شيء عن الردة

شيء عن الردة33%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16179 / تحميل: 7437
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الثاني

(موقف العرب بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢١

الفصل الثاني

(موقف العرب بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )

إذا كانت أول مشكلة واجهت المسلمين بعد وفاة نبيّهم هي مشكلة الخلافة، فإن أول مشكلة واجهت أبا بكر بعد الخلافة، هي ما أصطلح المؤرّخون على تسميته بالردّة، إمعاناً في الطعن على المتّهمين بها، وتبريراً لما نزل بهم من ظلم بلغ حدّ السبي والقتل والنهب دون سبب مقبول، أو على الأقل، دون سبب يتناسب مع ما نزل بهم.

فكيف يعرض المؤرّخون هذه المشكلة وكيف يصوّرون موقف القبائل العربية بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟.

يقول الطبري في ص ٢٢٥ من الجزء الثالث من تاريخه وهو يبحث الموضوع نقلاً عن سيف بن عمر(١) أشهر وأكثر رواته فيه (لما بويع أبو بكر (رض)... وقد ارتدّت العرب إمّا عامّة وإمّا خاصّة في كل قبيلة ونجم النفاق واشرأبّت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقلّتهم وكثرة عدوّهم...).

وفي صفحة ٢٤٢ عن سيف أيضاً (لما فصل أسامة ـ وكان النبي قد بعثه على رأس جيش من المسلمين إلى مؤته حيث قتل أبوه ـ كفرت الأرض وتضرّمت وارتدّت من كل قبيلة عامّة أو خاصّة إلاّ قريشاً وثقيفاً).

وفي نفس الصفحة، والنقل ما يزال عن سيف (لما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفصل أسامة ارتدّت العرب عوامّ أو خواص وتوحّى مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما...).

وفي ص ٢٤٣ ودائماً عن سيف (... فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من كل مكان بانتقاض عامّة أو خاصّة... وكان أوّل من صادم عبس وذبيان عاجلوه ت يعني أبا بكر ـ فقاتلهم قبل رجوع أسامة).

____________________

(١) التميمي توفّي عام ٢٠٠ هـ وأحداث الردّة وقعت عام ١١ هـ أي أن سيفاً هذا لم يحضرها ولم ينقل عمّن حضرها وإنّما ينقل أحداثها عبر سلسلة طويلة من الرواة إلى أن انتهت أخبارها إليه، ثم سلسلة أخرى طويلة من الرواة لكي تصل روايته لها إلى الطبري المتوفّى عام ٣١٠ هـ.

٢٢

وفي ص ٢٤٤ وعن سيف طبعاً فيبدو أن ليس لدى الطبري غير سيف الّذي نحن مدينون له بحفظ تاريخنا !! (مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة إلاّ ما كان من خواص أو عوام في القبائل الثلاث... فلم تحملهم الأرض ـ لكثرة أصحاب طليحة ـ فافترقوا فرقتين...).

ويذهب ابن الأثير مذهب الطبري في حديثه عن موقف القبائل بعد وفاة النبي محمد فهو يقول في صفحة ٢٠٥ من الجزء الثاني من تاريخه (ارتدّت العرب وتضرّمت الأرض ناراً وارتدّت كل قبيلة عامّة أو خاصّة إلاّ قريشاً وثقيفاً واستغلظ أمر مسليمة وطليحة واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد وارتدّت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن...).

وفي ص ٢٠٦ (وتبعه ـ يعني طليحة ـ كثير من العرب عصبية فلهذا كان أتباعه من أسد وغطفان وطيء...).

وأظنك ترى أن ابن الأثير يستعمل هنا نفس الألفاظ والتعابير التي استعملها الطبري وهو يتناول نفس الموضوع.

أمّا المسعودي فإنّه لا يعرض لحديث الردّة في مروج الذهب، لكنّه يؤكّدها في التنبيه والإشراف حين يقول في ذكر (خلافة أبي بكر الصديق (رض)) (وارتدّ أكثر العرب بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ) دون أن يتعدّى ذلك إلى التفاصيل التي رأيناها عند الطبري(١) .

ويتجاوز صاحب البدء والتاريخ الجميع حين يقول في ص ١٥١ الجزء ٥ (وارتدّت العرب قاطبة إلاّ ثلاثة مساجد: المدينة ومكّة والبحرين وناساً من نخع وكِندة) وحين يقول في ص ١٥٢ (... ورمتهم العرب ـ يقصد المسلمين ـ عن قوس واحدة...).

هكذا إذن يصوّر المؤرّخون المسلمون موقف الكثير من الزعماء والغالبية العظمى من القبائل العربية بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، متّهمين إيّاهم بالارتداد عن الإسلام ليبرّروا موقف السلطة منهم وتجريدها الجيوش لقتلهم وسبي ذراريهم وانتهاك حرماتهم.

____________________

(١) التنبيه والإشراف ـ دار الصاوي للطبع والنشر والتأليف ١٩٣٨ ص ١٤٧.

٢٣

لكن هؤلاء المؤرّخين لم يدركوا كما يبدو أنهم، وهم يجهدون في تبرير عمل السلطة والذبّ عمّا ارتكبته في حق أولئك العرب المسلمين، قد شوّهوا صورة الإسلام وطعنوا في سيرة النبي وحطّوا من شأن العرب.

فماذا سيجيبون لو طرح عليهم السؤال، ولِمَ ارتدّ هؤلاء العرب بعد محمّد؟

ليس أمامي أو بالأحرى ليس أمامهم إلاّ أحد جوابين: إمّا أن يكون العرب أو الغالبية التي ارتدّت منهم قد دخلوا في الإسلام كرهاً عن غير اقتناع ولا رغبة وإنّما خوف القتل وهرباً منه فهم ينتظرون الفرصة ليرجعوا إلى ما كانوا فيه من دين. وقد جاءتهم الفرصة، أو هكذا تصوّروا، بموت محمد فتركوا دينه الّذي فرضه عليهم بحدّ السيف.

وما أظن هذا ممّا يقبله مسلم لدينه ونبيّه ولا عربي لقومه.

وإمّا ألاّ يكونوا قد آمنوا مطلقاً ولم يعرفوا الإسلام ولم يدينوا به، ومات النبي وهم على ذلك. وفي هذا الفرض ليس هناك مجال للحديث عن ردّة ومرتدّين. وهو ما يتضمّن بالضرورة سبق الدخول في الإسلام والإيمان به.

فإذا استبعدنا هذين الفرضين، ومن الأفضل استبعادهما. فلا يبقى أمامنا إلاّ خيار واحد يبدو أقرب إلى طبيعة الأشياء وأحرى أن يحافظ على روعة الإسلام ونقائه ويصونه عمّا يمكن أن يلحقه من مطاعن وعيوب. وهو أنّ ما حصل بعد وفاة النبي لم يكن في عمومه ردّة عن الإسلام ولا إنكاراً لنبوّة محمّد ولا طعناً فيه أو فيها، وإنّما موقف من الخليفة بعده واجتهاداً في أسلوب التطبيق لمسألة من مسائل الدين هي الزكاة.

وفرق كبير بين موقف من الإسلام وبين موقف من الخليفة الّذي لا يعدو أن يكون ـ مع التسليم بفضله وهو ما لا نشك فيه ـ رجلاً يخطئ ويصيب لا عصمة له ولا لغيره.

وفرق كبير أيضاً بين موقف من الزكاة الّتي هي فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه، وبين اجتهاد ـ وإن اعتبر مخطئاً ـ في كيفيّة إجراء هذه الفريضة، وهو أمر ما كان أيسر تلافيه حينذاك.

٢٤

على أنّي لو صدّقت هؤلاء المؤرّخين فيما يذهبون إليه وأريد أن أصدّقهم، وأقبل مثلاً ما يرويه الطبري عن ردّة العرب وكفرهم وتحوّل المسلمين إلى ما يشبه الغنم في الليلة المطيرة الشاتية لقلّتهم وكثرة عدوّهم كما مرّ بنا.

فكيف سأقبل رواية الطبري أنّ أشباه الغنم هؤلاء قد انتصروا على غطفان يقودهم خارجة بن حصن(١) ومنظور بن زبان(٢) .

وغطفان كما نعرف من أقوى قبائل العرب وأحد جناحي قيس، وتضم فيما تضم عبساً وذبيان، وفي فزارة من ذبيان بيت قيس في الجاهلية(٣) .

ولأنقل لك نص الطبري في هذا (... وكان نوفل بن معاوية الديلي بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلقيه خارجة بن حصن بالشرية فأخذ ما في يديه فردّه على بني فزارة فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر فأوّل حرب كانت في الردّة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي حرب العنسي وقد كانت حرب العنسي باليمن ثم حرب خارجة بن حصن ومنظور ابن زبان بن سيار في غطفان والمسلمون غارّون فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ثم هزم الله المشركين)(٤) .

فالنص لا يكتفي بالإشارة إلى انتصار أشباه الغنم على غطفان القوية الكبيرة، بل يهمّه أن يحدّد أنّ هذا الانتصار قد تحقّق وأشباه الغنم غارّون أي غافلون. ولا أدري ماذا كانوا سيفعلون بغطفان لو أنّهم لم يكونوا غافلين عنهم وأنّهم قد تهيّئوا للقائهم.

____________________

(١) ابن حذيفة بن بدر، جدّه حذيفة كان يدعى (رب معد) لجلالة قدره وعلوّ منزلته وهو صاحب داحس والغبراء. وأبوه حصن بن حذيفة الّذي قال زهير بن أبي سلمى في مديحه حياً ورثائه ميتاً ما يعتبر بحق من أروع شعره. وأخوه عيينة بن حصن أحد المؤلّفة قلوبهم وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه (الأحمق المطاع)، وابنه وحفيده أسماء بن خارجة ومالك بن أسماء من أشراف قيس ورؤسائهم في العهد الأموي.

(٢) ابن سيار الفزاري أحد سادات فزارة في الجاهلية والإسلام، تزوّج عبد الله بن الزبير ابنته.

(٣) وبيوت العرب (التي تتسلسل فيها الرئاسة بثلاثة آباء متتالين) أربعة. ثلاثة في عدنان هي آل زرارة بن عدس من دارم بيت تميم، وآل بدر بن عمرو من فزارة بيت قيس، وآل ذي الجدين من شيبان بيت ربيعة، وواحد في قحطان آل عبد المدان من بني الحارث بن كعب.

(٤) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٦.

٢٥

كل هذا وجيش أسامة لم يعد بعد. ولم أجد حديثاً عن الملائكة لأقول إنّ الملائكة كانت تحارب مع المسلمين أو بدلاً عنهم. وإن كانت عبارة الطبري الأخيرة قد توحي بشيء من هذا.

اسمعه يقول (فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ثم هزم الله المشركين) فهو لا يتحدّث عن قتال جرى بين الطرفين ولا عن قتلى سقطوا بينهم. وإنّما عن انحياز أبي بكر إلى أجمة واستتاره بها. ثم فجأة وخلافاً لما يتوقّعه القارئ بعد هذا، تنهزم غطفان. هزمهم الله دون أن تسيل قطرة دم من كلا الطرفين. وكأن غطفان ما جاءوا إلاّ لينهزموا.

ومع ذلك فسأترك غطفان وهزيمتها، وأترك معها الغنم وأشباه الغنم، لأتوقّف عند نقطة أخرى أولى أن تثير الانتباه.

فإذا كان العرب قد ارتدّوا وكفروا ولم يبق على الإسلام غير قريش وثقيف وخواص أو عوام هنا وهناك. فكيف استطاع أبو بكر أن يجند أحد عشر جيشاً عليهم أحد عشر أميراً ويوجّههم لقتال من ارتدّ من العرب.

يحاربون غطفان وينتصرون عليها كما رأينا.

ويحاربون غطفان وأسداً وطيئاً وينتصرون عليها كما سنرى.

ويحاربون تميماً وينتصرون عليها.

ويحاربون حنيفة وينتصرون عليها.

ويحاربون جيوش العنسي وينتصرون عليها.

ويحاربون اليمن وحضرموت وعمان ومهرة والبحرين و و و وينتصرون عليها.

فمن أين جاء هؤلاء الّذين يحاربون وينتصرون، وليس في العرب كما يذكر الطبري نفسه، من ثبت على إسلامه غير قريش وثقيف وخواص أو عوام من قبائل العرب؟!

سؤال سأحاول الإجابة عليه في فصل ثان.

٢٦

ولكن قبل ذلك أود أن أسأل عن موقف قبائل عربية أهمل المؤرّخون، وهم يصنّفون العرب إلى مرتدّين وغير مرتدّين، أمرها فلم يشيروا إليها عمداً أو سهواً. وقبائل عربية أخرى بدت وكأنها مرتدّة حيناً وثابتة على إسلامها حيناً آخر. أو لكي أكون دقيقاً، بدا المؤرّخون متناقضين في الحديث عنها وعن مواقفها بين الردّة وبين البقاء على الإسلام. فأنت لا تدري مع من ستصنّفها، وإن كان المؤرّخون رحمهم الله قد أصدروا حكمهم على جميع القبائل العربية بالردّة بعدما حصروا الالتزام بالإسلام والإقامة عليه بقريش وثقيف فقط وخواص أو عوام من هذه القبيلة أو تلك.

ولأبدأ بالأنصار: ألم يخطر ببالك يا سيدي أن تسأل عن الأنصار بأوسهم وخزرجهم: هؤلاء الذين آووا وآزروا ونصروا وضحّوا بالأموال والأنفس دفاعاً عن الإسلام وتمكيناً له وتحمّلوا في ذلك ما تحمّلوا.

هؤلاء الأنصار. هل كانوا هم أيضاً بين القبائل المرتدّة أم من الّذين أقاموا على الإسلام فساووا قريشاً وثقيفاً وخواصّاً وعواماً من القبائل الأخرى. ذلك أن الطبري، يتبعه ابن الأثير، لم يعرض لهم بكلمة ولم يحدّد موقفهم من الردّة، مع ثقل الأنصار وخطورة شأنهم وهم أهل المدينة وذوو العدد والبأس وفي الذروة بين قبائل العرب في تلك الجهة.

لكن سكوت الطبري ومن تبعه من المؤرّخين لم يمنعهم من الاعتراف بدور الأنصار وحسن بلائهم فيما خاض المسلمون من حروب (الردّة) رغم أن موقف الأنصار في تلك الحروب لم يكن ليخلو من شك وحيرة وعدم اقتناع بما هم مشاركون فيه.

فيروي لنا الطبري وهو يسوق حديث ما سمّي بردّة مالك بن نويرة (... وقد تردّدت الأنصار على خالد وتخلّفت عنه...)(١) .

ويعود إلى الأنصار ودورهم في حرب اليمامة فيذكر أنّه (... لما قدم خالد على أبي بكر من البطاح رضي أبو بكر عن خالد ووجّهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبراء بن فلان...)(٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ج ٣ ص ٢٨١.

(٢) المصدر السابق ج ٣ ص ٢٨٨.

٢٧

ثم يعود مرة أخرى ليؤكّد هذا الدور حين يقول (... وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس وكانت العرب على راياتها...)(١) .

ولا يختلف ابن الأثير إلاّ في يسير لفظ عمّا أورده الطبري بشأن موقف الأنصار وبلائهم في حروب الردّة(٢) .

كل هذا والطبري وابن الأثير يصرّان على أن قريشاً وثقيفاً أقامتا وحدهما على الإسلام دون ذكر للأنصار على الأقل.

وبعد الأنصار تستوقفنا قبيلة عربية أخرى يتردّد اسمها في أحداث الردّة هي طئ. فما هو موقف هذه القبيلة التي يختلف النظر إليها لا بين مؤرّخ وآخر، وهو اختلاف قد يكون مقبولاً أحياناً رغم خطورة النتائج التي تترتّب عليه، ولكن عند المؤرّخ الواحد نفسه.

فهذا الطبري مثلاً يتحدّث عن هذه القبيلة باعتبارها من القبائل المرتدّة طوراً والمحاربة للردّة والمرتدّين طوراً.

ويكفي لذلك أن ترجع إلى نص الحوار بين عدي بن حاتم وبين قبيلته طيء المنقول لنا في ص ٢٥٣ من ج ٣ من تاريخ الطبري. ثم ما أورده الطبري نفسه في ص ٢٥٥ وص ٢٦٤ وص ٢٧٦.

يقول النص الأول (وقدم عليهم ـ أي طيء ـ عدي فدعاهم فقالوا لا نبايع أبا الفصيل أبداً ـ يعنون أبا بكر ـ فقال لقد أتاكم قوم ليبيحنّ حريمكم ولتكنّونه بالفحل الأكبر فشأنكم به...).

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٦ و ٢١٩ و ٢٢٠.

(٢) و انظر ما يؤكّد ردّة طيء أيضاً وانضمامها إلى أسد وغطفان ص ٢٦٢ من ج ٣ من تاريخ الطبري ففيها (وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه فبايعهم ـ يعني خالداً ـ على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيء..) وكذلك ص ٢٦٤ وفيها (فتجمع إليها ـ يعني أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر ـ كل فل ومضيق عليه من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيء..) وكذلك ص ٢٧٦ وقد جاء فيها (لما أراد خالد السير خرج من ظفر وقد استبرأ أسد وغطفان وطيئاً وهوازن فسار يريد البطاح..). وكل هذا يؤكّد أنّ موقف طيء لم يكن مختلفاً عن موقف أسد وغطفان وهوازن المرتدّة.

٢٨

وهذا نص واضح الدلالة كما ترى على أن طيّاً كانت بين القبائل المرتدّة(١) .

ولكن الطبري يعود إلى طيء بعد صفحتين فقط من حديثه عن ردّتها ليؤكّد أنها بقيت على إسلامها ولم تعرف الردّة ولم تكن بين القبائل المرتدّة.

ولنسمع ما يقوله في هذا (... أنّ خالداً لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة قال لهم هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حيٍّ من أحياء العرب كثير عددهم شديدة شوكتهم لم يرتد منهم عن الإسلام أحد فقال له الناس ومن هذا الحي قال لهم طيء فقالوا وفّقك الله نعم الرأي رأيت. فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيء).

ثم يضيف إلى هذا النص نصّاً آخر لا يقل عن سابقه دلالة على إسلام طيء وثباتها إذ يروي (أن خيل طيء كانت تلقى خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشامون ولا يقتتلون فتقول أسد وفزارة لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً فتقول لهم خيل طيء: اشهد ليقاتلنّكم حتى تكنّوه أبا الفحل الأكبر).

فطيء الصفحة المائتين والثلاث والخمسين من تاريخ الطبري مرتدّة ترفض أن تبايع أبا الفصيل(٢) .

أمّا طيء الصفحة المائتين والخمس والخمسين فثابتة على إسلامها لم يرتد منها أحد، بل وكانت تحذّر أسداً وفزارة من قتل آت لا يجدون معه إلاّ أن يكنّوا أبا الفصيل أبا الفحل الأكبر.

ولكن ماذا كنت تسمع من طيء (المرتدّة) وهي تحاور عدي بن حاتم. ومن أسد وفزارة (المرتدّتين) أيضاً، وهم يردّون على طيء (المسلمة) أو ترد عليهم؟

هل غير حديث عن رفض البيعة لأبي بكر ـ أبي الفصيل كما كانوا يسمّونه ـ وهل ورد في كل ما نقله الطبري عنهم شيء ممّا يخصّ الزكاة أو غير الزكاة من فروض الدين وأركان الإسلام، وممّا يعتبر إنكاره أو الشك فيه ارتداداً وخروجاً عليه. وهو ما سبق أن لاحظناه، وهو ما سنلاحظه بشكل أوضح فيما يأتي من حديث (الردّة).

____________________

(١) وانظر ابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٥ و ٢٠٦ و ٢١١.

(٢) تاريخ الطبري ج٢

٢٩

وعلى كلٍّ فهذه النصوص المتعارضة لا تقرؤها عند مؤرّخين مختلفين ولو قرأتها عندهم لتحيّرت وتساءلت أيّها الصحيح وبأيّها تأخذ وأنت تريد أن تحدّد موقف قبيلة واحدة في مناسبة واحدة. فكيف وأنت تواجه هذا التعارض عند نفس المؤرّخ، خصوصاً وأن هذا المؤرّخ هو شيخ المؤرّخين ومعتمدهم.

وإذا كنت قد عرضت للموقف من الأنصار وطئ، فهذا لا يعني مطلقاً أن موقف المؤرّخين من القبائل العربية الأخرى كان واضحاً لا يشوبه الغموض ولا يبعث على الشك ولو شئت السير في هذا الطريق لتعبت وأتعبت. لكنني أردت أن أنبّه القارئ ليكون على حذر وحيطة ولا يستسلم بسهولة لما يقرأ. فقد طالما تعرّضت إلى ما أنبّه عليه الآن، وربّما كانت تجربة غيري ممّن عالجوا بعض مواضيع التاريخ العربي أقسى وأشد من تجربتي.

كان الله في عوننا وعون القارئ.

٣٠

الفصل الثالث

(في معنى الردّة)

يبدو أنني تأخّرت كثيراً في تحديد المقصود بالردّة مع أنها تؤلّف عنوان الكتاب وعليها يدور الحديث فيه.

الردّة اسم من الارتداد والردّة عن الإسلام تعني اصطلاحاً الرجوع عنه. وارتدّ فلان إذا ترك الإسلام إلى غيره.

وهذا المعنى اتفق عليه أهل اللغة والفقهاء والمفسّرون وأصحاب الحديث(١) .

وحكم الردّة لو ثبتت قتل المرتد بعد استتابته.

ولكن متى يعتبر المسلم مرتدّاً ومستحقّاً القتل بذلك؟ وهو السؤال الّذي سيتوقّف عليه الحكم فيما سمّي بالردّة وأصحابها بالمرتدّين.

تكاد تجمع المذاهب الإسلامية ـ إذا تجاوزنا بعض التفاصيل التي يختص بها مذهب دون آخر ـ على أن الردّة بالمعنى الّذي عرفنا يمكن أن يتحقّق بالقول بلفظ الكفر أو إنكار ما علم من أحكام الإسلام ضرورة كالصلاة والصوم والزكاة، كما يمكن أن تتحقّق بالفعل ممّا يقتضي الكفر ويقود إليه كإلقاء المصحف في قذارة قصداً(٢) .

فالردّة كما ترى مفهوم يرتبط بالإسلام ويدور معه، ولا يجوز بالتالي التوسّع فيها وإدخال ما هو خارج عنها برأي أو اجتهاد لا يقتضيه معناها.

والآن وفي ضوء ما ذكرنا فهل كان المؤرّخون المسلمون منصفين في الحديث عن العرب ووصفهم بالمرتدّين بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تقدّم؟

أكان العرب المسلمون قد أعلنوا الكفر حقّاً وأنكروا شريعة محمّد أو فرضاً من فروضها؟

سأرجئ الجواب على هذا السؤال إلى ما بعد.

____________________

(١) نصوص الردّة في تاريخ الطبري للشيخ محمد حسن آل ياسين ـ نشر مكتبة النهضة ببغداد ط أولى ١٩٧٣ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) المصدر السابق ص ٤٥ ـ ٤٧.

٣١

لكن ملاحظة خطرت لي، وأنا أتابع ما كتب المؤرّخون عن ردّة الأسود العنسي التي لا أنوي الحديث عنها هنا؛ لأن العنسي قتل وانتهى أمره في حياة النبي وقبل استخلاف أبي بكر وردّة العرب. ولأني حاولت أن أقتصر من حديث الردّة، على ردّة مالك كما ذكرت. على أن هذا لا يمنع من تسجيل الملاحظة التي أشرت إليها آنفاً، ليعرف القارئ أيّة ثقة يمكن أن يمنحها، وأي حذر يجب أن يلتزمه وهو يتابع لدى المؤرّخين أخبار نبي عنس أو غيره، وهم يختلفون فيما لا يقع الاختلاف فيه عادة وهو لقب هذا (النبي) الّذي بسط سلطانه على أرض اليمن كلّها وتجاوزها. إذ يسمّيه بعضهم (ذا الحمار) بالحاء المهملة ويسمّيه آخرون (ذا الخمار) بالخاء المعجمة بواحدة من فوق.

ثم يعلّل كل فريق التسمية الّتي اختارها لنبي اليمن. فالمسعودي مثلاً يقول إنه (كان يدعى ذا الحمار لحمار كان معه وقد راضه وعلّمه يقول له اسجد فيسجد ويقول له اجث فيجثو)(١) .

أمّا ابن الأثير فيذهب إلى أنه كان يلقّب (ذا الخمار) بالمعجمة لأنه معتمّ متخمّر أبداً(٢) .

وإذا كنّا قد اعتدنا الاختلاف بين المؤلّفين عندنا في مسائل التاريخ وأحداثه، وهو أمر مؤسف يسد منافذ الرؤية الصحيحة أمامنا. وقد شاركت فيه أسباب كثيرة ليس هنا محل الحديث عنها، فإن ما يلفت النظر في هذا الاختلاف الجديد بين الحمار المروّض كما يقول المسعودي، وبين الخمار الملازم كما يذهب ابن الأثير، هو دلالته الواضحة على قلّة اكتراث مؤرّخينا وعدم تحرّيهم عن صحّة ما يروونه في كتبهم. وإن نقطة وردت خطأ لدى ناسخ أو هكذا أظن استطاعت ان تبدل تاريخاً وتجعل صاحب الحمار صاحب خمار أو بالعكس، ثم تدفع كل مؤلّف أن يخترع واقعة يبرّر بها الوجه الّذي ذهب إليه في التسمية تبعاً لوجود أو عدم وجود هذه النقطة كما تصوّر. مع أن ذا الحمار أو ذا الخمار هذا، كان من خطورة الشأن بحيث فرض سيطرته على أجزاء كبيرة من اليمن.

____________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٢٤٠.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢٠١ وهو كذلك عند الطبري ج ٣ ص ٢٣١.

٣٢

و لا أستبعد أن أجد يوماً مؤرّخاً يلقّب الأسود العنسي بـ (ذي الجمار) بالجيم المعجمة بواحدة من تحت مبرّراً ذلك وما أسهله، بالجمر أو مشتقّاته، أو بأيّ لفظ يتألّف من الجيم والميم والراء أو حتى بغير الجيم والميم والراء، ما دامت كتابة التاريخ تجري عندنا ـ وربّما حتى اليوم ـ بالأسلوب الّذي رأينا.

٣٣

الباب الثاني

(حرب طليحة)

٣٤

الباب الثاني

(حرب طليحة)

كانت أولى الحروب التي خاضتها جيوش الخلافة ضدّ من يسمّون بالمرتدّين هي الحرب ضد طليحة.

ولن أدخل في تفاصيل المعارك التي دارت والخطط التي اتبعت في هذه الحرب، فليس كتابي هذا كتاب سياسة أو حرب لتكون تلك التفاصيل ضمن ما يتناوله.

لكنّي سأقتصر في بحثي على نقطة واحدة هي التي تتعلّق بالردّة. وهل كانت الحرب ضد طليحة حرباً ضد مرتدّين كفروا بمحمد وجحدوا دينه.

هذا ما سأحاول بحثه والوصول إلى نتيجة مقنعة إن استطعت، في هذه الحرب وفيما تلاها من حروب أخرى، ضد القبائل العربية المتّهمة بالردّة والتي سنتناولها تباعاً.

وطليحة كما يقول النسّابون هو ابن خويلد بن نوفل من بني فقعس من قعين بالتصغير أهمّ بطون أسد بن خزيمة وأكثرها عدداً.

وكانت بداية أمره أنه قدم على النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في وفد بني أسد عام (٩) للهجرة ولكنّه ارتدّ بعد ذلك وادّعى النبوة، والنبي بعد حيٌّ فوجّه إليه ضرار بن الأزور وأمره أن يشتدّ بمن نهض معه من بني أسد على من ارتدّ، فضعف أمر طليحة ولم يبق إلاّ أخذه فضربه ضرار بسيف معه لم يصنع فيه شيئاً. فشاع ذلك في الناس وقالوا إنّ السلاح لا يحيك فيه فكثر جمعه واستغلظ أمره.

هذه قصّة طليحة ونبوّته، كما تجدها في الطبري وفي غير الطبري ممّن عرضوا لموضوع الردّة(١) .

وقد ضحكت كثيراً وأنا اقرأها، وعجبت من أمر هؤلاء المؤرّخين، و رثيت في نفس الوقت لهذا التاريخ الذي كتبه هؤلاء، ولو قدر له أن يتكلّم لسخر منهم وضحك كما ضحكت.

فلأفترض أنّ سيف ضرار نبا بيده فلم يصنع شيئاً، وطليحة كما تقول الرواية في أضعف حالاته حتى (لم يبق أحد إلاّ أخذه)(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٤٤ - ٢٤٨ و ٢٥٣ - ٢٦١ وابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٦ - ٢١٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة.

٣٥

أفكان صعباً على ضرار أن يجد سيفاً آخر أو شخصاً آخر ممّن كانوا معه ـ ولا بدّ أنه لم يكن وحده ـ يتولّى ذلك عنه، وأصحابه وسيوفهم معهم؟ أكان صعباً عليهم أن يقتلوه بها أو بغيرها إن نبت هي أيضاً؟ فلم يكن قتله بالسيف شرطاً عليهم، وكانوا يستطيعونه بأيّة وسيلة، وما أكثر وسائل القتل عندهم وعند غيرهم.

هذا إذا لم يريدوا أخذه حيّاً. وهو ـ كما تقول الرواية ـ في أضعف حالاته حتى لم يبق إلاّ أخذه.

ثم أكان ضرار وحده من بين جميع العرب ينبو سيفه بيده فلا يصنع شيئاً؟.

كم من واحد غير ضرار ضربوا فنبت سيوفهم ولم تصنع شيئاً فيمن ضربوا. فهل كان كل هؤلاء أنبياء أو مدّعي نبوّة؟!.

لقد ضرب حر بن الحارث العبسي حذيفة بن بدر سيّد فزارة في بعض وقائع داحس والغبراء فلم يصنع شيئاً ولم يدّع حذيفة النبوّة.

وضرب ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي خالد بن جعفر الكلابي يوم النقراوات فلم يغن شيئاً. ولم يتنبّأ خالد.

وضرب الفرزدق روميّاً أسيراً في مجلس عبد الملك بن مروان فلم يحك السيف فيه وما سمعت أنّ الرومي ادّعى النبوّة وما سمعت أنّ أحداً من المسلمين ترك دينه لذلك. لكنّي سمعت بيتاً لجرير في هجاء الفرزدق، وآخر للفرزدق يردّ فيه على جرير ويعتذر عن نبو سيفه.

ولقد قال العرب في مأثور كلامهم (لكل سيف نبوة) وما ذاك إلاّ لأنّ تجربةً طويلة علّمتهم أنّ السيف قد ينبو ولو كان صاحبه من أبطال الرجال وفرسانهم. ولو أنّ كل من نبا عنه السيف ادّعى النبوّة، لكان لدينا من الأنبياء الجدد أكثر ممّا لدينا من الأنبياء المعروفين. فما أكثر معارك العرب، وما أكثر من ينبو عنهم السيف فيها.

٣٦

ولأترك السيف والفرسان وابن الأزور لأعود إلى التاريخ والمؤرّخين فأرى الطبري يقول في ص ٢٥٨ من تاريخه (فلما أجمعت غطفان على المطابقة لطليحة... وقدمت عليه ـ يعني أبا بكر ـ وفود بني أسد وغطفان وهوازن وطيء... فاجتمعوا في المدينة فنزلوا على وجوه المسلمين لعاشر من متوفّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة وأجمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك حتى يبلغوا ما يريدون فلم يبق من وجوه المسلمين أحدٌ إلاّ أنزل منهم نازلاً إلاّ العباس ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم إلاّ ما كان من أبي بكر فإنه أبى إلاّ ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يأخذ وأبوا...)(١) .

وفي هذا النص يؤكّد الطبري ما سبق أن أورده بتفصيل أقل في ص ٢٤٤ وإن كان يضيف هناك إلى جمع طليحة بعض بطون كنانة التي لا يشير إليها هنا، وفي ص ٢٤١ حيث يقول (وقد جاءته ـ يعني أبا بكر ـ وفود العرب مرتدّين يقرّون بالصلاة ويمنعون الزكاة فلم يقبل ذلك منهم وردّهم).

فماذا ستلاحظ وأنت تقرأ نصّ الطبري هذا أو نصوصه الأخرى التي يشاركه قليلاً أو كثيراً فيها بقية المؤرّخين.

أول ما نلاحظ أنّ وفود غطفان وأسد وطئ وغيرها من القبائل التي تؤلّف جمع طليحة، قد جاءت المدينة طوعاً واختياراً، وقبل نشوب القتال بين الطرفين أو بالأحرى، قبل اضطرارهم لهذا القتال.

وأنهم جاءوا كمسلمين، لا مرتدّين ولا منكرين ولا متستّرين. جاؤوا إلى المدينة كأيّ جماعة من المسلمين لهم مطالب يريدون عرضها على أولي الشأن هناك، وكانوا في ذلك موضع الحفاوة والترحيب من قبل إخوانهم المسلمين الّذين بلغ من إكرامهم لهم أن أنزلوهم عندهم في دورهم دون أن يحسّوا في ذلك حرجاً أو مأثماً، ولا فيما جاؤوا مطالبين به تعارضاً مع الدّين وأحكامه.

____________________

(١) ودون الدخول في التفاصيل التي نجدها عند الطبري، يذكر ابن الأثير ص ٢٠٦ من ج ٢ من تاريخه أنّ أصحاب طليحة (... أرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة) وهو ما نجده أيضاً عند خليفة بن خياط في تاريخه ص ٦٥ - ٦٦.

٣٧

وإلاّ فلو كان هناك ارتدادٌ عن الإسلام أو إنكارٌ لنبوّة محمد أو جحدٌ لفريضة من فرائض الدّين، لما جاءت الوفود ولما استقبلهم وجوه المسلمين إلاّ بما يستقبل به المرتد. وحكم الشريعة فيه واضح ومعروفٌ.

كيف يستقبلهم وجوه المسلمون وخيارهم، وربّما كان بينهم عمر وعلي وغيرهما من كبار الصحابة؟! فنصّ الطبري لا يستثني منهم إلاّ العبّاس بن عبد المطلب.

كيف يستقبل هؤلاء وفود المرتدّين وينزلونهم عندهم وينهضون معهم فيما جاؤوا له، ويتقدّمون إلى أبي بكر بإجابتهم إلى ما طلبوا، لو كانوا مرتدّين وكان ما يطلبونه ويدعون إليه ارتداداً بأيّ وجه من الوجوه.

ثم لنفترض أنّ طليحة كان مرتدّاً وأنّ وفوده التي قصدت المدينة كانت مرتدةً طبعاً؛ فماذا جاءت تفعل هناك؟ وعلى ماذا تتفاوض؟ أكانوا يطمعون في أن يردّوا عليّاً وعمر ووجوه الصحابة عن الإسلام لينضمّوا إلى طليحة ويدينوا بدينه.

ما هو إذن الأمر الّذي قدّمت وفود طليحة للتباحث فيه والمطالبة بتحقيقه؟ ولا بد أن يكون هناك أمرٌ مّا، ولا بدّ أن يكون هذا الأمر بعيداً عن الردّة لا صلة له بها أساساً ليمكن التباحث فيه.

لقد تولّى الطبري نفسه الإجابة على هذا السؤال حين قال (.. على أن يعفوا ـ يعني طليحة وأتباعه ـ من الزكاة وأجمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك) وحين قال (يقرّون بالصلاة ويمنعون ـ ولم يقل ينكرون ـ الزكاة).

فبتحديد واضح لا غموض فيه ولا لبس يعرض الطبري مطلب هذه الوفود، أي مطلب طليحة وأصحابه. وهو إعفاؤهم من إرسال مال الزكاة إلى المدينة، واتّفاق وجوه الصحابة معهم في هذا.

فالوفود لم تأت منكرةً للزكاة كفريضة من فرائض الإسلام، وهذا واضحٌ في نصوص الطبري وغيره، وإلاّ لأصبحوا مرتدّين ولما (أجمع ملأ من أنزلهم ـ وهم جلّة الصحابة ـ على قبول ذلك) منهم. وإنّما أتت طالبةً إعفاءها من إرسال أموال الزكاة إلى المدينة والقبول بتوزيعها على الفقراء والمعوزين من قبائلهم.

٣٨

وكأنّي بهم وقد رأوا المسلم يستطيع أن يؤدّي الصلاة وهي أهم من الزكاة وتقبل منه في أيّ مكان ما دام متّجهاً إلى الكعبة. فما الّذي يمنعه من أداء الزكاة وتوزيع مبالغها بين المستحقّين من قومه وعشيرته في منازلهم وهم أولى بها، وليس من نص يفرض توزيعها في مكان بعينه.

فالموضوع كلّه لما ترى يتعلّق بأسلوب توزيع الزكاة، لا بوجوبها أو عدم وجوبها، وهذا ما لا نقاش فيه إذ هو الارتداد نفسه.

والإسلام دينٌ يقوم على الشهادتين من نطق بهما كان واحداً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وأوّل ما له هو حقن دمه إلاّ بالحق. ولم يكن من بين الأسباب التي يحلّ بها دم المسلم حبس مال الزكاة لدى صاحبه لتوزيعه على فقراء قومه المسلمين.

وأظن هذا ما كان يفكّر فيه طليحة وأصحابه وهم يرسلون وفودهم إلى المدينة يعرضون الصلاة ويمنعون الزكاة، خصوصاً وأنّ فكرة الدولة بما تتضمّنه من سلطة مركزية وموارد مالية لم تكن قد ألّفها العرب بعد مع قرب عهدهم بالجاهلية.

وحديث قرّة بن هبيرة القشيري مع عمرو بن العاص قد يوضح ذلك.

يقول الطبري (نزل عمرو بن العاص منصرفه من عمّان بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرّة بن هبيرة بن سلمة بن قشير وحوله عسكرٌ من بني عامر من إفنائهم فذبح له وأكرم مثواه فلما أراد الرحلة خلا به قرّة فقال يا هذا إنّ العرب لا تطيب لكم نفساً بالإتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم...)(١) .

ثم إنّ الخليفة ـ حتى لو كان أبا بكر في سابقته وفضله ـ ليس رسول الله صاحب الوحي والمفترض الطاعة في أوامره ونواهيه. بل يبقى رجلاً من قريش. ولأمرٍ ما تصوّر العرب أنّ الخلافة بعد وفاة النبي قد تحوّلت إلى حكم لقريش، وما أحسبهم كانوا مغالين في هذا التصوّر.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٥٩ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٢.

٣٩

وربّما كان في سابقة أبي بكر مع أبي سفيان بعض العذر لأصحاب طليحة وغيرهم من العرب، في موقفهم وحبس زكاتهم في أيديهم وعدم إرسالها إلى المدينة، وهم يرون أموال الزكاة قد تركت لأبي سفيان فلم يصل منها شيء إلى هناك. فيروي ابن عبد ربّه أنّ أبا سفيان لما قدم المدينة بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واستخلاف أبي بكر، (جعل يطوف في أزقّتها ويقول:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيّما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم

وليس لها إلاّ أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر إنّ هذا قد قدم وهو فاعلٌ شرّاً. وقد كان النبي يتآلفه على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه(١) .

فأنت ترى أنّ الخليفة أبا بكر (رض)، لأسباب هو أعرف بها طبعاً، قد ترك لأبي سفيان ما في يديه من صدقات قوم غير قومه، على ثرائه وسابق عدائه للإسلام. ولا بد أنّ العرب قد سمعوا بهذا وعلموه وإلاّ لما وصل إلينا خبره. وأظنهم رأوا أنّ ما سمح به الخليفة لأبي سفيان وأجازه أولى أن ينفّذ بحقّهم ويسري عليهم والصدقات صدقاتهم والمستحقّون لها ، هم من فقرائهم، وليس فيما يطالبون به ويفعلونه شيء يزيد على ما سبق للخليفة نفسه أن فعله مع من لا يستحقّه مثلهم(٢) .

الآن وقد أوشكت أن أنتهي من حديث طليحة وأصحاب طليحة والمؤمنين به. يبقى سؤالٌ أريد أن أختم به حديثه، وهو سؤالٌ لا يمكن أن يغفله الّذين كتبوا عن (النبي) طليحة ولا يمكن أن يغفله قبلهم الّذين آمنوا به ولا يمكن أخيراً أن تغفله أنت يا سيّدي كما أظن.

أيكون نبي بلا معجزة ولا حجّة ولا دليل، ولا شيء دون ذلك يؤكّد نبوّته ويصدّقه فيما يدّعي ويقول؟ إذن لجاز لكل أحد أن يدّعي النبوّة، ولما كان طليحة أولى بها من غيره. ولرأيت صفوف (الأنبياء) وهي تتدافع طولاً وعرضاً أكثر بكثير من الّذين يؤمنون بهم.

____________________

(١) انظر ص ١٠ من ج ٥ من العقد الفريد - تحقيق محمد سعيد العريان نشر دار الفكر.

(٢) لم أسمع أنّ واحدةً من قبائل قريش الكثيرة، على وفرة مالها، قد أرسلت زكاتها إلى المدينة، وأنها تعرّضت بسبب هذا لبعض ما تعرّضت له القبائل الفقيرة والمحتاجة من غزو وسبي واتهام بالردّة عن الإسلام.

٤٠

لقد تنبّأ طليحة، ومحمد حيٌّ بعد يملأ بشخصيته الجبّارة القوية القلوب والنفوس والعقول حبّاً وإجلالاً واحتراماً. والقرآن هذه المعجزة الخالدة، يتلى ليل نهار قد أعجز العرب لا ببلاغته فحسب وهم أهل البلاغة، بل وبما جاء به من أحكام شملت أمور الدين والدنيا، ما تزال حتى اليوم، وحتى يأذن الله بنهاية هذه الحياة، تشدّ إليها عالماً كاملاً.

فما الّذي جاء به طليحة دليلاً وحجّة على نبوّته؟ وأين هي معجزته ـ ولأقبل بحدّها الأدنى وبما هو دونه أيضاً ـ التي يستطيع أن يفرض صدقه بها ويغري المسلمين ويدفعهم إلى الارتداد عن دينهم والانضمام إليه والإيمان بدينه.

بم يستطيع أن يتجاوز أو يساوي عظمة محمد وعظمة معجزته.

أبقوله (والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام)(١) .

أم بقوله (أمرت أن تصنعوا رحى ذات عرى يرمي بها الله من رمى يهوى عليها من هوى)(٢) .

أم بقوله (ابعثوا فارسين على فرسين أدهمين من بني نصر بن قعين يأتيانكم بعين)(٣) .

وهو كل ما نقله المؤرّخون ممّا أوحى إليه من السماء.

أيكون هذا ممّا يعارض به القرآن أم صاحبه ممّن يوازن به محمّد؟!

لقد ضحكت وأنا أقرأ ما كتبه المؤرّخون عن نبوّة طليحة؛ لأنّ سيف ضرار لم يغن فيه شيئاً.

ولكني ضحكت أكثر وأنا أقرأ ما أوردوه من قرآن طليحة.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٠ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٠.

(٣) المصدر السابق ص ٢٦٠ - ٢٦١.

٤١

الباب الثالث

(مأساة مالك بن نويرة)

٤٢

الباب الثالث

(مأساة مالك بن نويرة)

كنت قد نويت في الأصل أن يقتصر حديثي عن الردّة على ردّة أو مأساة مالك بن نويرة كما يظهر ذلك من مقدّمة الكتاب. لكن وجدتني مسوقاً، ربما بحكم اتّصال أحداث الردّة وعدم إمكان الفصل التام بينها دون تشويهها، إلى التعرّض لردّة طليحة التي تقدّمت في الفصل السابق.

وحاولت أن أعود إلى مقدّمة الكتاب لأعيد النظر فيها بما ينسجم والوضع الجديد الّذي تجاوز ردة مالك، لولا أنني ما كدت أبدأ حتّى رأيت المسافة إلى اليمامة من القرب بحيث حالت بيني وبين ما كنت أريد. ورأيت جموع (المرتدّين) من بني حنيفة وهم ينتظرون ـ شأن سابقيهم من أصحاب طليحة ـ من يذكرهم بكلمة إنصاف بعد قرون من ظلم المؤرّخين لهم واتهامهم بالارتداد عن الإسلام.

وفي الطريق بين مالك ومسيلمة، صادفت امرأةً شاحبة الوجه مذهولة قالت، عندما سألتها عن اسمها وشأنها، أنها تدعى سجاح، وقد رفعت إلى السماء كفين بدت عروقهما، داعيةً على من اسمه سيف بن عمر، وعلى المؤرّخين الّذين نقلوا عنه، ما لوّث سيرتها واتهمها في دينها وشرفها. واستطعت أن أخفف عنها وأزيل بعض همّها، حين أخبرتها أنّ سيفاً هذا قد لوّث وزوّر تأريخاً كاملاً ما نزال نقرأه ونعتمده حتّى الآن، وأنها ليست إلاّ واحدةً من ضحاياه.

وبعيداً عن سجاح ومالك ومسيلمة. كانت تدور على أرض اليمن رحى حرب أخرى بسبب ناقة أراد صاحبها ارتدادها، فكانت إحدى حروب الردّة.

وتركت المقدّمة كما هي دون تعديل تدور حول مالك الّذي يبقى موضوعاً لمأساة، أعجب ألاّ يكون بين الأدباء والشعراء حتّى الآن من تناولها. وهي مأساة ما تزال تثير في النفس أعمق عواطف الحزن والألم والشعور العميق بالظلم يتعرّض له من لا يستحقّه فتوّةً وشجاعة وكبرياء.

٤٣

وإذا كانت الحرب ضد طليحة قد وجد المؤرّخون سبباً لها فيما سمّوه ارتداداً. فإنّ هؤلاء المؤرّخين يضطربون ويتناقضون كلما تعرّضوا لمالك. وتحسّ بضعفهم وحيرتهم وهم يحاولون أن يجدوا ما يبرّرون به قتله.

وقبل أن أناقش موقف هؤلاء المؤرّخين من مأساة مالك. أرى أن أقدّم له بتعريف مختصر عن بطل المأساة، فذلك أحرى أن يساعد على فهمه.

من هو مالك بن نويرة:

إلى يربوع من تميم القبيلة العربية الكبيرة يرجع مالك بن نويرة فهو كما يذكر النسّابون مالك بن نويرة بن جمرة بن شدّاد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع.

وبنو يربوع من أشدّ بطون تميم وأقواها بأساً وهي إحدى جمرات العرب كما تذكر الأخبار.

وبين أفخاذ يربوع هناك فخذان يتمتّعان بمكان خاص هما ثعلبة بن يربوع رهط مالك ورياح بن يربوع.

وكان جرير لا يجد ما يعارض به الفرزدق في مهاجاته الطويلة له إلاّ هذين الفخذين يعتد بهما عليه. متجاوزاً قومه بني كليب (بن يربوع) فهو يقول مثلاً في إحدى قصائده:

أثعلبة الفوارس أم رياحاً

عدلت بهم طهية والخشابا

ونجد ثعلبة ورياحاً يتردّدان في شعر جرير كلما أراد الفخر والرد على خصمه الفرزدق الّذي ينحدر من فخذ الرئاسة في تميم (دارم) وله من آبائه وأسرته ما لا يجد جرير بعضه ولا شيئاً منه.

هذا مالك في قبيلته ورهطه الأدنين. أمّا مالك في نفسه فيكفي أن تعرف أنّ فيه قيل المثل المشهور (فتىً ولا كمالك) عند الحديث عمّن فيه فضلٌ لكن غيره أفضل منه.

وقد كان مالك من أرداف الملوك في الجاهلية. والردف هو من يجلس عن يمين الملك ويخلفه إذا غاب.

وهو من الفرسان الّذين لخيلهم أسماء، فكان اسم فرسه ذا الخمار. ويعرف مالك دائماً بفارس ذي الخمار. وليس عبثاً أن يحزن عليه أخوه متمّم فيطيل الحزن ويبكي فيديم البكاء.

وما أظن صلة الأخوّة وحدها هي التي ألهمت متمّماً أخاه أن يقول فيه ما يعتبر حتى الآن من أروع وأصدق شعر الرثاء في الأدب العربي.

٤٤

بل إن تسمية النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لمالك عاملاً على صدقات بني حنظلة التي منها بنو يربوع توضّح منزلة مالك، وقد تشير في نفس الوقت إلى حسن إسلامه.

وأكتفي من التعريف بمالك بهذه الأسطر القليلة وأعتذر للقارئ وأعتذر لمالك أيضاً إذا قصّرت في إيضاح صورته كما يجب، واكتفيت من فارس ذي الخمار بهذه الملامح العامّة. فأنا لا أقصد في كتابي هذا أن أترجم مالكاً، ولم أعرض لمنزلته ولأخلاقه إلاّ بقدر ما يساعد ذلك على فهم الأحداث التي جرت له فيما سمي بـ (ردّة) مالك.

التهم والروايات:

رغم أنّ مأساة مالك ترتبط إلى حدٍّ بعيد بردّة سجاح. والحديث عنها سيجرّ، بما يصعب معه الفصل، إلى الحديث عن سجاح إذ أنّ (ردّة) مالك تبدأ عند المؤرّخين مع وصول سجاح أرض بني تميم واتصالها به.

إلاّ أنّي سأحاول قدر ما أستطيع أن أتجاوز سجاح الآن، لأعود إليها بعد الفراغ من مالك.

فما الّذي فعله ابن نويرة وبرّر قتله، وما هي التهم التي استحلّوا بها دمه؟ وهو لم يحارب المسلمين ولم يحمل السلاح في وجوههم ولا قاتلهم ولا قتل منهم. ولم ينكر نبوّة محمد ولم يجحد فريضةً من فرائض الإسلام.

وقد نجا وعفى عمّن هو أخطر شأناً منه وأبعد أثراً: من ادّعى النبوّة وأشعل الحرب وأوقع في المسلمين وأمعن في قتالهم وأثخن فيهم.

نجا طليحة (النبي) فلم يقتل وعفي عنه.

ونجت سجاح (النبيّة) فلم تقتل وعفي عنها.

ونجا عيينة بن حصن فلم يقتل وعفي عنه، وكان على رأس سبعمائة من فزارة يقاتلون المسلمين مع طليحة.

ونجا الأشعث بن قيس رئيس كِندة فلم يقتل وعفي عنه رغم ارتداده. ثم كوفئ بإرجاع أم فروة أخت الخليفة أبي بكر إليه.

٤٥

ونجا عمرو بن معدي فلم يقتل وعفي عنه بعد ارتداده.

ونجا قيس بن مكشوح فلم يقتل وعفي عنه رغم ارتداده مرّتين.

ونجا شبت بن ربعي مؤذّن سجاح فلم يقتل وعفي عنه.

وغيرهم وغيرهم.

وكلهم أشدّ جرماً من مالك وأسوأ أثراً في الحرب ضد المسلمين، فأيّة تهمة أو تهم ارتكبها مالك وكانت الأخطر والأعظم ممّا ارتكبه هؤلاء جميعاً ليستحق عليها القتل دونهم؟!

لقد أرادت سجاح أن تغزو أبا بكر في المدينة فردها مالك وثناها وصرفها عن المضي في عزمها كما يتّفق في ذلك الطبري وابن الأثير وابن خلدون(١) .

فهل كانت هذه هي التهمة عند من يتّهمون مالك بالردّة. وأنّه كان عليه لنفيها عنه، أن يحرّض سجاح على غزو أبي بكر والمدينة وأن ينظم إليها ويقاتل في صفّها؟!

وحين قدم خالد بن الوليد البطاح قاصداً قتال مالك، كان هذا قد فرق بني يربوع ونهاهم عن الاجتماع وخذلهم عن القتال وطلب إليهم الدخول فيما دخل فيه المسلمون.

وإليك نص ما أورده الطبري في ذلك وهو نصّ يشاركه فيه مع اختلاف يسير ابن الأثير في تاريخه.

يقول الطبري عن مالك (يا بني يربوع إنا قد كنّا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح وقد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة وإذا الأمر لا يسوسه الناس فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرّقوا في دياركم وأدخلوا في هذا الأمر. فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم وخرج مالك حتى رجع إلى منزله)(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٩ و ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٤ وابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٢.

(٢) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٧ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٦ - ٢١٧ وانظر في نهي مالك قومه عن قتال المسلمين تاريخ ابن خلدون - بقية ج ٢ منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت ١٩٧١ ص ٧٣.

٤٦

أيستطيع أحدٌ ـ ما لم يكن قد أصدر حكمه على مالك ـ أن يطمع منه في موقف أفضل وهو لا يكتفي بأن يفرق قومه ويخذلهم وينهاهم عن الاجتماع وما يمكن أن يؤدّي إليه من قتال. بل ويدعوهم إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون.

أهذا عمل من أرتدّ أو نوى الارتداد أو عزم عليه؟! وكيف سيكون موقف غير المرتد وبِمَ سيختلف عن موقف مالك؟!

بعد هذا ما هي إذن التّهم التي يسوقها المؤرّخون ويبرّرون بها مقتل مالك؟

من استعراض النصوص الخاصّة بذلك يبدو أننا أمام أكثر من رواية من أشهرها وأكثرها تداولاً هي التي أنقل نصّها عن ابن الأثير ويشاركه فيها بنفس الألفاظ التي يوردها أو بألفاظ قريبة منها غالبية الّذين كتبوا عن مالك.

يقول النص (لما قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإنّ من استعراض النصوص الخاصّة بذلك يبدو أننا أمام أكثر من رواية، من أشهرها وأكثرها تداولاً، هي التي أنقل نصّها عن ابن الأثير ويشاركه فيها بنفس الألفاظ التي يوردها أو بألفاظ قريبة منها غالبية الّذين كتبوا عن مالك.

يقول النص (لما قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع، أن يقتلوه وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا إذا نزلوا منزلاً فإن أذّن القوم فكفّوا عنهم وإن لم يؤذّنوا فاقتلوا وانهبوا وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة فإن أقرّوا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم قال فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فيهم وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنّهم قد أذنّوا وأقاموا وصلّوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد منادياً فنادى (دافئوا أسراكم) وهي في لغة كنانة القتل فظنّ القوم أنّه أراد القتل ولم يرد إلاّ الدفء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكاً وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمراً أصابه)(١) .

____________________

(١) الطبري ج ٣ ص ٢٧٨ وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧، والإصابة لابن حجر طبعة دار الكتب العلمية - بيروت ترجمة مالك بن نويرة رقم ٧٦٩٠ مع بعض الاختصار، والأغاني طبعة دار الكتب المصرية ج ١٥ ص ٣٠١.

٤٧

هذه كما قلت هي إحدى أشهر الروايات في مقتل مالك فما من مؤرّخ يعرض له إلاّ ويذكرها أو يشير إليها.

وضحكت كما لم أضحك في حياتي

وضحكت، وما أكثر ما يضحك الإنسان، وهو يقرأ تاريخنا!

وبكيت، وما أكثر ما يبكي الإنسان، وهو يقرأ هذا التاريخ!

لكنه ضحك هو البكاء، وليس كالبكاء. وبكاء هو الضحك، وليس كالضحك بـ(كاف) التشبيه، كما يقول سيّد شعراء العربية: المتنبّي، والشر كل الشر حين يكون الضحك بكاء، والبكاء ضحكا. وشرٌّمنه حين يكون الضحك أشد إيلاماً وأقوى تعبيراً من البكاء.

ضحكت، أو بكيت، لا فرق، وأنا اقرأ أنّ مشكلة مالك وقتله كانت بسبب (لغة) كنانة التي لم يفهمها حرّاس مالك. لم يكن بينهم من يفهم ولا من يترجم لهم هذه اللغة.

إذن هي مشكلة لغوية، كان من الممكن تلافيها لو وجد في جيش خالد مترجمٌ يحسن اللغتين: العربية والكنانيّة!

ما أروع ما اكتشف المؤرّخون، العرب المسلمون ! أيّة عبقرية هذه التي لا يمتلكها إلاّ من تفضّل الله عليه بلطف ورحمة وفضل واسع منه، وقلّة هم، أي فتح فكري كبير اهتدوا له بعد نصب وجهد طويل؟!

هل تعرف يا عزيزي القارئ، وأنت تعرف، أن كنانة: أبا القبيلة التي تحتاج إلى من يترجم لغتها إلى لغة قريش، هو أبو قريش أو جدّه المباشر. فقريق ـ وهذا لقبه ـ هو النضر بن كنانة، أو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. هذا يا يجمع عليه النسّابة العرب كلهم، لا يشذّ منهم أحد، و قلّما يجمعون. فهو في كلا الحالين، ابن أو حفيد كنانة. قريش فرع من كنانة وبطن من بطونها، كما أن هاشماً أو أميّة أو مخزوماً، فرع من قريش وبطن من بطونها. فهل سمعت أن هاشمياً أو أموياً أو مخزومياً واجه مشكلة في اللغة أدّت إلى قتله، وهو يتحدّث إلى قريش آخر من بطون قريش الأخرى؟! وهل نحتاج نحن الآن، على بعد الزمان والمكان، وكل شيء غير الزمان والمكان، إلى من يترجم لنا لغة قريش أو غير قريش من قبائل العرب؟! وهل احتاج المؤرّخون العرب أنفسهم، وهم يكتبون عن كنانة، إلى من يترجم لهم نصوص لغتها، كما يحتاج المؤرّخون، وهم يبحثون أمراً ممّا يخصّ اللغة السومرية أو الصينية مثلاً؟!

٤٨

أتلومني إذا أثقلت عليك بحديث الضحك والبكاء حتى كرهت الاثنين؟!

ولأعد إلى الجد في هذا الموضوع. أريد أن أتحدّى مرة واحدة في حياتي، على كرهي للتحدّي. مرة واحدة فقط. هل يستطيع كل هؤلاء المؤرّخين، ومن تبعهم ومن صدّقهم، أن يأتوا بشاهد واحد، نعم واحد، في كل لغة كنانة، وفي كل لغة قريش، وفي كل لغة العرب، أينما تكلمها العرب، شعرا أو نثراً أو حديثاً، يشير إلى كلمة (الدفء) بمعنى (القتل) و(دفئوا) بمعنى (اقتلوا)، ولو على سبيل الاستثناء، ولو على سبيل الخطأ، أم أن الدفء تحوّل إلى القتل، هنا فقط، في هذه الحادثة فقط، مع خالد بن الوليد ومالك بن نويرة فقط؟!

سيكفيني شاهد واحد، وسأحني رأسي لهم معترفاً بأنهم كانوا على حق، وأني كنت المخطئ.

أأسهل من هذا التحدّي وأيسر؟! وسأعذر خالداً وضراراً وكل القتلة والمجرمين والكاذبين والمزوّرين على امتداد تاريخنا العربي الطويل وأريد أن أفترض العكس: أفترض أن هذا المنادي قد نادى (اقتلوا أسراكم)، فهل سيبادر ضرار بن الأزور إلى زيادة الغطاء والإكثار من الحطب لتوفير الدفء لأسراه ـ مالك وأصحابه ـ ما دام الدفء يساوي القتل في لغة كنانة، أم سيسرع إلى قتلهم، وستعود لغة كنانة لغة عربية أخرى، لا يعني القتل فيها الدفء ولا شيئاً قريباً منه سيعود القتل قتلاً، كما يفهمه العرب، جميع العرب بمن فيهم كنانة وقريش.

ولأسلّم بأن (دفئوا) تعني (اقتلوا) في لغة كنانة، فلم اختيرت هذه اللغة دون غيرها، والآمر ليس كنانياً وإنّما قرشي، والمطلوب دفؤه أو قتله، ليس كنانياً وإنّما تميمي، ومتولّي القتل ليس كنانياً وإنّما أسدي: خالد بن الوليد ومالك بن نويرة وضرار بن الأزور.

ثم ألم يخطر ببال واحدٍ من كل هذه الأطراف خصوصاً المطلوب قتله، أن يحاول مراجعة الآمر لمعرفة ما إذا كان يقصد الدفء الحقيقي من البرد أو القتل في لغة هذه القبيلة الروميّة أو الفارسيّة التي اسمها كنانة، ولم يكن الآمر في بلد آخر ولا بعيداً بل على خطوات منه وممّن تولّى قتله!!!.

٤٩

لعلّي أطلت في هذا الجانب من الرواية ولعلّ ما أوردته يكفي لدحضها وردّ المدافعين عنها والآخذين بها من المؤلّفين وغيرهم.

لكنّ هؤلاء، وهم مشغولون بكنانة ولغتها ودفئها والليلة الباردة التي لا يقوم لها شيءٌ، لم يلتفتوا إلى أنّ مقتل مالك لم يكن في الشتاء ولا في وقت قريب منه ليحتاجوا إلى كل ما أتعبوا أنفسهم به وإلى كل ما زوّروه على كنانة وأضافوه إليها.

لقد حصل الحادث في الصيف أو في وقت غير بعيد عنه. وليس هذا اجتهاداً أو اختياراً نابعاً من رغبة في الطعن على القدماء من المؤلّفين وإنمّا هو الرأي الّذي تؤكّده الوقائع.

فرغم أنّ هؤلاء المؤلّفين لا يحدّدون تأريخاً في غير القضايا المهمّة في نظرهم، وليس بينها مقتل مالك طبعاً، وهو نقصٌ عانينا منه ومن غيره الكثير.

إلاّ أننا نستطيع أن نتجاوز ذلك إذا قابلنا بين الأشهر القمرية الهجرية التي يذكرها المؤلّفون لبعض أحداث الردّة والتي لا ترتبط بفصول السنة من صيف وشتاء، وبين الأشهر الميلاديّة التي ترتبط بفصول السنة صيفها وشتائها فيما يخصّ نفس الأحداث.

وفي قضيّة مالك، يقول المؤلّفون إنّ أبا بكر قد خرج إلى ذي القصة، موضع قرب المدينة، لعشر من جمادى الأولى أو النصف من جمادى الآخرة (ما يقابل تمّوز أو آب من عام ٦٣٢ ميلادية) وذلك لتعبئة الجيوش الموجّهة لقتال أهل الردّة. ومن هناك سار خالد ومن معه لحرب طليحة وجموعه في براخة. وبعد انتصاره عليهم اتجّه مباشرةً إلى البطاح حيث قتل مالك(١) .

فمقتل مالك إذن لا يمكن في أيّة حالٍ أن يكون قد جرى في الشتاء و(في ليلة باردةٍ لا يقوم لها شيءٌ وجعلت تزداد برداً) وما أظن المؤلّفين لجؤوا إلى هذه الليلة إلاّ ليكون لحديثهم عن (أدفئوا) أسراكم ما يبرّره ويقنع القارئ به.

____________________

(١) تأريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٦٦، وتأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٤١، وتأريخ الخلفاء للسيوطي تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ص ٧٥.

٥٠

وحتى الآن لم ننته من هذه الرواية التي لا أدري كيف سوّقها ـ كما يقول أهل الاقتصاد ـ المؤلّفون بين القرّاء وإن كنت أدري كيف قبلها القرّاء، وقد رواها مؤرّخون كبار كالطبري وابن الأثير وغيرهما من أعلام المؤرّخين.

وتقول خاتمة الرواية أنّ خالد سمع الواعية فخرج (وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمراً أصابه).

وما أظنّك تجهل أنّ الواعية لغةً تعني الصراخ أو الصراخ على الميّت خاصّة.

إذن كان خالد في الليلة التي قتل فيها مالك وأصحابه من القرب منهم بحيث يسمع الصراخ الصادر من المكان الّذي حبسوا فيه.

ولا بد أنّ هذا الصراخ وما صحبه من استغاثة ومحاولة لتفادي القتل ودفعه من جانب الضحايا وهو أمرٌ طبيعي جداً، قد امتدّ وقتاً مّا، خصوصاً وأنّ المطلوب قتلهم يتجاوزون الأربعين رجلاً(١) .

لكنّ خالداً كما تذكر الرواية دون إشارةٍ للأسباب، لم يسأل ولم يخرج إلاّ بعد أن فرغوا منهم.

ثم صراخ من هذا الّذي أخرج خالداً؟ أهو صراخ الضحايا الّذين حصدهم السيف وحوّلهم إلى أشلاء تعدم الصراخ وما هو دونه، ولا تملك إلاّ الصمت إذا جاز للميّت أن يملك شيئاً؟!!

أم صراخ الّذين تولّوا قتلهم وما أحسب هناك ما يدعوهم إلى الصراخ، وقد أنهوا مهمّتهم على أفضل وجه يمكن أن ينهوها عليه!!

____________________

(١) في خزانة الأدب نشر مكتبة الخانجي بمصر ج ٢ ص ٢٦ أن عدد من أصيب مع مالك كان خمسة وأربعين رجلاً.

٥١

ومع ذلك فلو كنت يا سيّدي على استعداد أن تستغني عن عقلك فترةً قصيرةً، وأظننا في هذه البلاد نستطيع أن نستغني عن عقولنا طويلاً دون أن نخسر شيئاً، وتقبل أنّ كل الّذي حصل لمالك وأصحابه كان مجرّد خطأ بسبب الدفء ولغة كنانة فيه، غفر الله لكنانة. فكيف ستفسّر أن يجعل رأس مالك ورؤوس القتلى ممّن أخذ معه أثافيّ للقدور التي يطبخ فيها طعام الجيش المسلم بعلم خالد أو بأمرٍ منه(١) ؟!

والغريب أنّ المؤرّخين يروون هذا، لا مستنكرين الجريمة التي تعكس وحشيّةً غيرمتناهية وحقداً ولؤماً بلا حدود. بل متعجّبين أن تكون كل رؤوس أصحاب مالك قد وصلت النار إلى بشرتها فأحرقتها عدا رأس مالك فإنّ القدر نضجت قبل أن تبلغ النار بشرته من كثرة الشعر الّذي غطّاها ومنع النار أن تصل إليها(٢) .

ولعلّ هذه تهمةٌ أخرى توجّه إلى مالك وتضاف إلى تهمة الردّة. فقد كان عليه أن يرفق بالطّباخين ولا يتعبهم بكثرة شعر رأسه!!

تلك كانت كما ذكرت في بداية هذا الحديث إحدى أكثر الروايات تداولاً. ولكنها ليست الوحيدة في مقتل مالك. فهناك روايات أخرى لا تقل عنها تداولاً وشيوعاً.

فمن هذه الروايات ما ينقله لنا ابن الأثير بعد المقدّمة التي يشترك فيها أغلب الروايات والرّاوين عن السرايا الّتي بثّها خالد حين وصل البطاح، وأمره لهم بأن يأتوه بكل من لم يجب داعية الإسلام وقتل من امتنع عن ذلك.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٩ ووفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس ج ٦ ص ١٤ والأغاني - ط دار الكتب ج ١٥ ص ٣٠٢ و ٣٠٣ وفيه أن خالداً هو الّذي أمر برأس مالك فجعل أثفيةً لقدر. وتأريخ ابن الوردي - دار الكتب العلمية ط أولى ١٩٩٦ بيروت ج ١ ص ١٢٥ والأخبار الموفقيات للزبير بن بكار ٢٥٦ هجرية تحقيق الدكتور سامي مكي العاني ص ٥٠٢.

وهذا ما نجده أيضاً في الإصابة لابن حجر ج ٦ ص ٣٧ حيث يذكر أنّ خالداً هو الّذي (أمر برأسه - يعني رأس مالك - فنصب أثفية لقدر فتح ما فيها قبل أن تخلص النار إلى شؤون رأسه. وأظن ما قصده ابن حجر (نضج) ما فيها لا (فتح) ما فيها. وهو أيضاً ما نراه في البداية والنهاية لابن كثير - مطبعة السعادة ١٩٣٢ ج ٦ ص ٣٢٢ إذ ورد فيه (... فضربت عنقه وأمر برأسه - يعني رأس مالك طبعاً - فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرٌ فأكل منها خالد تلك الليلة...).

(٢) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٩ ووفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس ج ٦ ص ١٤، والأغاني ج ١٥ ص ٣٠٢، والإصابة ج ٦ ص ٣٧، وتأريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٤، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٦ ص ٣٢٢.

٥٢

يقول ابن الأثير (إن المسلمين لما غشوا مالكاً وأصحابه ليلاً أخذوا السلاح فقالوا نحن المسلمون فقال أصحاب مالك ونحن المسلمون قالوا لهم ضعوا السلاح فوضعوه ثم صلّوا وكان خالد يعتذر في قتله ـ يعني مالك بن نويرة ـ أنّه قال ما أخال صاحبكم إلاّ قال كذا وكذا فقال له أو ما تعدّه لك صاحباً ثم ضرب عنقه)(١) .

وهذه الرواية تجدها بنصّها تقريباً في تأريخ الطبري والأغاني(٢) .

وألاحظ ابتداء أنّ هذا النص كما يبدو، مبتور ولا يخلو من قطع أو على الأقل، أنّ ما يخص اعتذار خالد عن قتله مالكاً لقوله (صاحبكم) قد أقحم في النص إقحاماً. إذ لم يمهّد له بشيء ولم يسبقه شيءٌ يسمح بالانتقال من الصلاة ووضع السلاح إلى قتل مالك والاعتذار عنه.

ولو أعدت قراءته لتأكّدت من ذلك. فالنصّ يمضي طبيعيّاً ومتّسقاً إلى (قالوا لهم ضعوا السلاح فوضعوه ثم صلّوا).

إلى هنا ولا شيء في النص يلفت الانتباه. لكن انظر إليه كيف ينتقل بعد ذاك مباشرةً ودون أيّة مقدمات إلى (وكان خالد يعتذر في قتله أنّه قال ما أخال صاحبكم).

فهل تقدم شيء عن خالد في النص لكي تأتي عبارة (وكان خالد... الخ) في مكانها الطبيعي منه.

إنك تستطيع أن تتصوّر بعد قول النص (ثم صلّوا) أيّة عبارةٍ وأيّ موضوع إلاّ العبارة التي جاء بها النص (وكان خالد يعتذر...).

وقد يؤكّد هذا أنك لا تجد حديث (صاحبكم) في تأريخ خليفة بن خياط ولا في الفتوح لابن أعثم رغم وجود هذه الرواية فيهما.

وعلى كلٍّ فالطبري وابن الأثير وأبو الفرج وخليفة وابن أعثم يتفقون في أنّ مالكاً وأصحابه قد أقرّوا حين سئلوا، بأنهم مسلمون وقد وضعوا السلاح حين طلب منهم أن يضعوه ثم صلّوا.

____________________

(١) ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧ - ٢١٨.

(٢) تأريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٠، والأغاني ج ١٥ ص ٣٠٤، وانظر أيضاً تأريخ ابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٤.

٥٣

فعلوا ذلك اطمئناناً إلى أنهم مسلمون لن يتعرّضوا لمكروهٍ، وثقةً بأنّ الّذين طرقوهم ليلاً لن يؤذوهم ما داموا مسلمين مثلهم. بل إن سلاحهم لم يكن عليهم حين غشيهم جيش المسلمين. وهم لم يفزعوا إلى السلاح إلاّ بعد ما فوجئوا بالجيش ليلاً ثم وضعوه. فلو كان مالك وأصحابه مرتدّين ويعرفون ما سيجري لهم لما وضعوا السلاح حين طلب إليهم ذلك ولما أخذوا بالسهولة التي أخذوا بها، ولما كانوا أصلاً بهذه القلّة من العدد(١) ولكان لهم في جميع الأحوال موقفٌ آخر غير الّذي كان وهم ذوو الشوكة والعدد والبأس.

لو كان مالك يفكّر في ردّة، لفكّر في حربٍ. ولو فكّر في حربٍ لما كان هذا شأنه ولما نزع سلاحه وفرّق أصحابه، وليس بعيداً عنه ما حصل لطليحة وجموعه.

بِمَ كان سيختلف موقف أيّ مسلمٍ عن موقف مالك لو وجد في مثل ظروفه؟ وهل يطالب بأكثر مما فعل لإثبات إسلامه، وهو الّذي كان يدعو أصحابه للدخول فيما دخل فيه المسلمون.

ماذا يريدون أن يكون موقف مالك، هؤلاء الّذين يصرّون على اتّهامه واتهام أصحابه بالردّة والخروج عن الإسلام لتبرير قتلهم؟! مسلمون يسألهم مسلمون عمّا يكونون فيصدقونهم القول بأنهم مسلمون ويصدقونهم الفعل بالصلاة ووضع السلاح.

أذنبهم أنهم مسلمون وأنهم يقرّون بذلك.

وماذا إذن بعد الإسلام والإقرار به ما يحقن الدم ويصون العرض والمال في دين محمد؟!

لكن ذلك لم ينفع مالكاً. لم ينفعه إقراره بالإسلام ودعوة أصحابه لعدم محاربة المسلمين والدخول فيما دخلوا فيه. ولا صلاته مع المسلمين ووضعه سلاحه حين طلب إليه أن يضعه.

لماذا؟ لأن هناك من يريد القتل ومن يريد السبي والغنائم وربما كان هناك من يريد شيئاً غير القتل والسبي والغنائم.

وسأنتقل إلى تكملة هذه الرواية عند الطبري وابن الأثير وأبي الفرج بالجزء الخاص بـ(صاحبكم) الّذي يؤلّف روايةً مستقلّة عند صاحب البدء والتأريخ وابن خلكان وأبي الفدا والذهبي وابن العماد.

____________________

(١) في البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٥٩ (بيوتات مالك بن نويرة وهم مسلمون) وفي الفتوح لابن أعثم ج ١ ص ٢١ (فوقفت سرية من تلك السرايا على مالك بن نويرة فإذا هو في حائط له ومعه امرأته وجماعة من بني عمه).

٥٤

ويتفّق الأربعة الأخيرون على أنّ مالكاً قال لخالد بعدما أتى به (أني آتي بالصلاة دون الزكاة فقال له خالد أما علمت أنّ الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدةٌ دون الأخرى فقال مالك قد كان صاحبك يقول ذلك قال خالد وما تراه لك صاحباً والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجادلا في الكلام طويلاً فقال له خالد إني قاتلك قال أو بذلك أمرك صاحبك قال وهذه بعد تلك والله لأقتلنك وكان عبد الله بن عمر (رض) وأبو قتادة (رض) حاضرين فكلّما خالداً في أمره فكره كلامهما فقال مالك يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا فقال خالد لا أقالني الله إن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه فالتفت مالك إلى زوجته أم تميم وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال له خالد بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام فقال مالك أنا على الإسلام فقال خالد يا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه...)(١) .

فـ(صاحبكم) إذن هو الّذي قتل مالكاً عند هؤلاء المؤرّخين. ومن الصحبة ما قتل.

وابتداء أودّ أن أسأل عن مصدر هذه الرواية، وهل هناك بين المؤرّخين من حقّق أصلها وعرف مصدرها. ذاك أنّ الطبري وأبا الفرج وابن الأثير، لا ينقلونها وهم ينقلونها، إلاّ مباشرةً عن خالد نفسه (وكان ـ خالد ـ يعتذر في قتله أنه قال...).

وخالد بإجماعٍ هو الآمر بالقتل. أي طرف فيه، وما أظنه من المقبول الاقتصار عليه وحده والاكتفاء بقوله في إهدار دم واحدٍ من المسلمين. فهل عند غير الطبري وأبي الفرج وابن الأثير ممّن جاء قبلهم أو بعدهم ـ ولم أره عند واحدٍ قبلهم ـ من يروي حديث (صاحبكم) عن غير طريق خالد.

ولأفترض أنّ واحداً قد تبرّع بروايته. ولن أقول بإضافته واختلاقه، فهل يكفي هذا الواحد لتصحيح الرواية واعتمادها واتّخاذها أساساً مقبولاً لتحليل دم مالك.

____________________

(١) وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٦ ص ١٤، وباختلاف يسير في بعض الألفاظ تجد النص في تأريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٧ - ١٥٨ وتأريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣ وشذرات الذهب لابن العماد نشر مكتبة القدسي ١٣٥٠ ه- ج ١ ص ١٥.

٥٥

ولأفترض أيضاً أنّ مالكاً قال لخالد (صاحبكم) تبعاً للرواية وأنه قصد بقوله ذاك النبي محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه وليس أبا بكر.

فمن أين فهم خالد أنّ هذا اللفظ يعني التنكّر للنبي والطعن فيه والكفر بنبوّته ونفي الصحبة عنه حتى يستحلّ به دمه.

لقد جرى العرب على استعمال هذا اللفظ في كلامهم دون أن يقصد به قائله، ودون أن يفهم منه سامعه، ما يشير الى ذمٍّ أو انتقاص أو سوء نيّةٍ أو انتفاء من صحبة.

هذا العبّاس بن عبد المطلب يقول عن النبي وقد توفّي وحلّ أوان دفنه (... فادفنوا صاحبكم..)(١) يعني النبي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أفكان العبّاس يريد بـ(صاحبكم) أنّ النبي لم يكن له بصاحب ولا نبيّ؟!

وهذا شيبة ـ أظنه ابن عثمان بن أبي طلحة ـ يقول لعمر في حديث يسوقه البخاري (... ما أنت بفاعل قال ـ يعني عمر ـ لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك ـ يقصد النبي وأبا بكر  ـ ...)(٢) .

فهل كان النبي وأبو بكر صاحبي عمر وحده دون شيبة ودون باقي المسلمين؟!

وعلي بن أبي طالب يخاطب عثمان قائلاً (ولقد عهدت نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله وبأنه يتبع نبيّاً غيره. وما أحسب خالداً كان أتقى وأفضل وأغير على الإسلام من علي وعثمان(٣) .

واسمع أم المؤمنين السيّدة عائشة لا مالك بن نويرة تقول للنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لا لخالد ابن الوليد (ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك).

والكلام هنا لا يمكن صرفه لشخص آخر كاحتمال صرف كلام مالك إلى أبي بكر بدلاً من النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله . ذلك أن الحديث كان يدور بين السيدة عائشة وبين النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي يسارع ربه في هواه.

____________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢٦٧ دار صادر بيروت، وتأريخ الخميس ج ٢ ص ١٦٧.

(٢) صحيح البخاري حديث رقم ٧٢٧٥.

(٣) تأريخ الطبري ج ٤ أحداث سنة ٢٩ ص ٢٦٧.

٥٦

أترى عائشة كانت ترفض أن يكون رب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّاً لها، وهي تقول للنبي (ما أرى ربك..).

ما الّذي منع النبي أن يجيبها بما أجاب به خالد مالكاً فيقول لها: أو ما ترينه ربّاً لك، والله أكبر من النبي كما أظن! أم كان خالد أحرص على الإسلام وأعرف بما يجوز وما لا يجوز فيه من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسمع كلام عائشة(١) .

أترى عليّاً والعبّاس وعائشة كانوا لا يفهمون العربيّة أم أنّهم ارتدّوا كذلك حين قالوا (صاحبك) عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و(ربك) عمن هو أكبر من محمد، ولو تمكّن منهم خالد لأمر ابن الأزور فيهم بما أمره في مالك.

ولو أردت أن أورد ما جاء في كلام العرب والمسلمين من لفظ (صاحبك) و(نبيّك) و(ربّك) الّذي يقسم به دائماً، لأمللت القارئ وأضجرته فيما لا حاجة إليه وهو يستطيع أن يرجع إلى كتب الأدب والتأريخ والحديث ليرى كثرة استعمال اللفظ(٢) .

ومع ذاك فإنّ مالكاً لم يستعمل هذا اللفظ ـ الجريمة ولم يقله حتى عن أبي بكر وهو يطلب إلى خالد أن يبعث به إليه فيكون هو الّذي يحكم فيه.

أفيعقل أن يقول عن النبي ما لم يقله عن أبي بكر مع فرق ما بين النبوّة والخلافة وبين النبي والخليفة.

وحتى لو قبلت أنّ مالكاً (أخطأ) فقال عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أول حواره مع خالد (صاحبك) وأنّ خالداً هدّده بضرب عنقه بسبب قوله ذاك وكان جادّاً واضحاً فيه كأقوى وأشدّ ما يكون الجدّ والوضوح. فكيف عاد مالك إلى (صاحبك) مرّةً أخرى في حواره كما تذكر الرواية، والسيف في يد ضرار، وما بينه وبين أن يذهب برأسه إلاّ إشارةٌ من خالد، ما لم يكن أحمق لا يعرف مواضع كلامه. ولم ينسب مالك إلى شيءٍ من ذلك جاهليةً أو إسلاماً.

____________________

(١) صحيح البخاري حديث رقم ٤٧٨٨ ورقم ٥١١٣.

(٢) وعلى سبيل المثال أذكر بعض ما ورد في صحيح البخاري فقط من أحاديث تحمل لفظ (صاحبك) أو (نبيك) أو (ربك) وهي:

رقم ١٣٢٢، ٤٨٠٧، ٤٩٢٠، ٧٠٦٨، ٧١٠٠، ٧٥٣٨.

٥٧

كيف يصرّ على كلمةٍ يعلم أنها ستذهب بحياته، وهو الّذي يطلب من خالد أن يبعث به إلى أبي بكر في المدينة ليرى رأيه فيه.

فلِمَ هذا الطلب إذن؟ ما دام مالك نفسه هو الّذي يدفع خالداً دفعاً إلى قتله بكلمةٍ ما كان أسهل عليه أن يتجنّبها ولا ينطق بها.

أظنك تشاركني فيما أذهب إليه من شك يكاد يصل حدّ القطع بعدم صحّة ما ينقله الرواة عن (صاحبك) التي لا يمكن أن تصدر عن مالك بعد كل ما سبق قوله. وهذا ما يفسّر طلب مالك أن يبعث بهم خالد إلى أبي بكر قائلاً (ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا..).

فمالك على يقين بأنه لم يصنع شيئاً يستحق عليه القتل. ولن يكون في كل الأحوال أسوأ مصيراً من عيينة بن حصن الّذي منع هو أيضاً الزكاة وقاتل المسلمين مع طليحة على رأس سبعمائة من قومه فأرسله خالد إلى أبي بكر الّذي عفا عنه وأخلى سبيله.

فلِمَ لا يطلب من خالد إرساله إلى أبي بكر؟ ولِمَ يرفض خالد أن يستجيب لطلبه، وليس هناك ما يمنع من تحقيقه، خصوصاً وأنّه لم يحمل السلاح ولم يقاتل المسلمين، كما فعل عيينة.

وغاية ما اتّهم به أنه امتنع عن إرسال الزكاة إلى المدينة. وربما كان له عذرٌ في ذلك. وربما استطاع أن يقنع أبا بكر بعذره فيعفو عنه كما عفا عن غيره ممّن هم ليسوا أقل جرماً من جرمه، إن لم يزيد عليه بكثير، وإلاّ فالقتل في المدينة وبسيف غير سيف ضرار لن يختلف عن القتل في البطاح وبسيف ضرار. ففيم العجلة يا أبا سليمان(١) ؟!

هذا فيما يتعلّق بمالك. ولكن ألا تحس يا سيّدي من جانب خالد إصراره المسبق على القتل. وهو إصرارٌ أكّده في حواره مع مالك أكثر من مرّةٍ، ويتجاوز بكل وضوح تهمة مالك، وقد تسامح خالد مع من هم أكبر جرماً منه فلم يقتلهم واكتفى بإرسالهم إلى أبي بكر.

____________________

(١) هي كنية خالد بن الوليد.

٥٨

ألا تحس وأنت تسمع أصوات القتل تتردّد متلاحقة من فم خالد، بأنّ الرجل قد اتخذ قراره بشأن مالك. وأنّ هذا مقتول مهما دافع عن نفسه ومهما احتجّ لبراءته. بل إنّ قتله لا علاقة له بتهمةٍ أو براءة. وإنما بموقفه من مالك لن يتغيّر بقوّة الدفاع ولا بظهور البراءة.

لنستمع إليه وهو يخاطب مالكاً ولأبدأ من (صاحبك) التي تمثّل التهمة (... فقال مالك قد كان صاحبك يقول ذلك قال خالد وما تراه لك صاحباً والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجادلا في الكلام طويلاً فقال له خالد إني قاتلك ـ فالأمر كما ترى محسومٌ وليس دفاع مالك عن نفسه إلاّ عبثاً لا طائل من ورائه ـ قال أو بذلك أمرك صاحبك قال وهذه بعد تلك والله لأقتلنك وكان عبد الله بن عمر (رض) وأبو قتادة (رض) حاضرين فكلّما خالداً في أمره فكره كلامهما فقال مالك يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا فقال خالد لا أقالني الله إن أقلتك وتقدّم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه...)(١) .

وما كان على خالد لو سمع كلام ابن عمر وأبي قتادة؟! حتى لو قبلنا رفضه سماع مالك وإرساله إلى أبي بكر كما طلب.

ما الّذي منعه أن يصغي إلى صحابييّن جليلين ليسا من تميم ولا من يربوع رهط مالك، ولا يمكن أن يتّهما في دينهما لحساب كافر مرتد؟! أكان خالد سيكره كلامهما ويرفض سماعه لو علم أنّ فيه إدانة لمالك.

ولكن ما لنا ولهذه الفروض التي يبدو أن لا محلّ لها هنا على الإطلاق. فالعبارة التي ختم بها خالد حواره مع مالك (لا أقالني الله إن أقلتك) تنبئ عن قرار لا رجوع فيه، بقتل مالك. وما أظن مالكاً، بعد أن سمعها إلاّ وقد كفّ عن محاولة الاعتذار لنفسه. وما أظن ابن الأزور إلاّ وقد شدّ يده على مقبض سيفه وهو يستعجل رأس فارس يربوع وفتاها.

وأنتقل إلى رواية المقدسي التي تلتقي مع سابقتها في (صاحبك) ولكنها تختلف في تفاصيل كثيرة أخرى، وهو ما رجّح عندي إفرادها بمكان خاص وعدم بحثها ضمن تلك الرواية.

____________________

(١) سبقت الإشارة إلى مصادر هذه الرواية في هامش ص ٥٥.

٥٩

يقول ابن مطهر في البدء والتأريخ أنّ خالداً سار (حتى أحاط بيوتات مالك بن نويرة وهم مسلمون وكانت لمالك امرأةٌ وسيمةٌ فمال إليها خالد وأمر بقتل مالك فنهاه عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري فأحضر خالد مالكاً وقال ألست القائل:

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر

لعل المنايا قد دنون وما ندري

فقال مالك ما قلت ذاك ولو سمعني صاحبكم أقوله ما قتلني. فقال خالد تقول لرسول الله (صاحبكم) وليس بصاحبك اضربوا عنقه. فالتفت مالك إلى امرأته وقال يا خالد هذه قتلتني...)(١) .

وقد أغنانا المقدسي في نصّه هذا عن مناقشة كثير من القضايا التي اضطررت لمناقشتها عند غيره.

فهو يعترف بأنّ مالكاً كان في بيوتات لا في جيش ولا جمع ولا عشيرة.

وما أظنك بحاجةٍ إلى معرفة الأسباب وقد فصّلناها سابقاً. فما حاجة مالك (المسلم) إلى الجيش والجمع والعشيرة، وله من إسلامه ما يحرم دمه ويحمي ماله وعرضه ولم يكن عند نفسه في شكٍّ من ذلك.

بل إنّ ما بلغناه استنتاجاً فيما مضى جاء المقدسي الآن ليقوله صراحةً.

اسمع إليه وهو يتكلّم عن (بيوتات مالك بن نويرة) التي لا يكتفي بإبراز قلتها بالتعبير (بيوتات) وإنما يضيف إلى قلّة العدد تأكيد الدّين بأنهم (مسلمون) وهو لا يرسل هذا الوصف بصيغة ضعيفةٍ تدلّ على الشك وعدم اليقين. بل على العكس بعبارةٍ واضحةٍ لا مجال للشك فيها (وهم مسلمون)(٢) ثم ينتقل بعد ذاك إلى الحديث عن زوجة مالك الوسيمة، فيربط بشكل واضحٍ بين ميل خالد إليها وبين أمره بقتل مالك زوجها إذ يقول (فمال إليها خالد وأمر بقتل مالك)(٣) .

____________________

(١) البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٥٩ - ١٦٠.

(٢) وهو ما يؤكّده ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة مالك حيث يصرّح بإسلامه ونفي أي ارتداد عنه. أسد الغابة - بيروت ١٩٩٤ ج ٥ ترجمة مالك بن نويرة.

(٣) وهو ما نجده أيضاً في تأريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠.

ويلاحظ أن جميع المؤرّخين الذين يتناولون الموضوع يشيرون إلى زوجة مالك الجميلة وميل خالد إليها ويجعلون منها جزءاً من رواياتهم عن مقتل مالك. لكنهم مع ذاك يتجنبون الربط بين جمال هذه الزوجة وميل خالد لها وزواجه بها في نفس اليوم الّذي قتل فيه مالك زوجها، وبين مقتل مالك نفسه.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119