المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى11%

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 353

  • البداية
  • السابق
  • 353 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47715 / تحميل: 8060
الحجم الحجم الحجم
المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

المناهج الروائية عند الشريف المرتضى

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا

أراد بِقْدرهم حربهم، ومعنى نُديمها: نُسكِّنها.

ومن ذلك الحديث المروى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): أنّه نهى عن البول في الماء الدائم، يعني: الساكن.

ويقال: قد دوّم الطائر في الهواء، إذا بسط جناحيه وسكّنهما ولم يخفق بهما. وتفثؤها معناه: نسكّنها؛ يقال: قد فثأت غضبه عنّي، وفثأت الحارّ بالبارد إذا كسرته به.

وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقي؛ لأنّه الحقيقة وما سواه مجاز؛ ولأنّ الروايات الظاهرة تشهد له، وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدّة الغضب، واحتداد الأمر تمثيلاً وتشبيهاً؛ لأنّ حمل الكلام على الحقيقة الّتي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسّع مع فقد الرواية.

وأي المعاني أريد بالتنّور فإنّ الله تعالى جعل فوران الماء منه علماً لنبيّه؛ وآيةً تدلّ على نزول العذاب بقومه؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين (١) .

فحمل الآية على الحقيقة أولى وأوجب من الحمل على المجاز حتّى دعا الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن يترك الوجه الثالث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأجل أنّه على نحو المجاز، أو أنّه من بطون القرآن الكريم.

المنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنّة:

يعتبر العقل الركيزة الأساسية والمهمّة في المنظومة المعرفية عند الشريف المرتضى (قدس سرّه)، بل جعله الحاكم الرئيسي في رفع التنازع بين الأدلّة بجميع أطرافها

____________________

(١) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج٢، ص١٧١.

٨١

(قرآناً وسنة)؛ لأنّه يعتقد أنّ هذه الموهبة الإلهية إذا هذّبت يمكن جعلها الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإلهي.

ويلتفت الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى أنّ المأخوذ في أدلّة العقول هو الصراحة الواضحة، الّتي لا مناص من العدول، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار، بل يتجاوز مرحلة الاحتمال والمجاز إلى مرحلة أدقّ، وهي وجوه التأويلات الّتي يمكن استكشافها من أدلّة العقول.

فليست أدلّة العقول لوحدها تتجاوب مع حاجات الواقع، بل لها قيود وشروط من عدم الاحتمال، فإذا ارتضينا ذلك سوف نحصل على مفهوم ومناط كلّي يتعاطف معنا على كلّ الأدلّة، ويكون دليلاً وحاكماً تخضع له جميع المدارك الشرعية، وسوف نصرف كلّ ما ورد ما ظاهره بخلاف الحقّ من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): - نقلاً عن لسان بعض -: (أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار الّتي يخالف ظاهرها الأُصول، ولا تطابق العقول لا يجب ردّها، والقطع على كذب رواتها إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسّف). (١)

وأوضح جلاءً من هذا المتن ما قاله (قدس سرّه): (إذا ثبت بأدلّة العقول الّتي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء (عليهم السلام)، صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها؛ كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما تدلّ عليه القول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لا يجوز). (٢)

____________________

(١) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٣١٨.

(٢) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٤٧٧.

٨٢

فعلى هذا الميزان الموحّد (وهو العرض على الواضح من أدلّة العقول) سوف تكون الانطلاقة واضحة. وكذلك ما جاء في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا... ) (١) .

فقد قال: هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أنّ يوسف (عليه السلام) عزم على المعصية وأرادها، وأنّه جلس مجلس الرجل من المرأة. ثمّ انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب (عليه السلام) عاضّاً على إصبعه، متوعّداً له على مواقعة المعصية، أو بأن نؤدّي له بالنهي والزجر في الحال على ما ورد به الحديث؟

وينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) النصّ الثاني المتقدّم الّذي نقلناه قبل قليل ليبني عليه الجواب، ثمّ يقول: (ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية). (٢)

وبعد أن ينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) عدّة أجوبة في تفسير الآية، يقول: (وإنّما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسّرين ومخرّفو القصّاص، وقرفوا به نبي الله (عليه السلام)، لما في العقول من الأدلّة على أنّ مثل ذلك لا يجوز على الأنبياء (عليهم السلام)؛ من حيث كان منفّراً عنهم، وقادحاً في الغرض المجرى إليه بإرسالهم، والقصّة تشهد بذلك؛ لأنّه تعالى قال: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ) ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثمّ الأخذ فيه، والشروع في مقدّماته، وقوله أيضاً: ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يقتضي تنزيهه عن الهمّ بالزنا، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهن: ( حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ) ، (٣) تدلّ أيضاً على براءته من القبيح.

فأمّا البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفاً لطف الله له به في تلك الحال أو

____________________

(١) يوسف: ٢٤.

(٢) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٤٧٧.

(٣) يوسف: ٥١.

٨٣

قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصي، والتنزه عنها.

ويحتمل أيضاً ما ذكره أبو علي، وهو أن يكون البرهان دلالة الله تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحقّ العقاب. وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوب (عليه السلام) متوعّداً له، أو النداء له بالزجر والتخويف؛ لأنّ ذلك ينافي المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألاّ يستحقّ على امتناعه وانزجاره مدحاً ولا ثواباً، وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم). (١)

وهكذا نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) يبرز مقدرته العقلية في الحديث الّذي روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، يصرفهما كيف شاء).

فبعد أن ينقل النصّ الأوّل الّذي نقلناه سلفاً ويذكر عدّة تأويلات لتخريج الخبر، يقول:

ويمكن أن يكون في الخبر وجه، آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون، من أنّ الإصبعين هما المخلوقتان من اللّحم والدم، استظهاراً في الحجّة، وإقامةً لها على كلّ وجه، وهو أنّه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين، يحرّكه الله تعالى بهما، ويقلّبه بالفعل فيهما، ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا على شكلهما.

والوجه في إضافتهما إلى الله تعالى - وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة - أنّه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عمّا جاورهما غيره تعالى، فقيل إنّهما إصبعان له، من حيث اختصّ بالفعل فيهما على هذا الوجه؛

____________________

(١) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٤١٨ - ٤٨٢.

٨٤

لأنّ غيره إنّما يقدر على تحريك القلب، وما هو مجاور للقلب من الأعضاء بتحريك جملة الجسم، ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفرداً ممّا يجاوره غيره تعالى، فمن أين للمبطلين المتأوِّلين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم: أنّ الأصابع هاهنا إذا كانت لحماً ودماً فهي جوارح لله تعالى؟!

وما هذا الوجه الّذي ذكرناه ببعيد، وعلى المتأوّل أن يورد كلّ ما يحتمله الكلام ممّا لا تدفعه حجّة، وإن ترتّب بعضه على بعض في القوّة والوضوح. (١)

الأخذ بالعمومات والظواهر القرآنية:

الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا يدخلها الاحتمال ولا الاتساع، والمجاز لابدّ أن يصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها، هكذا يعتقد الشريف المرتضى (قدس سرّه).

ومن هذا المنطلق نرى تأويل الخبر الّذي روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّ الميّت لَيعذّب ببكاء الحيّ عليه).

وفي رواية أُخرى: (إنّ الميّت يعذّب في قبره بالنياحة عليه). وهكذا روايات أُخرى بهذين المضمونين.

وكمنت المشكلة في هذه الروايات عند ما رأينا تعارضها مع صريح الآيات مثل قوله تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) . (٢)

فإنّ قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره يدلّ عليه صريح النصّ العقلي.

ويؤسّس الشريف المرتضى (قدس سرّه) قاعدته العقلية المعروفة، وهي: أنّ المرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدينية أدلّة العقول، يقول في ذلك: (إنّا إذا كنّا قد علمنا بأدلّة

____________________

(١) المصدر السابق: ج١، ص٣٢١.

(٢) الأنعام: ١٦٤.

٨٥

العقل، الّتي لا يدخلها الاحتمال والاتساع والمجاز، قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره، وعلمنا أيضاً ذلك بأدلّة السمع مثل قوله تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) فلابدّ أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها) (١) .

ثمّ يشرع الشريف المرتضى بتوجيه هذه الأخبار بما يطابق الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا غبار ولا غبش عليها.

المنهج المشترك بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة:

المعطيات والمشتركات بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة كثيرة ويعضد بعضها البعض الآخر في إنارة الواقع، وتقوية السبيل في توضيح وتركيز المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة.

وفي هذا المجال نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) ينطلق من ركائزه العقلية في وضع منهج مشترك موحّد بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة. فعندما أسّس بنيانه على القواعد العقلية الواضحة اعتبر القرآن الكريم أحد الأدلّة الواضحة الّتي تقوم سائر الأدّلة عليها في تشخيص الواقع.

ولم يفتِ الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن ينبّه على السنّة الشريفة الواضحة هي بمثابة البرهان العقلي، كما كان القرآن الكريم والبرهان العقلي.

ومن ذلك نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) يعاضد الأدلّة بعضها مع البعض الآخر، فيأتي بالحديث ويعضده بالقرآن وهكذا بالعكس، وهذا إذا دلّ على شيء فإنّما يدل على المعطيات المشتركة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

فيقول بين الحين والآخر: (يشهد بذلك قوله تعالى...) أو يقول: (ومنه قوله تعالى...) أو يقول: (وعلى هذا المعنى يتأوّل المحقّقون قوله تعالى...) أو يقول:

____________________

(١) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٣٤٠.

٨٦

(وهل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه...).

هذه الأُمور الصريحة وما شابهها هي المنهج الّذي يتبعه الشريف المرتضى (قدس سرّه) في الاشتراك العلمي بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة، بحيث إنّ واقع المسألتين شيءٌ واحد وذو معطى موحّد يمكن من خلاله أن نخرج بنتائج موحّدة.

التعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة:

قد يبدو التعارض واضحاً في بعض الأدلّة الشرعية، كما يبدو التضادّ بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة نتيجة عدم تصوّر صحيح للمسألة، أو عدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع، ومن هذا سوف تلوح علامات الاستغراب في رؤية الأدلّة من دون تحقيق وتمحيص.

وهذا شيء متعارف في عرف الشريعة المقدّسة إذا لم يعمل النظر إلى المخصِّصات والعمومات... ولكن بنظرة دقيقة ترتفع هذه الإشكالات ويمكن التغلّب عليها.

ويستند الشريف المرتضى (قدس سرّه) على دعامته المعروفة بأنّه لا بدّ من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة، ولا يمكن طرحها إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.

ومن هذا المنطلق يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) . (١)

وظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ الإيمان إنّما كان لهم فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم؟! وإن حمل الإذن ها هنا على الإرادة، اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان

____________________

(١) يونس: ١٠٠.

٨٧

لم يرده الله منه، وهذا أيضاً بخلاف قولكم.

ثمّ جعل الرّجس الّذي هو العذاب على الّذين لا يعقلون، ومن كان فاقداً عقله لا يكون مكلّفاً، فكيف يستحقّ العذاب؟ وهذا بالضدّ من الخبر المرويّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (أكثر أهل الجنة البله).

الجواب، يقال له في قوله تعالى: ( إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) وجوه:

منها: أن يكون الإذن الأمر، هو التوفيق والتيسير والتسهيل، ولا شبهة في أنّ الله يوفّق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه.

ومنها: أن يكون الإذن من قولهم: أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته، وأذنت فلاناً بكذا إذا أعلمته، فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات، فإنّه ممّ لا يخفى عليه الخفيّات... وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارةً عن العلم، وزعم إنّ الّذي هو العلم الأذن (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر:

إنّ همّي في سماعٍ وأذن

وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم؛ لأنّ الأذن هو المصدر، والإذن هو اسم الفعل؛ فيجري مجرى الحذر في أنّه مصدر؛ والحذر (بالتسكين) الاسم، على أنّه لو

____________________

(١) آل عمران: ١٤٥.

٨٨

لم يكن مسموعاً إلاّ الأذن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل: مَثَلٍ ومِثْلٍ، وشَبَهٍ وشِبْهٍ، ونظائر ذلك كثيرة.

ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلاّ بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله.

فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة، ولو احتملها أيضاً لم يجب ما توهّمه؛ لأنّه إذا قال: إنّ الإيمان لا يقع إلاّ وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريداً لما لم يقع، وليس في صريح الكلام ولا دلالته شيء من ذلك.

وأمّا قوله تعالى: ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) فلم يعنِ بذلك ناقصي العقول، وإنّما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لا يعقلون تشبيهاً، كما قال تعالى: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) (١) ، وكما يصف أحدنا من لم يفطن الأُمور، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه: بالجنون وفقد العقل.

فأمّا الحديث الّذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل: إنّه عليه وآله السلام لم يرد بالبُلْهِ ذوي الغفلة والنقص والجنون، وإنّما أراد البُلْه عن الشرّ والقبيح، وسمّاهم بلهاً عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به. ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر؛ فإنّ الأبله عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزّه عن الشرّ معرضاً عنه، هاجراً لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة الّتي ذكرناها، ويشهد بصحّة هذا التأويل قول الشاعر:

ولقد لهوت بطفلةٍ ميّادةٍ

بلهاء تطلعني على أسرارها

____________________

(١) البقرة: ١٨.

٨٩

أراد أنّها بلهاء عن الشرّ والريبة، وإن كانت فطنةً لغيرهما؛ وقال أبو النجم العجلي:

من كل عجزاء سقوط البرقع

بلهاء لم تحفظ ولم تضيّع

أراد بالبلهاء ما ذكرناه. فأمّا قوله: (سقوط البرقع) فأراد أنّها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة بحسنه وإدلالاً بجماله، وقوله: (لم تحفظ) أراد أنّ استقامة طرائقها تغني عن حفظها، وأنّها لعفافها ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: (لم تضيّع) أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: (سقوط البرقع) قول الشاعر:

فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت

وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا

ومثله أيضا:

بها شرقٌ من زعفرانٍ وعنبرٍ

أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا

أي رمت به عنها ثقة بالجمال والكمال، ومثله وهو مليح:

لهونا بمنجول البراقع حقبةً

فما بال دهرٍ لزّنا بالوصاوص

أراد بـ (منجول البراقع) اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقةً بحسنهنّ، ومنه الطعنة النّجلاء، والعين النّجلاء، ثمّ قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتي يضيقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوص: هي النّقب الصّغار للبراقع، وممّا يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة:

بمالي وأهلي من إذا عرضوا له

ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب

ويروى: بنفسي وأهلي.

ولم يعتذر عذر البرىّ ولم تزل

به ضعفةٌ حتّى يقال مريب

ومثله:

أحبّ اللّواتي في صباهنّ غرّةٌ

وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح

مسرّات حبٍّ مظهرات عداوةً

تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح

٩٠

ومثله:

يكتبين الينجوج في كبد المشـ

تى وبلْهٌ أحلامهنّ وسامُ

أما قوله: (يكتبين) فمأخوذ من لفظ الكباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجوج هو العود، وفيه ست لغات: ينجوج، وأنجوج، ويَلنجُوج، وألنْجُوج، وألنْجَج، ويَلَنْجَج.

فأمّا كبد المشتى، فهو ضيقته وشدّته، ومنه قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (١) ، وقد روي: (في كبّة المشتى) والمعنى متقارب؛ لأنّ الكبّة هي الصدمة والحملة، مأخوذ من كبّة الخيل؛ وأمّا الوسام فهنّ الحسان من الوسامة، وهي الحسن.

ويمكن أن يكون في البله جواب آخر، وهو أن يحمل على معنى البله الّذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنّة الّذين كانوا بلهاً في الدنيا، فعندنا أنّ الله ينعّم الأطفال في الجنّة والمجانين والبهائم، وإنّما لم نجعلهم بلهاً في الجنّة، وإن كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضّل لا يفتقر إلى كمال العقل؛ لأنّ الخبر ورد بأنّ الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلاّ وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البله عنهم في الجنّة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلاّ فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب. (٢)

____________________

(١) البلد: ٤.

(٢) أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج١، ص٣٨ - ٤٢.

٩١

٩٢

الفصل الثاني

منهجه في المباحث الفقهية

تمهيد:

إشكالات المحدّثين.

ابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخبار.

إشكالات آرائه النادرة.

أخبار الآحاد.

مِلاكات ضعف الخبر.

التحقيق حول رواة الخبر.

الظواهر والعموم في الأخبار.

النسخ في الأخبار.

٩٣

٩٤

تمهيد

الفقه الموجود والموروث عن الشريف المرتضى (قدس سرّه) هو فقه الخلاف لا المقارن (١) ، وقمّته هو كتابا الانتصار ومسائل الناصريات، وفقدنا من فقهه كتابا المصباح والخلاف، والظاهر أنّهما من أروع الكتب حسب المواصفات الّتي يطرحها الشريف المرتضى (قدس سرّه) بين الآونة والأُخرى في بحوثه الفقهية حول هذين الكتابين، وحسبما نقل من نصوص من هذين الكتابين.

ولا نبخس الشريف المرتضى (قدس سرّه) حقّه في باقي رسائله الفقهية (الّتي طبعت في مجموعة رسائله) فبين ثناياها أروع النصوص الاجتهادية والحاسة الفقاهتية.

والّذي يهمّنا في هذا الفصل هو إلقاء نظرة منهجية إلى التراث الروائي الفقهي ومقدار معطياته ومساحته وأبعاده وأساليبه وطرقه مقتصرين على كتابيه المتقدّمين، وما أودعه في ثنايا رسائله المختصّ منها بالتراث الفقهي.

وقبل أن ندرس منهج الكتابين الانتصار والناصريات لا بدّ من طرح سعة أبعاد الكتابين؛ لنحيط - بعض الشيء - بمساحة وعي الشريف المرتضى (قدس سرّه)، ونلم بالجوانب الفقهية والتاريخية بهذين الكتابين، كلّ ذلك بنحو الاختصار:

____________________

(١) لا يخفى أنّ الفقه المقارن: هو جمع آراء الفقهاء في شتى المسائل الفقهية على صعيد واحد من دون إجراء موازنة بينها، أمّا الخلاف فهو جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلّتها، وترجيح بعضها على بعض.

٩٥

يحمل كتاب الانتصار في طيّاته نوعاً من الشموخ الفقهي الإمامي، فهو يصادر النتيجة لوعيه الفقهي، ويجعل الفقه الإمامي والإمامية وآراءهم وفتواهم - الّتي انفردوا بها، وصارت سبباً لتشنيع المخالفين - وهو الفقه المؤيَّد بالدليل والبرهان، وأنّ بحثهم الاستدلالي معتمد على أسمى الأدلّة الاجتهادية والأنظار الدقيقة، والرؤى الثاقبة والّتي استطاعت أن تثبت حقّيتها وصحّتها، ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مقدّمة كتابه: (فإنّي ممتثل... بيان المسائل الفقهية الّتي شُنّع بها على الشيعة الإمامية، وأُدعي عليهم مخالفة الإجماع وأكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدّمين أو المتأخّرين، وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلّة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق، ولا يوحش معه خلاف المخالف، وأن أُبين ذلك وأفصله وأزيل الشبهة المعترضة فيه). (١)

هذه هي خلاصة خطّة الكتاب وما يحتويه جميع أبعاده. والشريف المرتضى (قدس سرّه) يصرّ ببسالة على أنّ الشناعة إنّما تجب في المذهب الّذي لا دليل عليه يعضده، ولا حجّة لقائله فيه، فهو ينطلق من ركيزة يصحّ على أساسها أن ينجح في أطروحته هذه، حتّى أنّه يؤكّد على سمو فكره وشموخه؛ حيث يقول: (فأمّا ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده، فهو الحقّ اليقين، ولا يضرّه الخلاف فيه، وقلّة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأوّل الاتّفاق عليه، وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة له إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه). (٢)

هذه هي الركيزة في سمو ذات الشريف المرتضى (قدس سرّه) في بحثه الاستدلالي، وله مناحي أُخرى في دعامته الفكرية، والّتي يأتي تفصيلها في هذا الفصل بغية الإحاطة ببعض معالم مدرسته والروائية منها بالخصوص. هذا بالنسبة إلى كتاب الانتصار.

____________________

(١) الانتصار: ص٧٦.

(٢) المصدر السابق.

٩٦

أمّا بالنسبة إلى مسائل الناصريات فإنّ دائرة البحث تتضيّق ويقع السّجال بين المذهب الإمامي والزيدي بالخصوص، ولكنّه في مطاوي البحث يحتوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب الأخرى، فإنّ الكتاب هو المسائل المنتزعة من فقه جدّه الناصر - من جهة والدته رحمها الله - الذي يعبر عنه الشريف المرتضى (قدس سرّه) بـ: الفاضل البارع كرّم الله وجهه.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) في خاتمة الكتاب: (ولم نورد فيما اعتمدناه إلاّ ما هو طريق للعلم وموجب لليقين إلاّ ما استعملته في خلال ذلك من ذكر الأخبار الّتي ينقلها الفقهاء ويتداولونها في كتبهم، محتجّبين بها دون الأخبار التي ينقلها الشيعة الإمامية.

وإنّما أوردنا هذه الأخبار - وهي واردة من طريق الآحاد، ولا علم يحصل عندها بالحكم المنقول - على طريق المعارضة للخصوم، والاستظهار في الاحتجاج عليهم بطرقهم واستدلالاتهم، كما فعلناه مثل ذلك في كتابنا مسائل الخلاف، وإن كنّا قد ضمنّا في ذلك الكتاب إلى الاحتجاج على المخالفين لنا بأخبار الآحاد الاحتجاج عليهم بالقياس على سبيل المعارضة لهم). (١)

وأكّد في مواضع عديدة من كتبه على هذه القضية: (ويجوز أن نعارض مخالفينا ونلزمهم على أصولهم أن يرجعوا به عن مذاهبهم، وإن لم يكن على سبيل الاستدلال منّا، بالخبر الّذي يرويه... [و] هذا الخبر ليس لنا في هذه المسألة، فيلزمنا أن يكون مطابقاً للمذهب، وإنّما أوردناه على سبيل الإلزام والمعارضة). (٢)

ومن خلال البحث المركّز على هذين الكتابين تتضح المدرسة المنهجية في فقه الشريف المرتضى (قدس سرّه) ذاكرين ذلك على نقاط، ومذيلينها بشواهد؛ ليأنس القارئ،

____________________

(١) المصدر السابق: ص١٤٤.

(٢) مسائل الناصريات: ص٤٤٦.

٩٧

ويخرج البحث من جفافه ووعره.

إشكالات المحدّثين:

المحدّثون هم الّذين يكتفون بظواهر نقل الأخبار والرواية، وقد تسرّبت عليهم مواضع كثيرة من الخلل والنقص، وتطرّق إليهم الضعف والوهن في كثر من مأثوراتهم ونقولهم الروائية، إلى حدٍّ كاد يفقدنا الثقة التامّة بكلّ ما رووا وما استظهروه في ثنايا بحوثهم الروائية، (١) حيث وفرة أسباب الضعف والوهن في ذلك الخضم من المرويّات في كتب الحديث والرواية، حيث خُلط سليمها بسقيمها بحيث خفي وجه الصواب.

ولقد كانت كثرة المروي من ذلك الحشد الهائل من الأخبار والروايات جاوزت الحدّ في منظومة التراث الروائي، وبخاصّة ما إذا وجدنا التناقض وتضارب الأقوال والمعتقدات، والتزمّت في الرأي والاعتقاد، وما شابه ذلك من تبعات وويلات.

وكثيراً ما نشهد تضادّ ما نسب إلى راوي واحد، كما نسب إلى بعض المحدّثين، كلّ ذلك كان من أكبر عوامل زوال الثقة بهم أو بالأكثرية الساحقة منها، الأمر الّذي استدعى التثبت وإمعان النظر والبحث والتمحيص. (٢)

وقد كان لأصحاب المسلك العقلي - والّذين عليهم المدار في السجالات العقلية، وخصوصاً رواد المسلك الكلامي، الّذين أشبعت توجياتهم بالمذاق والفذلكات الدقيقة والمتشعبة - الدور الرئيس في مواجهة المحدّثين منذ بزوغ الرسالة حتّى يومنا الحاضر، وقد نسبوهم إلى التقليد والتسليم والتفويض.

ومن بين هؤلاء الأعلام الشريف المرتضى (قدس سرّه) المنخرط في المسلك الكلامي والعقلي، فقد كانت مسالكه معروفة في هذا المجال، وكان يعتقد أنّ الحجج العقلية

____________________

(١) التفسير والمفسّرون للذهبي: ج١، ص١٥٦.

(٢) انظر: التفسير والمفسّرون للشيخ محمّد هادي معرفة: ج٢، ص٣٠ - ٢٩.

٩٨

والظواهر القرآنية هي خير سبيل لحفظ الأصالة الإسلاميّة من الوقوع في ورطة السذاجة والبساطة.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (إنّ المعوّل فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات، فإذا دلّت الأدلة على أمر من الأمور وجب أن نبني كلّ وارد من الأخبار إذ كان ظاهره بخلافه عليه، ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلي ظاهراً، إن كان له. ونشرط، إن كان مطلقاً. ونخصّه، إن كان عاماً. ونفصّله، إن كان مجملاً. ونوفّق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة.

وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته المعلوم وروده، فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علماً ولا تثمر يقيناً؟!

فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة وأوجبته الحجج العقلية، وإن تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطراح لها وترك التعريج عليها) (١) فهذا المقياس الّذي أشار إليه (قدس سرّه) قلّما تفلت منه رواية أو خبر.

وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع لا بدّ أن نعرف أنّ الخبر والرواية ينتميان إلى المحدّثين، وهؤلاء الثلة بما أنّهم محدّثون قد نسب إليهم الشريف المرتضى (قدس سرّه) التقليد والتسليم والتفويض، وعلى هذا المنطق في الرؤية سوف تخرج أقوال هؤلاء عن منطق البحث العلمي.

فقد جعلهم الشريف المرتضى (قدس سرّه) من المنتسبين إلى أصحابه الإمامية، ولا اعتبار بخلافهم؛ لأنّ الخلاف - كما يقول - إنّما يفيد إذا وقع ممّن بمثله اعتبار في الإجماع من أهل العلم والفضل والرواية والتحصيل.

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) - في مسألة رؤية الهلال وخلاف المحدّث -: (والّذين

____________________

(١) أمالي المرتضى: (غرر الفوائد ودرر القلائد): ج٢، ص٣٥١.

٩٩

خالفوا من أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممّن ليس قوله بحجّة في الأصول ولا في الفروع، وليس ممّن كلّف النظر في هذه المسألة، ولا ما في أجلى منها؛ لقصور فهمه، ونقصان فطنه.

وما لأصحاب الحديث الّذين لم يعرفوا الحقّ في الأصول، ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر، بل هم مقلّدون فيها وللكلام في هذه المسائل وليسوا بأهل نظر فيها، ولا اجتهاد، ولا وصول إلى الحقّ بالحجّة، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض). (١)

وهذا قريب من الحقّ خصوصاً على مباني الشريف المرتضى (قدس سرّه) الّذي توزّعت جميع جهوده بين العقل ومنطق ظواهر القرآن وصريح الظواهر، فما يحمله أصحاب الحديث من الجمود على النصوص من غير أن يشهدوا العقل وقرائنه، وخير دليل على ما يقوله الشريف المرتضى (قدس سرّه):

(إنّ الصحيح من المذهب اعتبار الرؤية في الشهور كلّها دون العدد، وأنّ شهر رمضان كغيره من الشهور في أنّه يجوز أن يكون تامّاً وناقصاً.

ولم يقل بخلاف ذلك من أصحابنا إلاّ شذاذ خالفوا الأصول وقلّدوا قوماً من الغلاة تمسّكوا بأخبار رويت عن أئمّتنا (عليهم السلام) غير صحيحة ولا معتمدة ولا ثابتة...) (٢) .

وهذا الاعتقاد في أهل الغلو يتماشى مع مسلك الشريف المرتضى (قدس سرّه)، فإنّ هؤلاء من الثلة تأخذ بالخبر على علاّته من دون تمحيص وتدقيق، وهو لا يلائم عرض الأخبار على العقل والسّجالات المنطقية.

ابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخبار:

يعتبر ابن الجنيد الإسكافي من فقهاء المسلمين ومن أعلامهم وأعاظم مجتهديهم.

____________________

(١) رسالة في الردّ على أصحاب العدد: ص١٨، (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).

(٢) جوابات المسائل الطبرية: ص١٥٧، (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

١٠٠

وكان من الطليعة الأوائل الّذين في صياغة وتأسيس الإطار العلمي للمذهب، وحفظ هويّته في المدرسة الفقهية البغدادية الكبرى في القرن الرابع الهجري.

وهذا الجليل كان وجهٌ في الطائفة الإمامية، ثقةٌ جليلٌ - كما وصفه النجاشي (قدس سرّه) - في رجاله (1) .

نعم، قال الشيخ الطوسي (قدس سرّه): كان جيّد التصنيف حسنه إلاّ أنّه كان يرى القول بالقياس، فتُركِت لذلك كتبه، ولم يعوّل عليها. (2)

إلاّ إنّ الّذي يهمّنا في المقام أنّ الشهيد الأوّل (قدس سرّه) اعتبر مراسيله لوثاقته (3) ، وقبله الشيخ المفيد (قدس سرّه) عندما قال: (فأمّا كتب أبي علي بن الجنيد فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظن، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرّذل، فخلط بين المنقول عن الأئمّة (عليهم السلام) وبين ما قال برأيه). (4)

فهناك إشكال المراسيل والخلط في المنقولات في فكر ابن الجنيد (قدس سرّه)، وهذا ما نظر إليه الشريف المرتضى (قدس سرّه) عندما نسبه إلى الشذوذ وإلى فاحش الاستنتاج، كما سيأتي.

إشكالات آرائه النادرة:

ربّما تعد مخالفات الإسكافي في آرائه النادرة لمشهور الإمامية أمراً طبيعياً؛ فإنّ له مباني خاصّة في الفقه، وأنّه كان يحتفظ بحرية الرأي واستقلاله من دون تأثّر

____________________

(1) رجال النجاشي: ص385، الرقم 1047.

(2) الفهرست للطوسي: ص134، الرقم 590.

(3) ذكرى الشيعة (حجري): ص253.

(4) المسائل السروية: ص55.

١٠١

بفقه الآخرين واجتهاداتهم. (1)

مضافاً إلى أنّ شيخنا الإسكافي (قدس سرّه) خالف رأي معاصريه، فذهب إلى حجّية خبر الواحد، وقد عمل بهذا الرأي، وأستند إليه في جملة واسعة من فتواه، (2) وأشار السيّد المرتضى (قدس سرّه) إلى وجود هذا الرأي عنده في بحث الشهادات من كتاب الانتصار (3) . بيد أنّا لم نقف على دليل لشيخنا الإسكافي (قدس سرّه) في مسلكه هذا.

وعلى أيّ تقدير بوسعنا القول: إنّه أوّل فقيه وأُصولي من الإمامية يؤمن بحجّية خبر الواحد بشكل مطلق، ومن ثمّ انفتح الباب على مصراعيه لدى باقي الأُصوليين، فآمنوا أيضاً بذلك، وصار هو الرأي السائد والمشهور لديهم. (4)

ولا بدّ من وقفة مع هذه الإشكالات؛ لأنّ الفقيه الإسكافي لم يكن محدّثاً صِرفاً - بالمعنى المعهود لاصطلاح المحدِّث - إذا كانت طريقته تختلف عن طريقه مدرسة الحديث وفقهها، فلم يكن ينظر إلى الحديث على أنّه كلّ شيء؛ لتكون غايته في ضبطه وجمعه حسب؛ ولذا لم نعهد له مؤلّفاً في الحديث.

بيد أنّ هذا لا يعني انقطاعه عن هذا العلم، كيف وقد كان له شيوخ وطرق في الرواية، كما أنّ له روايات أسندها الفقهاء إليه نقلاً عن كتبه، وفيها ما ينحصر طريقه به، ولم ترد به الرواية عن غيره. (5)

وقد ذكرنا نقول فقهائنا (قدس سرّه) حول روايات هذا الفقيه خصوصاً ما نقل عن الشهيد

____________________

(1) انظر: مقالة الشيخ الخزرجي حول الفقيه الإسكافي في مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام) العدد (10)، ص 229 - 230.

(2) انظر على سبيل المثال: الانتصار: ص247، مختلف الشيعة: ج7، ص35. وج2، ص171، 307. وج3، ص44.

(3) الانتصار: ص247.

(4) انظر مقالة الفاضل الخزرجي، (المصدر السابق): ص227.

(5) انظر المصدر السابق: ص228.

١٠٢

الأوّل (قدس سرّه) وما نقله الشريف المرتضى (قدس سرّه) عنه من النقول بأسانيد متّصلة إلى أئمّة العصمة والطاهرة (عليهم السلام) حيث نقل الشريف المرتضى (قدس سرّه)، عن ابن الجنيد، عن ابن محبوب، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قضى أن يتقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام. (1)

وقال السيّد المرتضى (قدس سرّه) في كتابه الانتصار: (قال ابن الجنيد: إلاّ أنّ ابن محبوب فسّر ذلك - أي الحديث السابق - في حديث رواه عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليهم السلام) أنّه قال: إذا تقدّمت مع خصم إلى والٍ أو قاضٍ فكن عن يمينه) (2) . فعبارة الشريف المرتضى (قدس سرّه) بالنسبة إلى الفقيه الإسكافي (قدس سرّه) فيها نوع تسامح.

وقد كرّر الشريف المرتضى (قدس سرّه) نقضه على الإسكافي في مواضع مختلفة:

أ - قال الشريف المرتضى (قدس سرّه): وممّا انفردت به الإمامية: القول بأنّ الإبل إذا بلغت خمساً وعشرين ففيها خمس شياه؛ لأنّ باقي الفقهاء يخالفون في ذلك، ويوجبون في خمس وعشرين ابنة مخاض....

فإن قيل: قد خالفها أبو علي بن الجنيد في ذلك، وقال: إنّ في خمس وعشرين ابنة مخاض....

قلنا: إجماع الإمامية قد تقدّم ابن الجنيد وتأخّر عنه، وإنّما عول ابن الجنيد في هذا المذهب على بعض الأخبار المروية عن أئمتنا (عليهما السلام)، ومثل هذه الأخبار لا يعوّل عليها. (3)

ب - قال الشريف المرتضى (قدس سرّه): وممّا انفردت به الإمامية: القول بأنّ من فرّ بدراهم أو بدنانير من الزكاة فسبكها أو أبدل في الحول جنساً بغيره هرباً من وجوب الزكاة، فإنّ الزكاة تجب عليه، إذا كان قصده بما فعله الهرب منها، وإن كان له غرض آخر

____________________

(1) الانتصار: ص244.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: ص214 - 215.

١٠٣

سوى الفرار من الزكاة فلا زكاة عليه....

فإن قيل: قد ذكر أبو علي ابن الجنيد أنّ الزكاة لا تلزم الفارّ منها ببعض ما ذكرناه.

قلنا:... إنّما عوّل ابن الجنيد على أخبار رويت عن أئمّتنا (عليهم السلام) تتضمّن أنّه لا زكاة عليه وإن فرّ بما له، وبإزاء تلك الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً تتضمّن أنّ الزكاة تلزمه. (1)

وأصرح من هذين النصّين:

ج - قال الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مسألة بيع الوقت: لا اعتبار بابن الجنيد... وإنّما عوّل في ذلك على ظنون وحسبان وأخبار شاذة لا يلتفت إلى مثلها. (2)

فنسبة القول إليه على الظنون والحسبان والأخبار الشاذة هو نوع من تسطيح الوعي عن ابن الجنيد.

د - وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزكاة وأنّها واجبة في جميع الحبوب الّتي تخرجها الأرض، وإن زادت على التسعة الأصناف، وأنّه روى في ذلك أخباراً كثيرة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام).

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد.... (3)

وفي نصّ آخر يجرّح الشريف المرتضى (قدس سرّه) أكثر بالفقيه ابن الجنيد وينسبه إلى الغلط الفحش قائلاً:

(وكان أبو علي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمتنع من شهادة العبد وإن كان عدلاً، ولمّا تكلّم على ظواهر الآيات في الكتاب الّتي تعمّ العبد والحر ادّعى

____________________

(1) المصدر السابق: ص219 - 220.

(2) المصدر السابق: ص470.

(3) المصدر السابق: ص210.

١٠٤

تخصيص الآيات بغير دليل، وزعم أنّ العبد من حيث لم يكن كفءً للحرّ في دمه، وكان ناقصاً عنه في أحكامه لم يدخل تحت الظواهر.

وقال أيضاً: إنّ النساء قد تكنّ أقوى عدالة من الرجال، ولم تكن شهادتهنّ مقبولة في كلّ ما يقبل فيه شهادة الرجال.

[ يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه):] وهذا منه غلط فاحش؛ لأنّه إذا ادّعى أنّ الظواهر اختصّت بمن تتساوى أحكامه في الأحرار، كان عليه الدليل؛ لأنّه ادّعى ما يخالف الظواهر، ولا يجوز رجوعة في ذلك إلى أخبار الآحاد الّتي يرويها؛ لأنّا قد بيّنا ما في ذلك.

فأمّا النساء فغير داخلات في الظواهر الّتي ذكرناها مثل قوله تعالى: ( ذوي عدلٍ مّنكم ) (1) ، وقوله تعالى: ( شهيدين من رّجالكم ) (2) ، فما أخرجنا النساء من هذه الظواهر؛ لأنهنّ ما دخلن فيها، والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف، ويحتاج في إخراجهم إلى دليل). (3)

نلاحظ في هذا النصّ المذكور - الّذي نقله الشريف المرتضى (قدس سرّه) - أنّ الإسكافي قام بتخصيص العمومات الكتابية، مثل قوله تعالى: ( ذوى عدلٍ مّنكم ) وقوله تعالى: ( شهيدين من رّجالكم ) بنكتة استفادها من الأخبار المروية في العبد، وأنّه لا يساوي الحرّ في أحكامه، ولذا افتى بخروجه من هذه العمومات، وبعدم قبول شهادته.

ويستفاد من هذا النصّ أيضاً مسلكه في تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد الأمر الّذي رفضه غيره من الأصوليين.

____________________

(1) الطلاق: 2.

(2) البقرة: 282.

(3) الانتصار: ص500 - 501.

١٠٥

ولا يتبادر إلى ذهن القارئ من كلمة المحدّثين هو: شمول البحث لوالد الشيخ الصدوق (قدس سرّه) المعروف بابن بابويه - مثلاً - وأشباهه الّذي يعدّ من المحدّثين.

وهذا واضح من السؤال الّذي سُئل به الشريف المرتضى (قدس سرّه):

ما يشكل علينا من الفقه نأخذه من رسالة علي بن موسى بن بابويه القمّي، أو من كتاب الشلمغاني، أو من كتاب عبيد الله الحلبي؟

فأجاب الشريف المرتضى (قدس سرّه): (الرجوع إلى كتاب ابن بابويه وإلى كتاب الحلبي (1) أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كلّ حال). (2)

ويعتبر هذا النصّ من الشريف المرتضى (قدس سرّه) بمثابة منهج اعتمده على كتب الحديث الّذي يتماشى مع المعروف، من أنّ الأصحاب إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إلى رسالة علي بن بابويه؛ لأنّها بمثابة الحديث المأثور.

وعلى كلّ لا يعتبر الفقيه ابن بابويه من عداد أصحاب الحديث الصرف، وكذلك ابنه الجليل الفقيه الشيخ الصدوق (قدس سرّه)؛ فإنّه قد ذكره الشريف المرتضى (قدس سرّه) في عدّة مواضع، وذكر كتابه من لا يحضره الفقيه، في موضع واحد خدش في التفاته الفقهي، بأنّ الأولى عليه أن يذكر بعض الروايات من الطرف المقابل مع أنّها موجودة في كتابه هذا. (3)

____________________

(1) يشير صاحب الجواهر (رضي الله عنه) إلى هذا المقطع، قال: (الشيخ الثقة الجليل الفقيه عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي في أصله الّذي أثنى عليه الصادق (عليه السلام) عند عرضه عليه وصحّحه واستحسنه، وقال: (إنّه ليس لهؤلاء - أي المخالفين - مثله) وعدّه الصدوق. من الكتب المشهورة الّتي عليها المعول وإليها المرجع، بل أمر المرتضى بالرجوع إليه وإلى رسالة ابن بابويه مقدَّماً لهما على كتاب الشلمغاني، لمّا سئل عن أخذ ما يستشكل من الفقه من هذه الثلاثة). (جواهر الكلام: ج13 ص58).

(2) جوابات المسائل الميافارقيات: ص279 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

(3) جوابات المسائل الموصليات الثانية: ص176 - 180 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

١٠٦

أخبار الآحاد:

أكّد الشريف المرتضى (قدس سرّه) في عدّة مواضع في فقه الاجتهادي، وفي مواضع أخرى كثيرة من بحوثه وكتبه: على أنّ أخبار الآحاد لا توجب علماً ولا تقتضي قطعاً، (1) أو أنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علماً، (2) وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم، (3) أو أنّه ثبت أنّها لا توجب عملاً في الشريعة، ولا يرجع بمثلها عمّا علم وقطع عليه (4) أو لا توجب علماً ولا يقيناً، وأكثر ما توجبه - مع السلامة التّامة - الظن، ولا يجوز الرجوع علماً ولا يقيناً، وأكثر ما توجبه - مع السلامة التّامة - الظن، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة... ممّا يوجب العلم اليقين، (5) أو إنّها لا توجب الظن، ولا تنتهي إلى العلم، (6) وما شابهها من التعابير الّتي هي صريحة في نفي صفة العلمية والعملية عن أخبار الآحاد، بل صرّح أنّها لا يعمل عليها في الشريعة. (7)

وصرّح في موضع آخر باقتران القياس وخبر الآحاد بأنّهما لا يمكن أن يكونا طريقاً إلى العلم بشيء من الأحكام البتة، والحال على ما نحن عليه من فقد دليل التعبد بهما. (8) .

ويعلل الشريف المرتضى (قدس سرّه) هذا الإصرار على هذه القضية بقضية منطقية تتألّف من صغرى وكبرى ونتيجة، فهو يقول:

____________________

(1) الانتصار: ص214، 217، 351، وجوابات المسائل الموصليات الثالثة: ص235، 242 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

(2) الانتصار: ص235، 519، وجوابات المسائل الموصليات الثالثة: ص260 - 261 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى).

(3) الانتصار: ص 35، 519.

(4) المصدر السابق: ص269.

(5) المصدر السابق: ص391.

(6) المصدر السابق: ص498.

(7) المصدر السابق: ص120، 182.

(8) مناظرة الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم: ص123 - 124 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).

١٠٧

1 - إنّا لا نأمن فيما تقدّم عليه من الحكم الّذي تضمّنه خبر الآحاد أن تكون مفسّرة.

2 - ولا نقطع على أنّ خبر الآحاد مصلحة.

3 - والإقدام على مثل العمل بخبر الآحاد قبيح. (1)

ثمّ يترقّى الشريف المرتضى (قدس سرّه) في البحث حتّى ينسب إلى أصحابه من الإمامية: (أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول).

ولكنّه يتراجع قليلاً عن هذا الاختيار ويقتصر على القول: (وقد بيّنا في مواضع كثيرة: أنّ المذهب الصحيح هو تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، لكن ذلك ما ورد ولا تُعبِدنا به، فنحن لا نعمل بها؛ لأنّ التعبّد بها مفقود، وإن كان جائزاً). (2)

وقد يبدو تهافتاً في البين نتيجة لقوله يستلزم العمل بخبر الآحاد المفسدة، وبين قوله بجواز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، ولكنّه يجيب عن هذا الإشكال قائلاً:

(إذا فرضنا ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد أَمِنّاً أن يكون الإقدام عليها مفسدة؛ لأنّه لو كان مفسدة أو قبيحاً لَمَا وردت العبادة به من الحكيم تعالى بالعمل بها، فصار دليلاً على العمل بها، يقطع معه أنّ العمل مصلحة وليس بمفسدة، كما يقطع على ذلك مع العلم بصدق الراوي.

وإذا لم ترد العبادة بالعمل بأخبار الآحاد وجوّزنا كذب الراوي فالتجويز لكون العمل بقوله مفسدة ثابتة، ومع هذا التجويز لا يجوز الإقدام على الفعل، لأنّا لا نأمن من كونه مفسدة، فصارت هذه الأخبار الّتي تروى في هذا الباب غير حجّة، وما

____________________

(1) رسالة في الرد على أصحاب العدد: ص30 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).

(2) المصدر السابق.

١٠٨

ليس كذلك لا يعمل به، ولا يلتفت إليه). (1)

ويلخّص الشريف المرتضى (قدس سرّه) في نهاية البحث: أنّ الاعتماد على أخبار الآحاد، هو التعويل على سراب بقيعة (2) ، حتّى إنّه في رسالته في الرد على أصحاب العدد يخالف مقاطع كثيرة من عباراته الأخرى الّتي صرح فيها أنّه لو كان الخبر لا بأس بتأويله بوجه لا ينافي العقول - كما يأتي الإشارة إليها في بحوثه مع القاضي عبد الجبار المعتزلي، وفي تأسيساته في تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) - ولكنّه يقطع هنا قائلاً:

(ولا يجب علينا أن نتأوّل خبراً لا نقطع به ولا نعلم صحّته)؛ (3) وليس ذلك إلاّ لأجل أنّ هذه تدخل تحت البحوث الفقهية والاجتهادية، ولا معنى للتأويل.

نعم، هو يستدرك قائلاً بأنّه يمكن على سبيل التسهيل ذكر تأويلاً للخبر وإن لم يكن ذلك واجباً، (4) وهذا التنبيه، وهو ما تعورف عليه الآن في مباحث الأصول بالتسامح في أدلّة السنن.

ولكن الإصرار الشديد على هذه المسألة؛ لأجل أنّ المخالفين اعتمادهم على أخبار الآحاد، كما يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه). (5)

ولا استغراب في ذلك؛ فإنّ العمل من الإمامية كان برفض خبر الواحد حتّى زمان الشريف المرتضى (قدس سرّه) وبعد زمانه بكثير، كما يأتي بحث ذلك مفصّلاً في خبر الواحد في الفصل الأصولي، إن شاء الله تعالى.

____________________

(1) المصدر السابق: ص30 - 31.

(2) المصدر السابق: ص47.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

(5) الانتصار: ص117، 385، 408، 434.

١٠٩

ملاكات ضعف الخبر:

هناك بعض الوجهات الرجالية في تضعيف سند بعض الأخبار تنمّ عن دقّة الشريف المرتضى (قدس سرّه) الرجالية، فهو يقول: (وهذا خبر لم يروه أحد من أصحاب الحديث إلاّ من طريق ابن طاووس، ولا رواه ابن طاووس إلاّ عن أبيه عن ابن عبّاس، ولم يقل ابن عبّاس فيه: سمعت ولا حدّثنا). (1)

ويتوسّع البحث أكثر عند الشريف المرتضى (قدس سرّه) ليشمل صورة اختلاف لفظ الحديث مع وحدة الطريق، فيجعل ذلك علامة على ضعف الخبر يقول بعد البحث السابق: وطاووس يسنده تارةً إلى ابن عبّاس في رواية وهيب ومعمّر.

وتارةً أخرى: يرويه عنه الثوري وعليّ بن عاصم، عن أبيه مرسلاً غير مذكور فيه ابن عبّاس، فيقول الثوري وعليّ بن عاصم، عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ هو مختلف اللفظ؛ لأنّه يروي: فما أبقت الفرائض فلأُولي ذكرٍ.

وروي أيضاً: فلأُولي عصبةِ قربٍ.

وروي أيضاً: فلأولي عصبة ذكرٍ.

وفي رواية أخرى: فلأولي رجل ذكر عصبة، واختلاف لفظه والطريق واحدٌ يدلّ على ضعفه.

وقد خالف ابن عبّاس الّذي يسند هذا الخبر إليه ما أجمع متقبّلو هذا الخبر عليه في توريث الأخت بالتعصيب؛ إذا خلّف الميت ابنة وأختاً على ما قدّمناه وحكيناه عنه، وراوي الخبر إذا خالف معناه كان فيه ما هو معلوم. (2)

فنرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) هنا يطرح ملاكين في ضعف الخبر:

____________________

(1) المصدر السابق: ص554.

(2) المصدر السابق: ص 55، وانظر: مسائل الناصريات: ص408.

١١٠

1 - اختلاف لفظ الخبر، والطريق واحد يدلّ على ضعفه.

2 - إذا كان راوي الخبر يخالف ما رواه، كان فيه ما هو معلوم.

ويشير الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى الملاك الأوّل في موضع آخر قائلاً: (وقد روى هذا الحديث بعينه الزهري فقال: عن عمرو بن عثمان، ولم يذكر علي بن الحسين (عليه السلام) واختلاف الرواية أيضاً فيه ممّا يضعّفه). (1)

ويؤكّد الشريف المرتضى (قدس سرّه) على مِلاكات أخرى، وهي:

3 - تفرّد الراوي بالخبر، فهو يقول بهذا الصدد:

(فأمّا خبر أسامة فمقدوح فيه؛ لأنّ أسامة تفرّد به عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

وتفرّد به أيضاً عنه عمرو بن عثمان.

وتفرّد به الزهري عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام).

وتفرّد الراوي بالحديث ممّا يوهنه ويضعفه لوجوه معروفة). (2)

ويقول أيضاً: (فأمّا خبر شهر بن حوشب... فإنّه تفرد به عن عبد الرحمن بن عثمان، وتفرّد به عبد الرحمن عن عمرو بن خارجة، وليس لعمرو بن خارجة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلاّ هذا الحديث، ومن البعيد أن يخطب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في الموسم، بأنّه لا وصية لوارث، فلا يرويه عنه المطيفون به من أصحابه، ويرويه أعرابي مجهول، وهو عمرو بن خارجة، ثمّ لا يرويه عن عمرو إلاّ عبد الرحمن، ولا يرويه عن عبد الرحمن إلاّ شهر بن حوشب، وهو ضعيف متّهم عند جميع الرواة). (3)

نعم، يستدرك السيّد المرتضى (قدس سرّه) أمراً مهمّاً قائلاً: (إنّه لا يلتفت إلى ما يروى ممّا يخالف هذه الظواهر من الطرق الشيعية ولا الطرق العامية وإن كثرت؛ لأنّها تقتضي

____________________

(1) الانتصار: ص589 - 590.

(2) المصدر السابق: ص589.

(3) المصدر السابق: ص599 - 600.

١١١

الظن، ولا تنتهي إلى العلم. وهذه الظواهر الّتي ذكرناها توجب العلم، ولا يرجّح عنها بما يقتضي الظن، وهذه الطريقة هي الّتي يجب الرجوع إليها والتعويل عليها، وهي مزيلة لكلّ شغب في هذه المسألة). (1)

4 - وأحد المضعّفات في حاق الخبر: هو معارضة أخبار الشيعة لأخبار الجمهور، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (فإن ذكروا في ذلك أخباراً يروونها، فكلّها أخبار آحاد... وهي معارضة بأخبار ترويها الشيعة تتضمّن أنّ الطلاق...). (2)

ويتنبّه الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى تهافت صريح في هذا المعتقد، فيقول: (وليس لهم أن يقولوا: هذه أخبار لا نعرفها ولا رويناها، فلا يجب العمل بها.

قلنا: شروط الخبر الّذي يوجب العمل عندكم قائمة في هذه الأخبار، فابحثوا عن رواتها وطرقها لتعلموا ذلك، وليس كلّ شيء لم تألفوه وترووه لا حجّة فيه، بل الحجّة فيما حصلت له شرائط الحجّة من الأخبار). (3)

هذا ويؤكّد الشريف المرتضى (قدس سرّه) على التمسّك بأخبار أهل البيت (عليهم السلام)، وعن طريقهم تقام دعائم المذهب الإمامي، فليس أخبار الإمامية بما هم فرقة لها الحجّية والاعتبار، وإنّما لأجل تمسّكهم بأهل البيت (عليهم السلام) وهم الوسائط إلى الحقّ الصريح؛ فإنّهم النجوم الزاهرة كزين العابدين والباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام)، يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه) معقباً على هذا: (وهؤلاء (عليهم السلام) أعرف بمذهب أبيهم - صلوات الله عليه - ممّن نقل خلاف ما نقلوه). (4)

وعن طريق هذا الاستدلال استطاع الشريف المرتضى (قدس سرّه) أن يوجّه أخبار الإمامية، حيث إنّ هناك أخباراً روتها، وهي مأخوذة عن أئمّتهم (عليهم السلام) ولا بدّ أنّ

____________________

(1) المصدر السابق: ص500.

(2) المصدر السابق: ص303.

(3) المصدر السابق: ص263.

(4) المصدر السابق: ص565 - 566.

١١٢

مصدر الأئمّة (عليهم السلام) هو جدّهم الإمام علي (عليه السلام) الّذي تسالم الفريقين بالأخذ بأقواله وأفعاله.

5 - ينفرد الشريف المرتضى (قدس سرّه) - على الظاهر - بتضعيف آخر حائز على أهمية بالغة، ولكنّه يحتاج إلى شامّة وذوق فقهي دقيق قلّما يصل إليه الفقيه إلاّ بتمعّن ودراسة واسعة لجميع فروع الحكم، وهو أنّ بعض الرواة وضع بعض الأخبار ورتّبها على حسب توجّهه الفقهي، وقد احترس هذا الراوي عن المطاعن الموجّهة إليه بعد ذلك، واستعمل من الألفاظ ما لا يدخله الاحتمال والتأويل.

وتوضيح ذلك: بعض الأخبار تدلّ على مذهب أصحاب العدد، وأنّه هل هو ثلاثون أو تسعة وعشرون يوماً؟

وقد سئل الشريف المرتضى (قدس سرّه) سائلاً، فقال: دليل آخر من جهة الأثر: وهو ما روى الشيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّي (رضي الله عنه) في رسالته إلى حمّاد بن علي الفارسي في الردّ على الجنيدية.

وذكر بإسناده عن محمّد بن يعقوب بن شعيب، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ الناس يروون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صام شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً أكثر ممّا صامه ثلاثين.

فقال: كذبوا ما صام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ تامّاً، ولا يكون الفرائض ناقصة، إنّ الله تعالى خلق السنّة ثلاثمئة وستّين يوماً، وخلق السماوات والأرض في ستّة أيام يحجزها من ثلاثمئة وستّين يوماً، فالسنّة ثلاثمئة وأربعة وخمسون يوماً.

وهو: شهر رمضان ثلاثون يوماً لقول الله تعالى: ( ولتكملوا العدّة ) (1) والكامل تامّ، وشوال تسعة وعشرون يوماً، وذو القعدة ثلاثون يوماً، لقول الله تعالى: ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى‏ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) (2) والشهر هكذا

____________________

(1) البقرة: 185.

(2) الأعراف: 142.

١١٣

شهر تامّ وشهر ناقص، وشهر رمضان لا ينقص أبداً، وشعبان لا يتمّ أبداً.

وهذا الخبر يغني عن إيراد غيره من الأخبار؛ لما يتضمّنه من النصّ الصريح على صحّة المذهب ويحويه من البيان.

قال الشريف المرتضى (قدس سرّه): (أمّا هذا الخبر فكأنّه موضوع ومرتب على مذهب أصحاب العدد؛ لأنّه على ترتيب مذهبهم، وقد احترس فيه من المطاعن، واستعمل من الألفاظ ما لا يدخله الاحتمال والتأويل، ولا حجّة في هذا الخبر ولا في أمثاله على كلّ حال). (1)

6 - وأحد الملاكات في ضعف الخبر: هو عدم وضوح منطق الخبر في أنّه تفسير أو توقيف، كما ورد عن عبد الله بن عبّاس (رضي الله عنه) في تفسير قوله تعالى: ( حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ... وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنّ ) . (2)

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال في تفسير هذه الآية: ابهموا ما أبهم الله. (3)

وروي أيضاً أنّه قال: تحريم أمهات النساء مبهم). (4)

ويعلّق الشريف المرتضى (قدس سرّه) قائلاً: (فأمّا أن يكون قاله تفسيراً أو توقيفاً، فإن قاله توقيفاً فالمصير إليه واجب، وإن قاله تفسيراً من قِبل نفسه فلم يخالفه مخالف). (5)

وهذا الملاك بروحه يرجع إلى الشامّة الفقهية للفقيه، ويتّحد مع الملاك السابق

____________________

(1) رسالة في الردّ على أصحاب العدد: ص29 - 30 (رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).

(2) النساء: 23.

(3) البحر الزخّار: ج4 ص32.

(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج5، ص106.

(5) مسائل الناصريات: ص318.

١١٤

الّذي يحتاج إلى دراسة دقيقة وواسعة في منطق الأخبار، ليعرف الفقيه التفسير من التوقيف حتّى أنّ الشريف المرتضى (قدس سرّه) توقّف في دلالة هذا الخبر عن ابن عبّاس (رضي الله عنه).

7 - ويمكن عدّ التعارض بين أخبار الجمهور فيما بينها هو أحد المضعّفات على مسالك الجمهور؛ حيث يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وبعد، فهذه الأخبار معارضة بأخبار مثلها تجري مجراها في ورودها من طرق المخالفين لنا، وتوجد في كتبهم وفيما ينقلونه عن شيوخهم، ونترك ذكر ما ترويه الشيعة وتنفرّد به في هذا الباب؛ فإنّه أكثر عدداً من الرمل والحصى). (1)

وقريب من هذا المعنى ما قاله: (إنّ أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم...). (2)

وفي خاتمة هذا التضعيف نرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) يؤكّد على أنّ هذا الاضطراب يستوعب جميع التراث الروائي لأهل السنّة، قائلاً: (وهذه الطريقة الّتي سلكناها يمكن أن تنصر [تطرد، خ] في جميع أخبارهم الّتي يتعلّقون بها ممّا يتضمّن وقوع طلاق ثلاث، فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كلّه ونهجناه، فلا معنى للتطويل بذكر جميع الأخبار). (3)

8 - وهناك تضعيف آخر قد يعتبر جزئياً، ولكنّه إذا توجّه إليه يعتبر كلياً، وهو سرايته إلى جميع الأخبار: وهو غلط الراوي في بعض ألفاظ الرواية، يقول (قدس سرّه): (فإن تعلّق المخالف بما روي: من أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله، إنّي قد وهبت لك نفسي.

فقال (صلّى الله عليه وآله): (مالي في النساء من حاجة).

____________________

(1) الانتصار: ص111.

(2) المصدر السابق: ص313 - 424.

(3) المصدر السابق: ص312.

١١٥

فقام إليه رجل فقال: زوجنيها يا رسول الله.

فقال: (ملكتكها بما معك من القرآن). (1)

ويجيب الشريف المرتضى (قدس سرّه) على هذا الخبر قائلاً: (والجواب عن هذا الخبر بعينه ما روي: أنّه (عليه السلام) قال له: (زوجتكها).

وقيل: إنّ الراوي غلط في نقله: (ملكتكها)، فأقل ما في الباب أن نتوقّف مع الاشتباه، فلا يكون في الخبر دليل لهم). (2)

وهناك بعض الملاكات في ضعف الخبر، ولكنّها ليست هي قواعد عامّة يمكن جعلها مناهج كلّية في هذا المجال، مثل:

9 - الإرسال: كما ورد ذلك في خبر الضحّاك، الّذي ادعى الشريف المرتضى (قدس سرّه) أنّه روى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مرسلاً. (3)

10 - قد جعل الشريف المرتضى (قدس سرّه) إنكار الزهري للحديث أحد المضعّفات للخبر، يقول في هذا المجال: (فالجواب عنه أنّ هذا هو خبر واحد، وهو مع ذلك مطعون في طريقه، والزهري قد أنكره، ومداره عليه). (4)

11 - طرح الشريف المرتضى (قدس سرّه) بعض الأخبار وأورد على مضامينها أنّها مخالفة للصور والقياسات المنطقية، كما ورد في كيفية الترتيب بين اليدين، قال الشريف المرتضى (قدس سرّه): (ويمكن أيضاً أن يحتجّ في ذلك عليهم بما يروونه من قوله (عليه السلام): (وقد توضأ مرّة مرّة: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به).

ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (فلا يخلو أن يكون قدّم اليمنى أو أخرها، فإن كان

____________________

(1) سنن الترمذي: ج3، ص421، ح1114.

(2) مسائل الناصريات: ص326 - 327.

(3) الانتصار: ص538.

(4) المصدر السابق: ص283.

١١٦

قدّمها وجب نفي إجزاء تأخيرها، وإن كان أخّرها وجب نفي إجزاء تقديمها، وليس هذا بقول لأحد من الأمّة). (1)

وفي مطاف البحث يشير الشريف المرتضى (قدس سرّه) إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّه قد تطرح بعض الأخبار وتجعل في خانة المضعّفات؛ نتيجة لغرابتها على أذهاننا، ولكن بأدنى توجّه نستسيغ الخبر ونقبله.

ويقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): (وممّا انفردت به الإماميّة: (استحبابهم أن يدّرج مع الميّت في أكفانه جريدتان خضراوان رطبتان من جرائد النخل، طول كلّ واحدة عظم الذراع.

وقد روي من طرق معروفة: إنّ سفيان الثوري سأل يحيى بن عبادة المكّي عن التخضير، فقال: إنّ رجلاً من الأنصار هلك، فأوذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: خضّروا صاحبكم فما أقلّ المتخضّرين يوم القيامة، قالوا: وما التخضير؟ قال: جريدة خضراء توضع من أصل اليدين إلى أصل الترقوة.

وقد قيل: إنّ الأصل في الجريدة أنّ الله تعالى لمّا هبط آدم (عليه السلام) من الجنّة إلى الأرض استوحش وشكا ذلك إلى جبرئيل (عليه السلام) وسأله أن يسأل الله - جلّ ثناؤه - أن يؤنسه بشيء من الجنّة، فأنزل الله - جلّ وعلا - عليه النخلة، فعرفها، وأنس بها؛ ولذلك قيل: إنّ النخلة عمّتكم؛ لأنّها كانت كالأخت لآدم (عليه السلام)، فلمّا حضرته الوفاة، قال لولده: اجعلوا معي من هذه النخلة شيئاً في قبري، فجعلت معه الجريدة، وجرت السنّة بذلك.

وليس ينبغي أن يعجب من ذلك، فالشرائع المجهولة العلل لا يعجب منها، وما التعجب من ذلك إلاّ كتعجب الملحدين من الطواف بالبيت، ورمي الجمار، وتقبيل الحجر، ومن غسل الميت نفسه وتكفينه مع سقوط التكليف عنه). (2)

____________________

(1) المصدر السابق: ص102.

(2) المصدر السابق: ص131 - 132.

١١٧

التحقيق حول رواة الخبر:

السند وسلامته يشكل الحجر الأساس في المنظومة الاجتهادية، والشريف المرتضى (قدس سرّه) له اليد الطُّولى في هذا المجال، ونأتي على ذلك بنماذج لنرى مقدار معطيات هذا المنهج عنه، ثمّ بالقاسم المشترك بينها لنخرج بنتيجة منهجية في ذلك:

1 - يرى الشريف المرتضى (قدس سرّه) أنّ أبا بكر بن أبي سبرة - عند نقّاد الحديث -: من الكذّابين. وما يرويه عن الحسين بن عبيد الله بن عبّاس فهو أيضاً عندهم من الضعفاء المطعون في روايتهم. (1)

2 - وينقل الشريف المرتضى (قدس سرّه) عن الساجي قوله: إنّ يزيد بن أبي زياد كان رفّاعاً، ثمّ يفسّر كونه رفّاعاً، أي: يرفع إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما لا أصل له. (2)

3 - ما ينقله الشريف المرتضى (قدس سرّه) عن المخالفين بما رووه عن قتادة، عن سمرة، عن الحسن بن محمّد...، يقول: وقد طعن في هذا الخبر بأنّ قتادة دلّسه، وقال: عن سمرة ولم يقل: حدّثني. (3)

4 - لا يقطع الشريف المرتضى (قدس سرّه) على أنّ هذيل بن شرحبيل مجهول ضعيف؛ لأنّه ينقل ذلك بعنوان: قيل. (4)

5 - يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): إنّ الحسن بن عمارة ضعيف عند أصحاب الحديث، ولمّا ولي المظالم، قال سليمان بن مهران الأعمش: ظالم ولي المظالم. (5)

6 - وصرّح الشريف المرتضى (قدس سرّه) بأنّ عمرو بن شعيب مضعّف عند أصحاب الحديث. (6)

____________________

(1) المصدر السابق: ص391.

(2) المصدر السابق: ص498، واُنظر تهذيب التهذيب: ج11، ص288.

(3) المصدر السابق: ص517.

(4) المصدر السابق: ص558.

(5) المصدر السابق: ص566، وانظر تهذيب الكمال: ج6، ص275.

(6) المصدر السابق: ص590.

١١٨

7 - يطرح الشريف المرتضى (قدس سرّه) في مسألة الوصية للوارث ثلاثة أخبار:

الخبر الأوّل: ما رواه شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن عثمان، عن عمرو بن خارجة، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)....

الخبر الثاني: ما رواه إسماعيل بن عيّاش، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:....

يقول الشريف المرتضى (قدس سرّه): فأمّا خبر شهر بن حوشب فهو عند نقاد الحديث مضعّف كذّاب، ومع ذلك فإنّه تفرد به عن عبد الرحمن بن عثمان، وتفرد به عبد الرحمن عن عمرو بن خارجة، وليس لعمرو بن خارجة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلاّ هذا الحديث. ومن البعيد أن يخطب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في الموسم بأنّه لا وصيّة لوارث، فلا يرويه عنه المطيّفون به من أصحابه، ويرويه أعرابي مجهول وهو عمرو بن خارجة، ثمّ لا يرويه عن عمرو إلاّ عبد الرحمن، ولا يرويه عن عبد الرحمن إلاّ شهر بن حوشب، وهو ضعيف متّهم عند جميع الرواة.

فأمّا حديث أبي أُمامة فلا يثبت، وهو مرسل؛ لأنّ الّذي رواه عنه شرحبيل بن مسلم، وهو لم يلق أبا أُمامة، ورواه عن شرحبيل إسماعيل بن عيّاش وحده، وهو ضعيف.

وحديث عمرو بن شعيب أيضاً مرسل، وعمرو ضعيف لا يحتجّ بحديثه.

وحديث جابر أسنده أبو موسى الهروي، وهو ضعيف متّهم في الحديث، وجميع من رواه عن عمرو بن دينار لم يذكروا جابراً ولم يسندوه.

وما روي عن ابن عيّاش لا أصل له عند الحفّاظ، وراويه حجّاج بن محمّد، عن ابن جريح، عن عطاء الخراساني، وعطاء الخراساني ضعيف، ولم يلق ابن عيّاش

١١٩

وإنّما أرسله عنه.

وربّما تعلّق بعض المخالفين بأنّ الوصيّة للوارث إيثار لبعضهم على بعض؛ وذلك ممّا يكسب العداوة والبغضاء بين الأقارب، ويدعو إلى عقوق الموصي، وقطيعة الرحم.

وهذا ضعيف جدّاً؛ لأنّه إن مُنع من الوصيّة للأقارب ما ذكروه، منع من تفضيل بعضهم على بعض في الحياة بالبرّ والإحسان؛ لأنّ ذلك يدعو إلى الحسد والعداوة، ولا خلاف في جوازه، وكذلك الأوّل. (1)

والقاسم المشترك بين هذه التضعيفات هي ضعف الراوي، ولكن كانت صور التضعيف على عدّة أشكال:

أ - كذّاب.                                                     و - مجهول.

ب - ضعيف                                                    ز - ظالم.

ج - مطعون فيه.                                                ح - مضعّف.

د - رفّاع.                                                       ط: متّهم في الحديث.

هـ - مدلّس.                                                     ي - لا يُحتجّ بحديثه.

وهذا المقدار من التضعيفات ممّا يستحقّ البحث والتحقيق، وهي تنمّ على سعة أُفق الشريف المرتضى (قدس سرّه) الرجالية خصوصاً ما رأيناه في النقطة السابعة، فقد ردّ الخبر بأسانيده الثلاثة بتفصيل دقيق.

نعم، في بعض الأحيان يجمل الشريف المرتضى (قدس سرّه) القول في تضعيف الخبر، ولا يتعرّض إلى تفصيل الطعن، أمّا لأجل وضوحه، أو لأجل أسباب أخرى، كما يقول (قدس سرّه): (إنّ هذا الخبر مطعون عليه عند أصحاب الحديث، مقدوح في راويه). (2)

____________________

(1) المصدر السابق: ص599 - 600.

(2) مسائل الناصريات: ص410.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353