شيء عن الردة

شيء عن الردة33%

شيء عن الردة مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 119

  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16227 / تحميل: 7458
الحجم الحجم الحجم
شيء عن الردة

شيء عن الردة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فالأمر عند المقدسي واضحٌ لا يحتمل شكّاً. ومقتل خالد عنده لم يكن إلاّ بسبب زوجته الوسيمة وميل خالد إليها. وهذا ما سنتناوله فيما بعد.

وحين يرى عبد الله بن عمر وأبو قتادة ما يجري لمسلم، كل ذنبه أنّ زوجته وسيمةٌ، وأنّ أمير الجيش يريد التخلّص من زوجها ليسهّل الطريق إليها، فإنهما ينهيان خالداً وينكران عليه. وما أظنهما كانا قادرين على أكثر من ذلك. فالآمر هو الأمير ولن يستطيعا منع ما يجري أو وقفه. ولم يكن خالد الّذي اتخذ قراره بقتل مالك، بالّذي يصغي لنهي أو إنكار حتى لو صدرا من أشخاص كابن عمر وأبي قتادة. فلابد من قتل مالك ولن يعدم عذراً فيه.

وها هو يبعث على مالك ليسأله عن هذا البيت من الشعر إن كان هو قائله:

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر

لعل المنايا قد دنون وما ندري

فينكر مالك نسبته إليه ويضيف (ولو سمعني صاحبكم أقوله ما قتلني فقال خالد تقول لرسول الله (صاحبكم) وليس بصاحبك اضربوا عنقه..).

وليس في جواب مالك ما يحلّ دمه، فهو ينفي أن يكون صاحب البيت رغم أنّ البيت لا يتضمّن ردّةً ولا كفراً.

ماذا كان على مالك أن يفعل ليثبت ألاّ علاقة له بهذا البيت من الشعر؟ أكان أمامه أو أمام أيّ شخص يقف موقفه وسيلة أخرى يثبت بها براءته من بيتٍ لم يقله؟ لقد لزمته التّهمة وهو ينفي صدوره عنه، فهل كان عليه أن يؤكّد نسبة البيت إليه لينفي التهمة عنه؟!

ثم إنّ لفظة (صاحبكم) التي توسّل بها خالد لاستحلال دم ابن نويرة، لا يمكن أن تنصرف للنبّي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ حالٍ من الأحوال. فالنبي توفّي قبل (ردّة) مالك الّذي كان على صدقات بني حنظلة في زمانه.

وأقصى مداها أنها تتوجّه إلى الخليفة أبي بكر (رض)، فالجيش المذكور في البيت جيشه كما يصرّح البيت نفسه. وهو الّذي سيقتل أو لا يقتل مالكاً لو سمعه، لا النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليجوز أن يصرف اللفظ إليه.

وما أحسب أنّ من بين الأسباب التي يكفّر بها المسلم ويستحل دمه أن يقول عن أبي بكر أو غير أبي بكر (صاحبكم) على افتراض قول مالك لها، وقد بلغ الأمر بالصحابة حدّ الاقتتال حتى بين المبشّرين بالجنة منهم ولم يكفّروا.

٦١

وما أحسب مالكاً إلاّ صادقاً حين قال لو سمعني صاحبكم أقوله ما قتلني. فما كان أبو بكر مع دينه وفضله، ليقتل مسلماً أن يقول أو ينشد بيتاً من الشعر لا قطع فيه على ردّة قائله أو منشده.

وحده خالد بن الوليد فهم من (صاحبكم) أنه النبي لا أبو بكر.

ووحده خالد بن الوليد فهم أنّ (صاحبكم) تعني أنه ليس بصاحب لمن قالها.

ووحده خالد بن الوليد حكم أنّ قائل (صاحبكم) قد ارتدّ عن الإسلام بقوله هذا.

ووحده خالد بن الوليد يأمر بالقتل ويستعجل فيه وينفّذه. لا يستشير من كان معه من كبار الصحابة بل ويرفض رأيهم، مخالفاً بذلك حكم الإسلام حتى مع التسليم بارتداد مالك. إذ الحكم أن يستتاب المرتد ثلاثاً إذا ثبتت عليه الردّة. ومالك لم يستتب ثواني ولم تثبت عليه ردّة.

ليس بيت الشعر ما قتل مالكاً، وليس (صاحبكم) ما قتله. ولو لم يكن هذا أو ذاك لكان هناك من الأسباب ما يكفي لقتله وقتل ألفٍ معه لو كان معه ألف.

لقد كان مالك أدرى بالّذي قتله حين قال (هذه قتلتني).

ففارس بني يربوع كان قتيل امرأةٍ!!

بقيت رواية واحدةٌ أرجو القارئ الكريم، وقد أطلت عليه وأثقلت، أن يسمح لي بعرضها استكمالاً لموضوع قلما بحث بحياد ونزاهةٍ. وإن كانت قليلةً في تأريخنا، المواضيع التي بحثت بحياد ونزاهةٍ، بعيداً عن مخلّفات أفكار وعقائد ليس فيها إلاّ تعصّب وجهل وأحكام لا تقبل مراجعة ولا تغييراً قد جمد عليها أصحابها فهم لا يناقشونها ولا يقبلون أن يناقشوا فيها.

وعلى كلٍّ فلنرجع إلى هذه الرواية التي يقدّمها لنا صاحب خزانة الأدب(١) . ولكن قبلها أودّ أن أقف قليلاً عند عبارةٍ أوردها عبد القادر بن عمر البغدادي وهو يمهّد لروايته تلك.

____________________

(١) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون نشر مكتبة الخانجي بمصر ج ٢ ص ٢٥ - ٢٦.

٦٢

تقول العبارة (... فأقبل خالد بن الوليد حتى هبط جو البعوضة وبه بنو يربوع فبات عندهم ولا يخافونه...) فبنو يربوع قد أمنوا واطمأنّوا إلى خالد الّذي بات مع جيشه وسلاحه عندهم، ولم يجدوا ما يدعوهم إلى الحذر والخوف منه ومن جيشه وسلاحه.

وما أظن بني يربوع من الحمق بحيث يطمئنّون إلى جيشٍ وسلاح يبيت عندهم فيأمنون إلاّ إذا كان هناك سببٌ قوي يدفعهم إلى الاطمئنان والأمن. وليس هذا السبب سوى أنهم مسلمون كالذين باتوا عندهم. فلِم إذن يخشون مسلمين مثلهم ويحذّرونهم؟

بل ما أظن هذا الجيش وأميره نفسه يأمن أن يبيت عند بني يربوع، لو لم يعرف أنهم مسلمون لن يقاتلوه ولن يغدروا به وهو عندهم.

أليس هذا هو تفسير عبارة البغدادي؟

وأعود إلى روايته وهذا هو نصّها (... ثم إنّ خالد بن الوليد قال يا ابن نويرة هلم إلى الإسلام قال مالك وتعطيني ماذا قال ذمّة الله وذمّة رسوله وذمّة أبي بكر وذمّة خالد بن الوليد فأقبل مالك وأعطاه بيديه وعلى خالد تلك العزمة من أبي بكر قال يا مالك إني قاتلك قال لا تقتلني قال لا أستطيع غير ذلك قال فأت ما لا تستطيع إلاّ إيّاه فقدّمه إلى الناس فتهيّبوا قتله وقال المهاجرون أتقتل رجلاً مسلماً؟ غير ضرار بن الأزور الأسدي من بني كوز فأنه قام فقتله...).

وسأترك ذمّة خالد بن الوليد فهو حرٌّ أن يتصرّف فيها: يحترمها أو لا يحترمها. فذلك شأنه. ولكن كيف سأعمل بما أعطاه ابن الوليد من ذمّة الله وذمّة رسوله ثم ذمّة الخليفة أبي بكر؟!

أكانت ذمّة الله وذمّة رسوله من الهوان عند خالد، بحيث لا يتحرّج من اللعب بهما واتخاذهما وسيلة غدرٍ وحيلة يعطيهما ويخفرهما كما يشاء.

وبِمَ يثق المسلم، إذا لم يثق بذمّة الله وذمّة رسوله وذمّة الخليفة، يعطيها من يستطيع أن يفي بها؟! ماذا كنت ستفعل لو أعطاك خالد أو من هو مثله ذمّة الله وذمّة رسوله، غير ما فعله مالك؟!

أكان أحدٌ سيلومك أنك وثقت بما أعطيت. أم اللّوم على من لم يحترم الله ولا رسوله واستهان بهما وخفر ذمّتهما؟! وأحسب متمّماً كان على علم بما جرى مع أخيه حين قال:

أدعوته بالله ثم قتلته

لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

٦٣

أيقتل ابن الوليد مالكاً بحجّة أنه قال (صاحبكم) مع ما يحتمله اللفظ من وجوهٍ، ولا يبالي أن يخفر ذمّة الله وذمّة رسوله. ولا وجه آخر لهما يمكن أن يحملا عليه؟!

ثم هل تهيب الناس قتل مالك، وهل واجه المهاجرون خالداً مستنكرين (أتقتل رجلاً مسلماً) لو لم يكن مالك رجلاً مسلماً حقّاً.

ومع ذلك فأنت مضطر أن تتهم مالكاً بالردّة وبما هو أكثر من الردّة، لو كان هناك ما هو أكثر، إرضاءً لخالد والخالدييّن. وإلاّ فإنّ سيف الله سيكون مسلولاً عليك هذه المرّة.

إلى هنا أنتهي من الروايات التي تناولت حديث مالك أو مأساته.

لكنّ هذه الروايات تبقى قاصرةً عن إعطاء صورة كاملة للمأساة. فهي لا تعرض للأسباب أو للسبب الحقيقي الّذي كان وراء مقتل مالك، مكتفيةً من ذلك بأسباب لا أدري إن كان أصحابها، وهم يروونها مقتنعين بها. وإن كنت أرى وأحسّ مدى اضطرابهم، وهم يحاولون أن يبرّروا ما جرى لمالك ويقنعوك به.

ويبقى السؤال الكبير: ما الّذي قتل مالكاً إذن؟ وهو السؤال الّذي أحاول أن أجيب عليه، لا بروايةٍ جديدة أضيفها إلى الروايات السابقة. بل بالرجوع إلى تلك الروايات التي وقفت عند رموز وإشارات لا تريد أن تتخطّاها إلى التصريح بالسبب الحقيقي الّذي تحوم حوله وتقترب منه، ثم تترك لك أن تصل إليه بنفسك، وكأنما أخذ على أصحابها عهدٌ بالوقوف عند ذاك. مع أنّ تلك الرموز والإشارات كافيةٌ في ذاتها للكشف عن هذا السبب.

وسأعيد قراءة الروايات.

يقول صاحب البدء والتأريخ (وكانت لمالك امرأةٌ وسيمةٌ فمال إليها خالد وأمر بقتل مالك...)(١) .

ويقول الطبري (وتزوّج خالد أم تميم ابنة المنهال) وهو يقصد زوجة مالك(٢) .

ويروي ابن خلّكان (فالتفت مالك إلى زوجته أم متمّم ـ واسمها أم تميم كما هو المتفق عليه ـ وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال وقبض خالد امرأته...)(٣) .

____________________

(١) البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٥٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢١٨.

(٣) وفيات الأعيان ج ٦ ص ١٤.

٦٤

ويذكر المرزباني (فقتله ضرار بن الأزور الأسديّ بأمر خالد بن الوليد بالبطاح صبراً وخلف على زوجته وكانت جميلةً...)(١) .

ويحكي ابن الأثير (... وتزوّج خالد أم تميم امرأة مالك...)(٢) .

ويروي أبو الفرج (... يا أبا عبد الله أما سمعت بساقي أم تميم؟ يعني زوجة مالك التي تزوّجها خالد لما قتله، وكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها...)(٣) .

ويقول ابن أعثم (... فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثم قال يا خالد بهذه قتلتني... فيقال إنّ خالد بن الوليد تزوّج بامرأة مالك ودخل بها وعلى ذلك أجمع أهل العلم...)(٤) .

وينقل أبو الفدا (... فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال وقبض خالد امرأته...)(٥) .

ويذكر ابن شاكر الكتبي (... وكان خالد قد تزوّج بزوجة مالك... وعنّفه ـ يعني الخليفة أبا بكر ـ بالتزويج وقيل إنّ خالداً كان يهوى امرأة مالك في الجاهلية(٦) .

ويتحدّث ابن عساكر (... وإنما كان عمر ـ يقصد الخليفة عمر بن الخطاب ـ وجِدَ عليه لأجل ما صنع بمالك بن نويرة وقتله إيّاه وتزوّجه بامرأته... ولما قدِم أبو قتادة على أبي بكر وأخبره بقتل مالك وأصحابه جزع جزعاً شديداً...)(٧) .

وينقل اليعقوبي (... فأتاه مالك بن نويرة يناظره ـ يعني خالد بن الوليد ـ واتبعته امرأته فلما رآها خالد أعجبته فقال والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك فنظر مالكاً فضرب عنقه وتزوّج امرأته...)(٨) .

____________________

(١) معجم الشعراء ص ٣٦٠ - ٣٦١.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧.

(٣) الأغاني ج ١٥ ص ٣٠٦.

(٤) الفتوح ج ١ ص ٢٢ - ٢٣.

(٥) تاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٨.

(٦) فوات الوفيات تحقيق الدكتور إحسان عباس - دار صادر بيروت - ص ٢٣٤.

(٧) تاريخ ابن عساكر ج ٥ ص ١٠٤.

(٨) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠.

٦٥

ويقول ابن الوردي في تأريخه ط دار الكتب العلمية ج ١ بيروت ص ١٢٥ ، ١٩٩٦ ط أولى (.. هذه التي قتلتني.. وكانت في غاية الجمال...).

وروى ثابت بن قاسم في الدلائل أنّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقةً في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته قتلتني يعني سأقتل من أجلك...)(١) .

ويروي الذهبي (... فالتفت مالك إلى زوجته وقال هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال...)(٢) .

ويحكي ابن العماد (... واشترى ـ يعني خالداً ـ زوجته من الفيء وتزوّجها...)(٣) .

وينقل ابن كثير (... واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال وكانت جميلةً...)(٤) .

وأظنه استوقفك كما استوقفني هذا الاهتمام بزوجة مالك والتركيز عليها وطول الحديث عن جمالها وهوى خالد لها والتأكيد على قول مالك زوجها (أنت التي قتلتني) أو قوله لخالد (هذه التي قتلتني).

وأظنك تساءلت كما تساءلت أنا، إن كان مالك هو المتزوّج الوحيد بين الذين قاتلهم خالد في الردّة أو في غير الردّة. فهل سمعت حديثاً أو روايةً عن واحدةٍ من زوجات هؤلاء ووصف جمالها حتى وصل الأمر إلى ساقيها وكأنّهم يدفعون بك إلى نهاية طريق واحدٍ ليس أمامك غيره: أن يكون ميل خالد لامرأة مالك الجميلة وحرصه على الزواج منها، السبب في مقتل مالك، تخلّصاً منه، وتحقيقاً لرغبة خالد في الزواج من امرأته.

صحيحٌ أنّ المؤرّخين لم يقولوا صراحةً أنّ مقتل مالك كان بسبب زوجته وتعلّق خالد بها ورغبته فيها.

ولكن أكنّا في حاجةٍ إلى صراحتهم هذه بعد كل الّذي قالوه؟ ثم بعدما اعتادوا أن يختموا الحديث عن مالك، بزواج خالد من زوجته أمّ تميم.

____________________

(١) الإصابة ج ٦ ص ٣٦ - ٣٧.

(٢) تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين ص ٣٤.

(٣) شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج ١ ص ١٦.

(٤) البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٢٢.

٦٦

ما أظننا في حاجة، ولا أظنهم.

ومع ذلك فلنكمل ما لم يقولوه صراحةً، بما قاله صراحةً من هو أوثق منهم وأصدق حديثاً.

ولنعد إلى تلك الروايات مرّةً أخرى لنرى موقف الخليفتين عمر وأبي بكر ـ ووضع الاسمين هنا باعتبار تسلسل الحديث ـ ومواقف آخرين لهم بمأساة مالك صلة وثيقة.

يروي الطبري (... وقال عمر لأبي بكر إنّ في سيف خالد رهقاً فإن لم يكن هذا حقّاً حق عليه أن تقيّده وأكثر عليه في ذلك ـ وكان أبو بكر لا يقيّد من عمّاله ولا وزعته ـ فقال هيه يا عمر تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد وودّى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل فأخبره خبره فعذره وقبل منه وعنّفه في التزويج...)(١) .

وفي موضع آخر (... وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله وقال: إنّ في سيفه رهقاً...)(٢) .

وفي موضعٍ ثالثٍ (... فلما بلغ قتلهم ـ يعني مالكاً وأصحابه ـ عمر بن الخطاب، تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدّو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته)(٣) .

وبعده (وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد معتجراً بعمامةٍ وقد غرز في عمامته أسهماً فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال: أرئاءً قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك...)(٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٨.

(٢) المصدر السابق ص ٢٧٩.

(٣) نفس المصدر ص ٢٨٠.

(٤) نفس المصدر والصفحة.

٦٧

وفي ابن الأثير (... و تزوّج خالد أم تميم امرأة مالك فقال عمر لأبي بكر إنّ سيف خالد فيه رهقٌ وأكثر عليه في ذلك فقال هيه يا عمر تأوّل فأخطأ... ودخل المسجد ـ يعني خالداً ـ وعليه قباء له عليه صدأ الحديد وقد غرز في عمامته أسهماً فقام إليه عمر فنزعها وحطّمها وقال له أرئاءً قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك... وعنّفه ـ يعني أبا بكر خالداً ـ في التزويج...)(١) .

وبعده (... فأمر أبو بكر بردّ السبي وودّى مالكاً من بيت المال...)(٢) .

وفي الأغاني (وقد كان تزوّج خالد أم تميم بنت المنهال...)(٣) .

وفي موضعٍ آخر (... فقال عمر لأبي بكر إنّ في سيف خالد رهقاً وحقٌّ عليه أن تقيده وأكثر عليه في ذلك وكان أبو بكر لا يقيد من عمّاله ولا من وزعته فقال هيه يا عمر تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد وودّى مالكاً... وعنّفه بالتزويج...)(٤) .

ولا أدري لِم لا يقيّد أبو بكر من عمّاله ووزعته إذا فعلوا ما يستحقّون عليه ذلك؟

ما الّذي يمنعهم إذن ويحول بينهم وبين ظلمهم الناس والعدوان عليهم، ويحمي هؤلاء منهم، إذا كان الخليفة قد أعطى ولاته وعمّاله، الضوء الأخضر كما يقال الآن، يعملون ما يريدون دون خوف من حساب أو عقاب.

إلى أين سيتّجه المظلوم لرفع ظلامته واستعادة حقّه ممّن ظلمه واعتدى عليه، ونحن بعد في بداية ما يسمّى بعهد الراشدين؟!

وماذا سيبقى من قول أبي بكر من أوّل خطبة له بعد استخلافه كما يروون (... والقوي ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى آخذ الحق له...).

ماذا سيبقى غير هذا الشيطان الّذي يعتريه، كما يعبّر هو، لا أنا، في نفس خطبته تلك، ويطلب من المسلمين أن يتجنّبوه إذا اعتراه الشيطان فغضب(٥) .

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٧.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٨.

(٣) الأغاني ج ٥ ص ٣٠١. (ذكر متمّم وأخباره وخبر مالك ومقتله).

(٤) انظر نص خطبته في الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار من إحضار عبد الله بن الزبير ت ٢٥٦ ص ٤٦٤ تحقيق الدكتور سامي مكي العاني - دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ١٩٩٦ ط ثانية.

(٥) نفس المصدر والصفحة.

٦٨

وما أظن أمّة تفلح وخليفتها يعتريه الشيطان فلا يعرف ما يفعل إذا غضب...

ولم تفلح.

أرأيت إلى أين أوصلنا خالد والمدافعون عنه والمبررّون لفعله؟!

لقد أرادوا تبرئة خالد فاتّهموا أبا بكر!

ونعود إلى موضوعنا نستأنف الحديث فيه، فقد تعبنا من هؤلاء الذين يسمّونهم مؤرّخين، وما هم في الواقع إلاّ مزوّرون وأغبياء ومتعصّبون.

وبعده (... وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله وقال إنّ في سيفه لرهقاً...)(١) .

وفي موضع آخر (... فلما بلغ قتلهم ـ يعني مالكاً وأصحابه ـ عمر بن الخطاب تكلّم فيه عند أبي بكر (رض) وقال عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته وأقبل خالد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجراً بعمامة وقد غرز فيها أسهماً فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك...)(٢) .

وفي البدء والتأريخ (... ولما قدم خالد قال عمر (رض) لأبي بكر اقتله فإنه قتل وزنا قال تأوّل فأخطأ...)(٣) .

وفي وفيات الأعيان (ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر (رض) قال عمر لأبي بكر (رض) إنّ خالداً قد زنى فارجمه قال ما كنت لأرجمه فإنّه تأوّل فأخطأ قال فإنه قتل مسلماً فاقتله به قال ما كنت لأقتله به إنه تأوّل فأخطأ(٤) .

ويقول أبو الفدا: (... ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر إنّ خالداً قد زنى فارجمه قال ما كنت أرجمه فإنه تأوّل فأخطأ قال فإنّه قتل مسلماً فاقتله قال ما كنت أقتله فإنّه تأوّل فأخطأ(٥) .

____________________

(١) نفس المصدر ص ٣٠٢.

(٢) نفس المصدر ص ٣٠٤.

(٣) البدء والتأريخ ج ٥ ص ١٦٠.

(٤) وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٦ ص ١٥.

(٥) تاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٨.

٦٩

وينقل الذهبي (... قدِم أبو قتادة الأنصاري على أبي بكر (رض) فأخبره بقتل مالك ابن نويرة وأصحابه فجزع لذلك ثم ودّى مالكاً وردّ السبي والمال)(١) .

وفي موضعٍ آخر (... فلما قدم خالد قال عمر: يا عدو الله قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته لأرجمنك)(٢) .

وبعده (... فقام عمر فقال: يا أبا بكر إنّ في سيف خالد رهقاً وإنّ هذا لم يكن حقّاً فإنّ حقّاً عليك أن تقيده فسكت أبو بكر)(٣) .

وبعده (... وقال لعمر ـ يعني أبا بكر ـ وهو يناشد في القيود ليس على خالد ما تقول هبه تأوّل فأخطأ)(٤) .

وفي تأريخ اليعقوبي (... فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله إنّ خالداً قتل رجلاً مسلماً وتزوّج امرأته من يومها...)(٥) .

ويروي خليفة بن خياط (... قدم أبو قتادة على أبي بكر فأخبره بمقتل مالك وأصحابه فجزع من ذلك جزعاً شديداً فكتب أبو بكر إلى خالد فقدم عليه فقال أبو بكر هل يزيد خالد على أن يكون تأوّل فأخطأ وردّ أبو بكر خالداً وودّى مالك بن نويرة وردّ السبي والمال)(٦) .

ويقول صاحب الخزانة (... ودخلها ـ دخول خالد المدينة ـ وقد غرز سهمين في عمامته فكأنّ عمر غضب حين رأى السهمين فقام فأتى عليّاً فقال إنّ في حق الله أن يقاد هذا بمالك. قتل رجلاً مسلماً ثم نزا على امرأته كما ينزو الحمار ثم قاما فأتيا طلحة فتتابعوا على ذلك...)(٧) .

____________________

(١) تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣.

(٢) المصدر السابق ص ٣٦.

(٣) نفس المصدر ص ٣٧.

(٤) نفس المصدر والصفحة.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠.

(٦) تاريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٧٠.

(٧) خزانة الأدب ج ٢ ص ٢٧.

٧٠

فأين تلك الروايات التي تحجم فلا تفصح، من صراحة عمر وهو يعلن غير شاك ولا مرتاب أنّ خالداً قتل امرءاً مسلماً وزنى بامرأته ويطالب بإنفاذ حكم الله فيه: القتل والرجم.

وهل كان ابن الخطاب يتّهم خالداً أو غير خالد من عامّة المسلمين، بهذا الشكل الحاسم القاطع ويمضي فيه لو لم يثبت عنده قتل خالد لمالك ظلماً، دون أن يصدر منه ما يستوجب قتله من ردّة أو ما دونها. ولو لم يثبت عنده وبنفس الدرجة من القوّة أيضاً أنّ خالداً تجاوز حدود الله بالزنا ـ وهو ما كان يصر عليه الخليفة عمر دون أيّة تسمية أخرى ـ بامرأة مالك ويطالب برجمه كما تقضي الشريعة.

أمّا أنا فلا أحسبني في حاجةٍ إلى ما أضيفه بعد قول ابن الخطاب ولا أجد شهادةً ببراءة مالك ممّا اتهم به بعد شهادته ولا إدانةً لخالد بعد إدانته.

وليس موقف أبي بكر بأقلّ إدانةً لخالد من موقف عمر وإن كان أقلّ صراحةً.

فالمؤرّخون ينقلون أنّ أبا بكر جزع أو جزع جزعاً شديداً، لما علم بمقتل مالك وأصحابه(١) .

وما أحسب أبا بكر قد جزع أو جزع جزعاً شديداً لو كان المقتول مرتدّاً، وهو الّذي أرسل خالداً وغير خالد لقتال المرتدّين. فجزعه لم يكن إذن إلاّ لعلمه أنّ خالداً قتل مسلماً ثابتاً على إسلامه.

وبغير هذا لا أجد تفسيراً لجزعه، أو جزعه الشديد.

كما ينقل المؤرّخون أنّ أبا بكر ودّى مالكاً وردّ السبي والمال(٢) . ولم يكن هذا فعله مع المرتدّين. وهو أيضاً ما لا يمكن تفسيره بغير ما ذكرناه من إسلام مالك وعدم ارتداده.

بل إنّ اعتذار أبي بكر عن خالد بقوله (تأوّل فأخطأ) حين اشتدّ عمر في أمره وطلب بأن يقتل ويرجم.

____________________

(١) تاريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣ وتاريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢١٨ والأغاني ج ١٥ ص ٣٠١ والذهبي تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين - ص ٣٣ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٨.

٧١

هذا الاعتذار يؤكّد بوضوحٍ لا لبس فيه، أنّ خالداً قتل خطأ أي أنه قتل مسلماً غير مرتد. وإلاّ فأيّ خطأ في أن يقتل خالد واحداً من المرتدّين. وهو الّذي ما جاء إلاّ لقتالهم وبأمرٍ من أبي بكر نفسه.

فاعتذار أبي بكر إن كان ينفي بوضوح تهمة الردّة عن مالك، فإنه لا ينفي خطأ خالد في قتله مسلماً لم يرتكب جرماً. هذا إذا قبلنا أنّ قتل مالك كان مجرّد خطأ من خالد وهو ما لا نجد سبيلاً لقبوله بعد كل الّذي تقدّم.

وأبو بكر لا يقف عند هذا الحد. فالمؤرّخون يضيفون أنّه عنّف خالداً بزواجه من أمّ تميم امرأة مالك. وما كان أبو بكر ليعنف شخصاً في زواجه، لو لم يكن في هذا الزواج ما يدعو إلى التعنيف بمخالفته للسنن الشرعيّة وخروجه عليها.

وما أظننا في حاجةٍ للعودة إلى زواج خالد من أم تميم، ولم يجف دم زوجها، بعد أحجار ابن الخطاب التي يرمي بها الزناة كما أشرنا، وبعد ما تغنّى الناس بأبيات أبي زهير السعدي التي يقول فيها:

قضى خالد بغياً عليه لعرسه

وكان له فيها هوى قبل ذلك

فأمضى هواه خالد غير عاطف

عنان الهوى عنها ولا متمالك

ولا بدّ أن نتوقّف قليلاً عند اثنين من خيار الصحابة من الّذين كان لهم موقفٌ في هذه المأساة: هما عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري. وقد شهد الاثنان بإسلام مالك وكلّما خالداً في أمره، لو كان إسلامه نافعاً له ومانعاً عنه القتل، ولو كانت زوجته واحدة أخرى غير ذات الساقين اللذين لم ير أحسن منهما.

وقد بلغ من غضب أبي قتادة على خالد لقتله مالكاً أن (عاهد الله ألاّ يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها)(١) .

وأظن من قلّة الوفاء وقد أوشكنا على الانتهاء من حديث مالك، أن ننسى أخاه الّذي كان مضرب المثل في الوفاء لأخيه. ذلك هو متمّم بن نويرة، الّذي ظل يبكي مالكاً حتى دمعت عينه العوراء، وحتى هجرته زوجته لانشغاله عنها بالحزن على أخيه والّذي كان يبكي كل قبر يراه؛ لأنه يذكّره بقبر أخيه مالك.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٠ والأغاني ج ١٥ ص ٣٠٣ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١١٠ وطبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي سفر أول ص ٢٠٨.

٧٢

متمّم هذا يمثّل فصلاً من فصول هذه المأساة التي بدأت في البطاح لتنتهي في المدينة. وهو فصلٌ لا تستطيع أن تغفله وأنت تريد الخروج بصورةٍ كاملة لمأساة مالك.

فيذكر المؤرّخون أنّ متمّماً جاء إلى المدينة، يحمل حزنه على أخيه مالك، ومع حزنه ظلامته التي يحاول أن يعرضها على المسلمين هناك لعل فيهم من ينصفه وينصف أخاه، أو من يشاركه فيها ويواسيه.

وهؤلاء المؤرّخون يروون أنّ متمّماً صلّى الصبح مع أبي بكر ثم أنشده قوله:

نعم القتيل إذا الرياح تناوحت

خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور

أدعوته بالله ثم قتلته

لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

فقال أبو بكر والله ما دعوته ولا قتلته.

ومن حق أبي بكر أن يقول ذلك. فهو لم يدعه ولم يقتله، وهو أفضل وأتقى لله أن يدعوه ثم ينكث ويغدر به.

ولكن ألا تحس معي أنّ في جواب الخليفة شيئاً آخر أكثر من مجرّد البراءة من قتل مالك والغدر به، وهو ما لا يلحق أبا بكر ولا يتعلّق به من قريب ولا من بعيد.

ألا تحس في هذا الجواب لا ما يبرئ أبا بكر وهو غير متّهم طبعاً، ولكن ما يبرئ مالكاً ممّا اتهم به من ردّة ورجوعٍ عن الإسلام.

ألم يكن أسهل على أبي بكر أن يقول لمتمّم إنّ الذي قتل أخاه هو ردّته، فلا يقطع بذلك متمّماً وحده، وإنما كل الذين قد يشاركون متمّماً ويعطفون على قضيّته.

ما الّذي منع أبا بكر من هذا الجواب أو مثله، لو كان مالك قتل على الردّة.

بل كيف يجرؤ متمّم على المجيء إلى المدينة، باكياً أخاه راثياً له والتعرّض لأبي بكر وعمر ووجوه المسلمين، واستعدائهم على قاتل أخيه وسكوت كل هؤلاء عنه وسماعهم منه، لو لم يكن متمّم واثقاً من أمره وممسكاً منه بسبب أكيد.

رحم الله مالكاً وغفر لخالد.

لقد كنت أعجب كيف قتل الحسين بعد خمسين سنة من وفاة النبي.

وقد زال عجبي وأنا أرى ما حلّ بالمسلمين بعد خمسين يوماً من وفاة النبي.

٧٣

الباب الرابع

( سجاح )

٧٤

الباب الرابع

( سجاح )

وأراني وصلت إليك يا ابنة عقفان. فمن أنت وما خطبك؟ هل صحيحٌ أنك ادّعيت النبوّة كما يقول المؤرّخون؟ وهل صحيحٌ ما حصل لك في خيمة مسيلمة كما يقول هؤلاء أيضاً؟

لقد جعلوا منك نبيّاً. ثم قاربوا أن يجعلوا منك بغيّاً. وأظن الفرق كبيراً بينهما. وما أحسبهم صدقوا في الأولى ولا في الثانية.

ولا أكتمك أنّ الحديث عن (الأنبياء) يستهويني. وقد سبق أن تحدّثت عن صاحب لك من بني أسد، هو طليحة بن خويلد منحه المؤرّخون رتبة (النبوّة) وسأتحدّث عن صاحب آخرٍ لك، من أخوالك ربيعة، يشاركك المرتبة نفسها، هو مسيلمة بن حبيب الحنفي.

ثم إنّ عندي من حديث المؤرّخين عنك وعن غيرك شكّاً كبيراً. ولهذا جئتك ببعض الأسئلة، عسى أن أستطيع الدفاع وتصحيح ما يرويه المؤرّخون عنك، دون أن أقتضيك ثمناً لهذا الدفاع. فما أزال أذكر أنّه كان عندنا بالعراق في العهد المسمّى بـ(البائد) أو (المباد) وقبل قيام (الثورات)، لجنة تدعى لجنة الدفاع عن العدالة، مهمّتها الدفاع عن المتّهمين أمثالك، ممّن لا يملكون وسائل الدفاع عن أنفسهم. وكنت واحداً من أعضائها. وقد انتهت هذه اللجنة بعد سقوط العهد المباد وقيام عهد الثورات في العراق، إذ لم يعد المتّهمون في حاجةٍ إلى محامين!!

ربّما أثقلت عليك بهذا الاستطراد وأنت تنتظرين الأسئلة التي حملتها معي، وعذري أنّ الحديث مع أهل الدار الآخرة فيه من الرهبة والخوف ما يوجب التمهيد له والتلّطف في تناوله.

وعذري ثانياً أنكم في الآخرة لستم مثلنا في عجلةٍ من أموركم، وقد كفيتم أمور المعيشة التي تضغط علينا في هذه الأرض وتسلب وقتنا وفكرنا.

٧٥

وسأبدأ الحديث بسؤال عن حياتك قبل الردّة والنبوّة، وقبل الزواج من مسيلمة. فالمؤرّخون يقولون إنك ابنة الحارث بن سويد بن عقفان، من بني غدانة بن يربوع، عدا صاحب جمهرة أنساب العرب: محمد بن حزم فله في أسماء آبائك رأيٌ يخالف الآخرين(١) .

ولم أكن لأقف عند هذا السؤال. ولم أكن لأطرحه عليك، لولا ما يوليه العربي لنسبه من منزلةٍ رفيعة واعتزازٍ بآبائه وعشيرته حتى أنّه ليقبل راضياً أن يذمّ ويهجي إذا مدح أبوه وأجداده. ويفضّل أن يكون ماضياً بلا حاضر على أن يكون حاضراً بلا ماض، وإن ضعف هذا الآن وأصبح المرء قادراً على أن يشتري بماله ما يشاء: آباءً وأجداداً، وأن يضيف إليهم ما يشاء ، إن قصر به هؤلاء الآباء والأجداد: لكل سعرٌ محدّد معلوم.

ويقولون أيضاً إنك من بيت كان نقيلاً في بني تغلب، كما كانت البسوس التي ثارت بسببها الحرب بين بكر وتغلب، وهي تميميّةٌ مثلك، نقيلة في نفس القبيلة: تغلب.

هذا كل ما يذكره المؤرّخون عن نشأتك، ليس لديّ ما أضيفه إليه، وبيني وبينك هذا الزمن الطويل.

وسأنتقل إلى سؤال آخرٍ ما يزال المؤرّخون يبحثونه ويثيرونه كلّما عرضوا لموضوع الردّة التي يتّهمونكِ بها.

فالطبري، وما أخالك سمعت به وقد جاء بعدك بحوالي الثلاثة قرون، يذكر في تأريخه، ويشاركه في ذلك بقيّة المؤرّخين، أنك تنبّأتِ بعد وفاة النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجزيرة في أخوالك بني تغلب. وأنّك جئت تقودين قبائل ربيعة، وقد عزمت على غزو أبي بكر في المدينة.

وحتى أبعد عن نفسي ما قد تتهمينني به من المبالغة أو عدم الدّقة في النقل، فسأثبت نص ما قاله شيخ المؤرّخين عندنا (بينا الناس في بلاد تميم على ذلك قد شغل بعضهم بعضاً فمسلمهم بإزاء من قدم رجلاً وأخر أخرى وتربص وبإزاء من ارتاب فجاءتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة وكانت رهطها في بني تغلب تقود أفناء ربيعة. معها الهذيل بن عمران في بني تغلب وعقّة بن هلال في النمر وتاد بن فلان في إياد والسليل بن قيس في شيبان...

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٦٩ أحداث سنة ١١، وتاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٤ أحداث نفس السنة.

٧٦

وكانت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان هي وبنو أبيه عقفان في بني تغلب فتنبّت بعد موت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجزيرة في بني تغلب فاستجاب لها الهذيل وترك التنّصر وهؤلاء الرؤساء الّذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر...)(١) .

هذا هو نص الطبري كما ترين. وأظنك تشكّين في الكثير مما ورد فيه كما شككت، لو أنّ أهل الآخرة يذكرون شيئاً من أمور دنياهم.

فما الّذي جعل ربيعة تتبع نبيّةً من تميم على ما بين القبيلتين من عداء قلما عرف بين حييّن من العرب. بدأ جاهليّةً واتّصل إسلاماً حتى كانت ربيعة تحالف الأزد من اليمن ضد تميم التي تشاركها (العدنانية).

وماذا لدى هذه المرأة مما يدفع ربيعة إلى الإيمان بها والانقياد لها وقد قيل (ما زالت ربيعة غاضبة على الله منذ بعث نبيّه من مضر)(٢) . على عظمة هذا النبي وعظمة دينه وقرآنه. فأين منه سجاح وغير سجاح مع (مضريّتها).

ثم إنّ ربيعة كان لها نبيٌّ (ذكر) من نفسها، هو مسيلمة بن حبيب الحنفي الربعي. فكيف تركته وتولّت امرأةً من تميم. وليست سجاح بأفضل من مسيلمة ولا أصدق منه. ولا مسيلمة بأسوأ من سجاح ولا أكذب منها، إذا أخذنا بما يقوله المؤرّخون عنهما.

ومن الحق ألاّ أتهم ربيعة وحدها بهذه العصبيّة (النبوّية) فالمؤرّخون يذكرون أنّ عيينة ابن حصن الفزاري كان يقول في ردّته واتباعه طليحة (والله لإن نتبع نبيّاً من الحليفين ـ يعني غطفان الّتي هو منها وأسداً التي منها طليحة ـ أحبّ إلينا من أن نتبّع نبيّاً من قريش...)(٣) .

____________________

(١) هكذا أحفظها. وقد وردت على لسان عبدالله بن خازم السلمي أمير خراسان في الفتنة ثم من قبل عبدالله بن الزبير بالصيغة التالية (أنّ ربيعة لم تزل غضاباً على ربها منذ بعث الله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من مضر. ولا أدري إن كان ابن خازم هو أول من قالها أم أنّ الذي قالها غيره وتمثّل هو بها، وهذا ما أظن - الطبري ج ٥ أحداث سنه ٦٤ ص ٥٤٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٥٧ وابن الأثير ج ٢ ص ٢٠٥.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٢ أحداث سنة ١١.

٧٧

وعلى كلٍّ فبين قبائل ربيعة المتّهمة عند المؤرّخين بالردّة واتباع سجاح، تغلب التي بدأت منها دعوة سجاح أو نبوّتها. وتغلب هذه كما نعرف من القبائل التي غلبت عليها النصرانية واستمرّت كذلك حتى عهد متأخّر. ويكفي أن الأخطل التغلبي وهو شاعر الخلافة الأمويّة، كان نصرانياً ولا يتحرّج أن يعلن نصرانيّته، وأمر هذه القبيلة مستفيض معروفٌ يمكن لمن يشاء أن يرجع إليه في مصادره من كتب التاريخ والأنساب والأدب.

بل لماذا أبعد عليك بمراجعة المصادر من كتب التاريخ والأنساب والأدب، والطبري نفسه يقول في هذا النص الّذي ننقل عنه (... فاستجاب لها ـ سجاح ـ الهذيل ـ يعني ابن عمران زعيم تغلب ـ وترك التنصّر...).

تغلب النصرانيّة هذه، كيف يمكن أن تضاف إلى القبائل المرتدّة وتبحث معها، مع تصريح المؤرّخين بنصرانيّتها.

والهذيل بن عمران زعيمها. ما الّذي دعاه أن يترك التنصّر كما يقول الطبري؟ ليسلم؟ وهو لم يسلم. أليقاتل المسلمين؟ وهو لم يكن في حاجةٍ إلى ترك دينه، ليقاتلهم. أم ليدين بدين سجاح؟ ونحن لا نعرف من هذا الدّين شيئاً، حتى اسمه. وما أظن الهذيل عرف منه شيئاً؛ لأنه لم يكن فيه ما يستحق أن يعرف ولا ما لا يستحق، كحمام طليحة وضفدعة مسيلمة.

هذا عن تغلب ورأسها الهذيل.

لكن ما هو أهمّ منه، أنّ سجاح نفسها لم تكن مسلمةً ليصح اتهامها بالارتداد، فضلاً عن ادّعائها النبوّة وقيادتها المرتدّين. فالطبري يصفها بأنها (كانت راسخة في النصرانيّة وقد علمت من علم نصارى تغلب)(١) .

ولا أدري يا ابنة عقفان، إن كنتِ راسخةً حقّاً في النصرانيّة كما يصفكِ الطبري، وقد نشأت عند أخوالك النصارى من تغلب. ولكن ما أدريه وأعلمه أنّ الارتداد لا يطبّق عليكِ؛ لأنه لا يطبّق على غير المسلمين، من نصارى وسواهم. يستوي في ذلك الراسخون وغير الراسخين في ديانتهم تلك.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٠ أحداث سنة ١١.

٧٨

وهذا ما يدفع إلى الاستغراب، أن يكون مؤرّخ كابن جرير ينعتكِ في وقت واحد، بالنصرانية وبالارتداد الّذي يعني الارتداد عن الإسلام، وهو ما يعزّز شكوكي التي بدأت بها حديثي معك، لا فيما يخصّك وحدك، ولا فيما يخصّ الردّة وحدها، ولكن فيما يتعلّق بتأريخنا كله. وأظنني تناولت هذا الموضوع في أكثر من موضع هنا، وفي أكثر من كتاب.

ويذكر الطبري بين أفناء ربيعة التي قدمت معك قبيلة إياد بقيادة تاد بن فلان.

وإياد كما يجمع علماء الأنساب، ليست من ربيعة وإنما هي قبيلة تقابل ربيعة. والنسّابون يذكرون أنّ أبناء نزار بن معد بن عدنان أربعة، هم ربيعة ومضر وإياد وأنمار.

فإياد ليست من ربيعة، ولا أقرب إليها منها إلى مضر. وهي ليست من القبائل الكبيرة القوية، ولم تشارك في بناء تاريخ العرب، لا جاهلية ولا إسلاماً ولم تعرف لها أيام كأيامهم ولا بيوت وزعامات كبيوتهم وزعاماتهم. ولولا قيس بن ساعدة ولقيط بن يعمر وأبو دؤاد في الجاهلية، وابن أبي دؤاد في الإسلام، لما سمع أحدٌ باسمها من غير أصحاب الاختصاص.

بعد هذا ما الذي جاء بك وإفناء ربيعة إلى بلاد تميم، وأنتم تريدون غزو أبي بكر في المدينة؟! هل كان الطريق إلى المدينة يمّر ببني تميم أم قصدتم غزو تميم أيضاً، وهم قومك وقبيلتك وليس الأمر سهلاً معهم كما تعلمين. وقد جرّبت ربيعة قتالهم في الجاهلية قبل ذاك. وأفترض أنك وأصحابك على علم به.

أم لدعوتهم إلى الدخول في دينك وترك دين محمد؟ وكان أقبل عند قومك لو قصدتهم وحدك في غير ما يشبه هيئة الغزو، إن استطعت أن تجدي بينهم من يتبعك عليه. وسأعود إلى الحديث عن هذا الدين فيما بعد، فالمؤرّخون لا يكتفون منك بالردّة عن الإسلام كما يفعلون مع الآخرين، وإنما يجعلون منك نبيّاً. ولا بد أن يكون لك، ككل نبي دينٌ أو ما يشبهه أو يقرب منه.

لعلّي أضجرتكِ بحديث عمره أربعة عشر قرناً أو تزيد، ربما لم تعودي تذكرين منه الآن شيئاً.

٧٩

لكن عذري أنني أحاول ـ كما فعلت مع غيرك ـ أن أنصفك قدر ما أستطيع، مما رماكِ به المؤرّخون، وأصحّح الأخبار التي رافقت ما يسمّونه ردّة سجاح، وقد خبطوا فيها وتجنّوا وأسفّوا.

ولهذا رأيت أن أستفهمك عن بعض تلك الأخبار، ومنها مثلاً موقف زعماء بني تميم منك، وعلى وجه الخصوص عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر.

وأنت تعرفين أنّ عطارد هو سيّد قومك وابن سيّدهم، فأبوه حاجب بن زرارة الّذي رهن قوسه عند كسرى في قصّة معروفةٍ، وصاحب أغلى فداء عرفته العرب بعد أسره يوم شعب جبلة.

والزبرقان بن بدر صاحب الحطيئة الّذي انقلب عليه وهجاه في سينيته التي منها البيت المشهور:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

هل كان عطارد والزبرقان ومعهما رؤوس بني تميم معك أم ضدّك؟ فلقد تعبت مع هؤلاء المؤرّخين الّذين يجعلونهم معك وضدّك في بضع صفحات فقط.

فهذا الطبري يقول في ص ٢٦٩ من تأريخه (فأرسلت ـ يعني سجاح التي هي أنتِ ـ إلى بني مالك بن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة، فخرج عطارد بن حاجب وسروات بني مالك حتى نزلوا في بني العنبر على سبرة بن عمرو هرابا...).

فهو يثبت هنا هرب عطارد وخلافه عليك وكرهه لمقابلتك. لكنه يعود إلى عطارد في ص ٢٧٤ فيقول (... وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم).

ثم يؤكّد هذا بعد سطرين من نفس الصفحة (... فانصرفت ومعها أصحابها فيهم الزبرقان وعطارد... فقال عطارد بن حاجب:

أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها

وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

٨٠

وإن كنت لا أرى في هذا البيت المنسوب لعطارد ما يشير إلى تأييده لك أو اقتناعه بك. بل أجده، على العكس، يعبر عن روح ساخرة منك ومن أتباعك. لا يهم الضمير (نا) في (نبيّتنا) الّذي يشير فيه كما أرى، إلى قبيلته تميم. وأظنك تحسّين معي هذه السخريّة من المقابلة بين شطري البيت. فهو لا يقصد أن يقرّر حقيقة معروفة أن نبيّتهم أنثى وأنبياء غيرهم من الناس ذكور، وإنما يريد أن يسخر من هؤلاء الذين تبعوا نبيّةً أنثى، مخالفين في ذلك، كل الناس الذين عرفهم أو سمع عنهم، والذين لم يكن أنبياؤهم إلاّ من بين الذكور، حتى الّذين تنبّئوا في وقته. فهو بروحه القبليّة يسوؤه أن يكون نبي بني أسد ذكراً، ونبي بني حنيفة ذكراً، ونبي اليمن (الأسود العنسي) ذكراً، فلِمَ يكون نبي بني تميم من دون أولئك جميعاً أنثى؟ وكيف قبلت تميم ذلك ورضيت به؟ وماذا ستقول عنها قبائل العرب الأخرى، وبينها أعداء لها؟ سيجدون ولا شك في اتّباع تميم لامرأة يطيفون بها ويركضون وراءها موضعاً للطعن في هذه القبيلة.

أمّا الزبرقان بن بدر الّذي يذكر الطبري هنا أنّه كان من أصحابك ومرتدّاً معك فقد سبق للطبري أن قال عنه في ص ٢٤٧ إنه كان من أوائل الّذين جاؤا أبا بكر في المدينة بصدقاتهم. وإليك نص ما قاله في ذلك:

(... وطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان، الزبرقان، عدي، صفوان ثم الزبرقان ثم عدي، صفوان في أول الليل والثاني في وسطه والثالث في آخره... والذي بشّر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف...).

وفي ص ٢٦٨ (فعزم قيس ـ ابن عاصم ـ على قسمها ـ الصدقات ـ في المقاعس والبطون ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء فأتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حتى قدم بها المدينة وهو يقول ويعرّض بقيس:

وفيت بأذواد الرسول وقد أبت

سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها

فهل أستطيع أن أفهم غير ما تحمله النصوص من معنى؟! هناك كان الزبرقان مع سجاح، وهنا لم يكن الزبرقان مع سجاح. فهل ألام بعد، إذا ما شككت فيما يسمّونه تأريخاً ومؤرّخين.

٨١

وسؤال آخرٌ يخصّ قومك أيضاً، فالمؤرّخون يتحدّثون عن بطنين من تميم يسمّونهما خضم وبهدى. كانتا كما يبدو من بين الذين لم يستجيبوا لك من بطون تميم. وقد فكرت، ومعك مالك ووكيع في شنّ الحرب عليهما خلال اجتماع ضمنكم أنتم الثلاثة كما قيل، لكنك سجعت لصاحبيك بأن يتّجه القتال أولاً نحو الرباب. وهكذا كان(١) .

ويظهر أنّ اجتماعكم الثلاثي الّذي افترض أنه كان سرّياً لا يعلم أحدٌ بما دار فيه، لم يكن سرّياً كما افترضت. وإلاّ فكيف اتّصلت أخباره بالمؤرّخين الذين نقلوا لنا تفاصيله بعد قرون، ولم يكن معكم غيركم، ولم تسجّل محاضره ـ كما يفعلون في عصرنا هذا ـ لما دار فيه فتقع في أيدي الناقلين.

وأعود إلى خضم وبهدى، فالناس ـ كما تعلمين أو لا تعلمين ـ لا يعرفون في عصرنا هذا من أمرهما شيئاً. وقد تعبت حتى عرفت أنّ خضم هم بنو العنبر أو بل عنبر من تميم. ولكني لا أعرف حتى الآن، بهدى في بطون تميم وأفخاذها، ولم أسمع بها ولم أجد ذكراً لها عند المؤرّخين أو أصحاب النسب، على طول بحثي واستقصائي.

ودعينا من حديث النسب، فأظنك لا تعلمين أنّ الأنساب عندنا في هذه الأيام، لا حرمة لها كما كانت في أيامكم، بل تحوّلت تجارةً من أربح التجارات. فأنا أستطيع مثلاً أن أجعلك ابنة حاجب بن زرارة: سيّد تميم، أو أنفيك من تميم كلّها، ومن العرب كلّهم، تبعاً للمبلغ الذي تدفعين.

ولكن خبّريني كيف خطرت لك فكرة غزو مسيلمة، وجيشك كما يؤكّد المؤرّخون، يتألّف من قبائل ربيعة. ومسيلمة الذي تنوين غزوه من بني حنيفة، إحدى قبائل ربيعة. وأستبعد أن تقاتل ربيعة لصالح نبيّة من تميم... يمنعها من ذلك ما بين القبيلتين من عداء طويل أشرت إليه قبل الآن. وكان أولى بربيعة، وهي تفتّش عن نبي تبدّله بمحمّد، أن تتبع نبيّاً منها: مسيلمة، لا نبيّةً من تميم.

____________________

(١) تردّدت طويلاً في إثبات هذه الأبيات الفاحشة ولكن رأيت المؤرخين الذين أحيل إليهم، وعلى رأسهم الطبري، قد أثبتوها. فضلاً عن أنّ كل الذين درسوا الردّة أو كتبوا فيها أو قرؤوا عنها واجهوا هذه الأبيات وحفظوها. ثم إنّ مناقشة ما ورد في الرواية يقتضي إثباتها.

٨٢

ثم إنّ جيشك كما يؤكّد هؤلاء المؤرّخون أيضاً، كان من الضعف بحيث هزم في قتال ضبّة. وعجز عن قتال بعض بني عمرو من تميم، حين أغار عليكم أوس بن خزيمة الهجيمي. فليس من المعقول أن يخافه مسيلمة في أربعين ألف مقاتل من بني حنيفة متحصّنين في اليمامة، وقد حاربوا جيوش المسلمين فكادوا أن يظهروا عليهم ويهزموهم لولا أن يتدراكهم الله بنصرهِ أخيراً.

كيف إذن سجعت بحرب مسيلمة، على ما بينكما من اختلاف ظروف ليس فيها إلاّ ما هو لمسيلمة عليك؟!

وحتى لو امتلكت من القوّة ما تستطيعين أن تغزي به مسيلمة أو غير مسيلمة وتنتصري عليه. فلماذا تختارين لقتالك مرتدّاً مثلك قد فارق الإسلام وشاركك في مناهضته، وتتركين أعداءك وأعداء مسيلمة من المسلمين؟!

بئسما نظرت لنفسك ولأصحابك ولدينك، حين تقاتلين من هو مثلك فتضعفين بذلك جبهة المرتدّين التي هي جبهتك، لو صحّ ما يقوله المؤرّخون عنك.

وأردت أن أنهي حديثي مع سجاح، لكني تذكرت سؤالاً ما يزال يتلجلج في صدري منذ سنين، دون أن أجد فيه غير ما يتلقّاه الرواة بعضهم عن بعض، ونتلقّاه نحن عنهم.

وقلت في نفسي: هذا هو الوقت. ماذا لو ألقيت السؤال على أم صادر وسمعت منها جوابه. فهي أعرف بحقيقته وليس مثلها من يقدر أن يوضحه لي. ثمّ هي نبيّةٌ، ولا بد أن تكون واسعة الصدر، ولن تضيق بسؤال مهما كانت طبيعته، وقد تعرّضت، خصوصاً في فترة نبوّتها، لمختلف الأسئلة كما أظن.

ودنوت منها، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: سيّدتي النبيّة، هل تسمحين بسؤال أخيرٍ ما يزال يشغلني، وأتحرّج أن ألقيه عليك فقد أغضبك به وأنا لا أتحمّل غضب الأنبياء، لولا مرض ملازم لنا نحن أهل الأرض، اسمه الفضول، قد برئتم منه أهل الآخرة بما شغلتم به من نعيم الجنة أو عذاب الجحيم، باختلاف منازلكم فيها.

وليس هذا السؤال مما يخص القتال أو الحرب، بل أبعد ما يكون عن القتال والحرب والمقاتلين والمحاربين. سؤال عن زواجك بمسيلمة وما يخوض فيه المؤرّخون من أمركما في الخيمة.

٨٣

وتغيّرت ملامح المرأة فجأةً فبدت غير ما أعرف، وكأنها لم تكن نبيّة قبل لحظات.

وحاولت أن أعتذر عن السؤال الذي قد يفسد علاقتنا ويمنعني من العودة إليها إن احتجتها يوماً.

ولكنها سرعان ما عادت إلى طبيعتها (النبويّة) وأشارت لي بطرح السؤال.

قلت: يا سيّدتي ما حقيقة ما جرى لك مع مسيلمة؟ هل ذهبت لغزوه أم للزواج منه؟ فالمؤرّخون يخوضون في ذلك بما أوجب عليّ السماع مباشرةً منك.

وسأروي لك ما نتداوله في هذا الشأن، ممّا نجده في كتب التأريخ عندنا، لعلّه يذكّرك بعض الذي نسيت ممّا أريد السؤال عنه.

والرواية الأكثر شيوعاً هي التي أثبت نصّها فيما يلي « أنّ مسيلمة لما نزلت به سجاح ـ التي هي أنت طبعاً ـ أغلق الحصن دونها فقالت له سجاح أنزل قال فنحّي عنك أصحابك ففعلت فقال مسيلمة: اضربوا لها قبّة وجمّروها لعلّها تذكر الباه. ففعلوا فلما دخلت القبّة نزل مسيلمة فقال: ليقف ها هنا عشرة وها هنا عشرة ثم دارسها فقال: ما أوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن ولكن أنت قل ما أوحي إليك قال « ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى » قالت: وماذا أيضاً قال: أوحي إليّ « أن الله خلق النساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعساً إيلاجا ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا فينتجن لنا سخالاً إنتاجا » قالت: أشهد أنك نبي قال: هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي قومك العرب قالت: نعم قال:

ألا قومي الى النيك

فقد هيّء لك المضجع

وإن شئت ففي البيت

وإن شئت ففي المخدع

وإن شئت سلقناك

وإن شئت على أربع

وإن شئت بثلثيه

وإن شئت به أجمع

٨٤

قالت: بل به أجمع قال: بذلك أوحي إليّ. فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرف إلى قومها فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته قالوا: فهل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال مالكِ؟ قالت: أصدقني صداقاً قال: من مؤذّنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي قال: عليّ به فجاء فقال: نادِ في أصحابك أنّ مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين ممّا أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر... »(١) .

هذه الرواية نكاد نجدها لدى جميع المؤرّخين الذين تحدّثوا عنك.

وأصدقكِ القول. لقد كنت وما أزال في شكٍّ مما ألصقوه بك.

فالمؤرّخون كما سمعت، يروون أنّ مسيلمة قد طلب من أصحابه أن يضربوا لك قبّةً ويجمّروها، لعلّك تذكرين الباه. ثم تلا ما أوحي إليه بالمناسبة من إيلاج وإخراج، وكأنه يريد أن يشغلك بأمور الجنس عن أمور النبوّة والسياسة والقتال، كما هو شأن الأنبياء.

ويبدو ـ كما يذكر أولئك المؤرّخون ـ أنّ ذلك قد أعجبك واستخفّك أكثر ممّا تصوّر مسيلمة، فلم يكفك أن تشهدي له بصحّة النبوّة بل تجاوزت بعيداً كأيّ بغيٍّ محترفة، وأنت تسمعين ما يدعوك إليه ويطلبه منك فلا تنكرين ولا ترفضين.

ثم وأنت تستزيدين ممّا يدعوك إليه ويطلبه منك، لا تكنين عن ذلك ولا تلحنين. وهو ما ترفضه أيّة امرأةٍ تملك شيئاً من كرامة النساء وتمنّعهن، في البداية وأمام الناس على الأقل. وربّما رفضته البغيّ في موقف مثل موقفك، فضلاً عن نبيّةٍ وقائدة وصاحبة رسالة!!

هذا ما يرويه المؤرّخون أو ما تقود إليه روايتهم. أمّا أنا فأشكّ كثيراً فيما يروون رغم اتفاقهم عليه وسأبسط لك أسباب شكّي، لا دفاعاً عنك وعن مسيلمة، فمهمّة الدفاع عن الأنبياء صعبة لا أطيقها، ولكن دفاعاً عمّا أتصوّره حقّاً، وإن شئت، دفاعاً عن العقل أو الحد الأدنى منه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٧٣ - ٢٧٤ ومع اختلاف يسير في اللفظ تاريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٥ والبدء والتأريخ ج ٥ ص ١٦٤ - ١٦٥ وتأريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٧.

٨٥

فالحوار الذي يزعم المؤرّخون حصوله بينك وبين زوجك (النبي) مسيلمة لا يمكن، على افتراض حصوله، أن يتجاوزكما إلى هؤلاء المؤرّخين لينقلوه عنكما. لا لأن ما يحصل بين الزوج وبين زوجته من أمور لها طابع الجنس، يبقى محصوراً بينهما، وهذا وحده كافٍ لإثارة شكّي، بل لأنّ ما تضمّنه هذا الحوار من البذاءة والفحش والانحطاط الذي تعدّى كل حدّ، لا يشرّف من قاله ولا من قيل له أو رضي به، حتى لو لم يكن من صنف الأنبياء مثلكما. فأنا لم أعرف قبل زواجكما، أنّ زوجاً في ليلة زفافه يخاطب زوجته أمام الحاضرين من المهنئين بما خاطبك به زوجك مسيلمة، ولا زوجة رضيت بذاك وقبلته كما رضيت به وقبلته، إلاّ إذا كان الزواج بين الأنبياء يجري على هذا النحو ولم نعلم.

أكان في (السلق) و(الثلثين) و(الأربع) ما يثبت نبوّته أو نبوّتك، ويشد الأتباع والأنصار إليكما.

لقد كان العرب يضربون المثل بأم خارجة التي لا بد أنك سمعت بها، فيقولون أسرع من نكاح أم خارجة، وأخالهم لو عرفوك قبلها لتركوا هذه المسكينة التي لم تكن نبيّة يوحى إليها كما أوحي إليك بـ(به أجمع) مفضّلة له على (ثلثيه) اللذين خيّرك بينهما مسيلمة.

فهل قنعت من منزلة النبوّة وقيادة الجيوش وغزو أبي بكر في المدينة، بمنزلة تترفّع عنها أم خارجة كما يريد المؤرّخون أن يصوّروك.

ويبدو أنّ زواجك ممّا يروق المؤرّخين الحديث عنه ومتابعة تفاصيله. وربما كانوا يرون فيه، من خلال الطعن والسخرية من اثنين من قادة ما يسمّونه الردّة، مدخلاً للطعن والسخرية من الردّة نفسها. فهم لم يكتفوا بما سمعت مما نقلت عن التجمير والباه والشعر الذي استقبلك به مسيلمة في الخيمة ليلة زواجك. بل يزيدون بأنّ هذا الزواج لم يدم أكثر من ثلاثة أيام عدت بعدها إلى الجزيرة، تاركةً الزوج والتجمير والشعر.

فما الذي دعاكِ أو دعاكما إلى اختصار مدّة الزواج وجعلها ثلاثة أيام فقط، وكأنّما التقيتما في سفر يعود بعده كلٌّ إلى بلده وأهله.

أليس من تمام الزواج أن تكون الزوجة في بيت زوجها وأن يكون الزوج قريباً من زوجته مادام الزواج قائماً. ولم يخبرنا المؤرّخون بطلاقكما.

٨٦

وماذا عن الصداق الذي أصدقك إياه مسيلمة ما دمنا بعد في حديث الزواج، وهو من لوازمه كما تعلمين؟ هل صحيح أنّ مسيلمة قد وضع عن أتباعك صلاتين ممّا أتى به محمد: العشاء الآخرة والفجر صداقاً لك.

ولكن ما معنى أن يضع عنهم صلاتين، وهم أصلاً لا يصلّون لارتدادهم ورجوعهم عن الإسلام وإنكارهم نبوّة محمد وما أتى به من فرائض وأحكام، من بينها الصلاة كما يقول المؤرّخون، وإلاّ فلِمَ كانت نبوّة مسيلمة ونبوّة سجاح إذا هما أبقيا على الصلاة كما كانت وهي من أهم شعائر الإسلام: دين محمد.

أليس في ذلك ما يتعارض وما يذكره المؤرّخون عنك وعن زوجك، وما يضعفهم فيما ينقلون عنكما لو انتبهوا.

أيكون الذي أثار المؤرّخين ضدّكما ودفعهم إلى اتهامك أنت ومسيلمة بالردّة، أنكما لم ترسلا الصدقات إلى المدينة ككثير غيركما من العرب الذين امتنعوا عن إرسال صدقاتهم إلى هناك مفضّلين توزيعها بين فقراء قومهم؟

وبعد كل ذاك، فإنّ المؤرّخين، وهم في سورة الغضب، متسابقين لإلصاق التهم بك وبمسيلمة، قد نسوا كما يبدو أنك كنت متزّوجة عند توجّهك إلى اليمامة واجتماعك بمسيلمة(١) .

وإذا كنت أعرف أنّ للعربي قبل الإسلام وبعده أن يتزوّج بأكثر من امرأةٍ، فإني لم أعرف أنه كان جائزاً عندكم أن تتزوّج المرأة بأكثر من رجلٍ في وقتٍ واحد، قبل أن يحدّثنا المؤرّخون عن زواجك بمسيلمة مع سبق زواجك من غيره(٢) .

____________________

(١) انظر ص ١٦٤ من ج ٥ من البدء والتأريخ فهي فيه أم صادر وزوجها هو أبو كحيلة. ويكتفي صاحب فتوح البلدان ص ١٠٨ وصاحب جمهرة أنساب العرب ص ٢٢٦ بأن يكنّياها أم صادر.

(٢) جاء في البدء والتاريخ ج ٥ ص ١٦٥ بأن سجاح أباحت للمرأة أن تتزوج - في وقت واحد طبعاً - بزوجين (على النصف مما للرجل).

٨٧

أرأيت يا أخت بني غدانة، لِمَ شككت فيما رواه المؤرّخون، وهو شك لم أقصد من ورائه الدفاع عنك كما قلت في بداية هذا الحديث، وأنت تستحقينه، ولكن قصدت قبل ذاك، الدفاع عن العقل في حدّه الأدنى، رغم ما سيجرّه عليّ ذلك مما أعرف وتعرفين، وقد كنت هدفاً له قبل أربعة عشر قرناً خلت.

وعلى أيّة حال فمن حقّك أن تجدي بعد هذه المدّة من يحاول إنصافك، وقد أردت أن أكون واحداً من هؤلاء، فلعلّ في ذلك بعض العزاء لك.

واكتفت سجاح بإيماءة شكر ثم غابت.

٨٨

الباب الخامس

(مسيلمة)

٨٩

الباب الخامس

(مسيلمة)

هل تستطيع أن تتصوّر أنّ أربعين ألفاً من بني حنيفة(١) يعرّضون أنفسهم وعوائلهم وأموالهم للقتل والنهب، دفاعاً عن واحد لا يزيد وحيه الذي يريد أن يواجه به محمداً وقرآن محمد على (يا ضفدعة ابنة ضفدع...)(٢) وكأنهم في حاجةٍ إلى وحي من السماء يعلّمهم أنّ الضفدعة هي بنت الضفدع وليست بنت الإنسان، ولا بنت حيوان آخرٍ من غير جنس الضفادع.

هذا بعض ما يقوله المؤرّخون العرب عن (نبي) اليمامة وعن وحيه و(قرآنه) والمؤمنين به، عليك أن تصدّقهم فيه. وألاّ تكذبهم أو تشك فيما ينقلون عن مسيلمة الكذّاب، وهو اسمه عندهم.

ولكن لماذا نبدأ بوحي مسيلمة وقرآنه، وكان الأولى بنا أن نبدأ بالرجل نفسه، صاحب الوحي والقرآن.

فمن هو مسيلمة هذا وما قضيّته ومتى بدأت دعوته أو نبوّته؟!

والحق أنّ محاولة من هذا النوع ليست بالأمر السهل على من يريد الكتابه عن مسيلمة بما يقنع عقله وضميره، بعد أربعة عشر قرناً من التجريح والتشويه.

فلكي أصل أو أقترب من مسيلمة الحقيقي، عليّ أولاً أن أزيل الكثير من الرتوش والألوان والصفات التي حفلت بها كتب التأريخ وتوارثها المؤرّخون وأضافوها إلى صورة مسيلمة، إمعاناً منهم في الطعن عليه والسخريّة منه وممّن اتّبعوه. وهي محاولةٌ ليست بالأمر السهل كما قلت.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٨١، وابن الأثير ج ٢ أحداث نفس السنة ص ٢١٩، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٢٣، و ابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٨٤، وابن الأثير ج ٢ أحداث نفس السنة ص ٢١٩ وعند ابن كثير (يا ضفدعة بنت الضفدعين!!) البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٢٦.

٩٠

وأوّل ما يلفت النظر في موضوع مسيلمة هو إصرار المؤرّخين على أنّ اسمه مسيلمة بالتصغير(١) ، مع أنني وبقدر علمي، لم أعرف عربيّاً قبله ولا بعده شاركه الاسم بالصيغة التي يوردها أولئك المؤرّخون. فهناك في الجاهلية سلمة وسالم وسلمي وسلمان ومسلمة دون تصغير. وهناك غيرها من مشتقّات السلم والسلام من الأسماء، ولكني لم أعرف جاهليّةً أو إسلاماً من اسمه مسيلمة بالتصغير.

وهذا طبعاً لا يعني انعدام أو قلّة استعمال صيغة التصغير في الأسماء العربية. فما أكثر هذه الصيغة وأيسرها. بل إنّ بعض الأسماء لم يعرف إلاّ مصغّراً كعيينة وأميّة.

أيكون مسيلمة إذن وحده من بين المولودين في الجاهلية قد اختار له أبوه هذا الاسم؟! ربما.

فإذا تركت الاسم فستجد نفسك أمام (رويجل أصيفر أخينس)(٢) وكلها بالتصغير أيضاً. وهذه صفاته التي يذكرها المؤرّخون.

ولا أعلم لماذا يكون هذا الـ(مسيلمة) رويجلاً لا رجلاً كباقي الرجال من بني حنيفة وغير حنيفة. ولا أعلم العلّة في تصغير الصفة أصفر إلى أصيفر وهل تعني أنه كان قليل الصفرة ضعيفها، أم على العكس شديد الصفرة بيّنها.

كما لا أعلم إذا كان الخنس، وهو ارتفاع طرف الأنف مما يعاب به الانسان أو في الأقل، مما يستوقف المؤرّخين من صفاته.

____________________

(١) رغم أنّ أبا الحسن البلاذري يتحدث هو أيضاً عن (مسيلمة الكذّاب) إلاّ أنه يسمّيه كما يبدو في حديثه ثمامة بن كبير بن حبيب. فهو يقول عند كلامه عن اليمامة ص ٩٧ من تأريخه (وكان فيهم مسيلمة الكذّاب ثمامة بن كبير بن جبيب) ولا ندري ما الاسم الصحيح لدى البلاذري، هل هو مسيلمة أم ثمامة، ومسيلمة أم مسيلمة مضافاً إليها الكذّاب، لقبه عنده. على أنّ صيغة التصغير هذه لا تقتصر عند المؤرّخين المسلمين على مسيلمة الكذّاب وحده إذ يشاركه فيها طليحة الأسدي كما رأينا مع أنني لم أجد في العرب إلاّ من اسمه طلحة دون التصغير.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٩٥، وابن الأثير ج ٢ أحداث نفس السنة ص ٢٢٢، وتاريخ خليفة بن خياط ج ١ ص ٧٦ وفيه (أحيمش) بدل (أخينس) وعند ابن خلدون (رويجل دميم أخينس) تأريخ ابن خلدون بقية ج ٢ ص ٧٥.

٩١

ويتجاوز بعض هؤلاء المؤرّخين، وهم يتحدّثون عن مسيلمة فيضيفون إلى ما سبق من صفاته، أنه كان (قبيح الخلقة دميم الصورة)(١) .

وما أظنهم كانوا سيبخلون عليه بما هو أكثر لو وجدوا أكثر من قبح الخلقة ودمامة الصورة يضيفونها إلى هذا الرويجل الأصيفر الأخينس.

وإذا لم يكن مطلوباً في مدّعي النبوّة أن يكون في منزلة يوسف أو منزلةٍ قريبة منها، فأنا أفترض أن يتوفّر فيه الحد الأدنى من الصفات الخَلْقية والخُلُقية التي تتوفّر في أيّ شخص اعتيادي، إن لم يتميّز عنه ويفضّله؛ فذلك أملأ لعيون العرب وقلوبهم وأحرى أن يجذبهم إليه وإلى قبول (نبوّته) خصوصاً في ذلك العهد الذي ظهر فيه مسيلمة، وقد رأوا ومنهم رجال بني حنيفة وساداتهم، محمداً وكمال خَلْقه وخُلُقه.

أمّا أن يكون هذا النبي رويجلاً أصيفر أخينس قبيح الخلقة دميم الصورة، فليس في بني حنيفة ولا غيرهم حاجةٌ إلى نبيّ جمع الله فيه أسوأ ما يمكن أن يجمع في رجلٍ من خلقه.

وأحسب أنّ مثل هذا الرجل قد يصلح لإضحاك الناس ولكنه، في جميع الأحوال لا يصلح لادّعاء النبوّة وتلقّي الوحي.

على أنّ المؤرّخين لم يكتفوا من مسيلمة بكل ذاك من صفات القبح والدمامة.

وسأتركهم يكملون حديثهم عنه قبل أن يشتهر أمره ويذيع، أو بعد ما اشتهر وذاع. وسأبدأ بقدومه في وفد بني حنيفة قبيلته، إلى المدينة لإعلان إسلامهم عام ١٠ للهجرة.

والمؤرّخون يسوقون في ذلك روايتين لا أجد في أيٍّ منهما إلاّ ما يبعث على الشك أو ما يثير الضحك.

تقول أولاهما أنه لما قدم وفد بني حنيفة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عام ١٠ للهجرة في المدينة، خلّفوا مسيلمة في رحالهم. فلما أسلموا ذكروا مكانه للنبي فقالوا (يا رسول الله إنا خلّفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا فأمر له رسول الله بما أمر به للقوم وقال أما أنه ليس بشرّكم مكاناً. أي لحفظه ضيعة أصحابه وذلك الذي يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

____________________

(١) تأريخ الخميس المطبعة الوهبية بالقاهرة ١٢٨٣ هـ ج ٢ ص ١٥٧، ويضيف البلاذري في تأريخه ص ١٠٠ أنه كان (قصيراً أفطس).

٩٢

ثم انصرفوا عن رسول الله وجاؤوه بما أعطاه. فلما انتهوا إلى اليمامة ارتدّ مسيلمة وتنبّأ وقال إني أشركت في الأمر معه، وقال للوفد الذين كانوا معه، ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما أنه ليس بشرّكم مكاناً ما ذاك إلاّ لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ثم جعل يسجع لهم الأساجيع وأحلّ لهم الخمر والزنا ووضع عنهم الصلاة وهو مع ذلك يشهد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه نبي فأصفقت معه حنيفة على ذلك فالله أعلم أيّ ذلك كان).

وهذه الرواية تجدها في العديد من كتب السيرة والتأريخ(١) ، وهي رواية لا تستطيع أن تقنع أحداً. وأسهل عليك أن ترفضها من أن تحاول تبريرها وتتكلّف العذر لأصحابها.

فهي أولاً تجعل من مسيلمة مجرّد حارس لرحل الوفد من بني حنيفة، حين قدومهم المدينة ومقابلتهم النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس واحداً من بين الذين قابلوه من هذا الوفد. ونحن نعلم أنّ العرب لا يخلفون وراءهم لحفظ الرحل وحراسته، إلاّ من يستغني عنه ولا يشارك فيما جاء له القوم الذين يحفظ لهم رحلهم.

وهذا لا يستقيم مع ما يذكره هؤلاء المؤرّخون أنفسهم، من ادعاء مسيلمة النبوّة بعد أيّام من رجوع الوفد إلى اليمامة واتّباع بني حنيفة له.

وما أظن من يطمح للنبوّة ويسعى لها ويستطيع أن يجنّد قبيلته خلفه، يدينون بدعوته ويقاتلون دونه، يرضى لنفسه بالبقاء حارساً لرحلهم مكتفياً بما يقوم به أيّ غلام لا شأن له ولا غناء.

كيف أقبل أن مثل هذا الغلام، وكل مهمّته أن يحرس رحل الوفد ويقوم على حفظه، سيجرؤ بعد أيّام فقط على الادّعاء أنّه نبي يوحى إليه. ثم يجد من يصدّقه ويؤمن به في دعواه ويقاتل ويقتل تأييداً له ولدعوته. وبين (المؤمنين) المقاتلين من سادات حنيفة ورجالهم، من كان في الوفد الذي كلّف مسيلمة بحراسة رحلة. أكانت النبوّة عند بني حنيفة من ضعة الشأن بحيث لا يدّعيها إلاّ حارس الرحل؟

____________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٥٧٦ – ٥٧٧، والطبري ج ٣ ص ١٣٨، وتأريخ الإسلام للذهبي - قسم المغازي - أحداث السنة العاشرة وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٢٣٥. وفي ابن الأثير ج ٢ ص ١٦٦ (واجتمع مسيلمة برسول الله ثم عاد إلى اليمامة وتنبّأ).

٩٣

وإذا كان هذا غريباً فليس أقل غرابةً منه احتجاج مسيلمة لنبوّته، وهو يحاور رؤساء بني حنيفة لإقناعهم بها.

وسأعيد عليك ما احتجّ به مسيلمة كما أوردته الرواية: قال مسيلمة (ألم يقل لكم ـ يعني النبي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين ذكرتموني له أما أنه ليس بشرّكم مكاناً ما ذاك إلاّ لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ...) (فأصفقت معه حنيفة على ذلك).

وتسأل. أية حجّة لمسيلمة في قول النبي هذا، حتى مع افتراض صدوره عنه؟!

كيف فهم مسيلمة، وكيف فهم بنو حنيفة معه، عبارة، النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (ليس بشرّكم مكاناً) على أنها إقرارٌ بنبوّة مسيلمة وتصديق لها؟!

إنني بعد أربعة عشر قرناً لا أفهم من هذه العبارة غير ما فهمه منها ابن هشام بعد قرنين من صدورها حين قال (أي لحفظه ضيعة أصحابه) وغير ما يفهمه أي سامع أو قارئ لها الآن وبعد الآن، خصوصاً وهي تأتي بعد قول الوفد (يا رسول الله إنّا خلّفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا ...).

وحتى لو جرّدنا العبارة من سياقها الذي وردت فيه، فما الصلة بين (ليس بشرّكم مكاناً) وهي لا تعني في أحسن الأحوال، أكثر من أنه مساوٍ لكم في المنزلة أو في الأجر والثواب، وبين ادّعاء النبوّة؟!

أيكون مسيلمة وبنو حنيفة أقل فهماً للعربية من ابن هشام الذي فسّر محقّاً، عبارة النبي بأنها (لحفظه ضيعة أصحابه). ومن غير ابن هشام الذي لا يستطيع تفسيرها بغير ذاك؛ لأنها لا تحتمل غيره؟! وفي جميع الأحوال، فهي لا توحي بأيّة إشارةٍ للنبوّة أو لشئ قريب منها.

وتمضي الرواية ـ أو واضعوها ـ لتحدّد لنا ملامح الدين الجديد الذي بشّر به مسيلمة ودعا إليه، إذ لا بد لأيّ نبي من دينٍ. وقد رأينا سجاح تضع صلاتين عن أتباعها هما صداقها. كما أحلّت للمرأة أن تتزوّج بأكثر من رجل في وقت واحد، كما ينقل ذلك صاحب البدء والتأريخ. لكن مسيلمة ـ زوج سجاح ـ لن يقبل بأن يتساوى مع امرأته، فهو لا يكتفي بصلاتين يضعهما عن أصحابه كما فعلت زوجته من قبل، وإنّما يذهب إلى أبعد من ذاك حين يضع الصلاة كلها عنهم، ومع الصلاة يحلّ لهم الخمر والزنى.

٩٤

هذا ما تقوله الرواية كما تقرؤها في غالبية المصادر التي تعرّضت لمسيلمة(١) . ولا بدّ أنه خالجك ما خالجني وأنت تعيد قراءة هذه الرواية. فلو كان مسيلمة قد وضع الصلاة حقّاً وحلّل الخمر والزنا حقّاً، إذن لرأينا ذلك في واحدة من (سور قرآنه) التي لا بدّ أن الرواة قد حرصوا على جمعها وإذاعتها تشهيراً بمسيلمة، كما حرصوا على جمع وإذاعة (سورة) الضفدعة بنت الضفدع، وليس فيها ما يتعارض وأحكام الإسلام كما في وضع الصلاة وتحليل الخمر والزنا.

ثم ماذا أبقى مسيلمة من دين محمد؟ وكيف يستمر على الاعتراف بنبوّته، كما تقول الرواية أو واضعوها، وهو يلغي ثلاثة من أهمّ ما جاء به دينه من فروض تخصّ الصلاة والخمر والزنا. وبعد هذا فهل أستطيع أن أجمع بين قول الطبري هنا بتحليل مسيلمة للزنا وبين قوله في ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ بأنه (كان ممّا شرع لهم مسيلمة أنّ من أصاب ولداً واحداً عقباً لا يأتي امرأة الى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد حتى يصيب ابناً ثم يمسك فكان قد حرم النساء على من له ولد ذكر) وهو ما تجده في ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٥. أيحلّل الزنا من حرّم النساء على الرجل لمجرّد أن يكون له ولدٌ ذكر؟!

كم كنت أودّ لو أن هؤلاء الرواة توقّفوا قليلاً فقرؤوا ما كتبوا ليعلموا مبلغ جنايتهم على هذا الذي نسمّيه مضطرّين تأريخاً، إلاّ إذا كانوا مصرّين على ما كتبوا، وتلك هي الكارثة.

هذه إحدى الروايتين. أمّا الثانية التي تجدها في نفس المصادر التي تناولت الأولى فتقول (إنّ بني حنيفة أتت به ـ مسيلمة ـ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تستره بالثياب ورسول الله جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات فلما انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يسترونه بالثياب كلّمه وسأله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه)(٢) .

____________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٥٧٧، وتأريخ الطبري ج ٣ ص ١٣٨، وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٥ - ٢٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٢، وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٩.

٩٥

والحق أنني ما زلت منذ قرأت هذه الرواية وحتى اليوم، لا أجد رغم طول سؤالي لنفسي ما أفسّر به صنع بني حنيفة وسترهم لمسيلمتهم هذا. أكانوا يخافون عليه العين لجماله مثلاً؟! أم على العكس، يخشون أن يظهروه لقبحه ودمامته وما يمكن أن يثيره ذلك من سخريّة بهم لدى المسلمين القادمين عليهم.

ما الذي أكرههم على المجئ به إذن، وفي رجال حنيفة غنىً عنه لو شاءوا؟ وما الذي منعهم أو منعه من الكشف عن نفسه، وهو الذي ما جاء إلاّ لإشهار إسلامه ضمن الوفد الذي قصد المدينة لهذه الغاية. لكنّنا نراه هنا يرفض أو يرفض قومه الكشف عنه ولا يتكلّم إلاّ من وراء ستار.

لا أعرف كما قلت سبباً لذلك، ولكني أعرف أنني لا أملك نفسي من الضحك كلما تصوّرت منظر هذا (النبي) وهو ملفوف بالثياب أو ربما بجريد النخل، يحمله أو يجرّه عددٌ من بني حنيفة، والمسلمون ينظرون ولا يعلمون ما هذا الذي يجرّه الحنفيّون على الأرض أو يحملونه على الرؤوس.

ثم ما الذي سأل مسيلمة النبي محمداً حين انتهى إليه؟ هل سأله النبوّة أو الشركة فيها؟ لا يمكن أن يكون ذلك. فالقوم ما جاؤوا ـ وهو فيهم ـ إلاّ لإعلان إسلامهم. ولو أرادوا غير ذلك لبقوا في منازلهم ولم يتكلّفوا الرحلة إلى المدينة والقدوم على النبي فيها، ولكان أسهل على مسيلمة إعلان نبوّته هناك، قبل ورود قومه من بني حنيفة المدينة، وقبل اتصالهم بالنبي محمد وإسلامهم على يديه. بل إنّ أحد أكبر أعوان مسيلمة ـ الرجال بن عنفوة ـ كان قد هاجر إلى النبي وقرأ القرآن وفقه في الدين، قبل أن يلحق بمسيلمة وينضمّ إلى دعوته(١) .

سأرفض إذن هذه الرواية كما رفضت سابقتها، أو بالأحرى أن إحدى الروايتين هي التي ترفض الأخرى وتستبعدها وتدعوك إلى رفضها أو رفضهما معا.

ومع ذاك فنحن لم ننته بعد من حديث المؤرّخين عن نبيّ بني حنيفة وما ألصق به وأضيف إليه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٢، و ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٩.

٩٦

ويبدو أنّ المؤرّخين لم يقنعوا منه بما قنعوا من طليحة وسجاح وغيرهما، فتجاوزوا حدود ما وقفوا عنده من أولئك. بل إنّ إفرادهم مسيلمة بوصف (الكذّاب) دون الآخرين بحيث لا يذكر اسمه إلاّ مقروناً بهذا الوصف، مع اشتراكهم جميعاً بإدعاء النبوّة وبالكذب طبعاً في هذا الادّعاء، يوحي بما لهذا الكذّاب من منزلةٍ خاصّة بين الكذّابين عند مؤرّخي المسلمين.

وسأعرض لبعض ما تحدّثوا به عنه، استكمالاً لما ورد في الروايتين السابقتين.

يقول الطبري في معرض هذا الحديث (وكان مسيلمة يصانع كل أحدٍ ويتألّفه ولا يبالي أن يطّلع الناس منه على قبيح)(١) .

وما أحسب هذا الكلام مما يقنع أحداً، حتى صاحبه أو ناقله أبا جعفر نفسه. فكيف لنا أن نتصوّر شخصاً يدّعي النبوّة ويريد أن يتآلف الناس ويدنيهم إليه ويزيّن لهم الإيمان به، ثم لا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح وأيّ شخص من غير مدّعي النبوّة يرفض أن يطلع الناس منه على قبيح ويعمل على ستره عنهم ما أمكنه ذلك؟

ألم يكن في ادّعاء النبوّة ما يمنع مسيلمة من إتيان القبيح، أو على الأقل من السماح للناس بالإطلاع عليه؟!

وبعد هذا الحديث يورد الطبري بعض الأفعال التي يعزوها لمسيلمة، والتي لا تتناسب ومقام هذا المؤرّخ الكبير، حتى لو أعتذر بالنقل. اسمعه يقول (وأتته امرأةٌ من بني حنيفة فقالت إنّ نخلنا لسحق وإنّ آبارنا لجرز فادع الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمد لأهل هزمان).

ثم يستطرد الطبري في رواية الحديث الذي دار بين مسيلمة الذي يجهل ما فعله محمد بنخل أهل هزمان وآبارهم، وبين الرجال ابن عنفوة الذي يخبره به فيقول عن مسيلمة (فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه ثم تمضمض منه ثم مجّ فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم فغارت مياه تلك الآبار وخوى نخلهم وإنّما استبان ذلك بعد مهلكه)(٢) .

وعجبت كيف يسمح الطبري لنفسه بإيراد مثل هذا السخف؟ ألم يكن في ادعاه النبوّة وحده ـ لو اقتصر عليه الطبري ـ ما يكفي لبيان كذب مسيلمة والسخرية منه والزراية عليه.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ أحداث سنة ١١ ص ٢٨٢.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٤ – ٢٨٥، وابن الأثير ج ٢ ص ٢٢٠.

٩٧

كيف قبل مسيلمة أن يفضح نفسه ويكشف كذبه أمام أتباعه من بني حنيفة، وهو لا شك يعرف أنه كاذب وغير نبي، وعاجز عن فعل ما فعل محمد لأهل هزمان ولا يستطيع أن يأتي بالمعجزات كما أتى.

ثم ألم يكن بين خاصّته وخلّص أتباعه من ينصحه أو من يختلق عذراً يتقدّم به إلى هؤلاء الذين طلبوا من مسيلمة ما طلب أهل هزمان من محمد؟!.

ولكن لماذا لم يستبن ذلك إلاّ بعد مهلك مسيلمة؟ فهل فاضت الآبار بالمياه في حياته كما كانت من قبل، وعاد النخل مثمراً في حياته كما كان من قبل؟ وأظن هذا سيؤكّد نبوّة مسيلمة لا ينفيها. ويكون الطبري قد جاء بما من شأنه تصديق هذه النبوّة من حيث لا يريد.

أم أنّ بني حنيفة تركوا الشرب والسقاية لهم ولأنعامهم من تلك الآبار وتعوّضوا عنها غيرها، فلم يعلموا أنها كانت غائرة ولم يعودوا إليها، إلاّ بعد مقتل مسيلمة، ليستبينوا حقيقتها.

وهذا النخل. وهو ظاهر شامخٌ فوق الأرض، لا يخفيه شئ ولا يحجبه شئ، ولم يفارقه أهله وأصحابه. فكيف خفي عليهم ولم يعلموا حاله إلاّ بعد مقتل مسيلمة؟!

وإليك روايةً أخرى لن أثقل عليك بغيرها، وإن كان أبو جعفر قد أورد الكثير من هذه الروايات، فارجع إليه إن شئت المزيد مما يخصّ نبوّة الكذّاب.

يقول الطبري (وقال له ـ يعني نهاراً لمسيلمة ـ برّك على مولودي بني حنيفة فقال له وما التبريك قال كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فحنكه ومسح رأسه: فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلاّ قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه)(١) .

وكم رثيت لهؤلاء الصبية المساكين من بني حنيفة يسوقهم آباؤهم، وهم ذوو لسان وشعر إلى هذا الخبيث الكذّاب، فلا يعودون منه إلاّ وقد انعقدت ألسنتهم وقرعت رؤوسهم!!

لكن ما حيّرني وما يزال، كيف استطاع مسيلمة أن يأمر القرع بأن يختفي ولا يظهر في رؤوس الأطفال ما دام حيّاً، فيستجيب ويطيع ولا يظهر ولا يراه القرعى أو ذووهم، إلاّ بعد مقتل الكذّاب. أكان مسيلمة نبيّاً حقّاً فاستجاب له الله حين دعاه إلى وقف ظهور القرع في رؤوس أولئك الصبية ما بقي هو حيّاً؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٥، وابن الأثير ج ٢ ص ٢٢٠.

٩٨

ثم كيف أفهم أن نهاراً يسأل مسيلمة تبريك الأطفال من بني حنيفة فلا يفهم مسيلمة المقصود بالتبريك، وكأنه ليس من القوم وليست عاداته من عاداتهم فيضطر نهار أن يشرح ذلك له.

أيعرف نهار التبريك ويجهله نبيّه مسيلمة؟!

أظنني لو كنت مكان نهار لرفضت أن أتبع مثل هذا النبي الذي يجهل حتى تبريك الأطفال. أو ربّما ادّعيت أنا النبوّة ولم أتركها له.

وبعد فهل سنكتفي من مسيلمة بما رأيت وسمعت من تناقض وجهل، دون أن نعرض للرجل الذي قاد معركةً من أعنف ما شهد المسلمون في أيّامهم الأولى، بشكل موضوعي بعيد عن تعصّب المتعصّبين وجهل الجاهلين. نحاول من خلاله أن نقترب ما أمكننا ذلك منه، وأن نقول رأينا فيه بصدق وأمانه. لعلّنا نستطيع أن نسهم في إنقاذ ضحيّة من ضحايا هؤلاء الرواة وما أكثر ضحاياهم في تأريخنا.

فمن هو مسيلمة، وهل ادّعى النبوّة فعلاً كما يقول الرواة، وهل كانت بداية دعوته في حياة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وسأبدأ بالرجل.

فأمّا عن نسبه، فقد سبق أن قلت إنه من بني حنيفة إحدى قبائل بكر بن وائل من ربيعة.

لكن نسبه الحنفي هذا لا يعني في نظري مجرّد انتماءٍ إلى قبيلة ما فليس بين العرب من لا ينتمي إلى قبيلةٍ، إنّما الأمر المهم في نسب مسيلمة كما يبدو لي، هو أنّ بني حنيفة من القبائل المتوطّنة ـ على خلاف القبائل العربية الأخرى ـ يسكنون اليمامة وهي (بلد كبير فيه قرى وحصون وعيون ونخل)(١) شأنهم في ذلك شأن قريش في مكّة والأنصار في المدينة وثقيف في الطائف.

وهذا الاستقرار يسمح لهم بأن يتجاوزا غيرهم من العرب في الأمور المتّصلة بالعقل والفكر، إذا قبلنا أن يتخلّفوا عنهم في مسائل القلب والعاطفة.

____________________

(١) مراصد الاطلاع - دار إحياء الكتب العربية. عيسى البابي الحلبي وشركائه ط أولى ١٩٥٥ ج ٣ ص ١٤٨٣ وقاموس الأمكنة والبقاع - شركة طبع الكتب العربية مطبعة التقدم ١٩٠٦.

٩٩

فليس من السهل على مسيلمة، ولا من السهل على بني حنيفة، أن يقتنعوا بنبوّة مسيلمة، وقد أعلنوا إسلامهم حديثاً على يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة. ورأوه واتصلّوا به وسمعوا منه، بعدما سبقهم إليه عددٌ من القبائل العربيّة.

لقد جاهد محمد طويلاً وصبر طويلاً في مكّة وفي المدينة حتى استقام الإسلام وقوي وثبت وانتشر بين العرب. وكانت أخلاق محمد وقرآنه وتعاليمه وراء النجاح الذي حقّقه الإسلام.

فكيف استطاع مسيلمة في أيام، بعد عودة وفد بني حنيفة من المدينة إلى اليمامة، أن يدّعي النبوّة فيجد عند بني حنيفة الرضا به والقبول بدعوته، وكأنهم كانوا ينتظرونه وينتظرونها، وليس فيه إلاّ الرويجل الأصيفر الأخينس، وليس في قرآنه إلاّ الضفدعة بنت الضفدع أو ما هو شبيه أو قريب.

لقد كان بنو حنيفة مسلمين يؤمنون بالنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مسيلمة نفسه يؤمن به ظاهراً على الأقل، وأقصى ما كان يدّعيه أنّ رسول الله أشركه معه في النبوّة. فإيمان بني حنيفة بنبوّة مسيلمة إذا صدّقنا الروايات، ليس مستقلاً إذن عن إيمانهم بنبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما يستمد وجوده منه. ولو كان الأمر عكس ذلك لادّعى مسيلمة النبوّة قبل ذهابه مع وفد بني حنيفة إلى المدينة، وقبل إعلان إسلامهم على يدي النبي محمد هناك، ولما احتاج إلى شهادة الرجال بن عنفوة يؤكّد بها أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أشركه في الأمر، فكانت هذه الشهادة سبباً في أن يصدّق بنو حنيفة مسيلمة ويستجيبوا له ويصفقوا معه كما يذكر المؤرّخون(١) .

وهذا سيقودنا إلى سؤال آخر أحسبه نتيجة طبيعية لما تقدّم. فما دام الأمر كلّه ينحصر في أنّ بني حنيفة اعتقدوا بشهادة الرجال أو غيره، أنّ مسيلمة قد أشرك في النبوّة مع محمد. أكان صعباً تفنيذ هذا الاعتقاد، وإبلاغ بني حنيفة كذب مسيلمة وكذب الرجال معه في شهادته وفيما نقله عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والآن ماذا بقي من نبوّة مسيلمة غير ما اعتدنا من تزييف وتعصّب وحمق، يسهم فيها كل أصحاب المصلحة في تشويه حقائق التأريخ.

____________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٨٢، وابن الأثير ج ٢ ص ٢١٩، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٩٧.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119