في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 55589
تحميل: 8642

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55589 / تحميل: 8642
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعلى نقيضه كان خصومه الأُمويّون (الذين جربّوا مبدأ سبق لأرسطو أن قرّره في سياساته، يسمح بتضليل الجمهور للحصول على دعمه للملك) (1) .

لكن هادي العلوي وهو ينقل هذه المُقارنة يميل إلى ترجيح السياسة الأُمويّة في تضليل الجمهور التي قادتهم إلى السلطة!

وقد وقع بذلك في قلب التناقض حين فاته أنّ مِثل هذا النصر الذي حقّقه الأُمويون بتضليل الجمهور إنّما هو نصر لهم وليس للأُمّة، فلقد وقعت الأُمّة في شراكهم فيما تربّعوا هُم على عرش المُلك.

وكم من حادثة وحادثة تُثبت ذلك في تاريخنا المُعاصر، (وكم كانت شؤون العالم وأحوال البشر ستكون أفضل لو أنّنا التزمنا بشيء أكثر قليلاً من الأمانة والنزاهة والاستقامة والعقلائيّة، أو لو حاولنا بالفكر المنهجي الواعي المُنظّم الثاقب أن نتقدّم بخطوات قليلة معدودة على الوقائع والأحداث والتطوّرات، وأن نُدرك مسبقاً الأخطار والأضرار التي ستنجم عن السكوت على الشرّ والجور والغدر، والتورط في الظلم والخداع والتضليل...، ولو نظرنا إلى العالم الآن بعقول واعية وعيون مفتحة، فسندرك تماماً أنّه محكوم بشريعة الغاب إلى حدّ كبير، وربما سيبقى كذلك إلى وقت طويل قادم في المستقبل المنظور أو المجهول.

تلك هي الحقيقة الموضوعيّة الصارمة القاسية المريرة، ولا مناص للإنسان العاقل الحكيم من معرفتها ومواجهتها، ولكن هذه الحقيقة لا تعني بالضرورة القاهرة أن نكون نحن معشر البشر من الوحوش والهمج والبرابرة، ولا تعني أيضاً من جهة ثانية أن نكون بالحتميّة المُطلقة من السُذّج والبُسطاء والمُغفّلين، ولكنّها تعني أن البقيّة الباقية والثمالة الأخيرة والبارقة الوحيدة من

____________________

(1) المصدر نفسه.

١٠١

الأمل في تأمين مصير العالم ومستقبل الحضارة هي المزيد من تمسّك الإنسان بإنسانيّته، على الرغم من (الغابة) وشرائعها وقوانينها وأخطارها وأهوالها وفواجعها). (1)

ب - المحافظة على بيت المال:

وهذا جانب آخر مُهمّ يُعبّر عن الأمانة والإخلاص، وهو المحافظة على ما يدخل بيت مال المسلمين من خَراج وغيره لأنّه مِلك المسلمين، حتى يبذله في مواقع صرفه المُحدّدة بالشريعة أو المساحات التي تركت الشريعة للإمام حقّ التصرّف فيها، ثُمّ على الإمام الحق أن يقوم بالرعاية الاقتصادية للأُمّة، ومواجهة الخلل والتدهور الاقتصادي، ووضع الخطط الاقتصاديّة المُناسبة بما يُعين الأُمّة على أعمالها وينشر الرخاء بين صفوفها، وكم عانى الإمام علي (عليه السلام) من بعض الأطراف في عصره بسبب مسألة تقسيم الأموال على الصحابة من أهل بدر والأنصار، حيث قسمّها كما أراد الله وعمل بها رسوله، ولم تأخذه في الله لومة لائم، أو لم يمنعه شيء من إحقاق الحق، (وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا دخل بيت المال ونظر ما فيه من الذهب والفضة قال: (ابيضّي واصفرّي وغُرّي غيري، إنيّ من الله بكل خير). (2)

ج - التعليم:

التعليم ضدّ الجهل، وإذا أردت أن تعرف مدى إخلاص الدولة إلى أبنائها فانظر إلى اهتمامها بالتعليم، وإنّ أعظم ما يقوم به حاكم أو قائد في أيّ بلد هو

____________________

(1) هارت - ليدل - التاريخ فكراً استراتيجيّاً ص141، ترجمة حازم طالب مشتاق، الطبعة الأُولى بغداد 1985.

(2) باقر - عبد الغني - التظلّم من الحكّام - مجلّة كلّية الآداب - العدد السادس ص122 نيسان 1963 - بغداد.

١٠٢

النهوض لمحاربة الجهل والتخلّف والأُميّة، ونشر المعرفة والعلم بين صفوف المجتمع؛ حتى يستطيع ذلك المجتمع أن يعي الحقائق ويُساهم في التطور العلمي والمعرفي الذي هو أساس التقدّم والازدهار، ولهذا اهتمّ إمامنا علي (عليه السلام) في هذا الأصل المُهم في الحياة، وقال: (وتعليمكم كيلا تجهلوا) ناهيك عن اهتمام رسول الإنسانيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالتعليم، وحادثة إطلاق سراح أسرى بدر مُقابل تعليم أبناء المسلمين من أروع أمثلة العناية بالتعليم التي شهدتها البشريّة في تاريخها.

د - التأديب:

هو تربية المجتمع على المبادئ الروحيّة والقيم الأخلاقية، وأيّ شيء أجمل من أن يقوم الوالي الشرعي ببناء الذات الإنسانيّة للمجتمع بناءً سليماً يحفظ المسيرة الاجتماعية ويصونها من الانحراف؟ وذلك ببثّ الآداب العامّة الإسلاميّة التي سوف تُعطي مجتمعاً نموذجيّاً أخلاقياً في تعامله وأُلفته وتعاونه.

هذه النقاط الأربعة لو عُدنا ووضّحناها أكثر فأكثر، وطابقناها مع فروع علم الاجتماع الرئيسيّة لوجدناها تتطابق في أهدافها مع تلك الفروع بصورة جليّة وواضحة، حيث نلاحظ:

1 - النصيحة للأُمّة: تندرج ضمن علم الاجتماع السياسي.

2 - المحافظة على بيت المال: تندرج ضمن علم الاجتماع الاقتصادي.

3 - التعليم: يندرج ضمن علم الاجتماعي التعليمي.

4 - التأديب: يندرج ضمن علم الاجتماع الأخلاقي.

فالإمام (عليه السلام) أوضح ضرورة مُراعاة الترابط في الحقوق بين الحاكم والرعيّة بصورة كاملة، والمحافظة على أساس العلاقات الاجتماعية وحالة التجاوب والتعاون بين الجميع.

١٠٣

ونظرة عامّة إلى وظائف علم الاجتماع التي حدّدها العلماء والكتّاب والمُهتمين بهذا الأمر تُوضّح لنا قيمة أفكار الإمام علي (عليه السلام) الحيّة التي طرحناها آنفاً، وهي تُعالج الواقع الاجتماعي من خلال القانون الاجتماعي العام الذي وضعه للعلاقات الاجتماعية بصورة عامّة وتامّة.

وفيما يلي أهمّ وظائف علم الاجتماع كما تُقرّرها أهم الدراسات المُعاصرة:

1 - يحاول عِلم الاجتماع الحديث وضع مورفولوجية (1) خاصّة بالعلاقات الاجتماعية تأخذ على عاتقها تصنيف وتقسيم العلاقات الاجتماعية إلى أنواع أو أشكال مُختلفة، خصوصاً تلك العلاقات التي تأخذ مكانها في مؤسّسات ومنظّمات المجتمع المُختلفة.

2 - يُحاول علم الاجتماع الحديث دراسة العلاقة بين أجزاء وأقسام وعوامل الحياة الاجتماعية، كالعوامل الاقتصادية والسياسيّة والأخلاقيّة والدينيّة، مع دراسة العلاقة بين العناصر الأخلاقيّة، أو العناصر الاقتصادية مع الفكرية.

3 - يُحاول علم الاجتماع الحديث تشخيص الظروف والقوى التي تُسبّب التغيير الاجتماعي والسكون الاجتماعي، وعندما تعتمد العلاقات الاجتماعية على طبيعة الأفراد وهُم في حالة اتّصال الواحد بالآخر أو بالاتصال مع مجتمعهم الكبير، يُحاول علم الاجتماع الوصول إلى قوانين موضوعيّة إيجابيّة قادرة على تفسير الوجود الاجتماعي والكيان الاجتماعي. (2)

____________________

(1) الموروفولوجية: معناها الظواهر التي تتعلّق بِبُنية المجتمع.

(2) بعض نظريّات علم الاجتماع في القرن العشرين - مجلّة كليّة الآداب - العدد 17 - ص35.

١٠٤

ثانياً: حق الوالي على الرعيّة

أ - الوفاء بالبيعة:

أن تبقى الأُمّة على بيعتها للخليفة أو الحاكم، تُخلص له، وتدافع عنه، وتحافظ عليه، وتفي بما قطعته على نفسها من عهود الوفاء معه.

ب - النصيحة في المشهد والمغيب:

إنّ الخليفة ما دام صادقاً مع أُمّته مؤدياً أمانته، فمن حقّه أيضاً أن يصدق معه أبناء الأُمّة، بحيث لا يدور النفاق في أنفسهم في الحضور والغياب، في الشدة والرخاء.

ج - إجابة الدعوة:

حينما يدعوهم الخليفة إلى أمرٍ ما يتخذونه، أو يطلبهم لا تخاذ طريق معين أو ترك عمل مُخالف لإرادة الله ومصلحة عموم الناس، أو تقويم في طبع ما مضرّ بالخلق، يجب أن تكون إجابة الأُمّة سريعة وبدون تباطؤ أو تلكّؤ.

د - تنفيذ الأوامر الصادرة:

إنّ الأُمّة إذا شعرت بمحبّة وليّها وسيرته العادلة، بحيث أدّى حقّ المجتمع، فما عليها حينذاك إلاّ إطاعة الأوامر الصادرة منه والعمل على تنفيذها.

لو تابعنا النقاط الأربعة الأُولى مقابلةً بالنقاط الأربعة الثانية على طاولة البحث الاجتماعي لأفرزنا النتائج الإيجابيّة المُهمّة من هذه العلاقات الاجتماعية العموديّة، ولأُعطت تلك ظواهر اجتماعية نوعيّة ذات أثر بالغ ومُهم في تقدّم مسيرة الإنسان، وبجمع كلّ هذه النقاط نحصل على صورة لأُنموذج اجتماعي صالح وسعيد يعيش أفراد كيانه في رخاء كامل وأمن واستقرار، وهذه في الحقيقة

١٠٥

ليست أفكاراً مثاليّة بعيدة المنال، إنّما هي حقائق موجودة في المجتمعات الإسلامية بالذات، لكنّها مبتورة الأطراف مشلولة اللسان مُبعثرة هنا وهناك، وليس هناك من يجمعها ويُؤلّف بينها، إمّا لوجود ذات إنسانيّة جشعة حاقدة أو لمُصادمتها مع مصالح الحُكّام أو عدم الثقة والاطمئنان من قِبَل الأُمّة بحاكمها، فتبقى تلك المعالم الواقعيّة والصادقة والأساسيّة لبناء المجتمعات رهينة تلك العُقد والمطامع، بل وتبقى في منأى عن التطبيق والمُمارسة بحيث تغيب حالة الوعي والوفاء والإخلاص ويحلّ محلّها الجهل والخيانة، وبالتالي الضرر العام للمجتمع.

إذن؛ فصلاح الأُمّة بصلاح قائدها وسائسها وفسادها بفساده، وإنّ أيّة أُمّة أو مجتمع كبير في أيّ بُقعة إذا كان راعيها مُنحرف المنهج والنفس، لا يهمه أمر أُمّته، يعل بالمنكر والهوى، مبتعداً عن الحق وأهله؛ فإنّ الأُمّة ستتبعه في منهجه وعلى نفس الطريق الذي يؤدّي إلى الانحطاط، وقد قيل (إنّ الناس على دين ملوكهم). وكذلك فإنّ أمر الولاة لا يستقيم ولا يستقرّ إلاّ باستقامة المُجتمع، والعمل على إقامة ومُساعدة الوالي - وقد سبق الكلام عن ذلك - فإنْ حصل التوافق الروحي والمبدئي بين الوالي والرعية، فإنّ الأحوال تسير على أحسن ما يُرام، بحيث تسقط مطامع الأعداء وتحرّكاتهم المُريبة، وهذا ما يُعبّر عنه بالمفهوم الحالي (بمتانة الوضع الداخلي) بحيث يتحدّى القائد أعداء بلده، ويقف بشعبه اتّجاههم مطمئن البال ومستقر الحال، وهذا يُضيف دعماً معنوياً وماديّاً عظيماً إلى القيادة وجيشها، بحيث يقلّ التفكير بوجود رتل خامس في البلاد، الذي ينشأ عادة من الأوضاع السيّئة والسلوك المُنحرف لبعض الأفراد، حيث يسعون إلى تحريك الوضع وإثارة الشَغَب بين الناس نظراً لسوء الأحوال، وعدم استقامة الأمور، وعدم جريان العدل في مجاريه الصحيحة، ثُمّ إرسال المعلومات عن الوضع القائم إلى الأعداء ونشر الأخبار الكاذبة والإشاعات المُفرّقة والمُثبّطة

١٠٦

للعزائم والهِمَم، وهذا كلّه يأتي من عدم أداء الحقوق بين الوالي والرعيّة، وقد بيّن الإمام (عليه السلام) ذلك بصورة أكثر جلاءً ووضوحاً: (وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ، فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَاد ِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ). (1)

بعد أن وضّح الإمام النتائج المُستحصلة من الصورة الإيجابيّة المُثمرة، وبعد أن بيّن الحقوق بين الطرفين في كلام مُفصّل وفي مواضع مُختلفة يستمرّ (عليه السلام) في عرض النتائج المُستحصلة من الصورة السلبيّة في العلاقة التي إن وقعت اختلّ التوازن بين الطرفين، وهذا يحصل حينما تشعر الرعيّة بغبن وظلم الطرف الآخر، حيث تسعى هي الأُخرى إلى غلبة واليها أو التخلّص منه والعبث بالمُقدّرات العامّة وترك العمل بالحقوق، وتصبح العمليّة هُنا ساحة حرب وتسارعاً نحو الأهداف الشيطانيّة بين الوالي ورعيته، عند ذاك تظهر النتائج التالية للصورة أعلاه:

1 - انتشار معالم الجور والظُلم.

2 - كثرة الأُمور التي تُفسد حقيقة وواقع الدين.

3 - ترك المَحجّة البيضاء والطريق الوسطى، أو الانحراف يميناً وشمالاً في

____________________

(1) مصادر النهج، مصدر سابق، ص 114.

١٠٧

طُرق أُخرى.

4 - غلبة الأهواء والرغبات الذاتيّة للنفس الإنسانيّة.

5 - تعطيل أحكام الله والعمل بما لا يُرضي الباري عزّ وجل.

6 - كثرة تَعلّل النفوس بالباطل.

7 - موت الشعور بالمسؤوليّة أزاء المُنكرات، وتعطيل الأحكام إلى الحدّ الذي قد يتجاوز عدم الاستنكار والنفرة فيها إلى الرضا والإقرار.

لقد جعل الإمام (عليه السلام) عمليّة التوازن في العلاقات بين الراعي والرعيّة الأساس المُهمّ الذي يتّكىء عليه الكيان الاجتماعي المُنسجم، الذي تُضمن فيه الحقوق والواجبات بصورة عادلة بين الجانبين، والمقوّمات الحقيقيّة لذلك هو الإيمان والصدق والأمانة.

وهناك صورة أُخرى يُعطيها الإمام علي (عليه السلام) للإمام الحاكم، مسؤولياته وأثره في الحالة الاجتماعية، هذه الصورة حين نضعها إلى جنب ما قدّمناه نقف على نسقٍ متجانس ومنهجيّة رائعة في التنظيم الاجتماعي.

ففي الخُطبة الأولى أعطى الإمام علي (عليه السلام) معالم الحقوق المفروضة على الراعي والرعيّة اتجاه بعضهم البعض، ثُمّ أعطى النتائج التي سوف تترتّب حتماً على توفّر هذه الحقوق أو على إهدارها، كاشفاً عن عُمق الرؤية في السُنن التاريخية وفلسفته السياسيّة المدنيّة..، ثُمّ جاءت الخُطبة الأُخرى بتفسير مُفصّل لطبيعة وأصناف الحقوق المفروضة على كلّ من طرفي المُعادلة الاجتماعية، وقد عكست عن حالة تامّة بوظائف علم الاجتماع.

والآن نورد كلامه في دور الإمام العادل والإمام الجائر في المجتمع، وهو قسّم من كلمته التاريخية مع عثمان بن عفّان حين شكاه الناس والتمسوا من علي (عليه السلام) مُخاطبته واستعتابه، فكان ممّا قال: (... فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً،

١٠٨

وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ، لَهَا أَعْلامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَهَا أَعْلامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً. وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، ثُمّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا). (1)

ثُمّ يعطي الإمام (عليه السلام) العلاج التام لتلك الأمراض والأخطاء التي تترك أثارها على المجتمع بصورة عامّة، وكيان الدولة كذلك، فيقول (عليه السلام):

(فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ..، وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ.

وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلا امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ).

فالتناصح والتعاون هُما مطلبان أساسيّان لحياة الناس والسلطة القائمة، والإنسان مهما قام وقعد وبذل جهده وحرص على عمل الخير واجتهد فيه من أجل رضاء الله، فهو لم يبلغ ولا يستطيع أن يُدرك (حقيقة ما الله أهله من الطاعة له).

إذن؛ الواجب من الحقوق الإلهيّة هوالنصيحة بآخر جهد مع التعاون من أجل إقامة العدل والحق بين الناس، لا يتعالى عن ذلك ذو مقام لمقامه، ولا يعتذر صغير لصِغره.

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح، ص 235.

١٠٩

١١٠

الفصلُ الثّاني

الحَرب والِسلم

والمُجتمعات الإنسانيّة

١١١

١١٢

لقد كَتب الكثير من عُلماء التاريخ والفلسفة والاجتماع والجغرافيّة عن أثر الحُروب في الكيانات الاجتماعية ووجودها، وقام البعض من الفلاسفة بطرح نظريّاتهم الفكريّة حول الوجود الاجتماعي ككل، والإنسان بصورة خاصّة وارتباطات ذلك بالحرب والسلم.

وهل للمجتمعات البشريّة دورات حضاريّة تتكرّر دائماً بنمط مُعيّن واحد، أم حتميّة تاريخية، اقتصادية، أو نفسيّة، أو مثاليّة، أو تحدّي واستجابة، أم ديالكتيك حسب قانون التناقض، أم أنّ أصل ذلك كما جاء في نظريّة (الصراع من أجل البقاء) أو البقاء للأصلح الدارونيّة، أو (التعاقد الاجتماعي) لهوبزولوك وروسو، أم غير ذلك؟

إنّ كلّ تلك نظريّات من بنات أفكار البشر، وإنّ لهذا الكون سُنناً إلهيّة موضوعة من قبل الباري عزّ وجل، وإنّ أول البشر هو آدم (عليه السلام)، وإنّ أوّل حربٍ شرعت بين المخلوقات هي الحرب النفسيّة العقائديّة التي قادها إبليس: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمّ لآتِيَنّهُم مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) . (1)

ثُمّ كان صراع قابيل وهابيل وقتل أحدهما الآخر، ولكن ليست بالصورة

____________________

(1) سورة الأعراف: الآية 16 و17.

١١٣

التي طرحها توينبي، كما ذكرها الوردي في كتابه، حيث قال: (يميل بعض الباحثين بأنّ قصّة آدم التي ورد ذكرها في الكُتب المُقدّسة ليست سوى قصّة رمزيّة...، وخلاصة القول أنّ آدم وزوجته حوّاء كانا يعيشان في جنّة عدن مُنعّمين، ثُمّ عصيا ربّهما بتحريض من الشيطان.. فطردهما الله من الجنّة، حيث صارا يكسبان قوتهما عن طريق الكَدح وعَرَق الجبين، ورزقهما الله بعد ذلك وَلَدَين هُما: هابيل وقابيل، فاتخذ هابيل بين مهنة الرعي بينما اتخذ قابيل مهنة الزراعة، وجرى بين الأخوين نزاع فقتل قابيل أخاه هابيل، ومن الباحثين الذين عنوا بهذه القصّة: المؤرّخ الذي أشرنا إليه (توينبي)، فكان من رأيه أنّ جنّة عدن التي عاش فيها آدم وزوجته قبل سقوطهما، تُمثّل الحالة المطمئنة التي كان البشر يعيشون فيها قبل انحسار العصر الجليدي، أمّا النزاع بين هابيل وقابيل، فيُمثّل الصراع الذي حدث بعدئذٍ بين البداوة والحضارة). (1)

وبعضهم طرح أفكاره بصورة خياليّة غير واقعيّة، أو تفسيرات ماديّة وما شابه ذلك.

وأقول: لقد تكوّنت المُجتمعات وازدادت الحاجات وبُنيت المُدن والدول وبُعث الله الأنبياء مُبشّرين ومُنذرين، فبدأ هنا الصراع بين قوى الحق وقوى الضلال، بين الأنبياء وأتباعهم المُخلصين، والطواغيت وجلاوزتهم المغرورين، وهذا القرآن الكريم يستعرض التاريخ البشري بصورة كاملة وصادقة، وقد أعطى بل وضع بين يدي الإنسان القوانين الكونيّة، وبقي على الإنسان أن يستخرج ما ينفعه، ويكتشف العِلل والأسباب لكل حادث وحَدَث ليحصل على الصورة الواضحة التي تُساهم في استقراره وطمأنينته، إلاّ أنّ الإنسان كان ظلوماً جهولاً،

____________________

(1) دراسة في طبيعة المُجتمع العراقي ص25.

١١٤

وإلاّ لسارت المُجتمعات على هُداها في طريقها المُستقيم، إنّ وراء الصراع الدامي أطماعاً بشريّة وأنانيّات ذاتيّة، وتعصّبات قوميّة، بل حتى في أحيان كثيرة التعصّب الديني للفكرة الاعتقادية التي سار عليها الآباء والأجداد رغم ظهور الأنبياء والرُسل: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنْتَ مِنَ الْصّادِقِينَ ) . (1)

التَعصّب ونشوء الحرب

إنّ التعصّب يأخذه عِدّة مناحٍ: منها الديني، أو السياسي، أو العشائري، أو القومي، أو الشخصي، وهذه قضيّة اجتماعية نفسية مُتأصّلة في نفوس البشرية منذ أن خُلقت وتكوّنت، والتعصّبات بأنواعها هي السبب لنشوب الحروب والغزوات، و(اعلم أنّ الحروب وأنواع المُقاتلة لم تزل واقعةً في الخليقة مُنذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصّب لكل منها أهل عصبيّته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام والأُخرى تُدافع كانت الحرب، وهو أمرٌ طبيعي في البشر لا تخلو عنه أُمّةٌ، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومُنافسةٌ، وإمّا عُدوانٌ، وإمّا غضب لله ولدينه، وإمّا غضب للمُلك وسعيٌ في تمهيده..، فالأول: أكثر ما يجري بين القبائل المُتجاورة والعشائر المتناظرة. والثاني وهو العدوان: أكثر ما يكون بين الأُمم الوحشيّة، الساكنين بالقفر، كالعرب والتُرك والتُركمان والأكراد وأشباههم؛ لأنّهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ودمائهم، فيما بأيدي غيرهم ومَن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك، وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب على ما

____________________

(1) سورة الأعراف: الآية 70.

١١٥

في أيديهم. والثالث: هو المُسمّى في الشريعة بالجِهاد. والرابع: هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها. فهذه أربعة أصناف من الحُروب، الصنفان الأولان منها حُروب بغيٍ وفتنة، والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل). (1)

هذا رأي ابن خلدون في عصره، أمّا في عصرنا، فكانت أهمّ أسباب الحروب: الأطماع، والتوسّع، والدوافع السياسيّة والقوميّة، واتّخذت شكلاً آخر في الفترات المُتأخّرة، فيما يُسمّى بحروب النيابة أو لوقف نفوذ فكري أو ديني وأسباب أُخرى مُتعدّدة.

الصراعات والتطوّر

هناك مَن يقول: إنّه لولا الحروب لما تطورت البشريّة ووصلت إلى هذه المرحلة من التقدّم التقني، إذ الحاجة هي أُم الاختراع، والحروب قد كشفت دائماً عن مواضع النقص في الحاجات الضروريّة لإدارة ماكنة الحرب وعجلة الاقتصاد، فيرى هؤلاء المفكرون أنّه لولا الحروب العالميّة العُظمى الأخيرة لما ترقّى فنّ الطيران بهذه السُرعة التي ترقّى بها، بل لاستغرق ارتقاؤه نصف قرن على الأقل.

وهناك أُمور كثيرة أحدثتها هذه الحرب، كتحسّن فنّ الجراحة، واختراع الكثير من المواد والأدوات ووسائل استغلال المادّة والطاقة، التي أصبحت بعد الحرب تُستخدم اقتصاديّاً وصناعيّاً، كالغوص في البحار، وبعض مكائن الحرب التي يُرجى أن تنفع في مجال الزراعة والصناعات على الأقل.

____________________

(1) مُقدّمة ابن خلدون، الفصل السابع والثلاثون ص270 مؤسسة الأعلمي - بيروت.

١١٦

وهكذا تكون الحرب من العناصر الفعّالة في تقدّم الحضارة والمدنيّة أحيانا، وهي ضرورة اجتماعيّة أحياناً تتمخض عن تحقيق نِسَب أفضل من التوازن الأُمَمي، ويشاهد الإنسان أثرها حتى في توازن الكون، ولولا التصادم الموجود في عالم الحيوان والإنسان لتعطّلت سُنّة الكون، ولتعطّل العمران، وتأخّرت البشريّة: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (1) ؛ لأنّ الناس والجماعات مُختلفو المصالح والأغراض والمآرب، فهُم يعملون متناهضين متعارضين، وعلى تعبير الرياضيّين الميكانيكيّين: يتحرّكون متقاطعين، وفي هذه الحالة يتصادمون، وتصادمهم ينتهي بتدمير بعض أنظمتهم فإذا لم يكن ثمّة وسيلة لكبح جماح القوّة الاجتماعية المُتفوّقة أو الزائدة حتى تتوازن مع غيرها كانت النتيجة دماراً للاجتماع.

إذن، يجب أن يكون في روح الاجتماع ما يُسيطر على تلك القوى الاجتماعية المُعتركة، ويدر بها في سبيل التوازن حتى تستقر في نظام، هو (العقل الاجتماعي)، فالارتقاء في التمدّن يسلتزم هذا التغيير في الأنظمة، وتنقيحها أو إبدالها بأنظمة أكثر موافقة للحالة التمدنيّة التي يتّجه إليها المُجتمع في نُموّه، إذن؛ اعتراك القوى مُفيد للاجتماع البشري ولازم له. (2)

إنّ هذا الأمر ليس أساساً يؤخذ به على أنّه لولا الحروب في الكُرة الأرضية لما تبدّلت الأنظمة أو صلح أمرها أو تطوّرت من النواحي الماديّة، إنّ ذلك يُخالف الاجتماع العام والتوافق الأُممي على العيش، إلاّ بالظرف الذي يستحدثه الطُغاة.

فرسول الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسل في بداية دعوته رسائل السلام والوئام إلى قادة دول العالم الرئيسيّة آنذاك، الروم والفُرس والأقباط والأحباش، إن لم

____________________

(1) سورة البقرة: الآية 251.

(2) انظر: الراعي والرعية ص109.

١١٧

ينزعوا من فكرة الشرك فإنّ عليهم آثامهم وآثام شعوبهم التي يُضلّونها عن طريق الهدى. حتى أذن الله له بقتال المشركين والكفّار لتثبيت ونشر مبادئ الإسلام وإحقاق الحقّ وإنقاذ الأُمم من الظُلم المخيّم على العالم آنذاك.

وحدّد الإسلام أنواع الجهاد، وفيها أحكام فقهية مُختلفة لسنا بصدد بحثها، إلاّ أنّه على العموم لم يكن الجهاد المعني في الإسلام هو الحروب والقتال والغزو والسيطرة كما هو الأمر لدى الامبراطوريّات والدول السابقة، إنّما هو رسالة الحريّة والسلام والخلاص من الظلم والعبوديّة، بإذن وأمر من الباري عزّ وجل لإطباق المبادئ الحقّة على العالم.

فالسيف كان مع القرآن، لا مع دوافع الاستبداد والتوسّع، والدين لا يُؤخذ على حين غرّة.

لقد فُتحت البلدان وعاش الكثير من أهلها أديانهم السابقة في رعاية المسلمين، وسُمّوا بأهل الذمة مقابل دفع الجزية التي تعفيهم من مهمّات الحرب ومن حقّ الزكاة الذي يُؤدّيه المسلمون.

إذن، معنى التدافع ليس بالضرورة أن يكون التصادم والحرب، إنّما المعنى في ذلك هو صراع الحقّ مع الباطل والدفاع عن الحق، وهناك آية شريفة تُدلل على هذا المعنى: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ ) . (1)

وقد ذكر السيّد الطباطائي في الميزان أنّ الآية في مقام الإشارة إلى حقيقة يتّكىء عليها الاجتماع الإنساني الذي به عمارة الأرض، وباختلافه يختلّ العمران وتفسد الأرض، وهي غريزة الاستخدام الذي جُبل عليه الإنسان،

____________________

(1) سورة الحج: الآية 40.

١١٨

وتأديتها إلى التصالح في المنافع، أعني التمدّن والاجتماع التعاوني، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه وأُصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي، لكنّه مع ذلك هو السبب القريب الذي تقوم عليه عِمارة الأرض ومصونيتها عن الفساد، فينبغي أن تُحمل الآية التي تُريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه، لا على ما ذُكر من القاعدتين - التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي - وبعبارة أُخرى واضحة: إنّ هاتين توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الوحدة، فإنّ كُلاً من المُتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر، وضمّ ما لَهُ من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد أن يكون الواحد الباقي منهما أقواهما وأمثلهما، فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدّلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر يُنافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة، الذي يطلبه الإنسان بفطرته، ويهتدي إليه بغريزته، وبه عمارة الأرض، بهذا النوع لا إفناء قوم منه قوماً، وأكل بعضهم بعضاً، والدفع الذي تعمر به الأرض وتُصان عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع والاتّحاد المستقر على الكثرة والجماعة، دون الدفع الذي يدعو الى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المُفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض وعدم فسادها، من حيث أنّه تحيى به حقوق اجتماعية حيويّة لقوم مستهلكين مستذلّين، لا من حيث يتشتّت به الجمع وتهلك به العين ويُمحى به الأثر. (1)

فليس الهدف إذن من وراء الحروب هو تقدّم فنّ الجراحة والاختراعات العلميّة والاستخدامات التقنية العالية، إنّما الهدف هو الوصول إلى تحقيق العدالة

____________________

(1) الطباطبائي - السيد محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن - المجلّد الثاني - ص 305، مؤسّسة الأعلمي.

١١٩

والسعادة للبشريّة بوجود هذا التدافع، لا كما يُفلسفه الماديّون.

فالبشريّة حين استقرّت وابتعدت عن الحروب بعض الشيء توجّهت عقول علمائها وأبنائها إلى كشف حقائق مجاهيل الكون، وتطوّرت العُلوم الطبّية والهندسيّة والقانونيّة والصناعيّة، واستخدمت الذرّة لألغراض الأنسانيّة، والاستخدامات الكومبيرتريّة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية وغير ذلك. في حين أنّ المجتمعات التي لا تزال تعيش في دوّامة الحرب لم يُصبها التطوّر الجِدّي والسريع.

فالإنسان حينما خُلق لم يخُلق من أجل أن يتصارع ويتقاتل مع أخيه الإنسان. حتى أنّ الله سبحانه وتعالى قال: ( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) . (1)

فبينما نرى مجتمعاً يندفع قُدماً في بناء حضارة مُتجدّده، لا يزال هناك مجتمعاً لم يتقدّم بعد بفعل الدمار الذي تُخلّفه الحروب المُتعاقبة عليه.

نعم، قد تكون ظاهرة الحروب بين بني البشر مُحفّزاً نحو التكامل والاستعداد الشامل لمتطلبات الحياة، ودفع عدوان مُحتمل الوقوع، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: ( وَأَعِدّوا لَهُم مَااستَطَعْتُم مِن قُوّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ) . (2)

وقد قال بعض أهل الفكر أنّه إذا أردّت أن تعيش بسلام فعليك أن تستعدّ للحرب، والكلام واضح هنا، أي: أن تكون قويّاً مُهاب الجانب؛ فلا يجترئ عليك عدوٌّ باغٍ.

____________________

(1) سورة الحجرات: الآية 13.

(2) سورة الأنفال: الآية 60.

١٢٠