في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)10%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57975 / تحميل: 9404
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مباشراً على الوجدان كمحرّك عملي للتطبيق الأخلاقي فقط دون التوضيح والإشارة إلى مَن يُحرّك هذا الوجدان ويدفعه إلى تبنّي الحقيقة والواقع والإنصاف، وإذا كان الضمير ميتاً فمَن الذي يُحييه؟ ثُمّ يطرح دينه الجديد تحت اسم (ديانة الإنسانيّة) لتحلّ محلّ واجب الوجود وخالق الكون، ليسحق بذلك أطول تاريخ دينيٍّ اجتماعي أخلاقي وسياسي في الوجود، وهو تاريخ الأنبياء من أوّلهم آدم (عليه السلام) إلى خاتمهم نبيّ الهُدى سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ليعطينا نظريّته هذه التي حكم عليها التاريخ بالتقهقر والانزواء إلى حيث انزوى الكثير من تُراث الإنسانيّة البائس، الذي يتجاهل التركيب الإنساني والاجتماعي والكوني.

ولا يخفى ما للبُعد الأُخروي من أثر فعّال في إصلاح الفرد والمجتمع معاً، فكيف استثمر الإمام علي (عليه السلام) هذا البُعد في تحقيق أهدافه في الإصلاح؟ لنقف عند واحدة من بياناته على هذا الصعيد: (أَلا وَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ وَالْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ، وَإِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) ، وَقَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ، ثُمّ لا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَلا تَبْتَدِعُوا فِيهَا وَلا تُخَالِفُوا عَنْهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (١)

وهكذا نكتشف أنّ العَمَد الأهم الذي يقوم على تلك القاعدة النظريّة المُتقدّمة هو البُعد الأُخروي، وأنّ البُعد الأُخروي إنّما يتحدّد في الاستقامة على نهج الكتاب والسنّة، شريعة مالك الدار الآخرة والقاضي فيها بسُلطانه...

لقد

____________________

(١) نهج البلاغة تحقيق د. صبحي الصالح ص٢٥٣.

١٤١

قُلتم (ربنا الله) فاعلموا أنّ لهذا القول تَبِعةً هي الاستقامة على شريعة الله، هدى كتابه وسُنّة رسوله الأمين خاتم الرُسل والنبيّين (عليهم السلام).

القُرآن أوّلاً

يأتي القرآن في المرتبة الأُولى في سبيل تحقيق هذه الوظيفة: (وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى.

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلالُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ.

فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ (٢) ). (٣)

____________________

(١) اللأواء: الشِدّة. (محمّد عبده).

(٢) (استغشوا أهواءكم): أي: ظنّوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن. (محمد عبده).

(٣) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص ٢٥٢.

١٤٢

إذن، القرآن هو المنجي، فقد أعطانا القوانين والسُنن التي ننفذ من خلالها إلى ساحة الرحمة والسُمو والرفعة والتقدّم والازدهار (وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى)، فمَن يتمسّك به وتزوّد من زاده فلا فقرَ يخشى ولا حاجة إلى هادٍ غيره، وفوق ذلك ينبغي أن يُعلَم أنّه ليس وراء القرآن غنىً.

إنّه لَبَلسَم لكلّ جُرح عميق، فـ (اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ)، وليس جراح الروح وحدها، بل جراحات الدنيا ومُعادلاتها.

الحالةُ الأخطر

ومع الذات الإنسانيّة بنحو أكثر تحديداً، حيث يستمرّ الإمام علي (عليه السلام) في كلامه:

(ثُمّ إِيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ الأَخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا (١) ، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً، وَلْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ، وَاللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ.

وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ؛ لأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ، لا يَدْرِي مَاذَا لَهُ وَمَاذَا عَلَيْهِ، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله): لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ

____________________

(١) تهزيع الشيء: تكسيره، فالصادق إذا كَذِب فقد انكسر صِدقه، والكريم إذا لَؤم فقد انثلم لُؤمه، فهو نهي عن حطم الكمال بمعول النقص. وتصريف الأخلاق: التَلوّن بها. (اُنظر محمد عبده / شرح النهج: ٩٣.

١٤٣

قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ). (١)

إنّه الفيصل الأعظم بين الصدق والوضوح وبين النفاق، ذلك الداء الذي ليس في الأدواء أشدّ منّه خطراً على بناء الذات الإنسانيّة، وعلى بناء الكيان الاجتماعي. إنّه الداء الذي يستحقّ من مهندس الإصلاح الاجتماعي وقفةً أُخرى، بل وقفات: (أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ، قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَمُؤَكِّدُو الْبَلاءِ وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ، لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَإلى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ، إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا، قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً وَلِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً وَلِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَلِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً، يَتَوَصَّلُونَ إلى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَيُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاقَهُمْ، يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ، قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَحُمَةُ النِّيرَانِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ). (٢)

____________________

(١) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص ٢٥٣.

(٢) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص ٣٠٧ خطبة ١٩٤.

١٤٤

ذلك هو الداء الاجتماي الوخيم بكل خِصاله، أُولئك هُم أهله بكلّ مزاياهم، فهل ترك هذا البُنيان لمتعلّلٍ حجّة، أم ترك شيئاً من شُعَب النفاق المؤديّة إلى تفسّخ الذات واندام المُجتمع لم يكشف عنها النِقاب ويرسم من حولها حُدودها الحمراء؟

الخَطَرُ الكَبيرُ الجادّ لزُمَرِ النِفاقِ

ففي رسالةٍ له إلى أهل مصر، أرسلها مع محمّد بن أبي بكر رحمه الله، يقول (عليه السلام): (إنّي لا أخافُ عليكم مؤمناً ولا مُشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المُشرك فيحجزه الله عنكم بشركه، ولكنّي أخاف عليكم من المنافق، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تُنكرون). (١)

إذن، الدواء اللازم لهذا المرض والتحصين التام من هؤلاء كيف ينجز؟ وكيف يتخلّص الإنسان من شرّهم ودورهم المُخرّب؟

إنّ القضايا كلّها مُترابطة الواحدة بالأُخرى في حياة المُجتمعات، بحيث لا تستطيع أن تبني أساساً متيناً في جانب وتترك الجانب الآخر يُبنى من التراب أو الرمل. إذ لا يُعقل أن يقوم جدار ولا بناء مُتكامل مُتراصّ مُهندَسٍ يصلح للسُكنى والعيش فيه على أساسٍ هشٍّ. فالإمام (عليه السلام) حينما أعطى هذه الحقائق عن تلك الفئة الضالّة والمُضلّة دلّل على عبقريّةٍ فذّهٍ ونادرةٍ، لأنّه لا يُمكن لأيّ عالم كان لو أعدّ مُختلف الدراسات التطبيقيّة على المجتمعات أن بحصل على مِثل هذه النتائج عن هذا المَرض الاجتماعي المُخرّب والمُدمّر، الذي لو سرى في مُجتمع ما لانهار ذلك المُجتمع بما تُفرزه هذه الفئة من الناس من مخاطر عظيمة على الحياة العامّة.

____________________

(١) نهج السعادة، نفس المصدر السابق، ص ١٢١.

١٤٥

وإذا كان للمُنافق هذه الخطورة الكبيرة، فما بالك به إذا حدّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وكان حديثه عن صاحب الرسالة سهباً، مًنمّق لفظه، خبيثاً هدفه، يُضلّ بمعناه مَن سمعه، ولا يهدي إلاّ إلى طريق الشيطان والعدوان، يُبعّد الناس عن أهل الخير والرحمة وأهل الصدق والمعرفة؛ إرضاءً للحكّام الذين وظفوّهم لبثّ الفرقة بين أتباع المِلّة الواحدة، أو اتباعاً لهوى، أو رغبة في المال والسلطان وبغضاً لدين الرحمان، وحقداً وحسداً لأهل بيت النُبوّة (عليهم السلام)!

فكم من رجل ربما أسهب في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو (رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالإِسْلامِ، لا يَتَأَثَّمُ وَلا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَلَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إلى أَئِمَّةِ الضَّلالَةِ وَالدُّعَاةِ إلى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ؛ فَوَلَّوْهُمُ الأَعْمَالَ وَجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ). (١)

هؤلاء المنافقون أظهروا إيمانهم سِلعَة يرتزقون بها، تَصنّعوا بالإسلام كأنّهم أهل الدين المُخلصون له، الحافظون لمبادئه، لا خوف من الله يمنعهم، ولا حرج في أنفسهم، إنّهم ارتكبوا أفضع الآثام حين حرّفوا كلام النبي الأمين، وقد أحسن الظنّ بضلالتهم خَلقٌ كثيرٌ، ولو علموا بكذبهم ودَجَلهم ونفاقهم لانتقموا منهم ولم يأخذوا شيئاً عنهم أو يقبلوا حديثاً لهم، إلاّ أنّهم أوهموا الناس بنفاقهم هذا فقبل

____________________

(١) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص ٣٢٥.

١٤٦

منهم مَن فاتته الحِكمة والبصيرة.

ذلك الخطر الماحق الذي يتسبّب به المنافقون هو الذي يُفسّر لنا السّر في قوله تعالى: ( إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ ) (١) تجمعهم مع الكافرين لَعنة الآخرة.

( وَعَدَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) . (٢)

وفي الدنيا أيضاً تجمعهم مع الكافرين أحكامٌ ( يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . (٣)

ثُمّ بعد ذلك لهم على الكافرين مَزيّة في سوء حظٍ وبئس مُنقلَب: ( إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ ) . (٤)

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير

ممّا يُلفت النَظر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الجُملة الأخيرة منه (وإنّما الناس مع المُلوك والدُنيا، إلاّ مَن عَصم الله).

وكأنّ هذا هو مبدأ أساس أو جزء مُهمّ من الظواهر الاجتماعية على الكُرة الأرضيّة، يا ترى هل أنّ الناس دائماً مع المُلوك وحبّ الدنيا والتساقط على الدنانير؟ وما هى أسباب ذلك؟ هل الدولة أم السلطان أم الايدلوجيا ذات تأثير مباشر على هذا السلوك الخاطئ؟ وما هو العلاج إذن؟

____________________

(١) سورة النساء: الآية ١٤٥.

(٢) سورة التوبة: الآية ٦٨.

(٣) سورة التحريم: الآية ٩.

(٤) سورة النساء: الآية ١٤٥.

١٤٧

إنّ تأثير الدولة الصالحة والدولة المُفسدة على المجتمع هي من حقائق الأمور الظاهرة، هذا فى الواقع العملي، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى دراسة وتحقيق لمعرفة جذوره، كما أنّ له صِلة وثيقة في معرفة العوامل التي تؤدّي بالدولة إلى الصلاح أو إلى الفساد.

إنّ التاريخ يُحدّثنا عن حياة الأُمم التي مضت والحضارات التي قامت واندثرت، فيُبيّن لنا سيرة المُلوك والحكّام، وأثرها السلبي أو الإيجابي على حياة ومسيرة وتطوّر المُجتمعات.

فلننظُر إلى أُمّة على رأسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائداً وموجهاً ومُقنّناً وراسماً للمنهج الذي يستنير به الناس، ومُربّياً يسعى ليلاً ونهاراً باذلاً جهده لبناء مجتمع سليم قوي تسوده العدالة والسعادة والرفاهية. إنّها الصور الرائعة التى تجذبنا وتهزّنا من الأعماق، وتُجدّد فينا الحياة، وتبعث فينا الطمأنينة والاستقرار لبناء المستقبل الزاهر على ما سَنّه واختطّه رسول الإنسانيّة، فالكلّ على عِلم بالسيرة النبويّة الطاهرة، وبذلك المجتمع المدني الإسلامي الذي عاش في ظِلّه الفقير سعيداً ومُكرماً، وفيه من مراتب الإيثار والتضحية والمؤاخاة ما تَحلُم به النفوس، بل ذلك الصبر والتحمّل وهوان النفس اتّجاه الدين هو من علاماته أيضاً، والاندفاع اللامُتناهي نحو الشهادة والموت في سبيل الله من أجل الحقّ والمبدأ القويم، ومن شواهده ذاك المجاهد عمر بن الحمام - أخوبني سلمة - حينما سمعَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُحرّض الناس على القتال، حيث قال: (والذي نفس محمّد بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابراً مُحتسباً، مقبلاً غير مُدبر، إلاّ أدخله الله الجنّة)، فقال عُمر بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء! ثُمّ قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتّى قُتل (١) ، هذا المجتمع الذي بناه القائد العظيم والإمام الهادي

____________________

(١) ابن هشام - السيرة النبويّة - المجلد ١ - ٢ - ص ٦٢٧ - دار المعرفة، بيروت.

١٤٨

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لكن مع أمثال هذه الصورة وممّا لا يُمكن حصره على شاكلتها، وهذا التماسك الاجتماعي فإنّ ذلك لا يمنع من وجود منافق هُنا وهناك في قلبه مرض، في هذا الجانب أو ذاك وقد تأصّل في قلبه الجَشَع وحُبّ الدنيا، إلاّ أنّ الأعم الأغلب هُم حَمَلة الرسالة الّذين نشروا مبادءها في كلّ البقاع، وهم المَثَل الذي يُضرَب به في السُلوك الإنساني القويم والخُلُق الرفيع.

إنّ الشعوب إذا ما تهيأت لها الأسباب من قيادة رائدة تجعل من الذات الإنسانيّة التائهة حقيقة أخلاقيّة لها دورها الحقيقي في ترابط المُجتمع وحفظ جمعه وِفق المبادئ العادلة السليمة تكون في مستوى أخلاقي رائع تغمرها السعادة والاطمئنان.

إنّ مِثلَ هذه القيادة وهذه الأُمّة ستكون في المقدّمة بالنسبة للشعوب الأُخرى، وعلى العكس من ذلك تكون أُمّة يقودها فرعون طاغية يستخفّ بقومه ويقهرهم على طاعته، بل على تصديق ضلالاته والدفاع عنها.

إنّها أُمّة يصعب أن تُذعِن لبُرهان حقٍّ، أو تستفيق من طغيان ظُلم واستهتار، حتى وهي تبصر الآيات والدلائل البيّنة، فلا استوقفتها هزيمة السَحَرة وإذعانهم لمُعجزات موسى، ولا استفاقت لآيات العذاب والرُعب في الضفادع والقُمَّل والجراد والدم، وحتى انغلاق البحر لقوم موسى لم يُحرّك في ضمائرهم نزعة التَحرّر من ذلّ العبوديّة والخنوع!

الشورى وقَبول الرأي وموضع ذلك لدى الحاكم

حينما أصبح علي (عليه السلام) خليفةً للمسلمين احتجّ طلحة والزبير بعد البيعة على عليّ (عليه السلام) لعدم مشورتهما والاستعانة بهما واشراكهما في الحُكم، فأجابهما

١٤٩

أمير المؤمنين (عليه السلام):

(فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إلى كِتَابِ اللَّهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلى رَأْيِكُمَا وَلا رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَلا عَنْ غَيْرِكُمَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأُسْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَلا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمَا وَاللَّهِ عِنْدِي وَلا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى.

أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إلى الْحَقِّ وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ). (١)

إنّه المبدأ الذي سار عليه علي (عليه السلام) لم يتغيّر حتى حينما عَرض عليه عبد الرحمان بن عوف أمر الخلافة بعد مقتل الخليفة الثاني، لم يُساوم، ولم يتّبع منهجاً مُلتوياً لكي يستحوذ على الحُكم، فأجاب ابن عوف: فأمّا كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنعم، وأمّا سيرة غيره ممَن سَبقه فلا، وكذلك فالأمر واحد عندما أجاب طلحة والزبير بنفس ذلك الكلام.

حتى أنّ عبد الله بن عباس أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه قال له (عليه السلام): (لك أن تُشير علَيّ وأرى، فإن عصيتك فأطعني). (٢)

فالإمام (عليه السلام) لم يكن يرفض المشورة أو المُناقشة في الأُمور، بل كان يحثّ على ذلك، ولكن ليس بصيغة تحميل الرأي المُخالف للشريعة الإسلاميّة على الإمام الحق.

____________________

(١) نهج البلاغة - تحقيق د. صحبي الصالح ص ٣٢٢.

١٥٠

ثُمّ إنّ رجلاً كعليٍّ (عليه السلام) عاش مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صِغَره، ومع الرسالة صباه وشبابه، كاتب للوحي، أقضى المسلمين كلّهم، وأبلغَ رجالاتهم كلاماً، وأعلمهم بأسرار الرسالة، لم يكن يخفى عليه أمرٌ ما، أو تستعصي عليه مسألةٌ مُتعلّقة بمُجمَل الشريعة المُحمّدية حيث يقول: (ولا وقع حُكمٌ جهلتُه فأستشيركما وإخواني من المسلمين)، فالباب مفتوح وضمن إطاره المُحدّد، الذي رسمه عليه (عليه السلام) في قوله هذا: (رحم الله رجلاً رأى حقّاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحقّ على صاحبه). (١)

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٣٢٢.

١٥١

١٥٢

الفَصلُ الثّاني

الطريقُ الأمثَل

١٥٣

١٥٤

حقائق ثابتة

إنّ محور كلام الإمام (عليه السلام) يدور حول العمل مع المُجتمع من خلال تطبيق الحقّ والعدالة، وتسيير أُموره وِفق ما حدّدته الشريعة الإسلاميّة، فكان هَمّهُ ووصاياه يندرج في هذا الأمر.

ولهذا نجد أنّ أغلب كُتُب الإمام فيها تذكير أو توبيخ أو تقريع أو وصايا اجتماعية وغير ذلك، والدفاع هو حماية رعيّته، وأغلبها لها علاقة خاصّة بالمجتمع وتحوّلاته وأعماله ومُراعاته والرفق به ومساعدته في الظروف الصعبة التي تستوجب ذلك.

فالفكر الذي يحمله (عليه السلام) هو فكر إسلاميّ إنساني، والترابط وثيق بين الإسلام والإنسان والحق والعدالة، والمساواة هي من سُنن القرآن وشريعة محمّد (عليه السلام)، ومن أجل ذلك أرسل الله الأنبياء والرُسل مُبشّرين ومُنذرين، وعليٌّ (عليه السلام) صورةٌ صادقةٌ للوعي الرسالي والتطبيق العادل والشامل لكلّ مفاهيم القرآن على المجتمع، بل البشرية جمعاء. فرسالة عليٍّ (عليه السلام) هي رسالة الإسلام والقرآن إلى الإنسانيّة، ولهذا نجد الروح الإنسانيّة العالية في نفس عليٍّ (عليه السلام) تدور معه حيثما دار كدوران الحقّ معه.

إذن، فالسِمات البارزة والرئيسيّة في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي رفع شأن الدين ورضاء الله، ورضاء الله لا يتمّ إلاّ برضاء عيال الله، ونبذ كلّ ما هو ضدّ تَقدّم البشريّة وحُريّتها وسعادتها، ونُلاحظ من خلال

١٥٥

ذلك أنّ المفاهيم العامّة التي يحملها سيّد المُوحّدين، والتي طبّقها على نفسه وأهله قبل تطبيقها على غيره، هي التي جذبت النفوس وجعلته رمزاً خالداً على مَرّ الدُهور.

فالثورة الفرنسيّة التي ما زال العالم الغربي يتبجّح بأهدافها الإنسانية وعلى أنّها من بنات أفكارهم، وأنّ فلاسفتها أعطوا معنىً لحياة الإنسان من خلال شعار (حرية - عدل - مُساواة) نجد أنّ هذا الشعار هو جُزء من المبادئ الإسلاميّة التي أعلنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهي بكلّ ما حوت من قِيَم إنسانيّة طرحها الإمام علي (عليه السلام) قبلهم بمئات السِنين.

فلنأخذ بأيدي هؤلاء، ونفتح أذهانهم على الصور الواقعيّة التطبيقيّة في تُراثنا الإسلامي المجيد، من عقيدة مُتكاملة تامّة وفِكر عظيم ثاقب، ونُريهم ماذا أعطى الإسلام من مفاهيم خالدة، وما هي سيرة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وما هو فكر عليّ (عليه السلام)؟ وما تضمّنته رسائله وكتبه بشأن ذلك؟ إلاّ أنّ الذي يَحزّ في النفوس، ويخلق الآهات والحسرات في الصدور هو ضياع الإسلام بين أهله، وتعلّق الآخرين بمبادئه والاستفادة منها تحت عناوين مُختلفة.

العَملُ الصالح والآخرة

انتقل إمامنا (عليه السلام) في رسالته إلى فدك التي سُلبت وأُخذت من فاطمة بنت النبي (سلام الله عليهما) غصباً وظُلماً، تلك الأرض التي أعطاها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ابنته فاطمة (ع) في حياته، وما أن تُوفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحلّ أبو بكر الصديق كخليفة للمسلمين بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في حادثة السقيفة المشهورة، والمذكورة في جميع كُتب التاريخ ومصادره (راجع: الطبري وابن الأثير

١٥٦

والمسعودي وغيرهم في كُتبهم المعروفة) أخذها أبو بكر من فاطمة (عليها السلام)، وحدث ما حدث في تلك الأيّام، حينما طالبت سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) بحقّها ورفضَ طلبها وزجرت في حينها حتى وفاتها (عليها السلام)، وبقوا أبناء عليّ وفاطمة يُطالبون بها حتى أعادها الخليفة الأُموي عُمر بن عبد العزيز إليهم، ثُمّ انتزعها يزيد بن عبد الملك من أولاد فاطمة، فصارت في أيدي بني مروان (١) .

فالإمام يتحدّث عن ذلك الأمر ويذكر أنّ أبا بكر قد سلبها ولم يُعيدها، (وسخت عنها نفوس آخرين) أي نفوس بني هاشم، ثُمّ ينتهى من ذلك ويقول: (ونِعمَ الحَكَم الله)، فماذا أصنع بفدك وغيرها إذا كانت النفس غداً في ذلك المكان المُظلم مُستقرّ لها، ثُمّ يصف بتلك الصور الرائعة الحالة التي يكون فيها الإنسان بعد موته في قبره الذي حتى لوزيد في سعته وقام حُفّاره بإضافةٍ فسحةٍ جديدة إلى حجمه السابق، فإنّ الحَجَر والمَدر سوف يضغط عليه، ويسدّ كلّ شيء بالتراب المُتراكم، ثُمّ يعود ويذكر كيف روّض نفسه وذلّلها بتقوى الله، حتى يكون أمناً في ذلك اليوم العظيم، يوم يُنفخ في الصور فتخرج الأموات من أجداثها لتُلاقي أعمالها، فمَن اتقى الله وعمل صالحا في دُنياه فقد اجتنب المزلق، ومَن أساء لنفسه وحبط عمله في دنياه فلا عبور له على الصراط المستقيم، والنار والعذاب مقرّه والمُستقر.

إذن، أليس من حقّنا أن نفتخر بواضع الحقائق التاريخيّة والاجتماعية ومُجسّد العقيدة الإسلاميّة بصورتها الواقعية، برجلٍ عاش فأعطى وطرح فأغنى وترك ففاز.

____________________

(١) راجع كتاب فدك في التاريخ - للسيد محمد باقر الصدر - تحقيق الدكتور عبد الجبّار شرارة - إصدارات مركز الغدير للدارسات الإسلاميّة.

١٥٧

المواساة المِثاليّة

هناك مَن يبغي الدنيا وزينتها، فيعيش سعيداً في مَلذّاتها وهو ينظر آلاف الجِياع والمَعوزين يتضورّون جوعاً، يُقاسون الآلام ويعيشون المآساة بكلّ معانيها، وكأنّ هذا لا يعنيه، وهناك أيضاً مَن رفض هذه الدينا وعاش مع الناس حياتهم، يواسيهم أحوالهم المُختلفة، وهذا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مِثال رائع للحالة الثانية، ورسالته لابن حنيف تُعطي أبعاد ذلك، حيث قال:

(وَلَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إلى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إلى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلالَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ) (١) .

وهذا واضح في بيانه على أنّه قادر على أن يتمتّع بكلّ ما وهبته الأرض من طعام ولباس وبِناء وغير ذلك، لكنّه يؤكّد وبشدّة (هيهات) أن يغلبه هواه

____________________

(١) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص ٤١٧.

١٥٨

ويقوده حرصه إلى اختيار الطعام وتصنيفه لنفسه، وهذا لا يكون لإمام الأُمّة مثل علي (عليه السلام).

ويضيف على أنّه قد يكون في الحِجاز أو اليمامة مَن لا يأكل الطعام ولا يوجد لديه رغيف الخُبر وأنّه لم يشبع ولا يعرف الشبع من وطأة الفاقة والعوز والفقر، إذن، كيف ينام خليفة المسلمين مُمتلئ البطن وفي أطراف عاصمته ومملكته بُطون مطويّة لا تنام من شدّة الجوع والعطش؟! فكيف يكون هذا؟! ويؤكّد أنّه: كيف يُقنع نفسه بأن يُقال له أمير المؤمنين ولا يُشارك الناس في حياتهم ومشاكلهم، ولا يكون لهم أُسوةٌ في خشونة العيش؟ ثُمّ يردّد إنّه لم يُخلق لكي ينشغل باختيار لذائذ الطعام كالبهيمة (همّها علفها)، أو التي تبحث في القُمامة، بحيث تهتمّ بملء كرشها الذي يشغلها عن عملها.

إنّه يحمل معنى الإنسانيّة في ذاته، وطبّقها عَمليّاً في حياته، إذا قلتَ أُسوةً حسنةً فقط، فقد تعود وتُعطي صفةً أعظم من ذلك، فلو قارنت عيشه (عليه السلام) مع حياة الحاكمين من بني أُميّة وبني العبّاس ممَّن يُطلقون على أنفسهم لقب أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين لاتّضح الفارق بشكلٍ جليٍّ وواضح، فأيّ مؤمنين هؤلاء أُمراؤهم؟! وأيّ مسلمين هؤلاء خُلفاؤهم؟! لقد سحقوا وقتلوا الإيمان وأهله، وداسوا على كرامة أهل الإسلام، وبقت للإيمان والإسلام صور يزينون بها دولتهم ويتزهدون بها وقت حاجاتهم. عُد إلى كُتب التاريخ واقرأ ما شئت من فضائح وانتهاك للحرمات، بل وفساد وجوع وعطش وقحط وبلاء وفقر في أيّام هؤلاء السلاطين الذين استحوذوا على ما ليس لهم. أين هؤلاء وأين ما أعطاه من نفسه هذا الرجل الخالد - عليّ (عليه السلام) - الذي كان باستطاعته أن يَعيش كغيره وأكثر كسلطانٍ حاكمٍ، وليس كإمامٍ للأُمّة بكامل المعنى؟! أين أُولئك الذين عاثوا في الأرض فساداً وقهروا الأُمّة بشتّى الوسائل ليعيشوا هُم عيشة الترف المُنقطع

١٥٩

النظير في القصور الزاهية والحدائق والغناء وأكواز الخُمور والآلاف من الجواري الحِسان والغُلمان والعبيد، وحولهم أكواخ الفُقراء التي لا تقي أهلها حرّ صيفٍ ولا قرّ شتاءٍ، يتحسّرون على لُقمة العيش ليسدّوا بها أفواه صغارهم، وبعد ذلك وصلوا ببلاد الإسلام العظيمة التي صنعها محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليٌّ (عليه السلام) والأوائل من المخلصين والمضحّين، إلى الدمار والخراب الشامل، وتشرذم البلاد وتفتّتها، وانتهت دولهم ولو بعد حين؛ لأنّهم ساروا بالناس بالظُلم والعدوان، فقد انتهت دولهم بعد أن انغمسوا في الملذّات، وتركوا الأُمّة تتلضّى تحت سياط الجلاّد، وامتداد السيف على رقابها وقطع الرؤوس، ونهب الأموال بشتّى الحُجَج والادعاءات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بالإضافة إلى حُكم الجواري والغُلمان والغانايت، حيث (كانت أموال الدولة تُنفق على قصور الخُلفاء والأمراء وملاهيهم، وعلى عُمّال الدولة الموالين، وكان هؤلاء في دورهم يُنفقونها أكياساً على المُقرّبين والأتباع والجواري والخصيان. والخُلفاء والأمراء والعُمّال هُم طبقة المجتمع العبّاسي الأول من حيث اليسر، تليهم فيه طبقة التجّار، أمّا عامّة الشعب، فلهم البؤس والدمار والموت المُهين). (١)

وهذه صورة تاريخيّة لوجه من وجوه الخلافة والإمارة، إنّه الأمين بن هارون الرشيد حينما آلت اليه السَلطنة، وأصبح يُلّقب (بأمير المؤمنين) زوراً وبهتاناً، لاحظ ما وصلت أليه الحالة في عهده، فقد (استلزمت العادة في بيوت السادة الكبراء عند الدول الشرقيّة وفي الدولة الرومانيّة أن تُهيّأ هذه البيوتات بالخصيان، وقد حَرّم الإسلام ذلك، وشدّد القرآن وشدّدت السُنّة في تحريم خصاء الإنسان أو البهائم، ووكّل لواليّ الحبشة أن يمنع ذلك، ويُؤدّب عليه،

____________________

(١) الإمام علي صوت العدالة الإنسانيّة - م ٥، ص١٠٦.

١٦٠

وهنا أيضاً - كما في نواحٍ أُخرى - دخل على الإسلام عام 200 هـ - 815م، بسبب تقلّص ظلّ الروح العربيّة، عادات شرقية قديمة، رغم ما جاء به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شأنها من الإنكار والمنع الصريح، وذلك الخليفة الأمين - وهو ابن هارون الرشيد - لمّا ملك، بلغ من كَلَفه بالخصيان أنّه (طلبهم وابتاعهم، وغالى بهم، وصيّرهم لخلوته، في ليله ونهاره وقوامه وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سمّاهم الجراديّة، وفرضاً من الحبشان سمّاهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهنّ - نقلا عن الطبري - وقد قال أبو نواس ساخراً:

احمدوا الله جميعا

يا جميع المـُسلمينا

ثُمّ قولوا لا تملّوا

ربنا ابقِ الأمينا

صيّرَ الخصيان حتّى

صَيّر التعنين دينا

فاقتدى الناس جميعاً

بأمير المؤمنينا) (1)

إنّ الأمين وأمثاله لا يُمثّلون الدين ولا حقيقة الإنسان المُسلم، إنّما يمثّل الدين أهله الأوائل (سلمان وعمّار وأبو ذر وخزيمة وهاشم المرقان وسعد بن قيس وعدي بن حاتم وبلال وحِجر بن عدي والأشتر... وغيرهم)، ولا ننسى أيضاً ما حَدَث مِن تَقدّم وعمران في أيّام الدولة الإسلاميّة في الأندلس (اسبانيا والبرتغال الحالية)، وكيف توغّل المسلمون الأوائل في عُمق أوربا المسيحيّة التي كانت تعيش في أحلك ظروفها في تلك القرون المُظلمة التخلّف والجهالة، فما إن انتشرت المفاهيم الإسلاميّة حتى سعى رجالهم إلى ترجمتها ودراستها ابتداءً من

____________________

(1) متز - آدم - الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريده - المُجلّد الأول - ص127 - 1377 هـ - 1957م.

١٦١

التاريخ الحافل وسير الأئمّة الأوائل والرجال الذين ساروا مع النبي وجاهدوا ذلك الجهاد المرير، ثُمّ درسوا تاريخ الدولة الأُمويّة والعبّاسيّة، فتوصّلوا إلى حقائق مُهمّة عرفوا من خلالها كيفية تدمير الدولة الإسلاميّة في الأندلس، ومن خلال ما وضعته من نقاط:

1 - فصل الحاكم عن المجتمع وإبعاده عنهم.

2 - بسط سيطرة الطبقة الارستقراطيّة من المجتمع على مُقدّرات الأُمور.

3 - انحلال الرقابة الذاتيّة أو الحكوميّة لأُمور البلاد.

4 - الدعم والتشجيع لانغماس أهل السلطنة والحكومة - وعلى رأسهم ما يُسمّى بخليفة المسلمين والقدوة العُليا للآخرين - في الملذات الشخصيّة والفساد الأخلاقي والتفنن في بناء القصور وغير ذلك، وإهمال الطبقة الاجتماعيّة.

5 - إهمال الإصغاء إلى أهل الفكر والعلم وأصحاب الرأي السديد الذين تحترق قلوبهم ألماً على ما يجري.

6 - أرسلوا وبشكل مُلفت للنظر النساء الجميلات الأوربيات وبأعداد كبيرة وبثّوهنّ في قصور ملوك الطوائف، بحيث أصبح هؤلاء الأمراء نياماً لا يعرفون ليلهم من نهارهم، بين أقداح الخمور والجواري والغلمان.

7 - تشجيع حالة النفاق والتحاسد والتباغض بين الملوك، وتشجيع أحدهم في الاستحواذ على أخيه؛ فأصبح الأخ يقتل أخاه جشعاً وطمعاً وأنانيّة.

8 - بعث الإرساليات الغربية على هيئة رجال كنيسة إلى داخل قصور الأمراء، يتلبّسون بالدين للخداع والكيد والتجسّس.

9 - الأصل المهم في كلّ هذه الحقائق هو الابتعاد عن أصل الشريعة المحمديّة الحقّة الواضحة، والابتعاد عن تلك التعاليم السمحة، ثُمّ تحطيم كلّ القيم الأخلاقيّة التي كانت تُميّز المسلم عن غيره وتحفظ كيان المجتمع من التخلخل.

١٦٢

إذن، المشكلة ليست في الفكر إسلامي كما يدّعي البعض بأنّ الإسلام غير صالح للعمل بمنهجه وعقيدته في عصرنا الحالي لتخلفه وعدم قدرته على مسايرة التقدّم الحضاري الكبير، المشكلة تكمُن فيمَن أساء للدين بأعماله الشنيعة، والذي أعطى انطباعاً سلبيّاً عنه، والمستشرق والقارئ الغربي، بل حتى المسلم في بعض الأحيان، يرى صورة الإسلام في أعمال هؤلاء وسلوكيّاتهم وقد قدمنا نموذجاً صغيراً من تلك السيرة التي مرّت على الأُمّة. فالتقدّم والإزهار الذي يؤمن به الدين هو التقدّم الروحي الأخلاقي الإيماني وبناء الإنسان أولاً، بالإضافة إلى العمران والمدنيّة، لأن ما فائدة التطور المادي إذا كانت المجتمعات تُعاني من المشكلات الأخلاقيّة والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وهذا ما نلاحظه اليوم في العالم الغربي دون استثناء.

فلا بُدّ إذن من فكر مَرِن يستوعب كلّ التطوّرات الحاصلة ضمن هذه العقيدة التي تجعل من الإنسان إنساناً بحقيقة معناه، وتخلق منه فرداً صالحاً يسعى إلى رفاهية المُجتمع ويستخدم التقدّم العلمي الهائل في خدمة البشريّة لا لدمارها، وهذا لا يكون إلاّ باتّخاذ العقيدة الإسلاميّة قاعدةً وأساساً مع إيمانٍ كاملٍ بها، وخَلْق نظريّةٍ اجتماعيةٍ تعتمد على منهج عليٍّ (عليه السلام) وتطبيقاته وأُطروحاته النابعة من المبادئ العظيمة للدين الإسلامي. فالاهتمام بإبراز سيرة النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهج علي (عليه السلام) في الحياة والحكم واجبة؛ لأنّها من الضروريّات الأساسية وهي خير مَن يدحض وينكر على من يتقوّلون على الإسلام وأهله.

إنّ أيّ مُجتمع إذا ما داخله ترف الأُمراء وطبقة (الأشراف) على حساب مصالح عامّة للناس وعمران البلاد، فإنّ مصيره الانهيار لا محالة، وكذلك انحطاط وضع الطبقات الدنيا من المجتمع ماديّاً واقتصادياً، (ولكنّ الأمر لا يقتصر على تلك الأحوال الاقتصادية، بل يجرّ معه الأحوال الأخلاقية، فهناك ارتباط بين

١٦٣

هذه وتلك؛ لأنّ حال الحضارة في العمران، حينما تصل إلى هذا الحدّ، لا بُدّ من أن يتبعها فساد الأخلاق وانتشار الشرور، ويكون ذلك في بادئ الأمر، في الطريق المُتّبع في تحصيل المعاش. أمّا ابن خلدون فيقول: أمّا فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكدّ والتعب في حاجات العوائد. التلون بألوان الشرّ في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها فذلك يكثر منهم الفُسق والشرّ والسفسفة والتَحيّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص فيه واستجماع الحيلة له. فتجدهم أجرياء على الكذب والمغامرة والغش، والخلابه والسرقة، والفجور في الأيمان، والربا في البياعات، ثُمّ تجدهم أبصر بطريق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة بدواعيه...، ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة، ويُجاريهم في ذلك كثيرٌ من ناشئة الدولة وولدانهم، ومن أُهمل عن التأديب وغلب عليه خلق الجواري وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات. وذلك أنّ الناس بشر متماثلون، إنّما تفاضلوا وتميّزوا بالخُلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، فمَن استحكمت فيه الرذائل بأيّ وجه كان وفسد خُلق الخير فيه لم ينفعه زكاء نَسَبه، ولا طيب منبته، ولهذا نجد كثيراً من أعقاب البيوتات وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدولة منطرحين في الغِمار، مُنتحلين للحِرَف الدنيّة في معاشهم، بما فسد من أخلاقهم وتلونوا به من صِبغة الشرور والسفسفه، وهكذا تنتهي الحضارة إلى فساد الأخلاق، كما انتهت إلى فساد وجود المُجتمع، ووقوع الناس في هوّة الفقر، بل إنّ فساد الأخلاق ليس إلاّ نتيجة لفساد وجوه المعاش وانتشار الفقر) (1) ، لقد فات الكاتب مسألةٌ مهمّة،

____________________

(1) شيخ الأرض - تيسير - علم الاجتماع عند ابن خلدون - ص154 - الجامعة الإسلاميّة، العدد الثالث، السنة الثانية.

١٦٤

وهي عامل الدين والحاكم والمجتمع، واتّجه إلى تفسير الانحطاط الأخلاقي وانتشار الفساد بالعوامل الاقتصادية.

وأتيتُ بذلك شاهداً على إنّنا لحدّ الآن لم نُفسّر التاريخ تفسيراً سليماً، إنّما هناك إرهاصات، وهذه الإرهاصات يشوب الكثير منها تبنّي أفكار أو نظريّات خاصّة واعتمادها، وعدم درس الحقائق التاريخيّة دراسة علميّة دقيقة. وما ذلك إلاّ الضعف في منهجية بحوثنا. وقد ساير بعضُ الكُتّاب الايديولوجيّات التي يؤمنون بها لتفسير التاريخ طبقاً لتلك المُعتقدات وغاب التفسير الديني للعوامل التي أثّرت على حركة المُجتمع وتطوّره ثُمّ انحداره وموته، فالكاتب هُنا أكّد على التفسير الاقتصادي للانحلال الخُلقي وانتشار الفساد، وكان كلّ اعتماده على رُأى ابن خلدون في ذلك، من زيادة الضرائب والمكوس والغارة على أموال العامّة وجمع الأموال بشتّى الوسائل لبناء القصور والحدائق وبذخ الأموال على شراء الجواري وغيرها، التي أثّرت على الأسعار والتجارة والصناعة والزراعة فارتفعت أيضاً أسعارها، وتحمل الضغط كلّه الطبقة الفقيرة، واستشرت حالة الانتفاخ الحرام للطبقة المتسلطة من المجتمع على حساب الطبقة العامّة.

وهذا مضمون ما طرحه ابن خلدون واعتمده الكاتب.

إنّ للعوامل الاقتصادية أثراً لا يُنكر، لكن لو التفتنا إلى جانب مُهم ومؤثّر هو مدى إيمان الناس واحترامهم لمبادئهم وعقيدتهم وتمسّكهم بها مع وجود حاكم مُسلم بمعنى الكلمة يعي ويفهم حقائق الدين، ويُطبّقها على شَعبه كما يُطبّقها على نفسه يسود واقعة الحقّ والعدالة والإنصاف، ويُعين الضعفاء، ويُهين الأقوياء الظلمة، ويُراقب نفسه فيما أمره الله تعالى، من حفظ أموال الرعيّة، وصيانة ممتلكاتهم، والدفاع عن حياتهم وأرواحهم من العدوان والطُغيان. وفي طرح الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر خير معلم وبيان، حينئذ لا يُمكننا أن نسمع

١٦٥

عن فساد أخلاقي واجتماعي، وما عاشه المسلمون الأوائل مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو خير مثال لذلك، فإذن هناك ترابط تامّ بين كلّ هذه العوامل التي أدّت إلى الدمار والانهيار، ويجب أن نعي هذا الأمر، ونؤكّد عليه من خلال أُطروحاتنا وبحوثنا.

النظام الاجتماعي الأخلاقي والحضارة

إنّ وجود نظامٍ أخلاقيٍّ اجتماعيٍّ يستلهم أُصوله ومبادئه من العقيدة الإسلاميّة ويقوم بالإسهام في نظم الحياة الإنسانية كلها لا بّد منه، (والحق أنّ صياغة الفرد والجماعة والدولة صياغةً أخلاقيةً على النحو الذي شرّعه الإسلام في نظامه الأخلاقي، بحيث تسودها الأخلاق الإسلاميّة في كافة التصرفات والقرارات والتطبيقات وسائر الأحوال يهمّ إلى درجة كبيرة في إيجاد خضوع للقانون مضموناً وجوهراً لا شكلاً ومَظهَراً، وهو أمرٌ يحتاجُ إلى نظامٍ أخلاقيٍ عمليٍ يوصل إلى هذا الهدف، يمتلك من الخصائص والضمانات والوسائل العمليّة ما يُمكن له من أن يتحوّل إلى واقعٍ ماثلٍ حيٍّ، وأن ينقل من النظريّة إلى التطبيق، وهذه الخصائص والضمانات والوسائل قد انفرد بها نظام الأخلاق الإسلامي.

أما (الأخلاق الإنسانيّة)، في مختلف الفلسفات الداعية إلى الأخلاق والتي تمثّل دعوة عامّة إلى الأخلاق الحسنة مع الاختلاف في مضمونها ومفرداتها، فإنّه ليست سوى دعوة غير ملزمة وهمسات توجيهيّة وتذكير بالأخلاق في لائحة مواعظ وإرشادات، مع ترك الإنسان حُراً في مدى الاقتناع والاستجابة، وإذا كانت كذلك فماذا تُجدي؟ وماذا بها من غِنى؟ وأنّى لها أن تصمد أمام هوى النفس وبريق الذهب وفرصة المتاع ولذائذ الدُنيا؟). (1)

____________________

(1) البياتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الإسلامُي مقارناً بالدولة القانونيّة ص 137 الطبعة الثانية.

١٦٦

ونستطيع أن نقول: إنّ أيّ تطوّرٍ حضاريٍ يجب أن يُرافقه تطوّرٌ أخلاقيٌ في المُجتمع، وهذا يستلزم وجود عقيدةٍ صائنةٍ حيّة تُحدد معالم وأسس ذلك المنحى، ولم نرَ غير الإسلام جامعاً لهذين الشطرين معاً، فمع وجود العقيدة الصحيحة السليمة وتلازم الأخلاق مع التطور الحضاري، فإنّ المُجتمع حتماً سينجو من المخاطر الأكيدة والمحيطة به مع هذا التطور الحاصل في العلوم والتقنية العالية في الاستخدامات الصناعيّة والتي طوت المسافات في الكُره الأرضية وانغمست في الراحة التامّة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع الانحلال الخُلقي والتدهور الحضاري بعد انطماس القِيَم الأخلاقيّة وذوبانها في المفاهيم الديمقراطية والحريّة الشخصيّة والحضارة الزائفة، والعالم الآن يعيش ذلك، فالغرب المُتقدّم في طريقه إلى الظلام الدامس والموت الأحمر والقضاء على البشريّة تدريجيّاً، حيث انتشار الفساد بكافّة أنواعه، من زنى ولواطٍ وفجورٍ متنوع، وخمورٍ ومُخدّراتٍ مستشريةٍ بين الشباب والأطفال، وأمراضٍ متنوعةٍ لا علاج لها أصلاً كـ (الايدز) وغيره من الأدواء التي ستقضي على آثار ذلك التقدّم العلمي وتلك المدنيّة، إذن تبقى القضيّة الأخلاقية بكافّة صورها هي الأساس في المحافظة على قِيَم المُجتمع وتماسكه والمحافظة على ظواهره الاجتماعية.

فدراسة العلم الاجتماعي الأخلاقي لدى عليٍّ (عليه السلام) والاستفادة منه والعمل به لا يكون إلاّ من خلال الحاكم الذي يتحرّق قَلبَه على رعيّته، ويتمسك بحبل الله الممدود، ويتّخذ من وصايا عليٍّ أنموذجاً تطبيقياً في قيادته وحياته مع الناس، ويكون هو أُمثولة القائد الشجاع والمؤمن الذي يسعى لخير أهله وبَلده، ويُبعدهم عن تلك الشُرور المُحرقة في الدنيا وفي الآخرة، وإلاّ لأصبح المجتمع ذا نسقٍ واحدٍ في الحياة، وعندئذ تنتفي الحاجة للتنظيم والتدبير، فالمجتمعات خليطٌ من مُختلف أفكار وعقول شتى ومستوياتٍ علميةٍ مُتباينة، وفقرٍ وغنى بينهما هوة شاسعة،

١٦٧

وإيمان عالٍ وجحود وابتعاد عن دين الله، فما بين هذا وذاك يتّضح لنا الاختلاف البائن وصور السلوك المُختلف، وما ينتج عن ذلك من مشاكل واختلافات تحتاج إلى طُرق معالجةٍ علميّةٍ ودقيقةٍ؛ لأنّ قيادة المُجتمعات ليست في طرح النظريّات على الورق، ولا هي قوالب جاهزةٍ مصنوعةٍ في المعامل نأخذها ونضعها على رؤوس الناس ليسيروا بها وِفقَ ما صُنعت إليه.

حُريّة الإنسان في المُجتمع

هُناك مَن يقول أنّ الإنسان يولد حُرّاً، والمجتمع هو الذي يُقيّد حُريّته وحركته، فالطفل حينما يُولد تأخذه القابلة فوراً وتُقمّطه بقماطه وتشدّ يديه ورجليه وتمنع حركته، فإذن أوّل شيءٍ يستقبله هو القيد بِيَدِ عُضو من المجتمع الكبير وهي القابلة، فتُقيّد حريّته، في حين أنّ هناك كلمة للإمام (عليه السلام) هي أبلغ من كلّ كلامٍ، وأكثر واقعيّةٍ من غيرها، ولها مدلولاتها التحرّرية، وفيها معانٍ سامية هدفها خَلق الإرادة الفكريّة والعمليّة لدى الإنسان، فقد قال (عليه السلام):

(لا تكنْ عبدَ غيرك وقد خلقك الله حُرّاً)، فالعبوديّة خالصةٌ لله تعالى لا لغيره، والإنسان حُرٌّ في إرادته وفي تفكيره وفي حياته العامّة، وهذه الحريّات يجب أن يُرافقها مُراعاة الجوانب والضوابط التي حدّدتها الشريعة؛ حتى لا تُنتهك حُقوق الآخرين المشروعة في العيش بسلام وأمان، وتُصان الحياة العامّة والنُظم التي تُسيّر الحياة الاجتماعيّة من كلّ انحراف أو تجاوز، مع احترام القوانين التي تُنظّم المسيرة الاجتماعيّة، ومع ضمان سلامة الحُريّات العامّة ضمن إطار الشريعة الإسلاميّة، فإنّ الإنسان سيتحرّر ذهنه من الضغوطات القاتلة لحركة الإبداع والتطور، وبالتالي فإنّ هذا الإنسان سوف لا يشعر بالذلّ والاستعباد والحقارة

١٦٨

ويكون عنصراً نافعاً، حتى في جانب الإيمان العقائدي يرفض الدين الاعتقاد الوراثي المُقولَب والجاهز، إنّما يرى في ذلك آثاراً سلبيةً مُستقبلاً، ويؤكّد على أنّ الإنسان يجب عليه التفكير والتدبّر قبل الإيمان والاعتقاد؛ حتى يضمن التماسك والرصانة أمام كلّ التيّارات المختلفة؛ فعليٌّ هو سعادة للبشريّة في أفكاره وسلوكه؛ لأنّها قابلة للتطبيق مع العقيدة الإسلاميّة في وقت واحد، لأنّ الأولى فرع من الثانية، فإنّهما قانون شامل للمجتمعات تسعد به وتعيش بسلام معه.

ولو عُدت لكُتب الإمام (عليه السلام) وكلامه لوجدته كيف يهتم بأُمّته، بل برعيته وهم عموم المجتمع، سواء كانوا مسلمين أو ذميّين، فالعدالة عنده للجميع مادام هو في ظلّ الإسلام.

الحزمُ واللِينُ

إنّ طبيعة الناس الذين يُكوّنون المجتمع لا تتوافق في سلوكيّة مُعيّنة؛ نتيجة للتباين في الأفكار والفَهم والاعتقادات في القوانين والنُظم، والإمام (عليه السلام) يرسم خط سيرٍ القائد في علاقته مع شَعبه مادام المجتمع بهذا الشكل من الاختلاف، فلابدّ إذن من مسيرة خاصّة وهو خلط الشدّة بضغث من اللِّين، (والضغث في الأصل: قبضةٌ حشيشٍ مختلط يابسها بشيءٍ من الرَطِب، ومنه (أضغاثُ الأحلام) للرؤيا المُختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد: امزج الشدّة بشيء من اللين فاجعلهما كالضغث) (1) .

ثُمّ إذا بدا أنّ الأمر لا ينفع معه إلاّ اتخاذ الحزم والشدة بناءً على مُقتضيات المصلحة الإسلاميّة والعامة وضمن الحدود الشرعية، فاستخدام ذلك

____________________

(1) ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - م 17 - ص 4 - دار إحياء الكتب العربيّة - الحلبي وشُركاه.

١٦٩

ضروريٌّ.

وهذه مسألة أساسيّة في إدارة الحياة الاجتماعية والسياسية للبلد، وهي أيضاً حالةٌ نفسيّةٌ توجد في أعماق الكثير من الناس، فهي تستخفّ بالحاكم الذي يكون سياج مملكته هدفاً واهناً للأعداء والطامعين، والمجتمع إذا استشعر ضعف الدولة وعدم قُدرتها في السيطرة على مقاليد الأمور لضعف الوالي فسوف يختلّ التوازن الاجتماعي والسياسي، وينهار معه النظام الاجتماعي والأمني، ويصبح الأمر في غاية الخُطورة.

والبلد يكون حينئذ غابةً لوحوشٍ ضاريةٍ ومتنوعةٍ يأكل بعضها البعض الآخر. إنّها مسألةٌ عظيمةٌ وحيويّةٌ، فالوالي المسلم عليه أن يُحافظ ويصون ويعدل ويُراعي الجميع، باسطاً لهم نفسه، مادّاً يده، مُعطياً الحقوق والحريّات بما شرّعته العقيدة الإسلاميّة، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(كُلّكم راعٍ وكُلّكم مسؤولٌ فالإمام راعٍ وهو مسؤول، والرجّل راعٍ على أهله وهو مسؤولٌ، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وهي مسؤولةٌ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤولٌ، ألا فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول). (1)

فالمسؤوليّة جسيمةٌ وخطيرةٌ، وتتطلّب نفساً تخاف الله وترعى حُرماته، وقلباً رءوفاً، وفكراً ناضجاً يستعمله في المُلمّات، مدبّراً قديراً أميناً شجاعاً.

هذه كلّها متطلّبات واقعيّة تُعطي معاني أساسيّة لطبيعة علاقة الراعي مع الرعيّة والحاكم مع المحكوم.

____________________

(1) صحيح البخاري - ضبط وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلد الخامس - ص 1988 - الحديث رقم 4892 - مطبعة الهندي.

١٧٠

الرعايّةُ للجُمَيع

طَرفٌ آخر من المُعادلة الاجتماعيّة تشمله الرعايّة الإنسانيّة الإسلاميّة، ويدخل في الموازنة العامّة وِفقَ إطارٍ خاصٍّ تُنظّمه صورة الرسالة التالية، التي توضّح تتبّع الإمام (عليه السلام) للأحداث، ودفاعه عن طوائف المُجتمع المُختلفة، حيث قال (عليه السلام):

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَلا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالإِدْنَاءِ وَالإِبْعَادِ وَالإِقْصَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ). (1)

لقد أعطى الإمام (عليه السلام) طريقة العمل مع صنف آخر من المُتجمع بعد أن وصل إليه خبر تعرّض بعض أكابر القوم من الدهاقين الذين يأمرون ولا يأتمرون للضغط والشدّة والقسوة، وكذلك الاحتقار والجفوة لهم، فالإمام يقول: يجب أن يكون هُناك توازنٌ في التعامل والعلاقة مع هؤلاء الناس، لا أن تُدينهم فهم ليسوا أهلاً لذلك؛ لأنّهم من أهل الشرك وأنت والي المسلمين، ولا تُقصيهم - أي تُبعدهم وتجفوهم - لأنّهم من المُعاهدين، فأشعرهم بالمعاملة اللينة مشوبة بطرف من الشدّة؛ حتى لا يشعر بضعفك في حيالهم وعند ذلك يستهينون بأمرك، وأشعرهم بأنّك شديد في وقت الشدّة، أي: يكون عملك متداخلاً بين قوّةٍ ورأفةٍ أو تقريبٍ وإبعادٍ مع هؤلاء، للأسباب النفسية التي يجب أن يُراعيها العالِم أو والي المسلمين،

____________________

(1) نهج البلاغة - ص 376 - تحقيق د. صحبي الصالح.

١٧١

هذا في جانب العلاقة مع المشركين والمُعاهدين.

هناك جانب آخر يُظهره الإمام ويُوضّحه لعُمّاله، وكما جاء في هذا الكلام له (عليه السلام) (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ.

فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ، وأرفِقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لا تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ.

وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلامُ). (1)

فبعد أن أثنى (عليه السلام) على عامله من أنّه من الرجال الذين يعتمدهم في مُهمّاته في إدارة البلاد، ومن الذين يستعين به على إقامة العدل وإظهار دين الله، استمر الإمام (عليه السلام) في بيان مزاياه على أنّه من الولاة الذين يقمع - أي يدحَر - به الأعداء ويكسر به شوكة المُتكبّرين، أصحاب الذنوب والخطايا، ثُمّ قال: (وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ) (الثغر: مظنّة طروق الأعداء في حدود المملكة، واللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الإنسان). (2)

ففي كلامه (عليه السلام) تشبيهٌ رائعٌ من أنّه الخندق المُتقدّم الذي يُدافع من خلاله عن ثغور المسلمين أمام أطماع الأعداء الغاصبين، ثُمّ يطلب منه الاستعانة بالله أولاً وقبل كل شيء أمام الهموم والمشاكل التي تواجهه، والنظر إلى الأمور بدقةٍ وحذرٍ مُتناهي، فالمجتمع وأي مجتمع كان لا يمكن أن يتّصف بسلوك واحد ومسيرة واحدة أبداً، اللّهمّ ربما إلاّ في حالة واحدة عابرة، لها وقت مُحدّد وتزول

____________________

(1) شرح نهج البلاغة - المجلد 17 ص 3.

(2) نهج البلاغة - محمد عبده - ص 76.

١٧٢

بزوال المُؤثّر هي حالة (العقل الجَمعي) التي تمرّ بها المجتمعات في وقت ومكان واحد ومُحدّد. فالإمام (عليه السلام) يُشدّد على الموازنة الدقيقة في التعامل مع الناس (... قيل لبعضهم: مَن أرجح الملوك عقلاً، وأكملهم أدباً وفضلاً؟ قال: مَن صحب أيّامه بالعدل، وتحرّز جهده من الجور، ولقي الناس بالمُجاملة، وعاملهم بالمُسالمة، ولم يُفارق السياسة، مع لين في الحُكم، وصلابة في الحق، فلا يأمَنُ الجريءُ بطشه ولا يخاف البريء سطوته). (1)

ثِقلُ المُوازنَة

قد ذكرنا آنفاً أنّ المجتمع في طبقاته وسُلوكه مُتنوع، وكل طبقة يجب أن يكون لها تعامُل خاصّ بها، علاوة على أن يكون هَمُّ الوالي الأوّل هو النَظر إلى شؤون العامّة من الناس، ومراقبة سَيرِ حياتهم واحتياجاتهم من جميع المجتمع والاهتمام بما دونهم، ولا العكس كذلك فلكلّ موقعٍ خاص، ولا أقصد بوجوه المُجتمع الطبقة الخاصّة التي ذكرها الإمام في عهده للأشتر، إنّما تلك لها مبحثٌ خاصٌّ بها، وهي بعيدةٌ عن هذا المعنى المطروح وهناك فاصلةٌ بينهما. والرعية عموماً تؤلّف الأغلبيّة الساحقة من المجتمع وهُم العامّة، وهذه الطبقة هي الثقل الأساس في المُجتمع والطبقة المضحيّة إذا ما تعرّضت البلاد للعدوان، فهي في المُقدّمة، وقد وضّح إمامنا ذلك أيضا في عهده للأشتر، وأغلب ما تكون هذه الفئة من الناس أصحاب نفوس طيّبة طاهرة مع وجود الرعاع فيهم، فلا مُنافاة في

____________________

(1) ابن الأزرق - بدائع السلك في طبائع الملك - ج1 - ص231 - تحقيق الدكتور علي سامي النشار.

١٧٣

ذلك، وهي راضية بما قسم الله لها من رزقٍ ومن منزلةٍ، غير آبهة بما يتصارع عليه الآخرون طلباً لجاهٍ أو سلطةٍ أو جمع مال، يُريدون أن يسدّوا رَمَق أطفالهم بمعيشتهم اليوميّة. فليس من العقل إلحاق الضَرر بهذا الإنسان المُستضعف، لأنّ ذلك معناه انهيار الدولة؛ لأنّ هؤلاء الناس ليسوا جُثثاً هامدةً لا قول ولا فعل لهم طيلة حياتهم، إنّما كلمتهم أقوى من أيّ شيء، وإذا أُطلقت فهي البركان المُتفجّر، وهذا لا يحدث إلاّ في حالات مُعيّنة، منها انتشار الظُلم واستدامته، ومحاربتهم في معايشهم، وإهمال حقوقهم المشروعة وقضمها حين ذاك يُحدث ما لم يكن في الحُسبان وما لا يُحمد عُقباه؛ لأنّهم الطبقة الأوسع انتشاراً والأكثر عدداً والقوة العاملة التي تُدير حركة المجتمع بجُهدها وبذلها، فالشدّة المطلوبة هنا ليس مع هؤلاء المساكين الضعفاء وإن بَدَرَ منهم شيءٌ فذلك لا يعني أن يكون مُسوّغاً للوالي لكي يُمارس حالة الظُلم والإجحاف، بل سوء العمل والخطأ، والتأديب يتناسب مع الإساءة التي ارتكبها وهي حالة عادية في المجتمعات، إنّما الشدّة مع الذي يدّعي القوّة ويُحاول بكلّ إمكاناته كسب المنافع الباطلة وأكل السُحت الحرام ولو على حِساب حقّ المُجتمع، بل أحياناً إجحافه وظلمه، وأحياناً تطمع نفسه وتُمنّيه للسيطرة على مُقدّرات البلاد والحُكم، وهذه الطبقة - على ما اعتقد - هي التي يقصدها الإمام (عليه السلام) لغرض الحذر منها ومتابعتها واستخدام القوّة معها؛ حيث تكون في أغلب الأوقات قريبةً من الوالي بل في بلاطه، وقد سمّاها الإمام بتسميات مُتعدّدة، منها الطبقة الخاصّة والأُخرى (بالعُظماء)، وجعل قِبالَها مُصطلح للعامّة (بالضعفاء). والعظماء هؤلاء يُحاولون بناء كياناتهم على حِساب مَن هُم أضعف قُدرة وأقلّ مقدِرة وأبعد رغبةً، الذين اكتفوا بما أعطاهم الله من مكانة.

١٧٤

عِلمُ النَفس الاجتِماعي

والعلاقاتُ العامّة مَعَ المُجتَمَع

إنّ قائد البلد وحاكمه لا بدّ وأن يستخدم مُختلف الأساليب في علاقته بطبقات الشعب، ولا بّد أن يكون مُلمّاً بعض الشيء بعلم النفس الاجتماعي الذي يُعطي للموازنة الاجتماعية حالة الضخّ المعنوي لاستقرار وضع المجتمع، وفي ذلك قال (عليه السلام): (وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَالسَّلامُ) (1) .

إنّ إنزال النفس للرعية والالتفات الكريم لهم تضع حالة الاستقرار في موضعها، وتعطي زخماً قويّاً للعلاقة الصميمة بين الراعي والرعيّة.

إنّ الشعور بأحاسيس المجتمع له دورٌ في تبادل المحبّة والوفاء بين الوالي والرعية، فلا يأتي لمقابلة رعيته بوجه مُقطب عبوس يقطر بُغضاً وحِقداً وكراهيّة، أي لا يُقابل المجتمع إلاّ وهو مبسوط الوجه، أي الانبساط والراحة حتى يعطي الدلالة على الرضا والمحبّة؛ لأنّه ليس رئيساً للشرطة أو المحتسب في البلاد ليكون بتلك الصورة حتّى يخافه المُجرم والمُسيء، إنّما هو أبٌ للرعيّة وقائدٌ لمسيرتهم.

ثُمّ يطلب الإمام (عليه السلام) أن يعطيهم من نفسه حتى يتحدثوا معه ويستأنسوا به، والسماح لهم بتقديم طلباتهم وطرح مظالمهم، فالمساواة بينهم مبدأٌ أساسيٌّ عند الإمام (عليه السلام)، وهذه المساواة لا تكون في جانبٍ واحدٍ محدودٍ، بل حتى في أقلِّ الأشياء في اللحظة والنَظرة، وهذا الوصف كمال الدِقّة في التعبير، حيث يتبين من خلاله حجم العلوم

____________________

(1) نصّ العهد للأشتر.

١٧٥

النفسية والاجتماعية التي يحملها الإمام (عليه السلام)، والتي صورّها في كلامٍ بليغٍ لا يُدركه إلاّ مَن أمعن في التصوير البلاغي، وهذه تحتاج إلى بحوثٍ خاصّةٍ في العلوم النفسيّة والاجتماعية، حيث لو نظرنا إلى القرب الدقيق في الحالة الوضعيّة الدقيقة لِلحْظَة والنظْرة، أو في الحركة التي تتمّ بين الأجفان وإدارة العين، والعين إذا نظرت بحركات مُعيّنة، أو الجفن إذا تحرّك، نجد أنّها تحمل في طيّاتها معانٍ كثيرةٍ، فالمَحبّة والغضب، وعدم الرضا فيها والقبول الحَسن وما يتبع ذلك، والشاعر يقول:

اقسم اللحظ بيننا إنّ في اللحـ

ـظ لعنوان ما تجنّ الصدور

أنّما البرّ روضةٌ فإذا ما

كان بشرٌ فروضةٌ وغدير

وكذلك في الإشارة والتحيّة، وهي قضية نتعرّض لها يوميّاً في مجتمعاتنا، حيث نقول: إنّ فلاناً نظر إليّ نظر شازِرة فما هو قصده في ذلك؟! وربما تحدث مشكلةٌ تؤدّي إلى قضيّة اجتماعية تُنسحب إلى أطراف أُخرى من جرّاء تلك النَظرة التي ربما تكون مقصودة أو غير مقصودة. أو أنّ فلاناً من الناس كانت تحيّته عابرةً، فالسبب في ذلك حتماً أنّه قد سمعَ شيئاً اتجاهه. وقد تكون هذه الصورة غير موجودةٍ أصلاً، وليس فيها أيّ هدفٍ أو معنى، أو أنّ نظرته تدلّ على ارتياحه وإشارته تدلّ على حُبّه لي.

فإذن، المجتمعات في حياتها اليوميّة قد اهتمّت في هذه العناوين والأعراف وتعوّدت عليها وتوارثتها، وأخذت النفوس تقرأ المعاني في العُيون، وتعرف الأهداف في الإشارة والتحيّة، فالناس أخذت تلتفت إلى هذه الأُمور وتهتمّ بها، فإذا ما كان صاحب تلك التعبيرات في العين والوجه واليدين (الوالي أو الحاكم) فهنا الأمر يكون أشدّ وأكثر أهميةً وخطورةً، ولكن إذا ما ساوى في هذه الصور بين الناس؛ فلا يبقى هناك تأويلٌ مُعيّنٌ أو إشعارٌ بحالة رضى أو رفض لبعض الناس دون الآخرين.

لله دَرّك يا أمير المؤمنين في عُمق هذه العُلوم يا سيدي، فقد أعطيتنا دروساً لنا ولِما بعدنا في كافّة نواحي الحياة، ثُمّ (حتى لا

١٧٦

يطمع العُظماء في حيفك ولا ييئس الضعفاء من عَدلك)، كل ذلك من أجل رعاية ضعفاء الناس من المجتمع، لأنّ كبراء القوم - أي عظماءهم - يترصّدون حركة وُكلام الوالي، وهدفهم الانقضاض على الفريسة، أو الجيفة - إن صحّ التعبير - لأنّ مَن يطمع بظلم ضعفاء الناس وسرقة حقوقهم المشروعة عند الوالي لمصالحه الذاتية، ومتابعة ما يقوم به الوالي لهؤلاء من حركات وأفعال لإجهاض كلّ عمل خيرٍ وصالح للناس هو في حقيقة الأمر سقوطٌ على المطامع الدنيويّة التي هي في واقع أمرها جيفة نتنة، وهؤلاء العُظماء يُحاولون الاستفادة من كلّ بابٍ مفتوحٍ حتّى يستطيعون اقتحام قلبِ ونفس الوالي لتحقيق مآربهم على حساب غيرهم، وهذه حقيقة واقعة، فهم إذن أظلم مَن عليها؛ لظلمهم ضعفاء المجتمع واستغلال الحضوة والجاه عند الوالي، وقد قال إمامنا (عليه السلام) في جانب من وصيّته لابنه الحسن (عليه السلام): (وظُلم الضعيف أفحش الظُلم)، فالأعمال التي قد تبدو عاديةً بسيطةً، وهي إشارةٌ ونظرةٌ وتحيّةٌ ولحظةٌ، إلاّ أنّها تترك آثاراً عظيمة لدى الآخرين، فالمُتتبّع يتربّص تلك الحركات ويُدركها فوراً، فإذا كانت حيفاً للناس أو ظلماً فقد فتح فاه ومَدّ يديه وانبسطت أساريره طمعاً بالوالي لسلب وظلم الضعيف. وكذلك أنّ الإمام (عليه السلام) يُخبر الوالي أنّ الضعفاء إذا شعروا بظُلمك سوف يُصيبهم اليأس من عدالتك، ومسألة اليأس من العدل تجرّ إلى أُمورٍ كثيرةٍ سنتداولها في بحثنا هذا.

١٧٧

١٧٨

الفَصلُ الثّالث

تقسيماتُ المُجتمَع

١٧٩

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390