« المقدّمة »
هذا حديث قد يؤذي البعض وقد يثير البعض، والله يشهد أني لم أرد شيئاً من ذاك. لم أقصد أن أؤذي أحداً ولا أن أثير أحداً. فليس بيني وبين القارئ إلاّ ما يكون بين الكاتب وقارئه من احترام وتقدير. وهذا الاحترام هو الّذي دفعني إلى الكتابة في موضوع زُوّر كثيراً وشوّه كثيراً، هو موضوع الردّة.
ولم يكن أمامي، وأنا أحاول البحث فيه ودراسته إلاّ أحد خيارين: أن أكتب فأعيد ما كتبه أو زوّره الآخرون. وفي ذلك من خيانة الأمانة والازدراء بالقارئ واللعب بحقائق التاريخ، ما لا أريده لنفسي ولا للقارئ. وما أظن تأريخ أمة من الأمم، قد زُوّر كما زوّر تأريخنا، فهو ليس في حاجة إلى مزيد.
وأمّا أن أكتب إرضاءً للحق واحتراماً للقارئ وفي هذا ما لم يعهد ولم يألف، وخمسة عشر قرناً من التزوير قد عملت في النفوس حتى جعلت مهمّة الكاتب والقارئ معاً، أمراً شديد الصعوبة بالغ العسر.
كيف يستطيع الكاتب أن يصل إلى حقيقة ما، في طريق طويل شائك مظلم، فهو يسير حذراً بطيئاً، يردّه طول الطريق وشوكه وظلامه، ويدفعه فيه لذّة اكتشاف الحقيقة وبلوغها. وكيف يستطيع القارئ أن يسيغ حقيقة جديدة، وقد نشأ ونشأت قبله أجيال وأجيال، وهي لا تعرف ولا تقرأ ولا تتحدّث إلاّ ما كتبه مزوّرو الحقائق ممّن نسمّيهم مؤرّخين.
وهكذا وجدتني بين عاملين. يردّني أوّلهما ويدفعني الآخر، حتى انتهيت إلى قرار بأن أمضي في الطريق، على طوله وشوكه وظلامه.
وكان هذا الكتاب الّذي بين يديك حول (الردّة).
والردّة ـ وليكن هكذا اسمها الآن ـ هي إحدى أهم القضايا الّتي واجهها المسلمون بعد وفاة النبي محمّدصلىاللهعليهوآله
، وأسالت الكثير من الدم وأثارت، وما تزال، الكثير من النقاش.
لقد كان فيها امتحان للسلطة من جهة، وامتحان لجماهير المسلمين من جهة. امتهنت فيها كرامات واستبيحت أعراض وسفكت دماء، ولم يكن قد مرّ على غياب نبيّهم غير أيام تستطيع أن تعد ساعاتها إن شئت.