في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)15%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57386 / تحميل: 9207
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في الفكر الاجتماعي

عند الإمام علي (عليه السلام)

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢

في الفكر الاجتماعي

عند الإمام علي (عليه السلام)

دراسة في ضوء

نهج البلاغة

تأليف

عبد الرضا الزبيدي

مكتبة فدك

٣

٤

المقدّمة

للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) صفات خاصّة تَميّز بها عمّن سواه من مُعاصريه وسابقيه والمتأخّرين عنه، ولا غلو في ذلك، فمنها - على سبيل المثال لا الحصر - سابقته في الإسلام، وجهاده المستميت في سبيله حتى ثبتت أركان الدين، علاوة على أخلاقه التي ليس لها مثيل، إلاّ تلك التي حملها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إضافة إلى الكثير من الصفات الحميدة ممّا أحصاه الكُتّاب والمؤرّخون، والتي لا مجال لذكرها هُنا حصراً.

لقد كتبَ الكثير بشأن الإمام علي (عليه السلام)، إلاّ أنّنا نجد في كلّ مرّة حَدثاً جديداً، أو مادّة غير مطروحة، أو بحثاً نافعاً وذا علاقة بحياتنا وتاريخنا بكلّ صوره، وما إلى ذلك. وفي هذا البحث المتواضع الذي يتعلّق بالفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) لا أدّعي أو أفاخر قائلاً بأنّني أحطّت بكلّ ما يتعلّق بالموضوع، إلاّ أنّي أشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفّقني إلى هذا الحدّ من المعرفة، والبحث في فكر هذا الرجل الإلهي الذي أفصح عن شيء من مكنونات حقيقته ولده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في كلام له بعد استشهاده حين قال (عليه السلام): (والله، لقد قُبض فيكم الليلة رجلٌ ما سبقه الأوّلون إلاّ بفضل النبوة، ولا يُدركه الآخرون، وإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره

٥

فلا يرجع حتى يفتح الله عليه) (١) .

(وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليُسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك، فلمّا بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له عتبة أخوه: لا يَسمع هذا منك أهل الشام، قال: دعني عنك) (٢) .

فقد برع في كلّ جوانب الحياة، وأطبق على المعارف كلّها، وعَلم من الأسرار الإلهيّة في هذا الكون مالا يعلمه أحد بعد النبي، وما زالت كلمته المُدوّية على مرّ التاريخ (سلوني قبل أن تفقدوني) ترنّ في أسماع العُلماء والمفكّرين في العالم أجمع.

فهو العالم بالفضاء وأسراره، والواصف الأرض بما حملت، والمُخبر عمّا جرى ويجري من الحوادث، اعتماداً على ما أخذه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عن الله تبارك وتعالى، والعالم الإلهي في علوم الأديان، والواعظ الصادق بخطبه ورسائله ومواعظه، والمُفسّر العظيم للقرآن الكريم (كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به)، ومُعلّم الأخلاق الذي أصبحت سيرته وحكمه مناراً يُهتدى بها، ونوراً يكشف اغطاش الظلام عن الأبصار، فإليه انتهى كلّ شيء.

لقد امتلك قلباً اتّسع العالم كلّه رغم ما تعرّض له من مآسٍ، فهو بين نكبات تعرّض لها من رفاق عرفوا وفهموا كلّ ما أوصى به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثُمّ نكثوا بيعته، وآخرين مَرقوا عليه، وبين آخر اعتكف في داره مُبتعداً عنه، فهو في مجتمع هدم صرح العهود الرساليّة، وباع بقاء الآخرة وعهودها بفناء الدنيا وانقضاء مدّتها وزوالها، فما أعظمه من مغبون، والأنكى تجاهل الكثير منهم؛ لعدم معرفتهم بعظمته وسعة إدراكه، وقوّة حجّته، إنّه عاش في غير عصره. ولم يُدرك كنهه ومداليل علمه أحدٌ من أولئك الذين ضيّعوه، بل تركوه في أحيان كثيرة يعيش

____________________

(١) المسعودي - مُروج الذهب - م ٢ ص٤١٤ - دار الهجرة - ١٤٠٤هـ، ١٩٨٤م.

(٢) البرّي التلمساني - محمد بن بكر الأنصاري - القرن السابع الهجري - تحقيق الدكتور محمد التنوخي - ص ٧٤.

٦

غصّته وحسراته وحيداً على أيام صدر الإسلام وعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتى تعاقبت الأزمان والدهور، وتحرّرت العقول رويداً رويداً، وبدأت البحوث العلميّة تسبر غور هذا الرجل العظيم لتستجلب العلوم والمعارف من فكره، حتى قال البعض: تعساً لذلك الزمان الذي عاش فيه ولم يُقدّروا حقه! فكلماته ليست خُطباً ومواعظ، إنّما هي دروس علميّة أخلاقية تاريخيّة اجتماعيّة سياسيّة نفسيّة واقتصاديّة، وقد طُرحت أنواع من البحوث بمُختلف العلوم التي حملها هذا العملاق، ونحن الآن على أعتاب كلّ ذلك ندخل بوابة فكره لنطرح ما استطعنا إدراكه وفهمه من تلك المعارف والمفاهيم.

وقد خصّصنا هذا البحث للجانب الاجتماعي من فكره الجبّار؛ لما فيه من الفائدة العمليّة والعلميّة للمجتمعات البشريّة، ولِما تُعاني منه الإنسانيّة في هذه الأزمنة، من تعقيدات الحياة على هذا الكوكب السيّار، الذي يعاني سكّانه من الضغوطات النفسيّة والاختلافات السياسيّة والاجتماعيّة والتفاوت الاقتصادي، بحيث انقسم العالم الأرضي إلى مجموعتين متناقضتين: الأولى غنيّة، والأخرى فقيرة، وازدادت الهوّة بينهما يوما بعد يوم، واستغلّ الأغنياء الفقراء ماديّاً ومعنويّاً، والأخطر من ذلك كلّه تلك الحرب الثقافيّة التي حطمت - بأفكارها الضالّة - كلّ النُظم الاجتماعيّة.

فماجت الأرض بذلك الضياع الفكري، وحالة الفراغ الروحي، الذي يعيشه الكثير من الشباب في هذا الوقت، كلّ هذه الأمور وغيرها دعت إلى طرح الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)، والدعوة لاستمرار أغناء العالم بهذه المباحث الاجتماعية نظراً للحاجة المُلحّة إليها، فمع هذا الفكر العظيم تتحرر العقول والأفكار التي اختلطت أوراق معرفتها وتشابكت خطوطها.

والذي أودّ قوله هو: إنّني بصدد وضع قراءة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

٧

الاجتماعي، ودراسته من خلال خُطبِه ورسائله وسيرته في الحكم؛ لأنّنا بأمسّ الحاجة للأخذ بالنظريّة الاجتماعيّة الإسلامية.

ووجدت أنّ الفكر الاجتماعي للإمام (عليه السلام) هو مليءٌ بأُسس ومعالم (عِلم الاجتماع) بكلّ فُروعه المطروحة على أنها مُستحدثة وجديدة، وهي في حقيقتها ومعالجاتها موجودة بكل أبعادها في فكر سيّد الموحدين (عليه السلام)، بل تجده كأنه واضع مبادئ هذا العلم بكلّ مضامينه، ولا أريد أن أجزم وأقول: إنّه (عليه السلام) مؤسّس عِلم الاجتماع قبل طرح أفكاره في هذا المجال، ومُناقشتها وتحليلها في الفصول القادمة إن شاء الله، وهي ممّا اقتبس نورها من كتاب الله تبارك وتعالى وسنّة نبيّه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، علاوة على ما أفاض به فكره الخلاّق وما حواه من سياسة وتنظيم وقضاء واقتصاد وتربية وفلسفة وعلوم نفسيّة واجتماعيّة، بالإضافة إلى كلّ القيم الأخلاقيّة الإسلاميّة.

ولستُ مبالغاً في مثلِ هذا الطرح، إذ أنّ (نهج البلاغة) أمامنا وبين أيدينا، نتمعّن به ونستنتج منه ما نبغي ونريد، ولم يأتِ طرحنا من وراء تصورات غير واقعية أو أطروحات وهميّة، إنّما من أصل متين ثابت وقعه، قوي تأثيره، واسع مضمونه، وهو نهج بلاغي الفصاحة والعلوم بما اتّسعت، والفلسفة بما حوت.

فلو أنصفنا العلم والتاريخ والحقيقة، وتمعّنا في ما كَتبه المؤرّخ ابن خلدون في المقدّمة، وعشرات الكُتب والدراسات التي تناولته سلباً وإيجاباً، تمعّن الفاحص الدقيق؛ لعرفنا مصادر وأصول الكثير من فُصول مقدّمته وهو المسمّى بمؤسّس علم الاجتماع وواضع أُسسه، فنحن لا نُنكر شخصيّته، ولكن تسميته بمؤسّس علم الاجتماع لا تعني أنّه أبدع في هذا العلم من دون مثال سابق؛ لأنّ القرآن الكريم ونهج البلاغة زاخر بعدد وفير من السُنن والقوانين الاجتماعية.

نرجو من الباري عزّ وجلّ أن يوفّقنا لمراضيه، ويجنّبنا معاصيه، ويهدينا

٨

سبيل الرشاد، ويُسدّدنا في طرح هذا المنهج بالصورة التي تُرضيه ورسوله الكريم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإمام الهدى علي (عليه السلام)، ويشرح صُدورنا لذلك، إنّه وليّ نعمتنا وإنّه نِعمَ المُعين.

عبد الرضا الزبيدي

١ ربيع الأوّل ١٤١٨ هـ

٧ / ٧ / ١٩٩٧ م.

٩

١٠

الباب الأوّل

مَدخل عام

١١

١٢

الفصلُ الأوّل

عِلم الاجتماع

١٣

١٤

تعاريف عِلم الاجتماع وماهيّته

وضعتْ دراسات عديدة خاصّة في القرنين الأخيرين حول المجتمعات البشريّة ومسارات حركتها نظراً للظروف القاسية التي مرّت بها الإنسانية، والتخبّطات الفكريّة، والانحرافات السلوكية، ففي الجانب المسيحي كان هناك ابتعاد كلّي عن أصل العقيدة المسيحيّة التي هي عقيدة سماوية إلهية تامّة غير ناقصة في زمان عيسى (عليه السلام) وصاحبها نبي مرسل من أولي العزم، إلاّ أنّ التحريف الذي شوّه حقيقة هذا الدين وكتابه المقدّس جعل الزمان يتدخّل في الفكر العقائدي للمسيحية، ويشتت وحدته إلى اعتقادات متشعبة متباينة في أُصولها لمصالحها الخاصة بالتعاون مع طبقة الملوك والأمراء والنبلاء والإقطاعيين؛ لاعتبارات التوافق المصلحي لأولئك في تلك العصور، فضاع الحق بين ثنايا الباطل، وأصبحت الأُمم تسير في طُرق ومتاهات ومسالك خطرة، لا نفع فيها لمستضعف أو مسكين، ولا محافظة فيها على حريّة أو كرامة لإنسان، بل العكس، فقد حطّمت كلّ تلك الصور الروحيّة المُشرقة التي اعتبرتها خياليّة في عالم الدنيا، وأصبحت النزعة الموجودة الرضا بهذه الأوضاع السيئة؛ لأنّ الله فرضها عليهم - حسب ما اشبعوا الناس بهذه الفكرة المُميتة - فالتسلط للملوك والأمراء وغيرهم، وللمجتمع العبوديّة، والظلم الذي سلطه أولئك على الرعيّة

١٥

هو من الله تعالى، وعلى العبد أن يتكيّف ويرضخ لِما وقع عليه من ظلم؛ لأنّ الله هو الذي افترض هذا الأمر عليهم (وحاشا لله أن يفعل ذلك)، وصوّروا أنّ الملوك هم ظلّ الله في أرضه، وعلى الرعية الطاعة فقط، وتحمل المشتاق؛ لأنّ الدين لا يقبل التحدي والعصيان لكل من (جعلهم الله) ملوكاً على الخلق، وسيجد المرء ثواب ذلك السكوت والتحمّل في الآخرة كاملاً غير منقوص عند الله، بل بيعت قطع سكنيّة، وأراض زراعية، وقصور فارهة في الجنة، عن طريق القساوسة، بالإضافة إلى صكوك الغفران للعاصين من خلق الله والظالمين منهم. بهذا الفكر الجامد وعظوا الناس، وساروا بهم سنين طويلة، فتلك الطبقة المتسلّطة ترفل برفاهية العيش ونعيمه، وكأنّهم تركوا الجنّة للفقراء من الناس هديّة منهم، ورضوا هُم بالعيش المؤقّت في هذه الدنيا. فأيّة مهزلة هذه؟! وأيّة سخرية بخلق الله تعالى؟! وأيّ ظلم كبير؟!

أمّا في بلادنا الإسلامية، فالحكّام ابتعدوا عن السير على ما رسمه القرآن والسنّة النبويّة الطاهرة، حيث هجروا كتاب الله وعطلّوا سنّة نبيّه، واتخذوا هواهم منهجا، واتكئوا على طبقة من الوعّاظ الضالّين المُضلّين في تأويل الآيات وتحريف الأحاديث النبوية الشريفة؛ حتّى يسهل أمر السيطرة على الأُمة، وهو موضوع يشتمل على مباحث كثيرة لا أريد الخوض فيها والخروج عن صلب الموضوع المتعلّق ببحثنا وهو (الاجتماع).

فالخلل إذن ليس في العقيدة وأصولها وفروعها أنّما في المسلك الخاطئ للحكّام الذين لا يهمّهم إلاّ منافعهم الخاصة، والسيطرة على البلاد العباد. أمّا عند المسيحيّة، فالخلل هو في العقيدة المُحرّفة، والكتاب المختلف على نصوصه، وكذلك في القيّمين على أُمور الدين، والحكّام، وعلى عكس ما هو موجود عند المسلمين الذين حافظوا على كتابهم وعقيدتهم من التحريف، وبقوا على تمسكهم

١٦

بديانتهم رغم الظُروف القاسية التي مرّوا بها؛ وذلك لوجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين صانوا العقيدة والسُنّة النبويّة الطاهرة من التحريف والابتعاد عن أصلها، بل كانوا يتّخذون موقع الهادي والمحافظ وتثبيت الحقائق وتوضيحها للناس، فأصبحوا بذلك المرجعيّة الوحيدة والواقعيّة للمسلمين في ذلك الوسط المُرّ مع تلك المعاناة والصعوبات الشديدة التي رافقت مهمّتهم الرساليّة الكبرى.

ولا يذهبّن بالقارئ إلى تصورات غير صحيحة، من أنّ العالم الإسلامي كان يعيش أيضاً في ظلام الجهل في تلك الفترات، فهذا صحيح في الجانب السياسي، أمّا الجانب الفكري والعقائدي والاجتماعي، فهو غير ذلك وعكس ما يتصوره البعض؛ لأنّ الدين الإسلامي عالم كامل في كافّة مجالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فهو لا يحتاج إلاّ للتطبيق العملي، وقد أشبعه وأغناه الفقهاء بالتفاصيل والمباحث، حيث لا تجد نقصا في أمر ما.

إذن؛ الحالة المسيحية في أوربّا انتخبت تلك النظريّات الفكرية والانحرافات عن العقائد السماويّة بفعل تلك العوامل التي كانت موجودة في ذلك العصر، وما يهمّنا هنا من النظريات الاجتماعية التي سنتطرق إلى بعضها سريعاً هو التعرّف على مضامينها وأهدافها ونقاط القوّة والضعف فيها، ثُمّ نوضّح حجم الاستقاء الكبير من المفاهيم الإنسانيّة الموجودة في الفكر الإسلامي، ومطابقة ذلك مع أصل موضوعنا وهو الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)، فنبدأ أولاً بذكر بعض التعاريف لعلم الاجتماع وماهيته، ثُمّ نظريات بعض العُلماء البارزين في هذا الحقل.

لقد وُضعت تعاريف متعدّدة لعلم الاجتماع، ولا نستطيع القول أنّه لم يتفق للآن على تعريف واحد لهذا العلم عند الجميع، فكلّ تلك التعاريف لا تخلو من التقارب في المعاني والأهداف، وعليه فإنّه (يمكن القول أنّ علم الاجتماع: هو ذلك

١٧

العلم الذي يدرس طبيعة العلاقات الاجتماعية وأسباب هذه العلاقات ونتائجها، والعلاقة الاجتماعية حسب قول البروفسور مورس كنز برك: هي أيُّ اتصال أو تفاعل أو تجارب بين شخصين أو أكثر بغية سدّ إشباع حاجيات الأفراد الذين يُكوّنون هذه أو تلك العلاقة الاجتماعية). (١)

أمّا دوركايم، فيقول: (... علم الاجتماع هو الموضوع الذي يَدرس المجتمعات الإنسانيّة من ناحية نظمها ووظائفها ومستقبلها، أو هو العلم الذي يدرس أصل وتطور المؤسسات الاجتماعية التي يُبنى منها التركيب الاجتماعي). (٢)

ويقول البروفسور هوب هوس الذي يتّفق مع دوركايم في دراسة مروفولوجية وفسيولوجية المجتمعات: (هي دراسة المجتمعات البشريّة من ناحية نموّها وتركيبها واضمحلالها وضعفها، مع التطرّق إلى دراسة تأريخها وعلاقاتها المشتركة). (٣)

أمّا ادووستر مارك، فيُعرّف علم الاجتماع (بأنّه: الموضوع الذي يدرس المؤسسات الاجتماعيّة دراسة مُقارنة)، إلاّ أنّه يختلف عن زميله هوب هوس في عدم اهتمامه بمشاكل موضوع التقدّم الاجتماعي. (٤)

إلاّ (أنّ اصطلاح (علم الاجتماع) قد ابتكره الفيلسوف (أوجيست كُنت ١٧٩٨ - ١٨٥٧ م) ( August Conte )، وهو يستعمل في معانٍ مُختلفة جداً، بحيث يتعسّر معه تقديم تعريف له، وكما يقول عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر

____________________

(١) الحسن - إحسان محمّد - بعض نظريات عِلم الاجتماع في القرن العشرين، مجلّة كليّة الآداب العدد ١٧ ص ٢٣، ١٩٧٤م - بغداد.

(٢) المصدر نفسه ص٣١.

(٣) المصدر نفسه ص ٣١.

(٤) المصدر نفسه ص ٣٢

١٨

(ريمون بودن Ragmons Boudon ): (عندما نُحاول تعريف عِلم الاجتماع، فإنّنا نتذكّر فوراً حديث ريمون آرون الطريف، حيث يقول: إنّ علماء الاجتماع لا يختلفون إلاّ على نقطة واحدة، وهي صعوبة تعريف علم الاجتماع)، وأحياناً يُطلق (علم الاجتماع) على (جميع العلوم الاجتماعية التوصيفيّة المهتمّة بالشؤون الاجتماعيّة للإنسان)، ومن هُنا فهو يصبح مُرادفاً (للعلوم الاجتماعيّة)، ويكون (علم الاجتماع) بهذا المعنى شاملاً لكثير من العلوم، ومن جُملتها: الجغرافية الإنسانيّة، والجغرافية البشريّة، وعلم الإحصاء، وعلم الاقتصاد، والسياسة، ومعرفة الإنسان، والتاريخ، وعلم اللغة. فعندما يقول جورج گورفيج، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (١٨٩٤ - ١٩٦٥): على أيّ حال، فنحن نعد الاثنولوجيا جزءاً من علم الاجتماع؛ لأنّ متعلّق البحث فيها هو معرفة الصور النوعيّة للمُجتمعات التي تُسمّى بالقديمة، وحينما يقول عالم الاجتماع الفرنسي الأستاذ هنري مندراس:

إنّ علم الاجتماع في رأينا يشمل على الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي ودراسة الشعوب معاً، فإنهما يقصدان هذا المعنى العام (علم الاجتماع). (١)

وهناك مَن اعتبر أنّ (المهمّة التاريخية للعلوم الاجتماعية هي مساعدة الإنسان في السيطرة على المجتمع).

ويمكن أن نقول: إنّ علم الاجتماع بصورة إجمالية يبحث في السبل الصحيحة لبناء المجتمعات باتّباع المناهج العلميّة والدراسات التطبيقيّة بالترابط مع بقيّة العلوم الأُخرى الاجتماعية منها بالذات.

إلاّ أنّ هناك من يهتم بالعلاقات الاجتماعية ويعتبرها الحلقة المهمّة في

____________________

(١) اليزدي - محمد تقي مصباح - المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن الكريم ص١٩، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، دار أمير كبير للنشر ١٤١٥هـ.

١٩

مفهوم هذا العلم، فيرى (أنّ دراسة العلاقات الاجتماعية التي يهتمّ بها علم الاجتماع المعاصر: هي دراسة تتطلب فحص المجتمع برمّته بغية التطلّع إلى أنماط علاقاته الاجتماعية التي لها أسباب مختلفة كالعلاقات التي تسبّبها العوامل والظروف الاقتصادية والتصوّف والتديّن، والعلاقات المتنوعة الأهداف والمقاصد تشكّل حقل علم الاجتماع الواسع الذي يهتم بدراسة حياة الإنسان بأكملها، هذه الحياة التي تتشعّب إلى نشاطات الإنسان المبذولة في سبيل المحافظة على كيانه ووجوده من الفقدان والضياع، وحقل عِلم الاجتماع يمتد إلى القوانين والأحكام التي تُنظّم السلوك الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية بين أعضاء المجتمع، ويدخل في دراسة نُظم المعرفة والمعتقدات والفنون الجميلة والأخلاق والأديان والفلسفة دراسةً وصفية تحليليّة تعتمد على ما يمكن في هذه المواضع مع التطرّق إلى القوى والعوامل التي تعمل على سكونها أو حركتها). (١)

(وترتيباً على ذلك، فإنّ موضوع علم الاجتماع هو (بنو الإنسان في وجودهم الذي يقوم على الاعتماد المُتبادل)، وليس معنى ذلك أنّ موضوعه هو جسم الإنسان وما تقوم به أعضاء هذا الجسم من وظائف، وإنّما يقوم موضوعه على الاهتمام بما يحدث عندما يقابل إنسان إنساناً آخر، أو عندما يشكّل الناس جموعاً أو جماعات، أو عندما يتعاونون ويقتتلون، أو يتحكّم بعضهم في بعض، أو يُحاكي بعضهم البعض الآخر، أو يطوّرون الثقافة أو يقوّضونها، إنّ وحدة موضوع علم الاجتماع ليست على الإطلاق فرداً واحد، ولكنّها تتمثّل - على الأقل في فردين يكونان معاً - على علاقة بشكل ما). (٢)

____________________

(١) بعض نظريّات علم الاجتماع في القرن العشرين ص٢٥.

(٢) عبد الباقي - الدكتور زيدان - التفكير الاجتماعي نشأته وتطوّره ص ١٨٤، الطبعة الثالثة ١٤٠١ - ١٩٨١.

٢٠

من جهة أخرى؟

إلى غير ذلك من الأبحاث الكثيرة والمتعدّدة.

هذه الأمور والاحتمالات التي طرحناها لم تُعرض ضمن بحث مستقلٍ منفرد ومتميّز في الكتب، أو الأبواب الفقهيّة.

وقد يجدها المتتبّع في طيّات كلمات الفقهاء وأبحاثهم هنا وهناك في موارد متفرّقة، ومواضع مختلفة.

مثلاً: قد يجدها المتتبّع في موضوع حرمة تنجيس القرآن أو وجوب تطهيره إذا لاقته النجاسة.

وفي بحث الوقف والصدقات وإحياء الموات، وقضيّة حُرمة المؤمن، وحُرمة الكعبة، وفي باب الحدود، في حكم سبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - والعياذ بالله تعالى - أو هتك مقدّسات الدين، حيث يبحث العلماء في هذه الموارد عن الشعائر الدينيّة، وإنّ هتكها هل هو موجب للكفر أم لا؟

ومضافاً إلى ذلك، هناك بعض الكتب والرسائل التي أُلِّفت في بحث الشعائر الحسينيّة(1)، وقد ذكروا فيها بعض الضوابط الشرعيّة إلى حدّ ما، فمن الجدير مراجعة تلك الكتب وملاحظة الخطوط العامّة لهذا البحث، وما تتضمّنه من نقض وإبرام.

____________________

(1) نذكر - على سبيل المثال - بعض تلك الرسائل والمؤلّفات:

الشعائر الحسينيّة في الميزان الفقهي، لآية الله الشيخ عبد الحسين الحلّي (رحمه الله).

نصرة المظلوم، لآية الله الشيخ حسن المظفّر (رحمه الله).

الشعائر الحسينيّة، سماحة السيّد حسن الشيرازيّ (رحمه الله).

نجاة الأمّة في إقامة العزاء، الحاج السيّد محمّد رضا الحسيني الحائري.

الشعائر الحسينيّة سُنّة أم بدعة، الشيخ أحمد الماحوزي.

٢١

الجانبُ الرابع: إطار موضوع القاعدة

قد تُضافُ الشعائر إلى لفظ الجلالة (الله) فنقول: (شعائر الله)، كما في الآيات الكريمة(1) ، ومنها قوله تعالى:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

وأيضاً الشعائر أو الشعيرة أو الشعارة - على اختلاف هيئات المادّة - قد تضاف إلى المذهب، فيقال: شعائر المذهب.

وأيضاً، قد تضاف إلى الحسين (عليه السلام) باسم الشعائر الحسينيّة.

وأيضاً، قد تضاف إلى الدين، فتُعرف باسم شعائر الدين وشعائر الإسلام.

وسيتبيّن أنّ هذه الإضافات ما هي إلاّ تفريعات وتطبيقات لنفس القاعدة الواحدة، فيقال: شعائر الله، أو يقال: الشعائر الحسينيّة، أو يقال: شعائر المذهب، أو يقال: شعائر الإسلام، أو شعائر الدين، وهي - على كلّ حال - تبويبات وتصنيفات لذكر فروع لأصل واحد، أو تكون مرادفات لنفس المسمّى.

وسيظهر ما في هذا التعبير من نواحٍ تربويّة متعدّدة، وتفريعات لنكاتٍ فقهيّة مختلفة.

____________________

(1) المائدة: 2، الحج: 32، البقرة: 158.

(2) الحجّ: 32.

٢٢

الجانبُ الخامس:

جرياً على ديدن العلماء في تصنيف كلّ مسألة بإدراجها في باب من الأبواب الفقهية، ففي أيّ باب من الأبواب يمكن درج هذه القاعدة؟ هل في باب الفقه السياسي، أم في باب الفقه الاجتماعي، أم باب فقه القضاء، أم فقه المعاملات؟

وسيظهر خلال مراحل البحث: أنّ من خصائص هذه القاعدة وهذا الواجب الدينيّ العظيم، أنّ هذا الواجب ليس واجباً ملقى على عاتق رموز الدولة الإسلاميّة أو الحكومة فحسب، وليس مُلقى على عاتق المرجعيّة فقط، الّتي قد تُسمّى بالاصطلاح الأكاديمي الحديث حكومة المرجع، ولا على عاتق الهيئات الدينيّة دون غيرها.

وإنّما هذا الواجب - كما سيتبيّن - هو واجب كفائيّ يُلقى على عاتق عموم المسلمين، ويتحمّل مسؤوليّة إقامته جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسلامي، ومن ثُمّ كان الأولَى إدراج هذه القاعدة في أبواب فقه الاجتماع، من قبيل: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا في خصوص الفقه السياسي، ولا في خصوص فقه الأبواب الأُخرى، بل يكون انضمامها تحت باب الفقه الاجتماعي هو الأنسب لهذه القاعدة.

هذه جوانب ذكرناها بعنوان ديباجة وتمهيد للبحث، أمّا بالنسبة إلى تبويب وتصنيف جهات البحث؛ فإنّ البحث سيقع - إن شاء الله تعالى - في مقامين رئيسيّين:

٢٣

المقامُ الأول

في عُموم قاعِدة الشَعائر الدينيّة

وهذا المقام يتألّف من الجهات التالية:

الجهة الأولى: الأدلّة الإجماليّة الواردة في هذه القاعدة.

الجهة الثانية: أقوال الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين حول قاعدة الشعائر الدينيّة.

الجهة الثالثة: البحث في معنى وماهيّة الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر من الناحية اللُّغويّة.

الجهة الرابعة: كيفيّة تحقّق الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر ومعالجة العديد من قواعد التشريع.

الجهة الخامسة: البحث في متعلّق الحكم لقاعدة الشعائر.

الجهة السادسة: نسبة حكم الشعائر مع العناوين الأوّليّة للأحكام من جهة، ومع العناوين الثانويّة للأحكام من جهة أُخرى.

الجهة السابعة: الموانع الطارئة على الشعائر، كالخرافة والاستهزاء والهتك والشنعة.

٢٤

المقامُ الثاني

الشَعائرُ الحُسينيّة

يقع البحث في خصوصيات الشعائر الحسينيّة، ودراسة قوّة وتماميّة الأدلّة الخاصّة الواردة فيها، وردّ الإشكالات والانتقادات التي وُجِّهت لها، وأُثيرَت حولها.

وهل يختلف حكمها عن الأحكام العامّة في الشعائر؟

أم هي تتضمّن الأحكام العامّة للشعائر وزيادة؟

ويقع البحث خلال الجهات الآتية:

الجهة الأولى: أهداف النهضة الحسينيّة.

الجهة الثانية: أدلّة الشعائر الحسينيّة.

الجهة الثالثة: أقسام الشعائر الحسينيّة.

الجهة الرابعة: الرواية في الشعائر الحسينيّة.

الجهة الخامسة: البكاء.

الجهة السادسة: الشعائر الحسينيّة والضرر.

الجهة السابعة: لبس السواد.

الجهة الثامنة: ضرورة لعن أعداء الدين.

الجهة التاسعة: العزاء والرثاء سُنّة قرآنيّة.

مِسكُ الختام: مآتم العزاء التي أقامها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين (عليه السلام).

هذا ما سنتطرّق إليه مفصّلاً فيما يأتي من البحوث - إن شاء الله تعالى - ونبدأ البحث في جهات المقام الأول:

٢٥

٢٦

المقامُ الأوّل الشَعائرُ الدينيّة

٢٧

٢٨

الجهةُ الأوّلى:الأدلّةُ الإجماليّة

٢٩

٣٠

في بداية كلّ بحث لابدّ أن يعثر الفقيه أو المجتهد على أدلّة معيّنة لعنوان البحث، وهذه الأدلّة حسب قواعد علم الفقه والأصول لها ثلاثة محاور، هي: الموضوع، والمحمول، والمتعلّق.

الموضوع: هو ما يُشار به إلى قيود الحُكم.

والمحمول: هو الحكم الشرعي، إمّا وجوب، أو حُرمة، أو مِلكيّة، أو غير ذلك، بمعنى الحُكم الشرعي الشامل للحُكم التكليفي وللحُكم الوضعي.

المتعلَّق: وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحُكم وجوباً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم حرمةً.

على سبيل المثال: في دليل: (إذا زالت الشمس فصلِّ)، نلاحظ هذه المَحاور الثلاثة كالآتي:

الموضوع: هو الزوال.

والمحمول: الحُكم وهو الوجوب.

والمتعلّق: وهو صلاة الظهر.

ومِحور الموضوع الذي هو قيود الوجوب، ويُطلق على قيود أيّ حكم تكليفي أو وضعي بأنّه: موضوع أصولي، أو موضوع فقهي، وفي مثالنا السابق يعتبر الزوال من قيود الوجوب.

٣١

فاللازم استعراض الأدلّة الواردة في قاعدة الشعائر وتقرير مفادها على ضوء هذا التثليث.

الطائفة الأولى من الأدلّة:

(1) -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) (1) .

قد ورد في الآية عموم لفظ الشعائر، وهو حُكم من الأحكام القرآنيّة، فلنتعرّف على موضوع ومتعلّق هذا المورد، وعلى حكمه أيضاً.

الموضوع: هو الشعائر(2) .

المتعلّق: هو التعظيم إن جُعِل الحُكم إيجابيّاً، أو التهاون إن جُعِل الحكم تحريميّاً.

الحُكم: حرمة التحليل وحرمة التهاون، ويمكن جعل الحُكم وجوب التعظيم.

(2) -( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) وقد يقال للموضوع: متعلّق المتعلّق، ففي مثال حرمة شرب الخمر؛ فإنّ الحُرمة تتعلّق بالشُرب، والشرب بدوره يتعلّق بالخمر، فالخمر يقال له: متعلّق متعلّق الحكم.. وهذا تابع لقاعدة أصوليّة محرّرة عند علماء الأصول تقول: إنّ متعلّق متعلّق الحُكم يكون موضوعاً للحُكم، سواء كان الحكم تكليفيّاً أم وضعيّاً. اعتمدَت عليها مدرسة الميرزا النائيني (رحمه الله)، إلاّ أنّ مشهور الطبقات المتقدِّمة من العلماء على خلاف ذلك، وهو الأصح.

٣٢

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) .

هذا المقطع من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ... ) ، أدرجهُ كثير من العلماء ضمن آيات الشعائر أيضاً، مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر، والوجه في ذلك: هو الاعتماد على قاعدة معروفة ومشهورة لدى أساطين الفقه.

وهي أنّ الموضوع أو المتعلّق كما يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بما يشترك معه في الماهيّة النوعيّة أو الجنسيّة، أي المماثل أو المجانس، بشرط أن يكون الحُكم مُنصبّاً على تلك الماهيّة، وإلاّ كان التعدّي قياساً باطلاً، كما يمكن الاستدلال له بالدليل الذي يتضمّن جزء الماهيّة، كذلك يمكن الاستدلال له بما يدلّ على اللازم له أو الملزوم له، فتتوسّع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة على المطلوب.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: حُرمات الله.

المتعلّق: التعظيم.

الحكم: الوجوب، أي: وجوب التعظيم.

(3) -( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

____________________

(1) الحج: 27 - 30.

(2) الحج: 32.

٣٣

وهذه من أوضح الآيات على إثبات المطلوب، حيت تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله، حسب التقسيم الثلاثي المذكور من الموضوع والمتعلّق والحُكم.

(4) -( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) .

هنا وردت (مِن) تبعيضيّة، والمعنى: أنّ البدن من مصاديق الشعائر.

(5) -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (2) .

(6) -( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) (3) .

هذه الآية الشريفة تعرّضت للشعائر، ولكن بصيغة المشعر.

هذه الطائفة من الأدلّة وافية في المقام، وعلينا أن نسبر غَورها لنصل إلى المَحاور الأساسيّة فيها، ولنتعرّف على مفادها ودلالتها.

الطائفةُ الثانية من الأدلّة:

هذه الأدلّة لم يرد فيها لفظ (الشعائر)، إلاّ أنّ بعض العلماء والمحقّقين(4) ذهبوا إلى استفادة حُكم الشعائر منها، وهي:

____________________

(1) الحجّ: 36.

(2) البقرة: 158.

(3) البقرة: 198.

(4) الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) ضمن فتواه في كتاب (جامع الشتات) حول الشعائر الحسينيّة، والسيّد اليزدي (قدِّس سرّه) صاحب العروة في فتواه، والسيّد جمال الدين الگلبايكاني، أشاروا إلى وجود عمومات أخرى إضافةً لأدلّة الطائفة الأولى في المقام.

٣٤

(1) -( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

ومن سياق الآيات التي قبلها:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأَخِرِ.. ) .

وآية:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.. ) .

يُفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد، وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه..

ثُمّ بعد ذلك تُبيّن الآية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) أهميّة النور الإلهي، ومحاولات أعداء الدين لإطفاء ذلك النور، ولكنّ الله سبحانه كتبَ على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة، ويأبى سبحانه إلاّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: هو نور الله سبحانه، وهو بدل لفظ (الشعائر) في آية( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) ، ونور الله سبحانه عام يشمل جميع الأحكام.

المتعلَّق: النشر والتبليغ والبيان، وهو بدل التعظيم في تلك الآية.

والحُكم: وهو الوجوب، وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.

فيكون هذا الدليل - كقضيّة شرعيّة - مرادفاً ومكافئاً للآية الشريفة:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

- وهذا يعني أنّنا لا نقتصر في إثبات هذه القاعدة على الآيات من الطائفة

____________________

(1) التوبة: 32.

٣٥

الأولى من الأدلّة، بل يمكن الاستدلال أيضاً بما يفيد مفادها أيضاً.

(2) -( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَال ) (1) بملاحظة الآيات التي تسبق هذه الآية من سورة النور، وهي:( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2) من سياق هذه الآيات، يظهر أنّ المراد من لفظة( فِي بُيُوتٍ... ) : هي البيوت التي فيها نور الله، والمراكز التي تكون مصادر إشعاع الدين، ومحالّ نشر الهداية والحق، ومحطّات بيان أحكام الدين الحنيف.

وهذه (البيوت) النوريّة والباعثة للنور، شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم، وأن تُبجّل وتُحترم، وينبغي أن يستمرّ ويدوم فيها ذِكر الله وعبادته وطاعته.

فهذه الآية من سورة النور، مرادفة لآية تعظيم الشعائر(3) ، ولآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله وتعاليم رسالة السماء، المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.

____________________

(1) النور: 36.

(2) النور: 34 - 35.

(3)( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: 32.

٣٦

ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تختصّ بباب دون آخر، فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ، ولا بالعبادات.

وإنّما تشمل كلّ ما فيه نشر لأحكام الدين، وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.

(3) -( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) .

هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذِكر الله سبحانه، وكذلك حفظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو قوام الدين، وحفظ ذِكر أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم العِدل الآخر للقرآن، كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العُليا للحق سبحانه وتعالى.

(4) -( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2) .

بتقريب أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وإزهاق كلمة الكافرين، فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة.

(5) -( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3) .

تُقرِّر الآية الكريمة وجوب التفقّه على المسلمين بعد الهجرة، ثُمّ الرجوع إلى بلادهم ووجوب التبليغ والإنذار، مُقدّمةً لحصول حالة الحذر، فهذا الإنذار

____________________

(1) الحجر: 9.

(2) التوبة: 4.

(3) التوبة: 122.

٣٧

لنشر معالم الدين وترسيخ قواعده يُبيّن في الواقع ماهيّة الشعائر.

فهذه الآية (آية الإنذار) بمنزلة المُبيّن والمفسِّر لأحد أركان ماهيّة العناوين التي وردت في الألسنة الأخرى من الأدلّة، وهو التبليغ والنشر للدين الحنيف.

(6) -( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1) .

لسان هذه الآية، يوضِّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر، حيث تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى غير الأحكام الأوّليّة، ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهذه غير جهة الإعلام، وإن كانت هي أحد نتائج الإعلام والنشر والإنذار.

فالبُعد الآخر الذي تتضمّنه قاعدة الشعائر الدينيّة: هو جنبة إعلاء كلمة الله سبحانه، وإعزاز كلمة المسلمين.

وقد توفّرت الأدلّة في إثبات ذلك بقدر وافٍ.

الطائفةُ الثالثة من الأدلّة:

وقد استُدلّ أيضاً على هذه القاعدة بما وردَ في الأبواب الخاصّة من الأدلّة، مثل: أدلّة خاصّة في مناسك الحج، أو أدلّة خاصّة في الشعائر الحسينيّة وغير ذلك، مثل: قول الصادق (عليه السلام):(رحمَ الله مَن أحيا أمرَنا) (2) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(يا علي، مَن عمّر قبوركم، وتَعاهدها، فكأنّما أعانَ

____________________

(1) النساء: 141.

(2) بحار الأنوار 2: 151: 30.

٣٨

سليمان بن داوود على بناء بيت المَقدس) (1) وما شابه ذلك.

أو ما ورد على لسان العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) بالنسبة لعزاء سيّد الشهداءصلى‌الله‌عليه‌وآله :(وسيوكِّل الله مَن يُجدّد له العزاء في كلّ عام) (2) تلك العناوين خاصّة في أبواب خاصّة.

وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى، التي مفادها هو عين مفاد الشعائر، من لزوم البثّ والإعلان.

فزبدة القول: إنّ لدينا ثلاثة أشكال من الأدلّة:

الأوّل: أدلّة عامّة وردَ فيها لفظ الشعائر.

الثاني: أدلّة عامّة ومطلقه يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين.

الثالث: أدلّة مختصّة ببعض الأبواب، وتكون مرادفة لتعظيم الشعائر ولنشر الدين وإعلاء كلمته.

____________________

(1) بحار الأنوار 100: 120: 22.

(2) بحار الأنوار 44: 292.

٣٩

الجهةُ الثانية أقوالُ العامّة والخاصّة حول هذه القاعدة

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390