في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 55583
تحميل: 8642

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55583 / تحميل: 8642
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالحرب في الإسلام لم تكن يوماً سبيلاً إلى نموّ اقتصادي أو تطوّر تقني يُرتجى من ورائها، إنّما هي إحدى اثنتين: إمّا وقاية من عدوّ ودفاع عن الكيان، وأمّا سبيل إلى نشر الهدى والعدل.

فأمّا حرب الوقاية والدفاع، فالأمر فيها لا يحتاج إلى بيان، وأمّا حرب الهجوم، ففي منهاجها الذي يُعبّر عنه دائماً أول بياناتها، ما يكفي للإجابة على كل الأسئلة، كما أنّ فيه ما يطلّ بِنا من جديد على البُعد الاجتماعي المبرز في اهتمامات الفكر الإسلامي، وذلك المنهاج الذي وضعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقّنه أُمراء سراياه، فإذا ما بعث جيشاً فاتحاً قال لقائده: (وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعُهم إلى إحدى خصال ثلاث، فأيّتهن ما أجابوك إليها، فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثُمّ اُدعُهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأنّ عليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوا أن يتخلّوا منها فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حُكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلاّ أن يُجاهدوا مع المسلمين، فإنْ هُم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، فإن أبوا، فاستعن بالله وقاتلهم). (1)

ولمّا غزا سلمان الفارسي المشركين من أهل فارس قال: كُفوّا حتى أدعوهم كما كُنت أسمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدعوهم، فأتاهم، فقال: إنّا ندعوكم إلى الإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم مثل ما علينا، وإن أبيتم فأعطونا الجزية، وإن أبيتم قاتلناكم، فدعاهم كذلك ثلاثاً فأبوا عليه، وقال للناس: انهدّوا لقتالهم. (2)

____________________

(1) الراعي والرعيّة ص114.

(2) نفس المصدر السابق ص114.

١٢١

ومع عليّ (عليه السلام)

كان الإمام علي (عليه السلام) يهتمّ بموضوع (الإعذار).

والإعذار: هو إيضاح الأمر لدى الخصم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بيّنة.

هذه العناية المؤكّدة في البُعد الاجتماعي نجدها عند علي (عليه السلام) في أكبر مصاديقها إشراقاً، وأكثر نماذجها إحكاماً، فرغم كونه القائد الحقّ، ورغم كونه المبدوء دائماً بالحرب، رغم ذلك فإنّه لا يواجه عُدواناً بالسيف حتّى يبدأ بالوعظ والنُصح والإرشاد، ويُحاجج من جَيّش الجيوش عليه وأقبل بالإثم والعدوان اليه.

وها هو (عليه السلام) قد أقبل إلى البصرة مع جيشه حتى نزلوا بالموضع المعروف بالزاوية، فصلّى أربع ركعات، وعفّر خدّيه على التراب، وقد خالط ذلك دموعه، ثُمّ رفع يديه يدعو: (اللّهمّ ربّ السماوات وما أظلّت، والأرض وما أقلّت، وربّ العرش العظيم، هذه البصرة وأسألك من خيرها، وأعوذ بك من شرّها، اللّهمّ أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المُنزلين، اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي، وبغوا علَيّ، ونكثوا بيعتي، اللّهمّ احقن دماء المسلمين). وبعث إليهم من يُناشدهم الله في الدماء، وقال: (علامَ تُقاتلونني؟) فأبوا إلاّ الحرب! فبعث إليهم رجلاً من أصحابه، يُقال له مسلم، معه مصحف، يدعوهم إلى الله، فرموه بسهم فقتلوه، فحُمل إلى علي، وقالت أُمه:

يا ربّ إنّ مسلماً أتاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضّبوا من دمه لحاهم

وأُمّه قائمة تراهم

وخاطب طلحة والزبير بنفسه، وبالغ في الوعظ والتذكير، فأصّر طلحة على الحرب فيما عاد الزبير إلى صوابه، وأدرك حقّ عليّ (عليه السلام)، فأقسم أن لا يُقابله،

١٢٢

لكن سرعان ما صرفه ابنه عبد الله ورجع به عن... يمينه!

وأمر عليّ (عليه السلام) أن يصافّوهم، ولا يبدؤوهم بقتال، ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخٍ له مقتول، وجاء قوم من المسيرة برجل قد رُمي بسهم فقُتل، فقال علي (عليه السلام): (اللّهمّ اشهد، وأعذروا إلى القوم).

ومع ذلك لم تكن هذه آخر مساعيه في حقن الدماء، فبعث إليهم عبد الله بن عباس، فأبلغ في الحجّة والبيان، لكنّهم أبو إلاّ الحرب، فتأمّل علي (عليه السلام) في عمّار بن ياسر سبيلاً إلى السلام ودرء الحرب، لعلّهم يذكرون قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمار: (تقتلك الفئة الباغية). (1)

فقام عمار بن ياسر بين الصفّين فنادى: (أيّها الناس، ما أنصفتم نبيّكم حين كففتم عقائلكم في الخدور وأبرزتم عقيلته للسيوف)! وعائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب، قد ألبسوه المسوح وجلود البقر، وجعلوا دونه اللبود، وقد غشي على ذلك بالدروع، فدنا عمار من موضعها، فنادى: إلى ماذا تدعين؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان، فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحقّ، ثُمّ قال: أيّها الناس، إنّكم لتعلمون أيّنا الممالئ في قتل عثمان! ثُمّ أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبل:

فمنك البكاء ومنك العويل

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقاتله عندنا مَنْ أمر

وتواتر عليه الرمي واتّصل، فحرّك فرسه وزال عن موضعه، وأتى علياً

____________________

(1) طي - الدكتور محمد - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم - ص148، الطبعة الثانية - 1417هـ - 1997م.

١٢٣

فقال: ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين وليس لك عند القوم إلاّ الحرب؟! (1)

وتلك رسائله المُتعدّدة إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى العودة عن غيّه في رسائل تترى، حتى إذا يئس منه دعاه إلى البراز وترك الناس حفظاً لدمائهم: (وَقَدْ دَعَوْتَ إلى الْحَرْبِ، فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ، وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ، لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ، وَالْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي، وَبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي، مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً، وَلا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً، وَإِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ، وَدَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ) (2) .

حتى وصل (عليه السلام) إلى حالة التعبئة العامّة للجيش ثُمّ التقابل مع العدو، أي: بين جيش الإمام (عليه السلام) وجيش معاوية بن ابي سفيان، قال عند ذاك الإمام (عليه السلام): (لا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلا تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلا تُصِيبُوا مُعْوِراً، وَلا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ...). (3)

وإذا أصر الخصم على مواقعه الخاطئة عند ذلك كان الإمام (عليه السلام) يرى أنّ الحرب لا بدّ واقعة، والمواقف الخاطئة التي يراها الإمام مسوّغة للحرب تتلخّص باثنتين (4) :

الأوّل: أن يدّعي امرؤ ما ليس له.

____________________

(1) اُنظر: مروج الذهب - المجلّد الثاني - ص261.

(2) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح ص 370.

(3) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 373.

(4) شرح نهج البلاغة م2، ج9، ص 503.

١٢٤

والثاني: أن يمنع الذي عليه، في ظل الحكومة الشرعيّة بطبيعة الحال. (1)

إذن، الحرب ليست هدفا عند الإمام علي (عليه السلام)، إنّما الاجتماع والتعاون والتعايش السلمي هو الهدف...، والدفاع عن الدين ورايته هي ليست دعوة إلى الحرب وتأجيج نارها، إنّما هي إصلاح واقع الهيكل الاجتماعي وتطبيق الشريعة ورسم الصورة الصحيحة للمسيرة البشرية في حياتها ودحر الباغي على الدين وأهله، فإنّه لا يمكن الإغضاء عنه والابتعاد منه وتركه في غيّه يصول ويجول، وإنّه اذا ما تمادى في ذلك فإنّه سيسعى فساداً في الأرض ويُهلك الحرث والنسل، وهذا ما حدث فعلاً من خلال غارات جيش معاوية على القُرى والنواحي والمُدن في أطراف الدولة الإسلامية، حينما انخدع فريق بحيلة معاوية في رفع المصاحف، ونكصَ عن حربه، وما أفعال بسر بن أرطأة - أحد قادة معاوية - إلاّ شاهد واضح على ذلك، حيث قام هذا الذنب بالتقتيل وتشريد وسلب النساء وذبح الأطفال على صدور أُمهاتهم، كما فعل مع أطفال عبيد الله بن العباس والي الإمام علي (عليه السلام) على اليمن.

وإذا ما راجعنا عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر نجد هذا النص: (وَلا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَأَمْناً لِبِلادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ) (2) ، فالقبول بالدعوة إلى الصلح والسِلم هي نابعة من حبّ عليّ (عليه السلام) إلى الحق والعدالة، (وصاحب هذا التوجه في تاريخ العرب لا بدّ له أن يكون محبّاً للسلم كارهاً للقتال، إلاّ إذا كان القتال ضرورةً اجتماعية وإنسانية،

____________________

(1) الإمام علي ومشكلة نظام الحُكم ص 150.

(2) نصّ عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر.

١٢٥

وحبّه للمسلم إنّما كان نتيجةً منطقية محتومة لمعنى المجتمع لديه، ولِما قاده إليه العقل والتجربة من إدراك هول الحروب ومقدار ما تسيء إلى الغالب والمغلوب من أبناء آدم وحوّاء، ولابن أبي طالب في هذا المجال موقفٌ جليلٌ آخذٌ من العقل والقلب والشرف جميعاً، ونحن لا نغالي إذا قلنا أنّ دعوة ابن أبي طالب للسلم كمبدأ عام، كانت منعطفاً إلى الخير في تاريخ العرب الذين كان حبّ القتال شريعةً لهم في الجاهلية أنكرها النبيّ وأنكرها العاقلون، وحبّ السِلم في القرآن من عمل الله، وحبّ القتال لغير سبب معقول من عمل الشيطان، وفي سورة البقرة: ( يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً وَلاَ تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيَطانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ ) ... أما أروع ما في هذا المبدأ الذي كشف عنه ابن أبي طالب دون عنتٍ ودون إجهاد، فهو أنّ هذه الثورية الدافعة إلى التطور أبداً، إنّما هي ثورية خيّرة تنقل البشر أبداً من حال إلى حال أفضل.

وقد سبق لنا وقلنا أنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً ومعنى، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود كلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنّها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن أبي طالب، سنّة طبيعيّة لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

غير أنّ الإنسان قادر على أن يفهم هذه الحقيقة، فيُساعد الطبيعة في مُهمّتها الثوريّة الكبرى، فيفيد من الزمن وينجو من خطر المعارضة لناموس الحياة. أمّا إذا وقف في طريق هذا التطوّر أن يعوقه أو يحوّل مجراه، فإنّه خاسرٌ إذ ذاك مسحوقٌ بعجلة الحياة السائرة إلى أمام). (1)

____________________

(1) جرداق - جورج - الإمام علي صوت العدالة الإنسانيّة - المُجلد الخامس، ص 94 دار مكتبة الحياة.

١٢٦

الصُلح والسِلم

إنّ سفك الدماء واستدامته في وجود الدعوة إلى الصُلح الجاد وعدم البغي على دين الله تعالى - في حقيقة الأمر - غير مقبول عند الإمام (عليه السلام). ويضيف الإمام علي (عليه السلام): أنّ في الصلح رضا لله واستراحة للجند، ثُمّ راحةً من الهموم التي تشغل فكر القائد بأمر الحرب، وتأخذ منه ومن وقته مأخذاً كبيراً، وهي قبل ذلك كلّه أمنٌ للبلاد واستقرارٌ للمجتمع، استقرار يُهيئ له فُرص التكامل والنموّ، ثُمّ لا يترك الأمر بهذه الصورة ولم يجلب نظر الوالي إلى القضايا الأخرى التي ترتبط بالصلح والأمن، فهو يُحذر من غدر العدو واستعداده، وإعادة تنظيم قوّاته وتشكيلاته العسكرية والتسلّح من جديد ليُبادر بالضربة الأُولى التي ربما تُنهي الأمر وتأخذ بزمام المبادرة، ثُمّ قد يكون هذا العدو يستخدم صلحه غطاءً لعمل غادر كبير بعد إن يلتف عليك غفلة ويستغل حالة التراخي الموجود بفعل حالة السِلم، حيث قال (عليه السلام): (وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ). (1)

العُقود والعُهود

إنّ مسألة عقد الاتّفاقيّات وإبراهما أو إعطاء العُهود للخصم في وقت الحرب عند علي (عليهالسلام) هي من المسائل المهمّة التي لا تراجع فيها، حيث يمضي (عليه السلام) في وصل حلقات منهاجه القويم في ظروف الحرب، فيقول: (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ

____________________

(1) نص عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر.

١٢٧

عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إلى مَنَعَتِهِ وَيَسْتَفِيضُونَ إلى جِوَارِهِ، فَلا إِدْغَالَ وَلا مُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ). (1)

إذن، احفظ العهد الذي أعطيته بالوفاء، وارعَ الذمّة بالأمانة، (ثُمّ إنّ الناس لم يجتمعوا على فريضة من فرائض الله أشدّ من اجتماعهم على تعظيم الوفاء بالعهود، مع تَفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم، حتى أنّ المشركين التزموا الوفاء فيما بينهم، فأولى أن يلتزمه المسلمون). (2)

وفي كتاب الله تعالى نقرأ آيات مُتعدّدة بهذا الشأن: ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) (3) ، ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً ) (4) ، ( وَالّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) . (5)

ثُمّ إنّ هؤلاء قد عرفوا أنّ الغدر يعود عليهم وبالاً (وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ)، أي: لا تخن عهدك وتنكث، (وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ) من باب المخاتلة، أي المكر

____________________

(1) نص عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر.

(2) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده - ج3 ص106.

(3) سورة البقرة: الآية 177.

(4) سورة الإسراء: الآية 34.

(5) سورة المؤمنون: الآية 8.

١٢٨

والخداع.

ثُمّ (فَلا إِدْغَالَ وَلا مُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ) معناه: لا إفساد ولا خيانة ولا خداع، فهي ثلاث من الصفات الذميمة التي تستنزل غضب الله تعالى، وتقود إلى تفكك عُرى الكيان الاجتماعي، لينحدر حتماً في مسار التدني الحضاري.

ثُمّ يتطرق الإمام (عليه السلام) إلى المواثيق السياسية والديبلوماسيّة بعُرفنا الحالي، وضمن حالة الحرب والسِلم والاتفاقات المتعلّقة بها، حيث يقول: (وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إلى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلا آخِرَتَكَ). (1)

فإذا تعلّل المعاقد لك بعلّةٍ قد تطرأ على الكلام وطلب شيئاً لا يوافق ما أكّدته وأخذت عليه الميثاق، فلا تعوّل عليه، وكذلك لو رأيت ثقلاً في التزام العهد، فلا تركن إلى لحن القول لتتملّص منه، فخذ بأصرح الوجوه لك وعليك. (2)

هذه هي مفاهيم الإسلام العظيمة، فالأمانة والعهد والوفاء والصدق هي مفاهيم أكّدها الإسلام طريقاً إلى سعادة البشرية وتكاملها.

وإنّ المرء ليقف مذهولاً بحقٍّ أمام عظمة هذا الرجل المُلهَم وهو يُفصّل في ذلك الزمان البعيد أرقى نُظم الحرب والسلم وشروط المعاهدات الدوليّة.

إنّ الذي يُدرّس اليوم في أعلى المراحل الجامعية، والمعاهد الديبلوماسية

____________________

(1) نص عهد الإمام (عليه السلام) للاشتر.

(2) اُنظر: نهج البلاغة شرح محمد عبده ج3 ص107.

١٢٩

كقانون حقوقي وسياسي ثابت في العلاقات الدوليّة، وتعتمده الأُمم المتّحدة أو المنظمات الدوليّة الأُخرى في إبرام المعاهدات والاتفاقات الدوليّة لم يتخطّ هذه المواد التي فصلّها الإمام (عليه السلام).

خذ مثلاً على ذلك، المعاهدات والاتفاقيّات المعقودة بين دولتين أو أكثر بسبب نزاع حدودي، أو صراع على جرف قاري، أو حول كيفية استغلال منابع وثروات معدنيّة مُشتركة - تقع ضمن الحدود الفاصلة بين البلدين - أو تحديد طبيعة استغلال تلك الثروات النفطيّة أو الغازية بفعل تأثير عمليات السحب في هذا الجانب أو ذاك، أو بفعل تدخلات في الشؤون الداخليّة للبلد الآخر، والتي غالباً ما تؤدّي إلى حرب أو صراع دولي، لأجل الحصول على موطئ قدم أو تشكيل مناطق نفوذ دوليّة... هذه المعاهدات أخذ العالم المُعاصر يحتاط في تدوينها خشيةً من وقوع فرص التعلّل بما قد يعتري بعض ألفاظها من إبهام.

فغالباً ما تلجأ الدول إلى كتابة هذه المواثيق بلغات مُختلفة، فيكتب مثلا نصّ المعاهدة بلسان البلدين وبلغةٍ واضحة، ثُمّ يُضيفون لغة ثالثة عالمية يتفقون عليها تُعتبر كمرجع أساس في حالات تباين التفسيرات في مواد الاتّفاق، ويكتب ذلك في الملاحق القانونية للمُعاهدة، أي: يعتمدون على النص الذي اتّفقوا عليه كمرجع لتفسير النصوص واعتماد ذلك المرجع وتثبيته، ورغم ذلك فهناك تحايل والتفاف وتلاعب بمعاني الكلمات، واستخدام التورية بحيث تحتمل الكلمة عدّة معانٍ لغرض التهرّب من الالتزامات التي وافقت ووَقّعت عليها الدولة، وما أكثر ما يحدث هذا في عالمنا المعاصر، ولهذا تسعى الدول إلى استخدام أذكى وأقدر الخبراء والسياسيّين في تثبيت النصوص وتدقيقها؛ حتى لا تقع في المزالق القانونيّة والسياسيّة في عصر المكر والخداع وانعدام المبادئ في العلاقات العامّة.

١٣٠

وهذا ما أكّده الإمام علي (عليه السلام) قبل مئات السنين، وحذّر من الوقوع في مداخله (ولا تعقد عقدا تجوز فيه العِلل)، كذلك يطلب (عليه السلام) أن لا يستخدم لحن القول كملاذ للهروب من الالتزام والمواثيق، هذا هو منهج علي (عليه السلام). وما أكثر ما يتمنّى المرء لو أنّ المجتمعات البشريّة سارت على هداه ومنهجه لتتجنّب السقوط والدمار والخراب العام في الحضارة، وبالتالي خسارة الإنسان لِما بنى وما بذل من جهد في سبيل الرقي والمدنيّة، بفعل نقض عهد، أو تهوّر سلطان، أو اعتداء أثيم، أو غزو في ليلة ظلماء وما شابه ذلك.

ثُمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على أنّ صبر الوالي على الضيق الذي لحقه من العهد، وتحمل ذلك على أمل الانفراج في العُقد والمشاكل التي أحاطت به هو خير وأفضل من غضب الله وعدم رضاه في حالة الغدر ونقض العهود والمواثيق.

إنّ هذا الكلام يحمل في طيّاته أعلى القيّم وأرقى المفاهيم الأخلاقية في التعامل الإنساني، يحمل قيمة الإنسان معه وإنسانيّته التي دمّرها المتوحّشون في عصرنا الحالي، يحمل معه روحاً عالمية الآفاق، بعيدةً كلّ البُعد عن الضيق والانغلاق الحضاري والفكري، وبعيدةً أيضاً عن القيم الزائفة، من غدرٍ وكذبٍ ونكثٍ واحتيال، والتي جرّت إلى ويلات الحروب والصراع الذي أكل من البشرية ما لا يُعدّ ولا يُحصى من ذلك المخلوق الذي كرّمه الله تعالى وهو الإنسان، ومن تلك الطبيعة التي خلقها الله تعالى للإنسان لكي يتمتّع بنِعمها ويستغلّ مواردها في سبيل راحته ويُعمّرها من أجل سعادته.

لكنّ هذا - كما تأكّد سلفاً - لا يمنع من التأهب والاستعداد لمواجهة الطوارئ المُحتملة، فالإسلام لم يمنع ذلك، بل أقرّه.

فالحرب ليست هدفاً بحدّ ذاتها، إنّما هي وسيلة للدفاع عن الدين والجهاد في سبيل إعلاء راية الحق. وهذا عليّ (عليه السلام) يُدير الحرب والسلام معاً، الحرب لأنّه

١٣١

اضطر إليها بعد أن أتمّ الحجّة، فهي للدفاع عن دين الله وهيبته ومبادئه السامية التي حاول الطامعون والمنافقون والمُضلّلون اختراقها.

أُنموذج من معاهداته (عليه السلام)

بعد أن رضي (عليه السلام) مضطرّاً بعقد الهدنة مع معاوية، وخرج عليه أولئك الذين انخدعوا بخدعة معاوية أولاً تحت شعار: (لا حُكم إلاّ لله)، زاعمين أنّه (عليه السلام) قد حَكّم الرجال في كتاب الله، نهض إليهم يُعرّفهم منهجه في المُعاهدة بعد أن أبطل شُبهتهم ضارباً مثلاً آخر في هذا الميدان، فقال: (إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ، هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.

وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إلى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) ، فَرَدُّهُ إلى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إلى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ، فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلاهُمْ بِهَا.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ وَتَنْقَادَ لأَوَّلِ الْغَيِّ، إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ). (1)

____________________

(1) نهج البلاغة تحقيق د. صبحي الصالح ص182.

١٣٢

فالإمام يأمل أن يُصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأُمّة، فربما تبيّن الحق لبعض مَن جهل وانحرف، فهو يؤكّد على إنّه لم يكن الطرف المتولّي عن القرآن، ثُمّ استمع إليه وهو يُخطط لعقد الهدنة الذي اضطرّه إليه هؤلاء أنفسهم، فيقول:

(فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَخُذُوا مَهَلَ الأَيَّامِ وَحُوطُوا قَوَاصِيَ الإسلام، أَلاَ تَرَوْنَ إلى بِلادِكُمْ تُغْزَى وَإلى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى ?!)

لاحظ الهمّ الأكبر للإمام (عليه السلام)، فأطراف البلاد الإسلاميّة أضحت تُغزى من قِبَل أعداء الإسلام المُتلبّسين به، وتُنتهب أموالها ويُقتل رجالها وتُسبى نساؤها. إنّها العناية الكُبرى بأمن المجتمع الإسلامي والدفاع عنه، هذا هو الهمّ الأكبر، وليس محاربة طائفة باغية بحدّ ذاتها هي الهم.

القتلُ وسَفكُ الدِماء

مسألة القتل أو سفك الدماء بدون حقّ هي من المسائل المُهمّة التي تناولها الإمام (عليه السلام)؛ لِما لها من آثار سلبيّة خاصّة على المجتمع والدولة، وتناول هذا الأمر باهتمام لِما قد يقع فيه الوُلاة من أخطاء تؤدّي إلى سفك الدماء بغير حق. وقد يحدث للوالي أثناء تأديبه لأحد أفراد المجتمع أن يقتله بدون قصد سابق، والشريعة حدّدت أبواب القتل للمُجرمين. أمّا أن يكون إسراف في القتل بما لا يرضاه الله والإمام فإنّه حرامٌ؛ لأنّه في غير محلّه، ولهذا أوصى الإمام (عليه السلام) بذلك: (إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَلا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَلا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ، وَلا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَلا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ

١٣٣

لأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ.

وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إلى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ). (1)

إنّه ليس شيء أدعى إلى حلول النِقم، وزوال النعم، وانتقال الدّول، من سفك الدم الحرام، وإنّك إن ظننت أنّك تُقوّي سلطانك بذلك، فليس الأمر كما ظننت، بل تُضعفه، وتعدمه بشكلٍ كامل،

إذن، حياة الدول والحكومات لا تدوم بسفك الدماء، وخصوصاً دماء الأبرياء، بل إنّ ذلك ممّا يوهنها ويُفتّت وحدة كيانها..

هذا في الواقع المُعاش مع المجتمع، أمّا مع الله فذلك شيء آخر، فلا عُذر له أمام الباري عزّ وجل في القتل العمد.

إنّ السبب في طرح هذه الأمور بشواهدها وتنوّعها هو أنّ العمليّة الاجتماعيّة كلٌ مُترابط، إذ لا يمكن أن تدرس قضيّة مجتمع أو يُخطَط لبناء مستقبل إلاّ بدراسة كافة الجوانب المُتعلّقة بحياة المُجتمع؛ حتى يكون القانون واحداً متكاملاً غير منقوص في جوانب أُخرى. لذا فإنّ الإمام علي (عليه السلام) دخل في أدقّ تفاصيل الحياة وارتباطاتها؛ لكي يكون بناء المجتمع بناءً سليماً تامّاً ليس فيه عيب أو نقص.

____________________

(1) نص ّ عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر.

١٣٤

الباب ُالثّالث

المُجْتمع

بصورة عامّة

١٣٥

١٣٦

الفصل ُالأوّل

بناء ُالذّاتِالإنسانيّة

وفق الم َعايير الإسلاميّة

١٣٧

١٣٨

لو قمت بقراءة أفكار الإمام علي (عليه السلام) من خلال دراسة نهج البلاغة لاقتنعت بأنّ العامل أو المحور الرئيس الذي تدور حوله اهتمامات الإمام (عليه السلام) هو بناء المجتمع ككلٍ، وبناء الذات الإنسانيّة، وهذا إنّما يكشف عن تمثّلٍ تامٍّ لحقيقة أنّ صلاح المجتمع هو شرط استقراره الأمني ونموّه المُطّرد، وأنّ صلاح المجتمع موقوف على صلاح أفراده.. إنّها الرؤية الصادقة والواضحة للمُعادلات الاجتماعيّة ولطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع، العلاقة التي تحفظ الاثنين معاً وتقرّ لكلٍ بدوره الحقيقي الكامل، هذه العلاقة التي تفرّعت من حولها نظريات الاجتماع المُعاصر، فبين مُصدّقٍ ومُدافع متسلّح بالأدلّة الواقعيّة، وبين متحيّزٍ إلى هذا أو ذاك من طَرفي المُعادلة، فينفي وجود الفرد وأثره بالكليّة ليجعله ذرّةً حملها السيل الجارف المُتمثّل بالمُجتمع، أو يضع الفرد موضع المُتفرّد في التأثير بكلّ المُعادلات الاجتماعية ويُلغي أيّ دور للكيان الاجتماعي في توجيه الحياة في حاضرها ومستقبلها.

فهناك بعض علماء الاجتماع يدورون حول محور بناء الذات والأخلاق، ويُؤكّدون على القيم الأخلاقيّة في حفظ النَسق الاجتماعي، ولكن لم يضعوا لنا منهجاً واضحاً عن كيفيّة نشر هذه القيم بين المجتمع والمُحافظة عليها، وما هو الشيء الذي يُمسك الناس للأخذ بها والسير على هُداها إذا طغت (الأنا) على فكره وعمله، بحيث تسحق حقّ الجماعة الذين يُكوّنون المُجتمع.

١٣٩

وهذا نموذج لآراء واحدٍ من العُلماء البارزين كما طرحه الدكتور زيدان في كتابه، حيث قال: (وعرض كونت للنظريات الاقتصادية ونقدها جميعا كما عرض النواحى الأخلاقيّة، بل طالبَ بقيام (عِم الأخلاق) غايته كشف القوانين الأخلاقيّة لأهمّيتها من الناحية الاجتماعية، غير أنّ قيام عِلم الأخلاق يتطلّب أوّلاً:

قيام علم الاجتماع الوضعي لكي يغذّيه بمبادئه العامّة ومادّة بحثه ومنهاجه. والموضوعات الأساسيّة التي يُعالجها.

وكانت الأخلاق التي ينشدها هي: الأخلاق المُستمدَّة من الديانة المسيحيّة، ولاسيّما مبدأ (عش لغيرك) الذي يؤدّي إلى الشعور بالمُشاركات الوجدانيّة بين مُختلف الأفراد والطبقات، وقد تصدّى كونت في محاضراته عن الفلسفة الوضعيّة للأسلام والمسيحيّة، وأوضح أنّ كُلاًّ من الديانتين لم تصل بالعلم إلى الحقيقة الوضعيّة التي تقوم على أساس عِلمي، وطالب المسلمين والمسيحين ولا سيما أتباع المذهب الكاثولوكي - أن يأخذوا بديانته الجديدة (ديانة الأنسانيّة) ومبدؤها الحبّ وأساسها النظام، وغايتها التَقدّم، وهذه الديانة هي التي تجعل من الإنسانيّة جمعاء (الإله الذي يجب أن نُقدّسه).

ومن هذا نرى أنّ فكرة (الإنسانيّة لدى كونت) تَحلّ مَحلّ فكرة (الله)، غير أنّ فشله في استيعاب وإقناع الآخرين بتلك القضيّة الخاسرة أدّى به إلى الوقوع ضحيّة المَرض العقلي في أُخريات أيّامه، الأمر الذي دفعه إلى ترك الحُريّة للناس للإيمان بالأديان السماويّة أو بدينه المُقترح). (1)

ومن خلال قراءتنا لمذهب أوجيست كونت نُلاحظ مدى التخبّط العشوائي الذي عاش معه هذا الفيلسوف، فهو يتهرّب أساساً من الديانات السماويّة، ثُمّ يستمدّ منها المعونة بالأخذ ببعض قيمها الأخلاقية، ثُمّ يعتمد اعتماداً

____________________

(1) التفكير الاجتماعي - نشأته وتطو ّ ره - ص 325.

١٤٠