شيء عن الردة

شيء عن الردة0%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

شيء عن الردة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد عبدالله
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 14517
تحميل: 6244

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14517 / تحميل: 6244
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شيء عن الردّة

(الجحاف السلمي)

أحمد عبد الله

١

« المقدّمة »

هذا حديث قد يؤذي البعض وقد يثير البعض، والله يشهد أني لم أرد شيئاً من ذاك. لم أقصد أن أؤذي أحداً ولا أن أثير أحداً. فليس بيني وبين القارئ إلاّ ما يكون بين الكاتب وقارئه من احترام وتقدير. وهذا الاحترام هو الّذي دفعني إلى الكتابة في موضوع زُوّر كثيراً وشوّه كثيراً، هو موضوع الردّة.

ولم يكن أمامي، وأنا أحاول البحث فيه ودراسته إلاّ أحد خيارين: أن أكتب فأعيد ما كتبه أو زوّره الآخرون. وفي ذلك من خيانة الأمانة والازدراء بالقارئ واللعب بحقائق التاريخ، ما لا أريده لنفسي ولا للقارئ. وما أظن تأريخ أمة من الأمم، قد زُوّر كما زوّر تأريخنا، فهو ليس في حاجة إلى مزيد.

وأمّا أن أكتب إرضاءً للحق واحتراماً للقارئ وفي هذا ما لم يعهد ولم يألف، وخمسة عشر قرناً من التزوير قد عملت في النفوس حتى جعلت مهمّة الكاتب والقارئ معاً، أمراً شديد الصعوبة بالغ العسر.

كيف يستطيع الكاتب أن يصل إلى حقيقة ما، في طريق طويل شائك مظلم، فهو يسير حذراً بطيئاً، يردّه طول الطريق وشوكه وظلامه، ويدفعه فيه لذّة اكتشاف الحقيقة وبلوغها. وكيف يستطيع القارئ أن يسيغ حقيقة جديدة، وقد نشأ ونشأت قبله أجيال وأجيال، وهي لا تعرف ولا تقرأ ولا تتحدّث إلاّ ما كتبه مزوّرو الحقائق ممّن نسمّيهم مؤرّخين.

وهكذا وجدتني بين عاملين. يردّني أوّلهما ويدفعني الآخر، حتى انتهيت إلى قرار بأن أمضي في الطريق، على طوله وشوكه وظلامه.

وكان هذا الكتاب الّذي بين يديك حول (الردّة).

والردّة ـ وليكن هكذا اسمها الآن ـ هي إحدى أهم القضايا الّتي واجهها المسلمون بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسالت الكثير من الدم وأثارت، وما تزال، الكثير من النقاش.

لقد كان فيها امتحان للسلطة من جهة، وامتحان لجماهير المسلمين من جهة. امتهنت فيها كرامات واستبيحت أعراض وسفكت دماء، ولم يكن قد مرّ على غياب نبيّهم غير أيام تستطيع أن تعد ساعاتها إن شئت.

٢

ولا أظنني أبعد عن الحق إذا قلت: إن الدم الّذي سال ظلماً في وقائع الردّة، قد أسال دماً أكثر بعدها، وسهّل على الحكّام طريق الدم الّذي يسلكونه لأيّة شبهة أو خلاف، لا يردعهم عن ذلك ما للإنسان من حرمة لم يجعل الإسلام لها ما يساويها.

والحديث عن الردّة هو، في الوقت ذاته، حديث عن محنة هذا التأريخ العربي الإسلامي الّذي هو أسير عدد من المزوّرين والمتعصّبين والحمقى، يقودهم كذّاب اسمه سيف بن عمر يتصرّف به كما يشاء. ثم هو محنة هؤلاء القرّاء والدارسين الّذين هم أيضاً، أسرى هذا الشخص يوجّههم حيث يشاء، وقد روى عنه واستند إليه كبير المؤرّخين الطبري. فأنت لا تستطيع أن تتناول موضوعاً ممّا يخص تأريخنا، خصوصاً الردة، دون الرجوع إليه واعتماد رأيه، من خلال الطبري أو من جاء بعده ونقل عنه وتأثّر به. وليس هناك من الّذين جاؤوا بعده من لم ينقل عنه أو يتأثّر به.

ومن هنا كان علينا أن نبحث موضوع الردّة بنظرة جديدة وروح جديدة، بعيدة عن تعصّب الماضين وتحاملهم وتلقّي بعضهم عن بعض، وذلك لا لمجرد اللذّة يحسها الكاتب أو القارئ في الكشف عن حقيقة طال السكوت عليها وكتمانها، بل دفعاً لظلم امتد قروناً كان من ضحاياه مسلمون أبرياء، شوّهت سيرتهم أحياء فاستحقوا القتل، وشوّهت صورتهم أمواتاً فاستحقّوا اللعن.

على أني لا أريد أن أصادر رأي القارئ في الردّة وفي أحداثها. ولا أن أمنعه من رأي لا يوافقني عليه فيها، فلم أكتب إلاّ انتصاراً لحرية الرأي الّذي صادرته، على امتداد عصور طويلة، سلطات تتبارى في حجره والتضييق عليه، حتى أصبح الإعراب عن رأي مخالف لرأيها بدعة أو زندقة أو كفراً، ما أكثر ما أطار من رؤوس.

وفي هذا البحث، لن أتناول كل ما سمّاه المؤرّخون ردّة ولا كل من سمّوهم مرتدين، فذلك بحث لا أنوي الخوض فيه هنا، دون أن يساورني شك في أحداثه ودوافعه وأشخاصه.

٣

سأقصر حديثي في الردّة على ما سمّي بردّة مالك بن نويرة. فعلى كثرة القتلى من المسلمين وممّن سُمّوا مرتدين، وعلى كثرة القتلى من فرسان العرب ورجالهم الّذين كانوا يرون الموت بغير القتل عاراً. فإن مأساة مالك تبقى واحدة من تلك المآسي الإنسانية الّتي تتجاوز حدودها الفردية، لتمثّل صورة لهذا الظلم الّذي تعرّض له المسلمون ولما يمض على وفاة نبيّهم إلاّ أيّام كما قلت.

وكم تمنّيت أن أملك ريشة مصوّر فنّان لأكون أقدر على تقديم هذه الصورة بما ينبغي لها، غير مبالٍ بأن تشوّه صورتي أنا، عند الّذين لا يرون الخير والجمال إلاّ في قتلهما.

وهذه مشكلة واجهها عدد كبير قبلي، ممّن حاولوا أن يناقشوا بعض قضايا تأريخنا، فاجتهدوا رأياً لا يتفق مع ما ثبت من رأي فيها، تداولته الأجيال وساعدت عليه السلطة وقبض ثمنه المؤلّفون. فإذا بالقيامة تكاد تقوم، وإذا بالمعاهد والمؤسّسات هنا وهناك تتسابق إلى تكفير صاحب الرأي، مستعينة بكل ما لديها ولدى السلطة من قوّة ونفوذ. وكأن الإسلام كلّه قد أوشك أن ينهد وتتداعى أركانه للاجتهاد الجديد في هذه القضية أو تلك من قضايا التأريخ.

ثم نتساءل بعد ذلك عن أسباب انحطاطنا وتخلّفنا، و نحن نخلق، والخوف معنا، يجري في دمائنا. فأنت لا تستطيع أن تبحث أو تعالج قضية إن استطعت، إلاّ بحذر كبير ومن مسافة بعيدة وبإشارات أو رموز أقرب إلى رموز المنطق والرياضيات. لا لسبب إلاّ لأنّ هذا البحث يمسّ قضيّة ترفض السلطة أو الجهات الدينية الخوض فيها أو الاقتراب منها، بعد أن صارت لطول الوقت، مصدر قوّة لتلك ورزق لهذه. لا يهم من بعد أن يزوّر التأريخ ويظلم الناس أمواتاً أو أحياء، ما دام ذلك يخدم المصلحة المشتركة للطرفين.

أظنني استطردت أكثر ممّا يجب وأكثر ممّا عليّ أن أحذر. ولكن حرية الرأي لا تنتهي معاركها التي قد تكون ـ وما أحسبني مصيباً في استعمال (قد) هنا ـ أكبر من كل المعارك الأخرى الّتي تخوضها الجيوش.

وأنا على استعداد أن أكون واحداً من جنودها، وأن أخوض معركتها وأتحمّل نتائجها. ولكني أيضاً على يقين أن أحرار الفكر سيخوضونها معي، فهي معركتهم؛ لأنها معركة الفكر.

٤

وأعود إلى مالك، أحاول الكشف عن مأساته أو تقريبها، من خلال النصوص المتيسّرة لدينا، ما أسعفتنا النصوص، أو اعتماداً على الاستنتاج، إذا قصرت النصوص فلم تفصح أو تعمّدت ألاّ تفصح.

وسيرى القارئ ـ ولا بد أن أعترف ـ أن البحث وهو يعالج مأساة مالك ربما تناول أو مسّ بعض الشخصيات من كبار الصحابة الّذين يحتلّون المنزلة الرفيعة في نفوس المسلمين، وربما رأى ما لا يعجبه في الحديث ومناقشة مواقفهم من قضية مالك. وقد يصدمه ذلك ويؤذيه.

وإلى هذا القارئ أقول: إن الشخصيات الّذين سيتناولهم البحث يحتلّون عندي نفس المنزلة الرفيعة الّتي يحتلّونها عنده وعند غيره من المسلمين. وربما تجاوزت فقلت إن منزلتهم عندي أعلى منها عندهم. لكن هذه المنزلة لا يحط منها في نظري أو يضعفها موقف في قضية، كان هناك ما هو أفضل منه لمعالجتها. فأنا مع احترامي الشديد لكل الّذين سترد أسماؤهم من كبار الصحابة، وحتى من الراشدين، لست ممن يعتقد عصمتهم من الخطأ، والعصمة لله وحده. ولا يعني رأيي في موقف لهم، أني أريد الإساءة إليهم أو الانتقاص منهم.

معاذ الله أن أكون إلى هذا قصدت من الكتابة عن مالك بن نويرة.

٥

الباب الأول

الفصل الأول

(موقف المسلمين بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )

٦

الفصل الأول

(موقف المسلمين بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )

كانت وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله صدمة للمسلمين عاطفية، فقد ذهب الموت بأعزّ الناس عليهم وأحبّهم إليهم وأملكهم لقلوبهم وأقربهم إلى نفوسهم يصبحون عليه حين يصبحون فلا يفارقونه حتى يفارقهم هو، للراحة أو للنوم أو للوحي.

وسياسية إذ كان النبي هو الّذي يتولّى حلّ المشاكل والخلافات الّتي تعرض لهم يوميّاً، في السلم والحرب، وفي سائر شؤون الحياة، وما تفرض من اتصال وعلاقات دائمة لا تخلو ممّا يشوب ويكدر أحياناً.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملاذاً وموئلاً يرجعون إليه في كل ذلك. يحكم فلا يتّهم في حكمه، ويرى فيمضي رأيه في غير حرج ولا إكراه. فهو رسول الله وصاحب الوحي، قوله وفعله سنّة، وفيه اجتمع الدّين والدّنيا.

وكانت تثور بين المسلمين، مهاجرين وأنصاراً، في المدينة بعض الخلافات الّتي استطاع النبيّ بحكمته، أن يلطّف من حدّتها ويحصرها في أضيق دائرة يمكن أن تحصر فيها، رغم اختلاف النسب وقوّة العصبية، ثم ما تولّده المعيشة المشتركة بين أصحاب الدار (المدينة) من الأنصار وبين المهاجرين إليها، من أسباب جديدة للنزاع الدائم، مهما بالغنا في تنزيه المسلمين بطرفيهم ورفعناهم إلى فوق مستوى الناس.

وبين المهاجرين أنفسهم كان وجود النبي مانعاً لظهور خلافاتهم، وقد أقول كتلهم بشكل سافر، وإن كنت لا تعدم حتى مع وجوده بعض ما يشعرك بها.

ولكي تكون صورة ما جرى بعد وفاة النبي واضحة؛ أرى من الضروري أن أعود إلى الوراء: إلى الفترة الّتي تمّ فيها فتح مكّة. فقد كان هذا حدثاً كبيراً بالنسبة للمسلمين ولقريش في نفس الوقت. فإذا كان فتح مكّة يمثّل بداية عهد جديد للإسلام في قوّته وسيره وانتشاره، فأنّه على العكس كان يحمل نذير شر لقريش بانقضاء أملها في التصدّي للإسلام ووقف اندفاعه. وبهزيمتها المؤكّدة في أيّة مواجهة مقبلة معه، إن هي أقدمت على هذه المواجهة أو فكّرت فيها.

٧

وقبل الفتح كانت قد مرّت ثمان سنوات على هجرة النبي من مكّة، ذاق فيها المسلمون حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، لكنّهم كانوا مع كل يوم يمر يزدادون عدداً وقوّة وثقة بالنصر وانتظاراً له. وهاهم بعد طول انتظار يدخلون مكّة فاتحين منتصرين. وها هي قريش، بكل جبروتها وكبريائها، تقف مذهولة كسيرة وهي ترى هؤلاء المستضعفين الّذين أخرجتهم وشرّدتهم من مكّة، بعد أن أذاقتهم ألوان الذل والعذاب، يعودون إليها تخفق فوق رؤوسهم ألوية النصر. ولو شاءوا الثأر منها واستئصالها لما ردّهم عن ذلك شيء.

ولم تكن السنوات الّتي سبقت الفتح فترة توقّف أو ضعف للإسلام، ولا فترة سلم مع قريش وحلفائها.

كانت وفود العرب قد بدأت تتسارع إلى الدخول في الدين الجديد. وكانت قريش نفسها قد بدأ يساورها القلق من دخول من دخل منها، أو من تشير الدلائل إلى قرب دخوله فيه. وقد فقدت الكثير من سطوتها وسيطرتها حتى على أبنائها.

كل شيء إذن يشير إلى اختلاف موازين القوى لصالح الإسلام ورجحان كفّة المسلمين الّذين أصبح لهم في المدينة عاصمة ومركز ينطلقون منه ويستقبلون القادمين إليه آمنين مطمئنين.

وبدا واضحاً أن قريشاً قد خسرت المعركة، وأن انتصار الإسلام بشكله النهائي الحاسم لم يعد إلاّ مسألة وقت لن يدوم طويلاً، وهو ما يحزن هؤلاء السادة من شيوخ قريش وقادتها، لكنه يحزن أكثر هؤلاء الشباب من أبنائهم ويحيّرهم، فإذا كان الآباء يمنعهم كبر السن وقد بلغوا منه، وتمكّن العصبية وشدّة التمسّك بالماضي، من الالتحاق بالإسلام ومحمد، حتّى الّذين كانوا يرون بحسّهم وخبرتهم قرب انتصاره وزوال سلطان قريش. فإن هؤلاء الشباب كانوا يفكّرون بأسلوب آخر، لقد كانوا أشدّ إحساساً بالخطر واهتماماً بالمستقبل وفي ما ينتظرون أو ينتظرهم فيه.

لقد أصبح الإسلام واقعاً جديداً، إن كان فرض نفسه حتّى الآن على المدينة وما جاورها من بلاد العرب، فإنّه لن يلبث حتى يفرض نفسه على كل بلاد العرب وربّما غير بلاد العرب.

٨

قد لا يكونون أقل عداءً لمحمّد من آبائهم، لكنّ إصرارهم على موقفهم منه وبقاءهم في الصف المعادي، سيحول بينهم وبين ما يطمحون إليه ويرجونه في هذا الواقع الّذي يكادون يلمسونه، وهم يرون ويسمعون كلّ يوم عن انتصارات جديدة يحقّقها الإسلام هنا وهناك، وهم في هذا، يختلفون عن آبائهم الّذين أمضوا أطول الشطرين من حياتهم في الجاهلية، والّذين لن يحقق لهم الإسلام شيئاً ممّا يمكن أن يحقّقه لهؤلاء الأبناء الّذين ما يزال العمر طويلاً أمامهم.

ثمان سنين وهم يحاربون محمّداً ودينه. لم يتركوا وسيلة لمحاربته وصدّ الناس عنه إلاّ سلكوها، على قربه منهم ومساس رحمه بهم وبدء الدعوة فيهم. وقبلها سنون في مكّة فعلوا معه ما لا زيادة فيه، حتى حاولوا قتله، دون أن يبلغوا منه ما يريدون أو بعض ما يريدون. وهو في كلّ ذلك لا يزداد إلاّ قوّة وعلو شأن وكثرة أتباع.

هنا كان لا بدّ من وقفة تفكير بعيدة عن الهوى قريبة من العقل، تنزع إلى الإفلات من الماضي الّذي أصبح قيداً ثقيلاً على مستقبلهم وحركتهم وطموحهم وآمالهم. وقفة لا شأن لها بما يشدّ الآباء الّذين انتهى طموحهم، وهم يستقبلون انتصارات الإسلام شيوخاً قد تجاوزوا سنّ الطموح.

كان عليهم أن يقرّروا، إذ حان وقت القرار، ولن يكون قرارهم غير أن يسارعوا إلى إعلان إسلامهم طوعاً، بعد أن تأخّروا فيه طويلاً حتّى الآن، لعلّهم يجدون مكاناً لهم وقد تقدّمهم وسبقهم بفضل الإسلام، من كان تابعاً لهم ومن كان لا يقاس بهم. أو أن ينتظروا ما ستأتي به الأيام، وهو على كلّ حال لن يكون خيراً لهم ولا لقريش.

وبادر خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما من شباب قريش فأعلنوا إسلامهم قبل الفتح ببضعة أشهر فقط هي المدّة بين صفر ورمضان من عام ٨ هجرية.

وتخلّف معاوية بن أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما فلم يسلموا إلاّ بعد الفتح.

ولأترك الّذين أسلموا كرهاً بعد الفتح، لأقف قليلاً عند من سبقوهم: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن أسلم معهما من شباب قريش. فما الّذي جدّ في نظر هؤلاء بعد كل هذه السنين الطويلة، ودفعهم إلى إعلان إسلامهم واللحاق بركب المسلمين؟!

٩

أتراهم كانوا يحاربون الإسلام واحداً وعشرين عاماً، لا يتركون وسيلة إلاّ ركبوها للقضاء عليه، وإبعاد المسلمين عنه، بإرهابهم واستعمال كلّ ضروب العنف والقهر والأذى ضدّهم، وملاحقتهم في أي بقعة يستطيعون أن ينالوهم فيها، حتى وهم بعيدون عنهم في أرض الحبشة وتحت حماية النجاشي.

هل كانوا يفعلون كلّ هذا، وهم لا يعرفون الإسلام ولا محمّداً ولا ما يأمر به وينهى عنه ولا ما يدعو إليه؟!

أكانوا سيسلمون لو شعروا أنّ الإسلام قد ضعف، أو لو قدروا على الانتصار عليه في حرب أو سلم؟

أمّا أنا فلا أريد أن أكون غبياً ولا أن أتغابى فأقبل أن إسلام خالد وعمرو وغيرهما ممّن أسلم معهما بعد واحد وعشرين عاماً من الحرب المتصلة الّتي لم تعرف رفقاً ولا انقطاعاً، جاء عن اقتناع بالإسلام وإيمان بمحمّد واعتقاداً برسالته. بل عن اقتناع بعجزهم عن محاربة محمّد ودينه ورسالته، وبأنّ الأرض بدأت تتسع له وتضيق بهم، وأنّه لن يلبث حتّى يبسط سيطرته على كلّ الأرض العربية، وهي قناعة فرضت عليهم وعلى أمثالهم إعادة النظر في حساباتهم كما يقال في لغة العصر.

أدركوا أن بقاءهم خارج الإسلام وفي الصف المعادي له، مع كلّ هذه الانتصارات الّتي تتوالى، يعرضهم لنفس ما تعرّض له المسلمون الأوائل في بداية الدعوة من أذى وقهر وإذلال، وصورة أولئك المسلمين المعذَّبين المستذلّين أمامهم، قد شاركوا هم فيها وساهموا في رسمها، وربما كان هذا هو الحد الأدنى الّذي يتوقعونه، ثم إن أي تأخير في الإعلان عن إسلامهم سيجرّده من أيّة قيمة ويحرمهم من أي دور في هذا المجتمع الجديد الّذي احتلّت واجهته أسماء لم تكن لتبرز لولا سبقها إلى الإسلام وجهادها فيه. سيعيشون إذن على هامش الحياة التي كانوا هم عمادها.

فكّروا في هذا وذاك فأرادوا أن يحتاطوا لأنفسهم ما دام الوقت لم يفت نهائياً وما دامت هناك فرصة يمكن الإفادة منها.

وهكذا أقبل خالد وعمرو وعثمان بن طلحة يعلنون إسلامهم، وهم يحملون طموحهم وكبرياءهم و(قرشيتهم) وحساب المستقبل، وذلك قبل فتح مكّة بأشهر كما ذكرت.

١٠

ثم جاء الفتح في رمضان وجاء معه إسلام معاوية بن أبي سفيان وإسلام أبيه وعكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم من مسلمة الفتح كما يطلق عليهم. وأظن في هذا الاسم من الدلالة على طبيعة إسلامهم ما لا يحتاج إلى إيضاح.

وكانت المدينة عاصمة الإسلام ومقصد المسلمين لزيارة النبي وإعلان إسلامهم على يديه والإقامة بجواره.

وفي المدينة كنت تستطيع أن تميّز بشكل أساسي ثلاثة اتجاهات يقرب بين أفراد كل منها بعض الخصائص المشتركة الّتي قد لا تلقاها في الاتجاه الآخر.

وأول هذه الاتجاهات ما يمثّله الأنصار، الّذين يتألّفون من قبيلتي الأوس والخزرج، وهم كتلة قويّة لو اتحدت كلمتها، ولو لم تمزّقها منافسات من بقايا الجاهلية وآثارها الّتي لم يستطع الإسلام أن يقضي عليها بصورة نهائية، فظلّت تثور بين الحين والحين كلما وجد ما يثيرها من قول أو فعل.

ويبدو أنّ قريشاً كانت أميل للأوس منها للخزرج. فلم يكن في الأوس من يحلم بالإمارة أو يطمح إليها كعبد الله بن أُبي أو كسعد بن عبادة الّذي ستقتله الجن في حوران لأسباب لم تعلنها حتّى الآن، مع أن المؤرّخين لم يذكروا، وهم يتحدّثون عن أيام العرب في الجاهلية، أنّ قتالاً قد دار بين الخزرج رهط سعد، وبين واحدة من قبائل الجن، يستوجب حقد الجن على سعد والثأر منه وملاحقته حتى ظفرت به في حوران، فرمته بسهمين لم يخطئا فؤاده كما يفخر بذلك واحد من شعراء الجن لا أعرف اسمه.

ولا أدري ما الّذي منع علي بن منصور(١) وهو يطوف في نواحي الجنّة كما ينقل شيخ المعرّة، أن يمر على سيد الخزرج وهو يستحق زيارة، أو يسأل بني الشيصبان من قبائل الجن عن أسباب مقتل سعد، وقد مرّ على الكثيرين منهم وسألهم عن أخبارهم، ولم يكن ابن عبادة دونهم قدراً ومنزلة، فلعلّ لديه أو لدى هؤلاء الجن، ما يفسّر عداءهم لسعد وقتلهم له.

__________________

(١) المعروف بابن القارح صاحب المعرّي في رسالة الغفران.

١١

ويبدو أن حديث الجن وحسن استعمالهم للسلاح قد استهواني وبعد بي، لولا أن أنتبه لنفسي فأترك حديث الجن، وأعود إلى الأوس والخزرج الّذين يمثّلون كتلة كان يفترض أن يكون لها شأن أكبر بكثير مما كان لها، خصوصاً وهي في (مدينتها) وعلى أرضها. لكن حسد كل منهما للأخرى، والخوف أن تستأثر إحداهما بالسلطة، وحدّة المنافسة بين زعماء القبيلتين، كلّ ذاك أدّى إلى إضعاف هذه الكتلة الّتي انضمّ أحد شطريها (الأوس) إلى الكتلة القرشية في السقيفة تاركين الخزرج وحدهم. ثم اختلف الخزرج فيما بينهم بعد ذلك فضعف أمر الاثنين، وفاتتهم الإمارة والوزارة بعد أن قيل لهم (منّا الأمراء ومنكم الوزراء).

والاتجاه الثاني هو الّذي يمكن تسميته بالاتجاه القرشي، إذ كان يتألّف في غالبيته ممّن ينتمون إلى قريش ومن حلفائهم وأتباعهم. وهذا الاتجاه هو الّذي سيكون له الحكم والسلطان والسطوة.

وثالث الاتجاهات هو الّذي يضم عليّاً وبني هاشم وأنصارهم وأكثرية غير قرشية، من هؤلاء السائرين على خط علي ونهجه.

على أنّ هذا لا يعني أنّ جميع المسلمين كانوا موزّعين بين هذه الاتجاهات الثلاثة، يحمل كلّ منهم هوية مختومة تبيّن انتماءه لأيٍّ منها، فالخلاف بقي محصوراً خصوصاً في عهد النبي ومع وجوده، في حدود ما هو طبيعي ممّا يحصل بين شخص وشخص ورأي، لم يبلغ حد القطيعة والعداء. ثم إن العديد من المسلمين أفراداً وجماعات لم يلتزموا خطّاً واحداً في علاقاتهم بهذه الاتجاهات أو الكتل.

وأسلم المتأخّرون من رجال قريش، سواء الّذين أسلموا قبل الفتح بأشهر كخالد وعمرو أو الّذين أسلموا بعد الفتح كمعاوية وعكرمة، أسلموا حين لم يكن لديهم خيار غيره. وكان أمامهم هذه الكتل الثلاث فإلى أيّ منها سينضمّون؟

لن ينضمّوا طبعاً إلى كتلة الأنصار، فهم ليسوا منها وليست منهم، وحميّة الجاهلية وكبرياء قريش ودماء بدر وأُحد تمنعهم من ذاك. وهي أقوى لديهم من أن يمحوها الإسلام، ويعفو آثارها. وكان الأنصار، وهم يحاربون في صفّ النبي، قد وتروا هؤلاء بأب أو أخ أو قريب. وكثير عليهم أن يسكتوا عن الأنصار ويتركوهم فلا يطالبونهم بمن نالوا منهم.

١٢

وأبغض إليهم وأشد عداء من هؤلاء الأنصار، علي وكتلته، فهو جزّار قريش كما يسمّونه، وميتّم أولادهم ومرمّل نسائهم. هل ينسون ما لقوا على يديه ويدي عمّه الحمزة؟!

ولو تجاوزوا عن كل ذلك ونسوه أو تناسوه. فماذا سيجدون عند ابن أبي طالب؟! إنهم يعرفونه جيداً، وغاية ما يأملونه منه أن يساويهم بأي واحد من هؤلاء المسلمين الّذين أحبّهم وأحبّوه وألفهم وألفوه، فلا ميزة ولا فضل لأيٍّ منهم على أيٍّ من هؤلاء. وهو ما لا يتصوّره ابن الوليد بن المغيرة ولا ابن أبي سفيان بن حرب ولا ابن أُمية بن خلف ولا غيرهم من أصحابهم، ممّن هم في منزلتهم ومكانتهم.

وهكذا كان الأمر محسوماً. فمع إسلامهم أو قبل إسلامهم حدّدوا الجهة التي سيتعاونون معها وينضمّون إليها.

وانضمّوا لكتلة قريش يسندونها ويستندون إليها وينصرونها وينتصرون بها. ومع الأيام أصبحت هذه الكتلة هي الكتلة المسيطرة، وبدأ الإسلام يأخذ وجهاً قرشياً وتحوّلت العلاقة بين هذه الكتلة القرشية وبين المسلمين والعرب الآخرين إلى علاقة من نوع آخر، غير ما عرف المسلمون في أيامهم الأولى.

وصحب هذه العلاقة الجديدة ونتج عنها طبعاً، شعور بالقوّة وشعور أوضح بالاستعلاء، لم يرض المسلمين الأوّلين لتعارضه مع قيم الإسلام. ولم يرض العرب من غير هؤلاء لتعارضه مع قيمهم، وهم ليسوا بعيدي عهد بالجاهلية. وكان من الممكن أن يقود هذا الوضع إلى بعض العواقب غير المحمودة، لولا شخصية الرسول النافذة الّتي استطاعت، بما لها من جلال النبوّة وسموّ المنزلة والاحترام المطلق، أن تحجب أي أثر سيّئ قد ينتج عن ذلك في حياته.

وكان الأنصار من أوائل من أحسّ بهذا الوضع الجديد وما ينتظرهم منه بعد وفاة النبي، وهو ما سيحصل يوماً ما، والأنصار هم أهل المدينة وسكّانها. وليس بعيداً ما كان بينهم وبين قريش الّتي بدأت تمسك بخيوط السلطة. وكانت قريش من جانبها وهي تعد للمستقبل، قد مدّت جسوراً مع عدد من الأنصار، سيّما الأوسيين، للإفادة منهم عند الحاجة. واستجاب بعض هؤلاء وتعاونوا مع قريش طمعاً وأملاً أو غيرة وحسداً لأبناء عمومتهم الخزرج.

١٣

ومرض النبي وثقل عليه المرض. وبدأ كأنّه لن يبرأ من مرضه وأنه ملاق ربّه بعد أيام.

واشتدّ الحزن بالمسلمين. ومع الحزن كان هناك خوف وقلق ممّا ستأتي به الأيام بعد وفاة النبي.

وتهيّأت كتلتا قريش والأنصار للعمل... قريش لتسلّم السلطة، والأنصار للدفاع عن أنفسهم ضد سلطة قريش، ورفضهم أن تكون لها السيادة عليهم وهم في بلدهم، وبهم نصر الله نبيّه ورسالته.

وافترض أنّ اجتماعات على مستوى الأفراد والقادة والزعماء من القبيلتين (الأوس والخزرج) قد تمّت بينهم للبحث في مستقبلهم رغم خلافاتهم. فليس من المعقول أن يتمّ اجتماع السقيفة، ويسارع إليه كل قادة وزعماء وشيوخ الأنصار، لا يتخلّف منهم أحد بمجرّد سماعهم خبر موت النبي، دون تفكير سابق ودون اتفاق سابق، حتّى على مكان الاجتماع الّذي هرعوا إليه، وإلاّ لكان بعضهم على الأقل قد ذهب إلى حيث يرقد النبي لتوديعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه. أيعقل أن يموت رسول الله على أمتار من بيوت الأنصار الّذين آووه وأحبّوه وآثروه وآثروا أصحابه على أنفسهم، فلا يحضر موته أحد منهم، ليشاركوا كلّهم في اجتماع سقيفة بني ساعدة ويتركوه؟! ولو كان الميت واحداً من المهاجرين أو الأنصار، لا رسول الله، لذهبوا أو بعضهم، يساعدون أو يشيّعون أو يعزّون.

وإذا كان الأنصار قد فكّروا واجمعوا واجتمعوا، فلم تكن قريش غافلة عمّا يفعلون، وعيونها وأصدقاؤها بينهم. فما أن اجتمعوا حتّى فاجأهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الّذين وردتهم أنباء اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، تاركين هم ـ أيضاً ـ محمّداً وجنازته ودفنه، لما هو أهمّ في نظرهم.

وقبل أن يصل زعماء قريش الثلاثة إلى السقيفة، كان الأنصار قد احتشدوا هناك للبحث والاتفاق على مرشّح يقلّدونه أمرهم، لمواجهة أيام غير ما عرفوا: أيام بلا محمّد.

وكانت الدلائل تشير إلى أن هذا المرشّح هو سعد بن عبادة الخزرجي، لا مرشّح لهم سواه.

١٤

ولكن علينا أن نكون هنا حذرين، ونحن نعالج موقف الأنصار من تولية سعد. لقد كان سعد حقاً سيّداً كريماً مهيباً، لكنه لم يعدم حاسداً منافساً، أو في كل الأحوال مخالفاً له في الرأي، ومن قبيلته الخزرج، ذلك هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير ومعه عدد من آله.

ثم هناك الأوس (الجناح الثاني للأنصار) الّذين يتردّد موقفهم بين عاملين: المصلحة المشتركة للأنصار من الأوس والخزرج، وما يجمعهما من روابط النسب والدم والسكن في قبال قريش وسلطتها، والخوف أن تستأثر الخزرج ـ إذا ولي سعد الأمر ـ وتستبدّ به دونهم. وهو خوف عبّر عنه الأوسيّون في حوارهم مع بعضهم إثر مبايعة بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي أبا بكر. وهو ما أظنّه كان يدور في نفوسهم أو نفوس بعضهم، حتّى قبل مبايعة بشير وربما قبل اجتماعهم في السقيفة.

ولكن ما الّذي دفع الأنصار إلى هذا الاجتماع؟ ما الّذي كانوا يريدونه ويفكّرون فيه وهم يجتمعون في السقيفة ويرشّحون سعداً أو غير سعد؟ هل يريدونه أن يكون خليفة لمحمّد في نبوّته؟ طبعاً لا وقد ختمت النبوات والأنبياء بمحمّد، وهم حين آمنوا به آمنوا بألاّ نبيّ بعده.

ماذا كانوا يريدون إذن؟

كان التكتّل القرشي كما ذكرنا قد بدأ يبرز بقوّة ويفرض نفسه، يقرّب من شاء ويبعد من شاء. وكان بين عناصر هذا التكتّل من لا يمكن للأنصار أن يطمئنّوا إليه أو يثقوا به، لا ديانة فقط، بل لهذا ولما بينهم وبينه من أوتار ودماء وقتلى ليس من السهل نسيانها، لقد حاربوهم حتى وقت قريب على الإسلام، ويرونهم اليوم وهم من قادة الإسلام ورجاله وذوي الرأي والنفوذ فيه.

وقد توفّي محمّد. فما الّذي يحول بين هؤلاء ـ إذا استأثروا بالسلطة بعده ـ وبين تصفية حسابات ليست قديمة، أقل ما تنتهي إليه وتقف عنده أن تستبعد الأنصار وتحطّ منهم وتنزل بهم وبمكانتهم.

إذن كيف سيواجهون مستقبلاً هذا أهون ما يحمله لهم؟

لم يكن أمامهم إلاّ أن يفكّروا ويجتمعوا ويقرّروا ويتناسوا صراعاً ماضياً، ليواجهوا صراعاً قادماً. ولم يكن هذا ممكناً ما لم يتّفقوا على شخص يولّونه أمرهم، يلتفّون حوله ويلفّون معهم من تبعهم من القبائل الّتي تشعر شعورهم وتناصرهم.

وكان ترشيح سعد.

١٥

ولكن عدداً من الأنصار، خصوصاً من ذوي السابقة والجهاد في الإسلام، إن كانوا لا يرضون ابن العاص ويخشون ابن الوليد بن المغيرة أو ابن أبي سفيان، فإنهم كانوا يخشون بنفس الدرجة أو أكثر، أن يكون في ترشيح واحد من جانبهم ما قد يضعف الإسلام ويشق وحدة المسلمين ويجعل منهم فريقين، بعد أن كانوا فريقاً واحداً هم المسلمون، فضلاً عن عوامل الغيرة والحسد الّتي أشرنا إليها.

وهذا ما يفسّر ضعف الصف الّذي يقف وراء سعد وعدم تماسكه وسرعة تخلّيه عنه؛ لأنه لم يكن في الأصل قوياً ولم يكن في الأصل متماسكاً. كان هناك ما يجمعهم، ولكن كان هناك أيضاً ما يفرّقهم.

وإلاّ فما عسى أن يصنع ثلاثة حتّى لو كانوا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، في هذا الجمع الكثيف لو كان الأنصار قد اتفقوا وحزموا أمرهم وأجمعوا: أوسهم وخزرجهم، على ترشيح سعد.

وعلى كلٍّ فقد ذهب أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، ودار بين الجانبين حوار طويل. لكن الغريب أن هذا الحوار على طوله وتعدّد أطرافه، لم يتناول الولاية (الخلافة) كوظيفة دينيّة ـ لأنها فعلاً لم تكن كذلك ـ بل انصبّ الحوار كلّه على السلطة والإمرة والإمارة والوزارة. فهذا أبو بكر يقول وهو يخاطب الأنصار استرضاء وتطميناً لهم: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء). وهذا عمر يقول: (من ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته). ويقول: (لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم)(١) .

_________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٢٠ و ابن الأثير ج ٢ ص ١٩٢ - ١٩٣. ويبدو أن معاشر الأنبياء يورّثون حتى ما لا يقبل الإرث بطبيعته وما يخرج عنه ولا يصلح له كالحكم والسيادة والسلطان. ولكنهم، على العكس، لا يورّثون ما يقبل الإرث بطبيعته ويخضع له كالأموال والضياع. وما أحسبك نسيت حديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث...). هذا من جهة. ومن جهة ثانية فإن موقف عمر هنا يختلف عن موقفه الّذي سنراه فيما بعد، عند ترشيحه الستّة وحصره الخلافة في واحد منهم. فإذا كان عمر في السقيفة يصرّ على أن تكون الخلافة في قريش (لأن العرب لا ترضى أن تؤمّر من كان نبيّها من غيرهم) فإنه يصرّح بعد ذاك، وهو يرشّح الستّة، أن لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفه.

وأظنك تعلم أن سالماً هذا لم يكن قرشياً ولم يكن عربياً، وإنما مولى لأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة.

وما أظن سالماً هذا كان أفضل من الستّة الذين رشّحهم عمر سابقة وبلاء. ولم يكن من العشرة المبشّرين بالجنّة الذين بينهم الستّة المرشّحون.

١٦

فالموضوع في نظر ممثّلي قريش لا يتجاوز الإمرة والسلطان، وهو موضوع بعيد عن الدين، قريب من الحكم والسياسة، بل هو الحكم والسياسة ولا شيء غيرهما.

وهذا الموضوع البعيد عن الدين القريب من الحكم والسياسة، هو الّذي كان في ذهن الأنصار أيضاً، وهم يتحاورون مع ممثّلي قريش أو مع بعضهم. فاستمع إلى الحبّاب بن المنذر وهو يحضّ الأنصار ويحرّضهم على الثبات في موقفهم وعدم الإنصات إلى مقالة عمر قائلاً: (ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر). وما أحسب في الدين أنصبة يذهب بها من يشاء عندما يشاء، وإنما هي الإمارة والحكم والسلطان.

ثم استمع إليه وهو يخاطب بمرارة بشير بن سعد، بعد أن يسرع لمبايعة أبي بكر، وبشير هذا هو أول من بايع ونقض ما اجتمع عليه الأنصار من بيعة سعد بن عبادة (أنفست على ابن عمّك الإمارة).

فهل في كل ما سمعنا ممّا دار بين الطرفين، إلاّ حديث عن السلطة والإمارة والوزارة لمن تكون: لقريش أم للأنصار أم شركة بينهما.

وهزم سعد وهزم الأنصار. وبويع أبو بكر وانتصرت كتلة قريش، وتسلّمت الحكم لتبقى فيه أو يبقى فيها جيلاً بعد جيل.

لكن ما حصل في السقيفة من خلاف ـ ولا أقول صراع لكي لا أغضب من لا يرضيهم حديثي مهما خفّفت من حدّة ما حصل ومهما احتلت في تلطيفه ـ لم يكن ليخفى على العرب، حاضرهم وباديهم، وقد دار علنا وبين المئات وفي قلب المدينة. فسرعان ما انتشرت أنباؤه بينهم، وعرف الجميع أن الموضوع لا يتعدّى الإمارة ومن يتولاّها بعد النبي. وليست قريش أولى وأحق بها من غيرها، والنبي نبي المسلمين، والدين لهم جميعاً والأمر من بعده لا يختص به بعضهم دون بعض ولا يستأثر بفضله بعضهم على بعض. وإذا كان هذا الأمر مما تورّث، فإن بين الآخرين من قريش ـ وعلى رأسهم علي وما عرف به من فضل وجهاد وسابقة ودين ـ أولى ممّن يطالبون به وأحق منهم. وإذا كان في قريش الّتي تولّت الحكم، من سبق إلى الإسلام وجاهد فيه، وقد شاركهم فيه من لم يكن من قريش،

١٧

فإن في قريش أيضاً من كاد الإسلام وآذى نبيّه وحاربه مدّة طويلة، ولم يدخل في دينه إلاّ بعد اليأس من الانتصار عليه. وهؤلاء الآن هم الّذين يشاركون في حكم المسلمين ويتولّون شؤونهم ويديرونها برأيهم. ولم يكن هؤلاء رضا للمسلمين ولا موضع اطمئنانهم.

وبدأ حكم قريش، وفي نفوس العرب والمسلمين منه ومن الأسلوب الّذي اتبع فيه، شيء كبير. وكان بين العرب والمسلمين: الساخط والساكت على مضض، والساخط المعلن عن سخطه، والرافض للحكم، ومن هو بين هؤلاء وهؤلاء.

وبدلاً من أن يتجه الحكم إلى معالجة هذا الوضع بالحكمة وإعادة الثقة إلى النفوس وتهدئة الخواطر وتبديد الشكوك حول ما جرى وإزالة آثاره، والرفق بالمسلمين الّذين فجعوا منذ أيام بنبيّهم، ففقدوا فيه الأب والأخ والمرشد العاطف، وهم لا يزالون يعيشون الصدمة بفقده.

بدلاً من كل ذلك اتجه الحكم منذ البداية إلى الشدّة والعنف، تخويفاً وتحذيراً لكل الساخطين والرافضين والمتمرّدين. فصورة ما حصل في السقيفة والخوف ممّا يمكن أن يحصل بعد السقيفة وربما بسببها، تقلق الحكم ولا تريحه. وكانت الزكاة أقرب ما يحقّق له هدفه، فأمسك بها وأخذ الممتنعين عن دفعها والّذين لهم رأي فيه بكل أسباب القسوة والبطش، وكأنه يعلن بذلك عن سياسته الّتي سينتهجها إزاء الآخرين ممن وصفنا من المسلمين. وإلاّ فأيّة جريمة في أن يقوم المسلمون بتوزيع الزكاة على فقرائهم ـ وما أكثرهم ـ وعدم إرسالها إلى المدينة، حتى لو أخطئوا في ذلك. وهذا معاذ بن جبل، يوصيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين بعثه إلى اليمن في حديث يحمل الرقم ١٤٥٨ (... فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وتردّ على فقرائهم... وتوقّ كرائم أموال الناس). وهو ما تجده في الحديث ٧٣٧٢.

وهو ما تجده أيضاً في الحديث ١٣٩٥ (... أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) والأحاديث الثلاثة من أحاديث صحيح البخاري.

فما دامت هذه الأموال سترد على فقرائهم، وهم طبعاً أعرف بهم من غيرهم. فأيّة خطورة في أن يتولّوا هم لا سواهم، توزيعها على هؤلاء الفقراء؟!

١٨

ولأفترض أنهم أخطأوا في اجتهادهم هذا، بعدم إرسال الأموال إلى المدينة، مخالفين ما كانت تراه السلطة هناك. فهل يمكن أن يبرّر هذا الخطأ ـ وهو في جميع الأحوال لا يتجاوز هذا الوصف ـ ما جرى لهؤلاء المسلمين، وكأنهم بتأخير إرسال الزكاة أو بتوزيعها بين فقرائهم، قد تحوّلوا مشركين وعادوا إلى عبادة الأصنام، مع أن أشد ما يمكن أن يوجّه إليهم، بل وأشد ما وجّه إليهم فعلاً من قبل أكثر المؤلّفين تعصّباً ضدّهم وبغضاً لهم، أنهم امتنعوا عن إرسال الزكاة إلى المدينة.

وأرسلت الجيوش إلى هؤلاء (المرتدّين) يقتلونهم ويحرقونهم ويسبون نساءهم وذراريهم، وهو ما لم يفعلوه مع المشركين والكفّار.

هذا هو حديث ما حصل قبل السقيفة. وما حصل بعد السقيفة وربّما بسببها، حاول المؤرّخون لأسباب عديدة، أن يشوّهوه ويزوّروه، كما عوّدونا في الكثير من قضايا تأريخنا.

ولكن أرى من الضروري قبل أن أنهيه، أن أشير إلى ملاحظة تبدو لي في غاية الخطورة وذات علاقة وثيقة بما جرى، وبما سيجري بعد السقيفة من أسلوب في حكم المسلمين والتعامل معهم، لا يتفق مع طبيعة الإسلام وما يقوم عليه من مُثُل وقيم عالية.

فيروي ابن قتيبة واليعقوبي، وهما يتحدّثان عن بيعة أبي بكر وتأخّر بني هاشم وعدد من كبار الصحابة، أن أبا بكر أرسل إلى عمر وأبي عبيدة والمغيرة بن شعبة يستشيرهم في الموقف الواجب اتخاذه فقالوا: (الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده فتقطعون به ناحية علي ابن أبي طالب، حجّة لكم على علي إذا مال معكم. فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلاً. فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ثم قال... ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك...)(١) .

_________________

(١) تاريخ الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية لابن قتيبة ج١ ص ١٤ - ١٥ ط١ المكتبة التجارية الكبرى. وتأريخ اليعقوبي، ج ٢ ص ١٠٣ – ١٠٤. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ـ تحقيق الشيخ حسن تميم ـ دار مكتبة الحياة ١٩٦٣ ج ١ ص ١٨٣.

١٩

وانظر هنا أن لقاء العباس تمّ ليلاً، وأنهم لم يكتفوا بأن يجعلوا للعباس وحده نصيباً فربما يرفض ذلك لأسباب كثيرة، قد يكون من بينها كبر سنّه وكبر مقامه، وهما ما قد يمنعانه من قبول العرض أو عدم الإسراع إلى قبوله. فحاولوا إغراءه بأن هذا العرض لن يقتصر عليه، وإنما يشمل عقبه من بعده، فذلك أولى أن يدفعه إلى الرضا بما جاؤوا به ابتداء، أو تحت ضغط عقبه أو بعضهم ممن سيتناولهم (النصيب) وهم بعد شباب يستهويهم العرض، لا كأبيهم الشيخ عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعميد الهاشميين.

وأظنك تلاحظ أن القوم، وهم يتبرّعون للعباس ولعقب العباس بعد أبيهم، بهذا النصيب من الأمر ويمنحونه لهم، يتصرّفون تصرّف المالكين في ما يملكون، فضلاً عن أن هذا النصيب المتوارث في ذرّية العباس يمثّل مذهباً غريباً في النظر إلى الحكم، وبداية لما عرفه المسلمون من نظام ولاية العهد واستمراره فيما بعد.

ويروي الطبري أن أبا سفيان قال لما استخلف أبو بكر: (ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف ! قال فقيل له: إنه قد ولّى ابنك، قال: وصلته رحم)(١) .

وسترى أنهم تركوا لأبي سفيان ما بيده من زكاة فلم يطالبوه بتسليمها، استرضاءً له وتقريباً، وهم الّذين حاربوا المسلمين أعنف حرب باسم (الردّة) عن الإسلام؛ لأنهم لم يرسلوا زكاتهم إلى المدينة.

فإذا كانت الخلافة الراشدة قد بدأت عهدها باستمالة ـ ولا أسمح لنفسي بالقول: رشوة ـ ذوي الجاه والنفوذ من قريش ومنحهم ما لا حق لهم فيه: بجعل نصيب (في هذا الأمر) للعباس ولعقبه من بعده. وبتولية ابن أبي سفيان، استرضاءً، لهذين الزعيمين ومحاولة لكسبهما إلى جانبها. أو على الأقل، ضمان سكوتهما عنها.

فما أظنك ستستغرب أي سلوك، تواجهه بعد ذاك في العهدين الأموي والعبّاسي، و حتى يومنا هذا.

_________________

(١) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٠٩.

٢٠