنمها قبل أن تصبح ذكريات. لكم كان يسرّني أن أبقى أكثر، لكي لا أريد أن أسير في الليل. أنت تعرف طريق النجف، المهمل منذ جاء البعثيّون إلى الحكم. عقد تقدّم، وتقدمت النجف معه، إلى الخلف كثيراً! ألا يكفي أنّه طريق النجف؟! لم أره والله يوماً أسوأ منه في عهد هؤلاء، أهملوه تماماً كأنّهم يتعمّدون أن تزداد الحوادث فيه. يريدون الموت لمن يسير فيه. يريدون أن يقطعوا المدينة عن الناس فلا يصل إليها أحد، فالموت يترصده في أي مكان في الطريق. إنّ أهل النجف يسمّونه طريق الموت. هل تعلم كم من الناس يموتون في هذا الطريق كل يوم؟!

ونهض حسين في أثره وهو يقول: أبعد اللهُ السياسة؛ إنّها تلاحقنا أينما نكون. لقد أفسدت لقاءنا هذا بعد فراق طويل. ليكن لقاؤنا القادم خالصاً لنا، لا سياسة فيه ولا طريق الموت.

قال فاضل، وهل نستطيع؟! ليتنا نستطيع يا صاحبي.

وردّد الاثنان: ليتنا نستطيع، وهما يودّع أحدهما الآخر ويتفقان على موعد قريب.

٥٣

الفصل الحادي عشر

كان حسين مغتبطاً بادي السرور حين دخل البيت. لقد التقى بأحد أعزّ صديقين له، بعد فراق طويل. كان صديقه الثاني في ذلك الوقت، دبلوماسياً في السنغال بأفريقيا.

قالت له زوجته وهي تستقبله: أظنّك سعيداً الآن، أرى آثار السعادة والارتياح ظاهرةً عليك. لقد استعدتما ذكريات الشباب وأيام الدراسة وأزقّة النجف وملا سلمان وصالح الجعفري، ثم أضافت ضاحكةً، وربما حب قديم لم تخبرني به، لكن إيّاك أن تقول لي، إنّكما أضعتما الوقت في حديث السياسة.

قال: والله لست مخطئة وأنت تذكرين السياسة، لقد كانت حاضرة. لا أدري ما الّذي جاء بها. إنّها في ظروفنا الحالية، المحطة المركزية في التفكير، ننطلق منها لنعود إليها. من يريد السفر ومن يعود منه. كأنّها ملتقى طرق لا يستطيع المسافر إلاّ أن يمر به، ويتوقّف عنده، طويلاً أو قصيراً، لا يهم. ولكن ما عندكم أنتم؟! كيف الأولاد؟! كيف علي؟! هل أنهى واجباته؟! أين هو الآن؟!

قالت زوجته: سأناديه لك. إنّه مضطرب منذ عاد اليوم من المدرسة. لقد تعبت معه. ربّما استطعت أن تفهم سبب اضطرابه وتطمئنه.

قال: ما به؟! ماذا حصل له؟! هل تعرّض لمكروه في المدرسة؟! هل تشاجر مع زميل له؟! هل أخذ نتيجته في امتحان التاريخ، وكانت سيّئةً؟!

قالت: لا. لا شيء من ذاك.

قال: ماذا إذن؟

وفي هذه الأثناء، دخل علي، كان مرتبكاً بعض الشيء. إنّه طالب في المدرسة الابتدائية يتميّز بين طلاب الصف، ومحل إعجاب أساتذته.

قال له أبوه وهو يتلقاه بابتسامة الأب لابنه: ها كيف الدراسة يا علي؟ هل أخذتم نتائج الامتحان في التاريخ؟

قال: لا. لم تعد لنا المعلّمة أوراق الامتحان ولم تخبرنا النتائج.

٥٤

قال الأب: ماذا بك؟ أمك تقول إنّك قلق حزين منذ عدت من المدرسة. لم تجلس مع إخوتك وأمّك ولم تضحك كما اعتدت. فماذا بك؟ ما يحزنك؟

قال علي بصوت متقطّع، ودمعات صغيرة قد سالت على خديّه: دخل علينا مرشد الصف في الحصّة الأولى، وبدأ يسأل الطلاب واحداً واحداً: هل تحب الحزب؟

نعم أحبّه: قال كل منّا وهو يرد على السؤال.

وهل أنت منتم إليه؟

لا.

هل تريد أن تنتمي للحزب؟ وكان معه أحد البعثيين من خارج المدرسة: رجل غليظ أسمرٌ كثّ الشاربين، بقميص مفتوح وبنطلون من دون سترة، ومعه أوراق طلب بالانتماء. كنا نحير، لا ندري ما نفعل، لا نستطيع أن نقول إنّنا لا نحب الحزب. وإذا قلنا: نحبّه، قال، لماذا لا تنتمي إلى الحزب ما دمت تحبّه.

وحين وصل الدور إليّ، كان الرجل الغليظ ينظر إليّ بعينين تتقدان غضباً. خفت فقلت أنتمي.

وقدّم لي ورقةً كتبت في ذيلها ووقّعت. وقّع طلاب الصف كلّهم. ومع توقيع آخر طالب، صفّق الجميع وهتفوا لطلائع البعث.

لقد خوّفوني وأجبروني. لماذا يفعلون هذا يا بابا؟! هل ارتكبت خطأً؟ هل تسامحني؟! لقد وقّعت، ووقّعنا جميعاً، لم يكن أمامنا إلاّ أن نقبل ونوقّع. هذا هو سبب قلقي وحزني، فأنا أكره هذه العصابة. لقد سمعت الكثير عن جرائمهم. ألم يكن عمّي وابن خالتي من ضحاياهم؟! وابتسام، بنت جارنا عمو كريم، لا أحد يعرف عنها شيئاً حتى الآن، منذ أن جرّوها من باب بيتها؟! كيف أحبّهم وأنتمي لحزبهم لولا الخوف؟! أهو حزب، هذا الّذي لا ينتمي إليه الناس الاّ بالخوف والإرهاب، خصوصاً نحن الصغار!

٥٥

- أي أسلوب خبيث في استدراج الطلاب الصغار؟! قال الأب ذلك في نفسه وهو يستحضر بما تعرّض له قبل أسبوع. لم يكن مختلفاً كثيراً عما تعرّض له ابنه، مع فارق السن. في ذلك اليوم أرسل المدير في طلبه، وهو لم يلق الوزير إلا مرةً واحدة منذ أن عيّن وزيراً للماليّة. فكّر ( ما الّذي يدعوه - الوزير - إلى طلبي؟! قد يكون شيئاً يخص الوزارة، أو عملي فيها - الأمور كثيرة، ومن حق الوزير أن يستدعي أيّ موظف في وزارته ويسأله عما يخص عمله ) لكنّه لم يفكر مطلقاً في السبب الحقيقي وراء استدعائه.

وحين دخل مكتب السكرتارية، لم يتأخر ولم ينتظر كما هو شأن الّذين يطلبون مقابلة الوزير. قال مدير المكتب وهو يسبقه إلى فتح الباب:

إنّ الوزير في انتظاره. وعندما حاول أن يستفسر منه، كان الباب قد فتح وكان الوزير أمامه.

ورحّب به الوزير على غير عادته مع موظفي وزارته، خصوصاً من غير البعثيين، ثم أمر له بكوب شايّ بعد أن سأله عما يفضّل أن يشرب. قال، وهو يبدأ الحديث معه: إنّي معجب بحرصك وجدّك في عملك، وقد أردت أن أشكرك، فلا بدّ أن يشكر الموظف الحريص الجاد، على حرصه وجدّه.

قال حسين: إنّه واجب ولا يشكر الإنسان على واجب يقوم به. إنّ الوظيفة والموظف وجدا لخدمة الناس وتسهيل أمورهم، وليس في هذا فضلٌ، لا لي ولا لغيري.

وعاد الوزير ليقول: لست وحدي الّذي يشكرك، وإنّما الحزب أيضاً. وقد كلّفني أن أقدم لك شكره. وبهذه المناسبة، فإن أبواب الحزب مفتوحةٌ أمامك، وهو يرحّب بانضمامك إليه. إنّه يرحّب بكل العناصر الخيّرة المؤمنة بخط الحزب وفكره. وأنت تعرف أفضل من غيرك، كم قدّم الحزب من تضحيات لتحقيق أهداف الأمّة العربيّة والشعب العراقي. كم من الرفاق المناضلين. لقد تحمّل الحزب عبء النضال طوال عقود، والرفيقان البكر وصدام هما اليوم أصل الجماهير العربية في الوحدة والحريّة والاشتراكيّة. هذا ما لا يختلف فيه اثنان. سيكون المستقبل واسعاً أمامك، وأنت جدير بأن تشغل منصباً أعلى، سيّما وأنّ ترفيعك على الأبواب. من يدري، لعلك ستشغل منصب وكيل الوزارة الشاغر الآن. قال ذلك وهو يبتسم في وجه حسين، يريد أن يعرف مدى استجابته لما عرض عليه.

٥٦

ضحك حسين في سرّه وردّد: الآن عرفت لماذا استدعيتني. لا والله. لن أدخل الشرك. لن أكون مجرماً ولن أنضم لعصابة المجرمين. أأكثر من تأخير التوقيع أو النقل أو الإحالة على التقاعد؟! لقد ضحّى الآخرون بأكثر من هذا، بالأرواح والأمن والاستقرار، وأين تقع تضحيتي من تضحياتهم؟! أين تأخير الترفيع أو النقل مما يتعرض له المناضلون، وهم يرون الموت كل ساعة ويتمنّونه ليريحهم من التعذيب الّذي لا يحسنه مجرم كما يحسنه هؤلاء البعثيون؟! أهذا هو تهديدك:

أن أترك الترفيع أو العلاوة، حتى النقل والإحاله على التقاعد، أو أن أكون مجرماً، ما أسهل الخيار! لقد قبلت التهديد، قبلت التحدي، ما شئت فافعل؛ قبلت.

كان حسين قد ارتاح حين حسم خياره، وأظنّه كان قد حسمه قبل ذلك اليوم. قال للوزير الّذي كان يغريه ويطمّعه وينتظر ردّاً إيجابيّاً منه: أنت تعرف يا سيادة الوزير، أنّي قد بلغت أو تجاوزت الخمسين من عمري، ولم أنضم في حياتي لأي حزب، ولا أريد أن أنضم لأي حزب.

قال الوزير: لكنّه حزب البعث، حزب الأمّة وجماهيرها. ليس كباقي الأحزاب.

قال حسين: أنا لا أنكر ذلك أنا أحترم الحزب وأقدّره، لكني بكل بساطة، لا أريد أن أرتبط بأيّ حزب، فأنت تعرف أنّ الدوام في الوظيفة يأخذ أغلب الوقت، وما بقي منه، فإنه حق للعائلة والأولاد، وزيارات بعض الأقارب والأصدقاء، أو القراءة، إذا فضل شيء بعد ذاك.

قال الوزير وهو يحاول أن يسدّ المنافذ على حسين: وأيّ منا لا عائلة له ولا أولاد؟! أليس للبكر عائلةٌ وأولاد؟! أليس للرفيق صدام عائلةٌ وأولاد؟! لا، لا. هذا العذر مردودٌ ولا أقبله منك، بل إنّه تهرّب غير مقبول.

قال حسين: إنّ الانتماء لأيّ حزب تترتّب عليه التزامات، وأنا في هذه الظروف لا أستطيع أن أنفّذ هذه الالتزامات ولا أفي بها، مع اعتزازي بثقتكم الشخصية وثقة الحزب. لعل ظروفي ستسمح لي بالانتماء مستقبلاً، سيسعدني ذلك يا سيادة الوزير.

٥٧

قال الوزير بعدما تبين الجد في رفض حسين الانتماء للحزب: على كلٍّ، فكّر فيما قلت لك. تذكّر أنّهم سيدرسون ملفّك بعد أيام، واحتمالات النقل أو عدم الترفيع أو... واردة لا تعتب عليّ. ستكون أنت المسؤول لو حصل شيء منها. قال ذلك وهو يغمزه بنظرة فيها التهديد وفيها الوعيد. ثم أعلن انتهاء المقابلة.

كان حسين يستحضر هذه المقابلة في ذهنه، منصرفاً عن الآخرين، حين قطع عليه ابنه علي تفكيره قائلاً: بابا! هؤلاء الّذين يقتلون ويعذّبون، هل يقال عنهم، بشر كما يقال عنا نحن الذين لا نقتل ولا نؤذي ولا نعذّب.

وكان جواب الأب قبلةً على جبين علي، قبل أن يذهب إلى سريره لينام.

٥٨

الفصل الثاني عشر

ثنائي البكر - صدام

لم يكن صدام التكريتي - وهكذا كان اسمه - معروفاً لدى العراقيين إلاّ كواحد من أفراد العصابة التي حاولت اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد خريف عام ١٩٥٩.

وحتى بين هؤلاء، لم يكن هو زعيمهم ولا المتقدّم فيها.

وحين قام انقلاب ١٩٦٨ برز اسم صدام وأخذ يتردد على مسامع الناس، لكنّه كان واحداً من بين آخرين تتردد أسماؤهم.

كان صدام من تكريت: مدينة أحمد حسن البكر أيضاً، الّذي أعلن عنه كقائد للإنقلاب. وكان هذا بدون شك من أسباب تقدّمه وتجاوزه لأقرانه من البعثيين.

ولم يكن صدام من بيت من بيوت تكريت المدينة الصغيرة الواقعة في شمال بغداد، في الطريق الذاهب إلى الموصل، والتي كانت تابعة لسامراء فأصبحت في زمن البعث، مركز المحافظة تحمل اسم صلاح الدين، وتتبعها مدن كثيرة منها سامراء نفسها.

وكان صدام يعاني من الفقر والحرمان في طفولته وصباه. لكنّه كان يعاني في داخله مما هو أكثر وأخطر عند العراقيين آنذاك: عقدة الأهل التي يهتمون بها ويمنحونها الكثير من تفكيرهم، وقد يختلق بعضهم نسباً واسماً له يستدبل به نسبه واسمه، إن استطاع وربّما كانت هذه العقدة، عقدة الأهل، وراء حقد صدام على كل من ينتمي إلى بيت رفيع أو أسرة كريمة، حرم هو منها.

وظلّت هذه العقدة تلاحقه وتحكم تصرفاته، حتى بعدما أصبح القائد والرئيس والزعيم الّذي لا ينازعه أحدٌ في سلطانه. لكم ضحك العراقيون، وهم يرونه ويرون ابنيه، خصوصاً عدي، في زيّ الشيوخ والزعماء، يقلدونهم في لهجتهم وسلوكهم وحركاتهم. إنّهم يعرفون جيداً من يكون صدام والبيئة التي نشأ فيها. يعرفون جيداً أنّ أمه اضطرت للزواج من رجل آخر بعد أبيه، حارس في إحدى المدارس الابتدائية، لتجد من يتكفّل بها وبابنها صدام.

٥٩

ولم يتميّز صدام بذكاء خارق، ولم يكن في حاجة إليه، وهو يلتحق بحزب البعث، لكنّه كان الأعنف في عصابة لا يقوم فكرها إلاّ على العنف، والأكثر دمويّةً في حزب لا ينهض إلاّ على الجماجم والدم، كما يعلن نشيده الّذي يردده البعثيّون.

وسرعان ما صعد صدام إلى المواجهة متخطيّاً كل الّذين كان من الممكن أن ينافسوه أو يتجاوزوه، بعد أن أحكم سيطرته على الأجهزة المتنفذّة في الحزب، سيّما الأمنيّة منها. قتل البعض وخوّف البعض وتآمر على البعض. لم يعد له من منافس داخل الحزب، فلم يأت عام ١٩٧٥ حتى كان صدام نائباً لرئيس الجمهوريّة ورجل الحزب القوي والموجّه لسياساته في الداخل والخارج.

لم يبق أمامه إلاّ أحمد حسن البكر مجرّداً من كل عناصر القوّة. كان صدام يتّخذ القرارات، ومهمّة البكر التوقيع عليها لتصدر باسمه من حيث الشكل، وإذا كان في هذه القرارات ما يثير الناس أو يغضبهم، أسرع جهاز صدام الإعلاميّ الضخم إلى الاستفادة من هذه الفرصة وإلقاء التهمة على البكر وتشويه صورته.

كأنّ يداً خبيثة كانت ترفع به إلى الواجهة...

أصبح البكر مجرّد لوحة تقرأ فيها تأريخ الانقلاب أو ديكوراً بلغة هذه الأيّام. كان مراقباً في كل نشاطه، حتى داخل بيته، فاللاقطات المنتشرة في كل أنحاء البيت والمكتب تنقل لصدام كل ما يتفّوه به البكر مع أهله أو من بقي من أصحابه حين يلتقي بهم.

انتهى الرجل الّذي ولد في تكريت عام ١٩١٤ ووصل رتبة عميد في الجيش العراقي وأصبح رئيس الوزراء في انقلاب ١٩٦٣، والّذي حنث باليمين الّذي أقسم عليه يوماً لعبد السلام عارف بأنّه لن يشارك في أيّ عمل سياسي يقوم به حزب البعث

وبدأ صدام العمل لإزاحة البكر نهائيّاً عن المسرح السياسي. لقد أستنفده تماماً ولم يعد بحاجة إليهم حتى من الناحية الشكليّة، وربّما العكس.

واقتربت أيام تموز: موعد الاحتفالات بذكرى ثورة الرابع عشر منه للشعب العراقي و١٧ منه للبعثيين. واتسع الهمس وانتشر: أنّ صدام سيتولى رئاسة الجمهوية بدلاً من البكر.

٦٠