المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى5%

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 353

  • البداية
  • السابق
  • 353 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47847 / تحميل: 8162
الحجم الحجم الحجم
المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

مع أنّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) لم يصرّح باسم الراوي. وأصرح من هذا حيث يقول: (على أنّ هذه الأخبار كلّها قد طعن أصحاب الحديث ونقّاده على رواتها، وضعّفوهم، وقالوا في كلّ واحد منهم ما هو مسطور لا معنى للتطويل بإيراده). (١)

وصرّح في مواضع أُخرى قائلاً: (إنّ هذا خبر واحد، وإن كنّا لا نعرفه ولا ندري عدالة رواية، وقد بيّناه في غير موضع أنّ أخبار الآحاد العدول لا تقبل في أحكام الشريعة). (٢)

وأصرح من هذا النصّ قوله: (إنّ هذه أخبار آحاد تنفردون بها، ولا نعرف عدالة رواتها، ولا صفاتهم). (٣)

الظواهر والعموم في الأخبار:

أكّد الشريف المرتضى (قدس سرّه) في عدّة مواضع على أنّه لا يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة بما يقتضي الظن (٤) . وأنّ اللجوء إلى الخبر الواحد أو القياس ما فيهما ما يوجب العلم فيترك له ظاهر القرآن. (٥)

نعم، في بعض تعابيره أنّ العمل بالكتاب أولى من العمل بالخبر (٦) ، لكنّه هو الأسلوب المتّبع في الناصريات الّذي فيه شيء من الرقّة واللطافة بالنسبة إلى الجمهور، فحينئذٍ لا تصحّ مخالفة الكتاب بالخبر الواحد. (٧)

____________________

(١) الانتصار: ص٢٦٩.

(٢) المصدر السابق: ص٣٧٦.

(٣) المصدر السابق: ص٤٠٨.

(٤) الانتصار: ص١١١، ٤٣٢، ٥١٨، ٥٨٣، مسائل الناصريات: ص٤٢٣.

(٥) الانتصار: ص٣٩٧.

(٦) مسائل الناصريات: ص٤٠٨.

(٧) الانتصار: ص٥٥٢، ٥٥٧.

١٢١

ولا يُخصّ عموم الكتاب بأخبار الآحاد ولو ساغ العمل بها في الشريعة (١) ؛ لأنّها توجب الظن ولا يُخصّ ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب. (٢)

وهذا الكلام من الشريف المرتضى (قدس سرّه) ما هو إلاّ تعريضاً بأخبار المخالفين؛ لأنّهم يذهبون إلى تخصيص ظواهر القرآن الكريم بآخبار الآحاد، أو أنّهم ينتقلون عن حكم الأصل في العقول بأخبار الآحاد، أو أنّهم يعملون في الشريعة بأخبار الآحاد. (٣)

نعم، غير خبر الواحد من الأخبار الّتي هي معلومة فهي تخصّ الكتاب؛ لأنّ العموم قد يختصّ بدليل، ويترك ظاهره بما يقتضي بتركه الظاهر. (٤)

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وليس لهم أن يقولوا: إنّنا نخصّ الآية الّتي ذكرتموها بالسنّة؛ وذلك أنّ السنّة الّتي لا تقتضي العلم القاطع، لا نخصّ بها القرآن كما لا ننسخه بها، وإنّها يجوز بالسنّة أن نخصّ أو ننسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين. (٥)

وعلى هذا الأساس إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها، ورجعنا إلى ظاهر نصّ الكتاب. (٦)

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالرجوع إلى الكتاب في ما التبس من

____________________

(١) مسائل الناصريات: ص٢٧٦، ٤٢٣، جوابات المسائل الموصليات الثالثة: ص٢٥٧، (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

(٢) الانتصار: ص٥٨٨، ٥٠٢، ٥١٧.

(٣) الانتصار: ص٢٦٢ - ٢٦٣، جوابات المسائل الرازية: ص١٠٠ (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

(٤) جوابات المسائل الموصليات الثانية: ص١٩٠ (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

(٥) الانتصار: ص٥٥٤.

(٦) المصدر السابق: ص٩٢.

١٢٢

الأخبار وعرضها عليه). (١)

ويفصّل (قدس سرّه) في موضع آخر قائلاً: (إنّ الرسول أمرنا بالرجوع إلى الكتاب عند التباس الأخبار، وقال: ستكثر عليّ الكذّابة من بعدي، فما ورد من خبر فاعرضوه على الكتاب.... والأخذ بما يوافقه دون ما يخالفه...؛ لأنّ الكتاب أصل ودليل على كلّ حال، وحجّة في كلّ موضع، والأخبار ليست كذلك، فعرْضُنا ما لم نعلم صحّته منها على الكتاب الّذي هو الدليل والحجّة على كلّ حال وفي كل ّوقت). (٢)

ومن هذا المنظار والمنطلق ينجرّ البحث إلى نفس الخبر وحده فلا يمكن تخصيص ظاهره، بل يبقى على إطلاقه وعمومه، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وليس لأحد أن يصرف ذكر النوم في الأخبار الّتي ذكرناها...؛ وذلك أنّ الظاهر يقتضي عموم الكلام وتعلّقه بكلّ من يتناول الاسم، وتعلّقه بنوم دون نوم تخصيص للعموم بلا دلالة) (٣) ، يقدم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً. (٤)

وكذلك البحث في تعارض الخبرين، كما إذا ورد خبر عام اللفظ وآخر خاص، فيبنى العام على الخاص؛ لكي يستعمل الخبرين ولا يطرح أحدهما. (٥)

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): وهذه الرواية أولى من روايتهم؛ لأنّها تثبت الإعادة وتلك تنفيها). (٦) فأصالة الإثبات مقدّمة على أصالة النفي.

نعم، لم يرتضِ الشريف المرتضى (قدس سرّه) تقديم تأويلات بعض الأخبار على بعض؛

____________________

(١) المصدر السابق: ص٥٤.

(٢) رسالة في الرد على أصحاب العدد: ص٥٦ (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).

(٣) مسائل الناصريات: ص٣١٩، ١٣٥؛ الانتصار: ص٤٢٦.

(٤) الانتصار: ص٢١٩.

(٥) المصدر السابق: ص٩٢.

(٦) مسائل الناصريات: ص٢٤٤.

١٢٣

لأجل أنّ هذا ترك للظاهر بعيد التأويل: فإنّ الظاهر يقضي عليه. (١)

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها ورجعنا إلى ظاهر نصّ الكتاب). (٢) فالظاهر عند الشريف المرتضى (قدس سرّه) بمكان من الأهمية، ويقول أيضاً: (وهذان الوجهان فيها على كلّ حال ترك الظاهر الخبر؛ لإدخال زيادة ليست في الظاهر والتأويل الأوّل... مطابق للظاهر وغير مخالف له). (٣)

ومن هذا المساق يلحق ادعاء الحذف في الأخبار، حيث يقول (قدس سرّه): (الكلام على ظاهره، ولا له أن يدّعي حذفاً في الخبر...؛ لأنّ الظاهر لا يقتضي الحذف، ونحن مع الظاهر). (٤)

وأكّد الشريف المرتضى (قدس سرّه) على قيدين آخرين، واعتبرهما أحد المرجّحات الدلالية في الخبر، وهما:

١ - ما كان له مخرج في اللغة.

٢ - ما كان له تأويل معقول.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في هذا المجال: (ولا أرى لإحدى الروايتين على الأخرى رجحاناً؛ لأنّ كلّ واحدة منهما قد أتت من جهة من يسكن إلى قوله، ولكل منهما مخرج في اللغة، وتأويل يرجع إلى معنى واحد). (٥)

النسخ في الأخبار:

في هذا المقطع نجمل القول في نسخ الأخبار مقتصرين على ما ورد في الموروث

____________________

(١) الانتصار: ص٥٣١.

(٢) المصدر السابق: ص٩٢.

(٣) جوابات المسائل الرازية: ص١٢٠ (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأُولى).

(٤) مسائل الناصريات: ص١٩٦ - ١٩٧.

(٥) أمال المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٤٥٧.

١٢٤

الفقهي عند الشريف المرتضى (قدس سرّه)، تاركين تفصيل المباحث إلى فصول أُخرى، خصوصاً الفرع الأُصولي.

ويجزم الشريف المرتضى (قدس سرّه) في عدّة من مباحثه الفقهية بأنّ نسخ الكتاب بأخبار الآحاد غير جائز، فهو يقول: (فأمّا الأخبار الّتي رووها من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مسح على خفّيه... فلا تعارض ظاهر الكتاب، لأنّ نسخ الكتاب أو تخصيصه بها - ولا بدّ من أحدهما - غير جائز). (١)

وأصرح من هذا النصّ ما قاله (قدس سرّه): (ولا يجوز أن ينسخ بما يقتضي الظنّ كتابَ الله تعالى الّذي يوجب العلم، وإذا كنّا لا نخصّص كتاب الله تعالى بأخبار الآحاد فالأولى ألاّ ننسخه بها، وقد بيّنا ذلك في كتابنا في أصول الفقه وبسطناه). (٢)

ويستدرك الشريف المرتضى (قدس سرّه) قائلاً: إنّ النسخ يصحّ لو كانت هناك دلالة، ومقصوده بالدلالة هي القرينة القطعية، وإلاّ فإنّ أخبار الآحاد حالها حال القرائن الظنية، ويقول بهذا الصدد: (وممّا انفردت به الإمامية: أن تقول في الأذان والإقامة بعد قول (حي على الفلاح): (حي على خير العمل...).

وقد روت العامّة: أنّ ذلك ممّا كان يقال في بعض أيّام النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما ادّعي أنّ ذلك نُسخ ورفع، وعلى من ادّعى النسخ الدلالة، وما يجدها). (٣)

وفي مطاف بحثنا هذا يعرّج الشريف المرتضى (قدس سرّه) على توضيح حقيقة النسخ، فيقول: (ليس كلّ زيادة في النصّ نسخاً، وإنّما تكون نسخاً إذا غيّرت حال المزيد عليه وأخرجته من كلّ أحكامه الشرعية....

على أنّه لو كان الأمر على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة: في أنّ الزيادة في

____________________

(١) مسائل الناصريات: ص١٣١.

(٢) الانتصار: ص٥٩٩.

(٣) المصدر السابق: ص١٣٧.

١٢٥

النصّ نسخ على كلّ حال (١) - من غير اعتبار بما ذكرناه - لَما جاز أن يحكم في الزيادة إنّها نسخ إلاّ إذا تأخّرت عن دليل الحكم المزيد عليه، فأمّا إذا صاحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخاً؛ لأنّ اعتبار تأخّر الدليل في الناسخ واجب عند كلّ محصّل). (٢)

فمن النصّ نستفيد:

١ - إنّ حقيقة النسخ هي: أنّها تغيّر حال المزيد عليه، وتخرجه من كلّ الأحكام الشرعية.

٢ - إنّ حقيقة النسخ هي: إنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صاحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخاً.

____________________

(١) انظر: فواتح الرحموت (هامش المستصفى): ج٢، ص٩٢.

(٢) مسائل الناصريات: ص٤٣٠.

١٢٦

الفصل الثالث

منهجه في المباحث الأصولية

تمهيد:

النسخ.

ـ نسخ القرآن الكريم بالسنّة الشريفة.

ـ نسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريم.

ـ نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخر.

تخصيص عموم الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاد.

تخصيص العموم بأقوال الصحابة.

الفوارق المنهجية بين التخصيص والنسخ.

خبر الواحد عند الشيعة.

عدم العلم بخبر الواحد.

جواز التعبّد بخبر الواحد وعدمه عقلاً.

التعبّد بخبر الواحد وعدمه شرعاً.

الخبر المتواتر.

المتحمل للخبر، والمتحمل عنه، وكيفية ألفاظ الرواية عنه.

حجية ظواهر السنّة في إثبات الأحكام الشرعية.

عدم حجّية الأخبار المنقولة عن طريق أصحاب الحديث.

العمل بأخبار الجمهور.

١٢٧

١٢٨

تمهيد:

في هذا الفصل نتعرّض للمنهج الأُصولي، وسوف نقصر البحث عمّا ورد في كتاب الذريعة، إذ يعتبر كتاب الذريعة إلى أُصول الشريعة من الكتب الفاخرة في أُصول الفقه الشيعي الإمامي، وهو مطبوع في مجلّدين، بتحقيق دقيق في أربعة عشر باباً. وقد اشتمل كلّ باب على عدّة فصول، وهذا الكتاب في غاية الأهمية لعدّة أُمور:

١ - إنّه أوّل كتاب كامل في أُصول الفقه الشيعي الإمامي، وما كتب قبله إنّما كان من قبيل فصول متناثرة، وأغلبها مستلّة من أُصول الجمهور. نعم، وإن طرحت في الذريعة عدّة كبيرة من آراء أهل السنّة وفحولهم في باب الأُصول، ولكن عمق آراء الشريف المرتضى (قدس سرّه) وسعة نقده جعل من هذا الكتاب منظومة أُصولية مستقلّة توازي، بل تفوق في كثير من مباحثها أُصول الجمهور.

٢ - يصرّح الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مقدّمة كتاب الذريعة بأنّ مقصوده من تأليف الكتاب هو إملاء كتاب متوسط في أُصول الفقه لا ينتهي بتطويل إلى الإملال، ولا باختصار إلى الإخلال، بل يكون للحاجة سداداً، وللبصيرة زناداً، ويخصّ مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء؛ لأنّ مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها إلى ذلك.

٣ - يذكّر الشريف المرتضى (قدس سرّه) القارئ على أنّ في هذا الكتاب قد فصل بين علم الكلام وعلم الأُصول، يقول (قدس سرّه) في مقدّمة كتابه: (فقد وجدت بعض من أفرد في

١٢٩

أُصول الفقه كتاباً، وإن كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومبانيه، قد شرّد من قانون أصول الفقه وأسلوبها، وتعدّاها كثيراً وتخطّاها، فتكلّم على حدّ العلم والظّنّ وكيف يولّد النظر العلم، والفرق بين وجوب المسبّب عن السّبب، وبين حصول الشّيء عند غيره على مقتضى العادة، وما تختلف العادة وتتّفق، والشّروط الّتي يعلم بها كون خطابه تعالى دالاًّ على الأحكام وخطاب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والفرق بين خطابيهما بحيث يفترقان أو يجتمعان، إلى غير ذلك من الكلام الّذي هو محض صرف خالص للكلام في أُصول الدّين دون أُصول الفقه.

فإن كان دعا إلى الكلام على هذه المواضع أنّ أصول الفقه لا تتمّ ولا تثبت إلاّ بعد ثبوت هذه الأُصول، فهذه العلّة تقتضي أن يُتكلّم على مسائل أُصول الدّين من أولّها إلى آخرها وعلى ترتيبها؛ فإنّ أُصول الفقه مبنيّة على جميع أُصول الدّين مع التّأمّل الصّحيح، وهذا يوجب علينا أن نبتدئ في أُصول الفقه بالكلام على حدوث الأجسام، وإثبات المحدِث وصفاته وجميع أبواب التّوحيد، ثمّ بجميع أبواب التّعديل والنّبوات، ومعلومٌ أنّ ذلك ممّا لا يجوز فضلاً عن أن يجب. والحجّة في اطّراح الكلام على هذه الأُصول من الحجّة في اطّراح الكلام على النّظر وكيفيّة توليده وجميع ما ذكرناه.

وإذا كان مضى ذكر العلم والظّنّ في أُصول الفقه اقتضى أن يذكر ما يولّد العلم، ويقتضي الظّن، ويتكلّم في أحوال الأسباب، وكيفيّة توليدها، فألاّ اقتضانا ذكرنا الخطاب الّذي هو العمدة في أُصول الفقه، والمدار عليه أن نذكر الكلام في الأصوات وجميع أحكامها، وهل الصّوت جسم أو صفة لجسمٍ أو عرض؟ وحاجته إلى المحلّ وما يولّده وكيفيّة توليده.

وهل الكلام معنىً في النّفس، أو هو جنس الصّوت، أو معنى يوجد مع الصّوت؟ على ما يقوله أبو عليّ.

١٣٠

فما التشاغل بذلك كلّه إلاّ كالتشاغل بما أشرنا إليه ممّا تكلّفه، وما تركه إلاّ كتركه.

والكلام في هذا الباب إنّما هو الكلام في أُصول الفقه بلا واسطة من الكلام فيما هو أُصولٌ لأُصول الفقه.

والكلام في هذا الفنّ إنّما هو مع من تقرّرت معه أُصول الدّين وتمهّدت، ثمّ تعدّاها إلى غيرها ممّا هو مبني عليها.

فإذا كان المخالف لنا مخالفاً في أُصول الدّين، كما أنّه مخالف في أُصول الفقه، أحلناه على الكتب الموضوعة للكلام في أُصول الدّين، لم نجمع له في كتاب واحد بين الأمرين). (١)

وقد سعى الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن يذكر آراء العلماء في كلّ مسألة مع أدلّتهم بالتفصيل، ويردّهم بروح علمية موضوعية، بغض النظر عن توجّهاتهم العقائدية وآرائهم الدّينية، ومضيفاً إليها أدلّة جديدة وبحوثاً تحقيقية، كما نشهد ذلك في بحثه في القياس والإجماع. نعم، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مقدّمة كتابه:

(ولعلّ القليل التافه من مسائل أُصول الفقه، ممّا لم أملل فيه مسألة مفردة مستوفاة مستقلّة مستقصاة، لا سيّما مسائله المهمّات الكبار. فأمّا الكلام في الإجماع فهو في الكتاب الشافي والذخيرة مستوفىً، وكذلك الكلام في الأخبار، والكلام في القياس والاجتهاد بسطناه وشرحناه في جواب مسائل أهل الموصل الأُولى.

وقد كنّا قديماً أمللنا قطعة من مسائل الخلاف في أُصول الفقه، وعلّق عنّا دفعات لا تحصى من غير كتاب يقرأه المعلّق علينا من مسائل الخلاف على غاية الاستيفاء دفعات كثيرة، وعُلّق عنّا كتاب العمدة مراراً لا تحصى.

والحاجة مع ذلك إلى هذا الكتاب الّذي قد شرعنا فيه ماسة تامّة، والمنفعة به

____________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة: ج١، ص٢ - ٤.

١٣١

عامّة؛ لأنّ طالب الحقّ من هذا العلم يهتدي بأعلامه عليه، فيقع من قرب عليه، ومن يعتقد من الفقهاء مذهب بعينه تقليداً أو إلفاً في أُصول الفقه ينتفع بما أوضحناه من نصرة ما يوافق فيه. ممّا كان لا يهتدي إلى نصرته وكشف قناع حجّته. ولا يجده في كتب موافقيه ومصنّفيه، ويستفيد أيضاً فيما يخالفنا فيه، إنّا حرّرنا في هذا الكتاب شُبهه الّتي هي عنده حجج وقرّرناها، وهذّبناها، وأظهرنا من معانيها ودقائقها ما كان مستوراً، وإن كنّا من بعد عاطفين على نقضها وإبانة فسادها، فهو على كلّ حال متقلّب بين فائدتين متردّد بين منفعتين. (١)

٤ - ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مقدّمة هذا الكتاب أيضاً:

(فهذا الكتاب، إذا أعان الله تعالى على إتمامه وإبرامه، كان بغير نظير من الكتب المصنّفة في هذا الباب، ولم نعن في تجويدٍ وتحرير وتهذيب، فقد يكون ذلك فيما سبق إليه من المذهب والأدلّة، وإنّما أردنا أنّ مذاهبنا في أُصول الفقه ما اجتمعت لأحد من مصنّفي كتب أُصول الفقه، وعلى هذا فغير ممكن أن يستعان بكلام أحد من مصنّفي الكلام في هذه الأُصول؛ لأنّ الخلاف في المذاهب والأدلّة والطرق والأوضاع يمنع من ذلك، ألا ترى أنّ الكلام في الأمر والنهي الغالب على مسائله والأكثر والأظهر أُخالف القوم فيه، والعموم والخصوص، فخلافي لهم وما يتفرّع عليه أظهر، وكذلك البيان والمجمل والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد ممّا خلافي جميعه أظهر من أن يحتاج إلى إشارة، فقد تحقّق استبداد هذا الكتاب بطرق مجدّدة لا استعانة عليها بشيء من كتب القوم المصنّفة في هذا الباب. وما توفيقنا إلاّ بالله تعالى). (٢)

٥ - وقد كان هذا الكتاب محطّ نظر العلماء، أخذاً من الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في عدّته حتّى صاحب قوانين علم الأُصول الميرزا القمّي (قدس سرّه) وإلى يومنا هذا. حتّى أنّا نرى تأثير آراء الشريف المرتضى (قدس سرّه) على نظرات العلماء فيما بعده، وفي كثير منها قد

____________________

(١) المصدر السابق: ص ٤ - ٥.

(٢) المصدر السابق: ص ٥ - ٦.

١٣٢

نقلت صفحات وبحوث طويلة من هذا الكتاب، وفي بعضها قد غيّرت بعض صور الاستدلال التي استدلّ بها الشريف المرتضى (قدس سرّه)، أو بعض تراتيب البحوث، كما نشهد ذلك جلياً في العدّة للشيخ الطوسي (قدس سرّه)، وهذا ليس غريب؛ لأنّ هناك نظريات جديدة قد احتواها هذا الكتاب، كما في استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أو أنّ من علائم الحقيقة هو استعمال المجرّد، من أراد الإحاطة بها فعليه مراجعة مقدّمة الذريعة بقلم الدكتور أبو القاسم الكرجي؛ فإنّه قد أجاد وأحسن.

٦ - وأخيراً فقد أتحفنا الشريف المرتضى (قدس سرّه) بتحفة في مقدّمة كتابه، وهي وجه تسمية كتابه قائلاً: (وقد سمّيته بالذريعة إلى أُصول الشريعة؛ لأنّه سبب ووصلة إلى علم هذه الأُصول.

وهذه اللفظ في اللغة العربية وما تتصرّف إليه تفيد هذا المعنى الّذي أشرنا إليه؛ لأنّهم يسمّون الحبل الّذي يحتبل به الصائد للصيد: ذريعة، واسم الذراع من هذا المعنى اشتقّ؛ لأنّ بها يتوصّل إلى الأغراض والأوطار، والذراع أيضاً صدر القناة. وذرع القيء إذا غلب، وبلغ من صاحبه الوطر، فبان أنّ التصرّف يعود إلى المعنى الّذي ذكرناه). (١)

وقد اقتصرنا في هذا الفصل على البحوث الروائية، وتوضيح المنهجية الّتي سار عليها في الأخبار من نسخ القرآن بالسنّة وبالعكس؛ أو نسخ بعض الشريعة بالبعض الآخر، أو تخصيص الكتاب بالسنّة، وما شاكلها من البحوث الّتي توخّت جلاء المنهج الروائي في هذا المجال عند الشريف المرتضى (قدس سرّه)، وقد ألحقنا بها بعض الأُصول الّتي تضمّنتها رسائله ملخِّصين مباحثه ومهذبين مطالبه، ولم ننس أو نتناسى شيء من المباحث بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى، تاركين التعليق عليها للفصول الآتية من الأبواب الأُخرى؛ لنرى مقدار معطياته وإفاداته.

____________________

(١) المصدر السابق: ص ٦ - ٧.

١٣٣

النسخ:

النسخ في اللغة: هو الاستكتاب، كالاستنساخ والانتساخ، وبمعنى النقل والتحويل، ومنه تناسخ المواريث والدهور، وبمعنى الإزالة، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين، فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ.

ولكن النسخ في الاصطلاح: هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأُمور الّتي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط.

وإنّما قيّدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته؛ فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمّى نسخاً، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد.

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة له نَحوان من الثبوت:

أحدهما: ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع، فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام - مثلاً - فليس معناه أنّ هنا: خمراً في الخارج، وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة، بل معناه أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن. ورفع هذا الحكم في هذه المرحة لا يكون إلاّ بالنسخ.

وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج، بمعنى أنّ الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية

١٣٤

موضوعه خارجاً، كما إذا تحقّق وجود الخمر في الخارج، فإنّ الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب الخمر خلاًّ فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية الّتي ثبتت له في حال خمريّته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء، ولا كلام لأحد في جواز ذلك ولا في وقوعه، وإنّما الكلام في القسم الأوّل، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء. (١)

ويوضّح الشريف المرتضى (قدس سرّه) حقيقة النسخ قائلاً:

١ - إنّها تغيّر حال المزيد عليه وتخرجه من كلّ أحكامه الشرعية.

٢ - إنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صاحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخاً. (٢)

ـ نسخ القرآن الكريم بالسنّة الشريفة:

يقسّم الشريف المرتضى (قدس سرّه) السنّة إلى قسمين:

١ - قسم مقطوعة معلومة.

٢ - وقسم واردة من طريق الآحاد.

والقسم الأوّل: لا ينسخ القرآن بها كما عن الشافعي ومَن وافقه.

والقسم الثاني: فأكثر الناس على أنّه لا يقع بها نسخ القرآن. نعم، خالف أهل الظاهر وغيرهم في ذلك وادّعوا وقوعه. (٣)

ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) بالنسبة إلى القسم الثاني: (والّذي يبطل أن ينسخ

____________________

(١) علوم القرآن عند المفسِّرين: ج٢، ص٥٧٥. البيان: ص٢٩٥ - ٢٩٧.

(٢) الذريعة إلى أُصول الشريعة: ج١، ص ٤٦٠.

(٣) المصدر السابق: ص٤٦١.

١٣٥

القرآن بما ليس بمعلوم من السنّة: أنّ هذا فرعٌ مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة؛ لأنّ من يجوّز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التخصيص به وترك الظاهر لأجله، والعمل به في الأحكام المبتدأة، جاز النّسخ - أيضاً - به.

وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق غير مختصّ، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشّرع - بما سنتكلّم عليه عند الكلام في الأخبار بمشيئة الله تعالى - بطل النسخ؛ لأنّ كلّ من لم يعمل به في غير النسخ لا ينسخ به، فالقول بالنّسخ مع الامتناع من العمل أصلاً خارج عن الإجماع.

وهذا أولى ممّا يمضي في الكتب من أنّ الصحابة ردّت أخبار الآحاد إذا كان فيها ترك للقرآن؛ لأنّ الخصوم لا يسلّمون ذلك، ولأنّه يلزم عليه ألاّ يخصّص الكتاب بخبر الواحد، لأنّ فيه تركاً لظاهره.

وليس يجب من حيث تعبّدنا الله بالعمل بخبر الواحد في غير النّسخ - إذا سلمنا ذلك وفرضناه - أن نعدّيه إلى النّسخ بغير دليل؛ لأنّ العبادة لا يمتنع اختصاصها بموضع دون موضع، فمن أين إذا وقعت العبادة بالعمل به في غير النّسخ، فقد وقعت في النّسخ، وأحد الموضعين غير الآخر؟! وليس ها هنا لفظ عام يدّعى دخول الكلّ فيه). (١)

ثمّ إنّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) يضعّف قول الشافعي الّذي ذهب إلى أنّ السنّة الشريفة لا ينسخ بها القرآن الكريم، حتّى أنّه يدعي أنّه كيف استمرّت الشبهة بالشافعي في ذلك؟! (٢)

ويستدلّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) بدليلين على فساد دعوى الشافعي، وإثبات أنّ السنّة المعلومة المقطوعة ينسخ بها القرآن الكريم:

____________________

(١) المصدر السابق: ص ٤٦١ - ٤٦٢.

(٢) المصدر السابق: ص٤٦٢.

١٣٦

الدليل الأوّل: على شكل قياس منطقي، يقول:

أ - إنّ السنّة المعلومة تجري مجرى الكتاب الكريم في وجوب العلم والعمل.

ب - إنّ الكتاب الكريم ينسخ بعضه بعضاً.

ج - فيجوز النسخ بالسنّة المعلومة.

الدليل الثاني: كذلك مركب من قياس منطقي، وهو:

أ - إنّ النسخ يتناول الحكم.

ب - والسنّة في الدلالة عليه كدلالة القرآن الكريم.

ج - فيجب جواز النسخ بها.

ثمّ يطرح الشريف المرتضى (قدس سرّه) تسائلاً في البين، يؤكّد فيه على أنّه ليس لأحد أن يقول: إنّ السنّة تدلّ كدلالة القرآن؛ لأنّها إذا وردت بحكم يضادّ القرآن أنزل الله تعالى قرآناً يكون هو الناسخ.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) ردّاً على هذا الإشكال:

(إنّ هذه دعوى لا برهان لمدعيها، ومن أين أنّ الأمر على ذلك؟! ولو قدرنا أنّه تعالى لم ينزل ذلك القرآن كيف كان يكون حال تلك السنّة، فلابدّ من الاعتراف باقتضائها النسخ، ثمّ إذا اجتمعا لمَ صار الناسخ هو القرآن دون السنّة، وحكم كلّ واحد من الدليلين حكم صاحبه؟!

وإذا كان نسخ الحكم بحكم يضادّه فلا فرق بين أن يكشف عن ذلك الحكم المضاد سنّة أو القرآن). (١)

ثمّ ينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) أربعة أدلّة قرآنية على أنّ السمع منع من نسخ الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة:

____________________

(١) المصدر السابق: ص٤٦٣.

١٣٧

الدليل الأوّل: قوله تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ) (١) فبيّن تعالى أنّ تبديل الآية إنّما يكون بالآية.

وأجاب الشريف المرتضى (قدس سرّه): (أنّ الظاهر لا دلالة فيه على أنّه لا يبدل الآية إلاّ بالآية، وإنّما قال تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ) ؛ ولأنّ الخلاف في نسخ حكم الآية، والظاهر يتناول نفس الآية). (٢)

وقريب من هذا الدليل الثاني، (٣) والدليل الثالث. (٤)

نعم، الدليل الثالث فيه شيء من التفاصيل التوضيحية، حيث أكّد على أنّ قوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٥) ، فجعله الله تعالى مبيناً للقرآن، والبيان ضدّ النسخ والإزالة.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (والجواب عن الثاني أنّه - أيضاً - لا يتناول موضع الخلاف؛ لأنّه إنّما نفى أن يكون ذلك من جهته، بل بوحي من الله تعالى سواء كان ذلك قرآناً أو سنّة.

والجواب عن الثالث: أنّ النسخ يدخل في جملة البيان؛ لأنّه بيان مدّة العبادة، وصفة ما هو بدل منها.

وقد قيل: إنّ المراد ها هنا بالبيان التبليغ والأداء، حتّى يكون القول عامّاً في جميع المنزّل، ومتى حمل على غير ذلك خاصّاً في المجمل.

على أنّ النسخ لو انفصل عن البيان، لم نمنع أن يكون ناسخاً وإن كان مبيّناً، كما

____________________

(١) النحل: ١٠١.

(٢) الذريعة إلى أُصول الشريعة: ج١ ٤٦٥ - ٤٦٧.

(٣) المصدر السابق: ج١، ص٤٦٥ - ٤٦٧.

(٤) المصدر السابق: ج١، ص٤٦٥ - ٤٦٧.

(٥) النحل: ٤٤.

١٣٨

لم يمنع كونه مبيّناً من كونه مبتدئاً للأحكام، وقد وصف الله تعالى القرآن بأنّه بيان، ولم يمنع ذلك من كونه ناسخاً) (١) .

ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى الدليل الرابع وهو قوله تعالى: ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) . (٢)

وقد وجهت الآية على المدعى بأربعة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لما قال تعالى: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) كان الكلام محتملاً للكتاب وغيره، فلمّا قال بعد ذلك: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣) ؛ علم أنّه أراد ما يختصّ هو تعالى بالقدرة عليه من القرآن المعجز.

ومنها: أنّه قال تعالى: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ) ، فأضاف ذلك إلى نفسه، والسنّة لا تضاف إليه حقيقة.

ومنها: أنّ الظاهر من قول القائل: (لا آخذ منك ثوباً إلاّ وأعطيك خيراً منه) أنّ المراد أعطيك ثوباً من جنس الأوّل.

ومنها: أنّ الآية إنّما تكون خيراً من الآية بأن تكون أنفع منها، والانتفاع بالآية يكون بتلاوتها وامتثال حكمها، فيجب أن يكون ما يأتي به يزيد في النفع على ما ينسخه في كلا الوجهين، والسنّة لا يصحّ لها إلاّ أحدهما.

والجواب عمّا تعلّقوا به، أولاً: هو أنّ الظاهر لا دلالة فيه على أنّه لا يبدل الآية إلاّ بالآية، وإنّما قال تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ) ؛ ولأنّ الخلاف نسخ حكم الآية، والظاهر يتناول نفس الآية. (٤)

وأجاب عنه الشريف المرتضى (قدس سرّه) بجواب مفصّل قائلاً: والجواب عن الرابع: أنّ

____________________

(١) المصدر السابق: ج١ ص٤٦٥ - ٤٦٧.

(٢) البقرة: ١٠٦.

(٣) البقرة: ١٠٦.

(٤) الذريعة إلى أُصول الشريعة: ج١ ص٤٦٦.

١٣٩

الآية أيضاً لا تتناول موضع الخلاف؛ لأنّها تتناول نفس الآية، والخلاف في حكمها.

على أنّ الظاهر لا يدلّ على إنّ الّذي يأتي به يكون ناسخاً، وهو موضع الخلاف، وهو إلى أن يدلّ على أنّه غير ناسخ أقرب، لأنّه تعالى قال: ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ ) ، وهذا يدلّ على تقدّم النسخ على إنزال ما هو خير منها، فيجب ألاّ يكون النسخ بها وهو متقدّم عليها، ومعنى ( بِخَيْرٍ مِّنْهَا ) أي أصلح لنا، وأنفع في ديننا، وأنا نستحقّ به مزيد الثواب. وليس يمتنع على هذا أن يكون ما يدلّ عليه السنّة من الفعل الناسخ أكثر ثواباً وأنفع لنا ممّا دلّت عليه الآية من الفعل المنسوخ.

والشناعة بأن السنّة خير من القرآن تسقط بهذا البيان، وبأنّ القرآن أيضاً لا يقال بأنّ بعضه خير من بعض بالإطلاق، وقد ينسخ بعضه ببعض، فإذا فصّلوا وفسّروا فعلنا مثل ذلك. فأمّا إضافة ذلك إليه تعالى وأنّ ذلك بالكتاب أليق منه بسنّة؛ فالإضافة صحيحة على الوجهين؛ لأنّ السنّة إنّما هي بوحيه تعالى وأمره، فإضافتها إليه كإضافة كلامه.

وقوله تعالى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) لا يدلّ على ما يكون به النسخ، وإنّما يقتضي أنّه تعالى قادر على أن ينسخ الفعل بما هو أصلح في الدّين منه، كان الدليل على ذلك كتاباً أو سنّة.

وغير مسلم أنّ القائل إذا قال لأحد: لا آخذ منك كذا وكذا إلاّ وأعطيك خيراً منه، أنّ الثاني يجب أن يكون من جنس الأول، بل لو صرّح بخلاف ذلك لحَسُن؛ لأنّه لو قال: (لا آخذ منك ثوباً إلاّ وأعطيك فرساً خيراً منه) لما كان قبيحاً، وقد بيّنا معنى (خيراً منها). فليس يمتنع أن نكون السنّة وانتفع بها من وجه واحد أصلح لنا من الآية، وإن كان الانتفاع بها من وجهين؛ لأنّ الانتفاع الّذي هو الثواب قد يتضاعف

____________________

(١) البقرة: ١٠٦.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353