في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 53925
تحميل: 7758

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53925 / تحميل: 7758
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مباشراً على الوجدان كمحرّك عملي للتطبيق الأخلاقي فقط دون التوضيح والإشارة إلى مَن يُحرّك هذا الوجدان ويدفعه إلى تبنّي الحقيقة والواقع والإنصاف، وإذا كان الضمير ميتاً فمَن الذي يُحييه؟ ثُمّ يطرح دينه الجديد تحت اسم (ديانة الإنسانيّة) لتحلّ محلّ واجب الوجود وخالق الكون، ليسحق بذلك أطول تاريخ دينيٍّ اجتماعي أخلاقي وسياسي في الوجود، وهو تاريخ الأنبياء من أوّلهم آدم (عليه السلام) إلى خاتمهم نبيّ الهُدى سيّدنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ليعطينا نظريّته هذه التي حكم عليها التاريخ بالتقهقر والانزواء إلى حيث انزوى الكثير من تُراث الإنسانيّة البائس، الذي يتجاهل التركيب الإنساني والاجتماعي والكوني.

ولا يخفى ما للبُعد الأُخروي من أثر فعّال في إصلاح الفرد والمجتمع معاً، فكيف استثمر الإمام علي (عليه السلام) هذا البُعد في تحقيق أهدافه في الإصلاح؟ لنقف عند واحدة من بياناته على هذا الصعيد: (أَلا وَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ وَالْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ، وَإِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) ، وَقَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ، ثُمّ لا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَلا تَبْتَدِعُوا فِيهَا وَلا تُخَالِفُوا عَنْهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (1)

وهكذا نكتشف أنّ العَمَد الأهم الذي يقوم على تلك القاعدة النظريّة المُتقدّمة هو البُعد الأُخروي، وأنّ البُعد الأُخروي إنّما يتحدّد في الاستقامة على نهج الكتاب والسنّة، شريعة مالك الدار الآخرة والقاضي فيها بسُلطانه...

لقد

____________________

(1) نهج البلاغة تحقيق د. صبحي الصالح ص253.

١٤١

قُلتم (ربنا الله) فاعلموا أنّ لهذا القول تَبِعةً هي الاستقامة على شريعة الله، هدى كتابه وسُنّة رسوله الأمين خاتم الرُسل والنبيّين (عليهم السلام).

القُرآن أوّلاً

يأتي القرآن في المرتبة الأُولى في سبيل تحقيق هذه الوظيفة: (وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى.

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلالُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ.

فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ (2) ). (3)

____________________

(1) اللأواء: الشِدّة. (محمّد عبده).

(2) (استغشوا أهواءكم): أي: ظنّوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن. (محمد عبده).

(3) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 252.

١٤٢

إذن، القرآن هو المنجي، فقد أعطانا القوانين والسُنن التي ننفذ من خلالها إلى ساحة الرحمة والسُمو والرفعة والتقدّم والازدهار (وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى)، فمَن يتمسّك به وتزوّد من زاده فلا فقرَ يخشى ولا حاجة إلى هادٍ غيره، وفوق ذلك ينبغي أن يُعلَم أنّه ليس وراء القرآن غنىً.

إنّه لَبَلسَم لكلّ جُرح عميق، فـ (اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ)، وليس جراح الروح وحدها، بل جراحات الدنيا ومُعادلاتها.

الحالةُ الأخطر

ومع الذات الإنسانيّة بنحو أكثر تحديداً، حيث يستمرّ الإمام علي (عليه السلام) في كلامه:

(ثُمّ إِيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ الأَخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا (1) ، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً، وَلْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ، وَاللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ.

وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ؛ لأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ، لا يَدْرِي مَاذَا لَهُ وَمَاذَا عَلَيْهِ، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله): لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ

____________________

(1) تهزيع الشيء: تكسيره، فالصادق إذا كَذِب فقد انكسر صِدقه، والكريم إذا لَؤم فقد انثلم لُؤمه، فهو نهي عن حطم الكمال بمعول النقص. وتصريف الأخلاق: التَلوّن بها. (اُنظر محمد عبده / شرح النهج: 93.

١٤٣

قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ. فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ). (1)

إنّه الفيصل الأعظم بين الصدق والوضوح وبين النفاق، ذلك الداء الذي ليس في الأدواء أشدّ منّه خطراً على بناء الذات الإنسانيّة، وعلى بناء الكيان الاجتماعي. إنّه الداء الذي يستحقّ من مهندس الإصلاح الاجتماعي وقفةً أُخرى، بل وقفات: (أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ، قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَمُؤَكِّدُو الْبَلاءِ وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ، لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَإلى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ، إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا، قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً وَلِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً وَلِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَلِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً، يَتَوَصَّلُونَ إلى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَيُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاقَهُمْ، يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ، قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَحُمَةُ النِّيرَانِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ). (2)

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 253.

(2) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 307 خطبة 194.

١٤٤

ذلك هو الداء الاجتماي الوخيم بكل خِصاله، أُولئك هُم أهله بكلّ مزاياهم، فهل ترك هذا البُنيان لمتعلّلٍ حجّة، أم ترك شيئاً من شُعَب النفاق المؤديّة إلى تفسّخ الذات واندام المُجتمع لم يكشف عنها النِقاب ويرسم من حولها حُدودها الحمراء؟

الخَطَرُ الكَبيرُ الجادّ لزُمَرِ النِفاقِ

ففي رسالةٍ له إلى أهل مصر، أرسلها مع محمّد بن أبي بكر رحمه الله، يقول (عليه السلام): (إنّي لا أخافُ عليكم مؤمناً ولا مُشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المُشرك فيحجزه الله عنكم بشركه، ولكنّي أخاف عليكم من المنافق، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تُنكرون). (1)

إذن، الدواء اللازم لهذا المرض والتحصين التام من هؤلاء كيف ينجز؟ وكيف يتخلّص الإنسان من شرّهم ودورهم المُخرّب؟

إنّ القضايا كلّها مُترابطة الواحدة بالأُخرى في حياة المُجتمعات، بحيث لا تستطيع أن تبني أساساً متيناً في جانب وتترك الجانب الآخر يُبنى من التراب أو الرمل. إذ لا يُعقل أن يقوم جدار ولا بناء مُتكامل مُتراصّ مُهندَسٍ يصلح للسُكنى والعيش فيه على أساسٍ هشٍّ. فالإمام (عليه السلام) حينما أعطى هذه الحقائق عن تلك الفئة الضالّة والمُضلّة دلّل على عبقريّةٍ فذّهٍ ونادرةٍ، لأنّه لا يُمكن لأيّ عالم كان لو أعدّ مُختلف الدراسات التطبيقيّة على المجتمعات أن بحصل على مِثل هذه النتائج عن هذا المَرض الاجتماعي المُخرّب والمُدمّر، الذي لو سرى في مُجتمع ما لانهار ذلك المُجتمع بما تُفرزه هذه الفئة من الناس من مخاطر عظيمة على الحياة العامّة.

____________________

(1) نهج السعادة، نفس المصدر السابق، ص 121.

١٤٥

وإذا كان للمُنافق هذه الخطورة الكبيرة، فما بالك به إذا حدّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وكان حديثه عن صاحب الرسالة سهباً، مًنمّق لفظه، خبيثاً هدفه، يُضلّ بمعناه مَن سمعه، ولا يهدي إلاّ إلى طريق الشيطان والعدوان، يُبعّد الناس عن أهل الخير والرحمة وأهل الصدق والمعرفة؛ إرضاءً للحكّام الذين وظفوّهم لبثّ الفرقة بين أتباع المِلّة الواحدة، أو اتباعاً لهوى، أو رغبة في المال والسلطان وبغضاً لدين الرحمان، وحقداً وحسداً لأهل بيت النُبوّة (عليهم السلام)!

فكم من رجل ربما أسهب في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو (رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالإِسْلامِ، لا يَتَأَثَّمُ وَلا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَلَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إلى أَئِمَّةِ الضَّلالَةِ وَالدُّعَاةِ إلى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ؛ فَوَلَّوْهُمُ الأَعْمَالَ وَجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ). (1)

هؤلاء المنافقون أظهروا إيمانهم سِلعَة يرتزقون بها، تَصنّعوا بالإسلام كأنّهم أهل الدين المُخلصون له، الحافظون لمبادئه، لا خوف من الله يمنعهم، ولا حرج في أنفسهم، إنّهم ارتكبوا أفضع الآثام حين حرّفوا كلام النبي الأمين، وقد أحسن الظنّ بضلالتهم خَلقٌ كثيرٌ، ولو علموا بكذبهم ودَجَلهم ونفاقهم لانتقموا منهم ولم يأخذوا شيئاً عنهم أو يقبلوا حديثاً لهم، إلاّ أنّهم أوهموا الناس بنفاقهم هذا فقبل

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 325.

١٤٦

منهم مَن فاتته الحِكمة والبصيرة.

ذلك الخطر الماحق الذي يتسبّب به المنافقون هو الذي يُفسّر لنا السّر في قوله تعالى: ( إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ ) (1) تجمعهم مع الكافرين لَعنة الآخرة.

( وَعَدَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) . (2)

وفي الدنيا أيضاً تجمعهم مع الكافرين أحكامٌ ( يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . (3)

ثُمّ بعد ذلك لهم على الكافرين مَزيّة في سوء حظٍ وبئس مُنقلَب: ( إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ ) . (4)

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير

ممّا يُلفت النَظر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الجُملة الأخيرة منه (وإنّما الناس مع المُلوك والدُنيا، إلاّ مَن عَصم الله).

وكأنّ هذا هو مبدأ أساس أو جزء مُهمّ من الظواهر الاجتماعية على الكُرة الأرضيّة، يا ترى هل أنّ الناس دائماً مع المُلوك وحبّ الدنيا والتساقط على الدنانير؟ وما هى أسباب ذلك؟ هل الدولة أم السلطان أم الايدلوجيا ذات تأثير مباشر على هذا السلوك الخاطئ؟ وما هو العلاج إذن؟

____________________

(1) سورة النساء: الآية 145.

(2) سورة التوبة: الآية 68.

(3) سورة التحريم: الآية 9.

(4) سورة النساء: الآية 145.

١٤٧

إنّ تأثير الدولة الصالحة والدولة المُفسدة على المجتمع هي من حقائق الأمور الظاهرة، هذا فى الواقع العملي، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى دراسة وتحقيق لمعرفة جذوره، كما أنّ له صِلة وثيقة في معرفة العوامل التي تؤدّي بالدولة إلى الصلاح أو إلى الفساد.

إنّ التاريخ يُحدّثنا عن حياة الأُمم التي مضت والحضارات التي قامت واندثرت، فيُبيّن لنا سيرة المُلوك والحكّام، وأثرها السلبي أو الإيجابي على حياة ومسيرة وتطوّر المُجتمعات.

فلننظُر إلى أُمّة على رأسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائداً وموجهاً ومُقنّناً وراسماً للمنهج الذي يستنير به الناس، ومُربّياً يسعى ليلاً ونهاراً باذلاً جهده لبناء مجتمع سليم قوي تسوده العدالة والسعادة والرفاهية. إنّها الصور الرائعة التى تجذبنا وتهزّنا من الأعماق، وتُجدّد فينا الحياة، وتبعث فينا الطمأنينة والاستقرار لبناء المستقبل الزاهر على ما سَنّه واختطّه رسول الإنسانيّة، فالكلّ على عِلم بالسيرة النبويّة الطاهرة، وبذلك المجتمع المدني الإسلامي الذي عاش في ظِلّه الفقير سعيداً ومُكرماً، وفيه من مراتب الإيثار والتضحية والمؤاخاة ما تَحلُم به النفوس، بل ذلك الصبر والتحمّل وهوان النفس اتّجاه الدين هو من علاماته أيضاً، والاندفاع اللامُتناهي نحو الشهادة والموت في سبيل الله من أجل الحقّ والمبدأ القويم، ومن شواهده ذاك المجاهد عمر بن الحمام - أخوبني سلمة - حينما سمعَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُحرّض الناس على القتال، حيث قال: (والذي نفس محمّد بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابراً مُحتسباً، مقبلاً غير مُدبر، إلاّ أدخله الله الجنّة)، فقال عُمر بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء! ثُمّ قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتّى قُتل (1) ، هذا المجتمع الذي بناه القائد العظيم والإمام الهادي

____________________

(1) ابن هشام - السيرة النبويّة - المجلد 1 - 2 - ص 627 - دار المعرفة، بيروت.

١٤٨

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لكن مع أمثال هذه الصورة وممّا لا يُمكن حصره على شاكلتها، وهذا التماسك الاجتماعي فإنّ ذلك لا يمنع من وجود منافق هُنا وهناك في قلبه مرض، في هذا الجانب أو ذاك وقد تأصّل في قلبه الجَشَع وحُبّ الدنيا، إلاّ أنّ الأعم الأغلب هُم حَمَلة الرسالة الّذين نشروا مبادءها في كلّ البقاع، وهم المَثَل الذي يُضرَب به في السُلوك الإنساني القويم والخُلُق الرفيع.

إنّ الشعوب إذا ما تهيأت لها الأسباب من قيادة رائدة تجعل من الذات الإنسانيّة التائهة حقيقة أخلاقيّة لها دورها الحقيقي في ترابط المُجتمع وحفظ جمعه وِفق المبادئ العادلة السليمة تكون في مستوى أخلاقي رائع تغمرها السعادة والاطمئنان.

إنّ مِثلَ هذه القيادة وهذه الأُمّة ستكون في المقدّمة بالنسبة للشعوب الأُخرى، وعلى العكس من ذلك تكون أُمّة يقودها فرعون طاغية يستخفّ بقومه ويقهرهم على طاعته، بل على تصديق ضلالاته والدفاع عنها.

إنّها أُمّة يصعب أن تُذعِن لبُرهان حقٍّ، أو تستفيق من طغيان ظُلم واستهتار، حتى وهي تبصر الآيات والدلائل البيّنة، فلا استوقفتها هزيمة السَحَرة وإذعانهم لمُعجزات موسى، ولا استفاقت لآيات العذاب والرُعب في الضفادع والقُمَّل والجراد والدم، وحتى انغلاق البحر لقوم موسى لم يُحرّك في ضمائرهم نزعة التَحرّر من ذلّ العبوديّة والخنوع!

الشورى وقَبول الرأي وموضع ذلك لدى الحاكم

حينما أصبح علي (عليه السلام) خليفةً للمسلمين احتجّ طلحة والزبير بعد البيعة على عليّ (عليه السلام) لعدم مشورتهما والاستعانة بهما واشراكهما في الحُكم، فأجابهما

١٤٩

أمير المؤمنين (عليه السلام):

(فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إلى كِتَابِ اللَّهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلى رَأْيِكُمَا وَلا رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَلا عَنْ غَيْرِكُمَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأُسْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَلا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمَا وَاللَّهِ عِنْدِي وَلا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى.

أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إلى الْحَقِّ وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ). (1)

إنّه المبدأ الذي سار عليه علي (عليه السلام) لم يتغيّر حتى حينما عَرض عليه عبد الرحمان بن عوف أمر الخلافة بعد مقتل الخليفة الثاني، لم يُساوم، ولم يتّبع منهجاً مُلتوياً لكي يستحوذ على الحُكم، فأجاب ابن عوف: فأمّا كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنعم، وأمّا سيرة غيره ممَن سَبقه فلا، وكذلك فالأمر واحد عندما أجاب طلحة والزبير بنفس ذلك الكلام.

حتى أنّ عبد الله بن عباس أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه قال له (عليه السلام): (لك أن تُشير علَيّ وأرى، فإن عصيتك فأطعني). (2)

فالإمام (عليه السلام) لم يكن يرفض المشورة أو المُناقشة في الأُمور، بل كان يحثّ على ذلك، ولكن ليس بصيغة تحميل الرأي المُخالف للشريعة الإسلاميّة على الإمام الحق.

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. صحبي الصالح ص 322.

١٥٠

ثُمّ إنّ رجلاً كعليٍّ (عليه السلام) عاش مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صِغَره، ومع الرسالة صباه وشبابه، كاتب للوحي، أقضى المسلمين كلّهم، وأبلغَ رجالاتهم كلاماً، وأعلمهم بأسرار الرسالة، لم يكن يخفى عليه أمرٌ ما، أو تستعصي عليه مسألةٌ مُتعلّقة بمُجمَل الشريعة المُحمّدية حيث يقول: (ولا وقع حُكمٌ جهلتُه فأستشيركما وإخواني من المسلمين)، فالباب مفتوح وضمن إطاره المُحدّد، الذي رسمه عليه (عليه السلام) في قوله هذا: (رحم الله رجلاً رأى حقّاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحقّ على صاحبه). (1)

____________________

(1) المصدر نفسه ص 322.

١٥١

١٥٢

الفَصلُ الثّاني

الطريقُ الأمثَل

١٥٣

١٥٤

حقائق ثابتة

إنّ محور كلام الإمام (عليه السلام) يدور حول العمل مع المُجتمع من خلال تطبيق الحقّ والعدالة، وتسيير أُموره وِفق ما حدّدته الشريعة الإسلاميّة، فكان هَمّهُ ووصاياه يندرج في هذا الأمر.

ولهذا نجد أنّ أغلب كُتُب الإمام فيها تذكير أو توبيخ أو تقريع أو وصايا اجتماعية وغير ذلك، والدفاع هو حماية رعيّته، وأغلبها لها علاقة خاصّة بالمجتمع وتحوّلاته وأعماله ومُراعاته والرفق به ومساعدته في الظروف الصعبة التي تستوجب ذلك.

فالفكر الذي يحمله (عليه السلام) هو فكر إسلاميّ إنساني، والترابط وثيق بين الإسلام والإنسان والحق والعدالة، والمساواة هي من سُنن القرآن وشريعة محمّد (عليه السلام)، ومن أجل ذلك أرسل الله الأنبياء والرُسل مُبشّرين ومُنذرين، وعليٌّ (عليه السلام) صورةٌ صادقةٌ للوعي الرسالي والتطبيق العادل والشامل لكلّ مفاهيم القرآن على المجتمع، بل البشرية جمعاء. فرسالة عليٍّ (عليه السلام) هي رسالة الإسلام والقرآن إلى الإنسانيّة، ولهذا نجد الروح الإنسانيّة العالية في نفس عليٍّ (عليه السلام) تدور معه حيثما دار كدوران الحقّ معه.

إذن، فالسِمات البارزة والرئيسيّة في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي رفع شأن الدين ورضاء الله، ورضاء الله لا يتمّ إلاّ برضاء عيال الله، ونبذ كلّ ما هو ضدّ تَقدّم البشريّة وحُريّتها وسعادتها، ونُلاحظ من خلال

١٥٥

ذلك أنّ المفاهيم العامّة التي يحملها سيّد المُوحّدين، والتي طبّقها على نفسه وأهله قبل تطبيقها على غيره، هي التي جذبت النفوس وجعلته رمزاً خالداً على مَرّ الدُهور.

فالثورة الفرنسيّة التي ما زال العالم الغربي يتبجّح بأهدافها الإنسانية وعلى أنّها من بنات أفكارهم، وأنّ فلاسفتها أعطوا معنىً لحياة الإنسان من خلال شعار (حرية - عدل - مُساواة) نجد أنّ هذا الشعار هو جُزء من المبادئ الإسلاميّة التي أعلنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهي بكلّ ما حوت من قِيَم إنسانيّة طرحها الإمام علي (عليه السلام) قبلهم بمئات السِنين.

فلنأخذ بأيدي هؤلاء، ونفتح أذهانهم على الصور الواقعيّة التطبيقيّة في تُراثنا الإسلامي المجيد، من عقيدة مُتكاملة تامّة وفِكر عظيم ثاقب، ونُريهم ماذا أعطى الإسلام من مفاهيم خالدة، وما هي سيرة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وما هو فكر عليّ (عليه السلام)؟ وما تضمّنته رسائله وكتبه بشأن ذلك؟ إلاّ أنّ الذي يَحزّ في النفوس، ويخلق الآهات والحسرات في الصدور هو ضياع الإسلام بين أهله، وتعلّق الآخرين بمبادئه والاستفادة منها تحت عناوين مُختلفة.

العَملُ الصالح والآخرة

انتقل إمامنا (عليه السلام) في رسالته إلى فدك التي سُلبت وأُخذت من فاطمة بنت النبي (سلام الله عليهما) غصباً وظُلماً، تلك الأرض التي أعطاها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ابنته فاطمة (ع) في حياته، وما أن تُوفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحلّ أبو بكر الصديق كخليفة للمسلمين بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في حادثة السقيفة المشهورة، والمذكورة في جميع كُتب التاريخ ومصادره (راجع: الطبري وابن الأثير

١٥٦

والمسعودي وغيرهم في كُتبهم المعروفة) أخذها أبو بكر من فاطمة (عليها السلام)، وحدث ما حدث في تلك الأيّام، حينما طالبت سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) بحقّها ورفضَ طلبها وزجرت في حينها حتى وفاتها (عليها السلام)، وبقوا أبناء عليّ وفاطمة يُطالبون بها حتى أعادها الخليفة الأُموي عُمر بن عبد العزيز إليهم، ثُمّ انتزعها يزيد بن عبد الملك من أولاد فاطمة، فصارت في أيدي بني مروان (1) .

فالإمام يتحدّث عن ذلك الأمر ويذكر أنّ أبا بكر قد سلبها ولم يُعيدها، (وسخت عنها نفوس آخرين) أي نفوس بني هاشم، ثُمّ ينتهى من ذلك ويقول: (ونِعمَ الحَكَم الله)، فماذا أصنع بفدك وغيرها إذا كانت النفس غداً في ذلك المكان المُظلم مُستقرّ لها، ثُمّ يصف بتلك الصور الرائعة الحالة التي يكون فيها الإنسان بعد موته في قبره الذي حتى لوزيد في سعته وقام حُفّاره بإضافةٍ فسحةٍ جديدة إلى حجمه السابق، فإنّ الحَجَر والمَدر سوف يضغط عليه، ويسدّ كلّ شيء بالتراب المُتراكم، ثُمّ يعود ويذكر كيف روّض نفسه وذلّلها بتقوى الله، حتى يكون أمناً في ذلك اليوم العظيم، يوم يُنفخ في الصور فتخرج الأموات من أجداثها لتُلاقي أعمالها، فمَن اتقى الله وعمل صالحا في دُنياه فقد اجتنب المزلق، ومَن أساء لنفسه وحبط عمله في دنياه فلا عبور له على الصراط المستقيم، والنار والعذاب مقرّه والمُستقر.

إذن، أليس من حقّنا أن نفتخر بواضع الحقائق التاريخيّة والاجتماعية ومُجسّد العقيدة الإسلاميّة بصورتها الواقعية، برجلٍ عاش فأعطى وطرح فأغنى وترك ففاز.

____________________

(1) راجع كتاب فدك في التاريخ - للسيد محمد باقر الصدر - تحقيق الدكتور عبد الجبّار شرارة - إصدارات مركز الغدير للدارسات الإسلاميّة.

١٥٧

المواساة المِثاليّة

هناك مَن يبغي الدنيا وزينتها، فيعيش سعيداً في مَلذّاتها وهو ينظر آلاف الجِياع والمَعوزين يتضورّون جوعاً، يُقاسون الآلام ويعيشون المآساة بكلّ معانيها، وكأنّ هذا لا يعنيه، وهناك أيضاً مَن رفض هذه الدينا وعاش مع الناس حياتهم، يواسيهم أحوالهم المُختلفة، وهذا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مِثال رائع للحالة الثانية، ورسالته لابن حنيف تُعطي أبعاد ذلك، حيث قال:

(وَلَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إلى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إلى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلالَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ) (1) .

وهذا واضح في بيانه على أنّه قادر على أن يتمتّع بكلّ ما وهبته الأرض من طعام ولباس وبِناء وغير ذلك، لكنّه يؤكّد وبشدّة (هيهات) أن يغلبه هواه

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص 417.

١٥٨

ويقوده حرصه إلى اختيار الطعام وتصنيفه لنفسه، وهذا لا يكون لإمام الأُمّة مثل علي (عليه السلام).

ويضيف على أنّه قد يكون في الحِجاز أو اليمامة مَن لا يأكل الطعام ولا يوجد لديه رغيف الخُبر وأنّه لم يشبع ولا يعرف الشبع من وطأة الفاقة والعوز والفقر، إذن، كيف ينام خليفة المسلمين مُمتلئ البطن وفي أطراف عاصمته ومملكته بُطون مطويّة لا تنام من شدّة الجوع والعطش؟! فكيف يكون هذا؟! ويؤكّد أنّه: كيف يُقنع نفسه بأن يُقال له أمير المؤمنين ولا يُشارك الناس في حياتهم ومشاكلهم، ولا يكون لهم أُسوةٌ في خشونة العيش؟ ثُمّ يردّد إنّه لم يُخلق لكي ينشغل باختيار لذائذ الطعام كالبهيمة (همّها علفها)، أو التي تبحث في القُمامة، بحيث تهتمّ بملء كرشها الذي يشغلها عن عملها.

إنّه يحمل معنى الإنسانيّة في ذاته، وطبّقها عَمليّاً في حياته، إذا قلتَ أُسوةً حسنةً فقط، فقد تعود وتُعطي صفةً أعظم من ذلك، فلو قارنت عيشه (عليه السلام) مع حياة الحاكمين من بني أُميّة وبني العبّاس ممَّن يُطلقون على أنفسهم لقب أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين لاتّضح الفارق بشكلٍ جليٍّ وواضح، فأيّ مؤمنين هؤلاء أُمراؤهم؟! وأيّ مسلمين هؤلاء خُلفاؤهم؟! لقد سحقوا وقتلوا الإيمان وأهله، وداسوا على كرامة أهل الإسلام، وبقت للإيمان والإسلام صور يزينون بها دولتهم ويتزهدون بها وقت حاجاتهم. عُد إلى كُتب التاريخ واقرأ ما شئت من فضائح وانتهاك للحرمات، بل وفساد وجوع وعطش وقحط وبلاء وفقر في أيّام هؤلاء السلاطين الذين استحوذوا على ما ليس لهم. أين هؤلاء وأين ما أعطاه من نفسه هذا الرجل الخالد - عليّ (عليه السلام) - الذي كان باستطاعته أن يَعيش كغيره وأكثر كسلطانٍ حاكمٍ، وليس كإمامٍ للأُمّة بكامل المعنى؟! أين أُولئك الذين عاثوا في الأرض فساداً وقهروا الأُمّة بشتّى الوسائل ليعيشوا هُم عيشة الترف المُنقطع

١٥٩

النظير في القصور الزاهية والحدائق والغناء وأكواز الخُمور والآلاف من الجواري الحِسان والغُلمان والعبيد، وحولهم أكواخ الفُقراء التي لا تقي أهلها حرّ صيفٍ ولا قرّ شتاءٍ، يتحسّرون على لُقمة العيش ليسدّوا بها أفواه صغارهم، وبعد ذلك وصلوا ببلاد الإسلام العظيمة التي صنعها محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليٌّ (عليه السلام) والأوائل من المخلصين والمضحّين، إلى الدمار والخراب الشامل، وتشرذم البلاد وتفتّتها، وانتهت دولهم ولو بعد حين؛ لأنّهم ساروا بالناس بالظُلم والعدوان، فقد انتهت دولهم بعد أن انغمسوا في الملذّات، وتركوا الأُمّة تتلضّى تحت سياط الجلاّد، وامتداد السيف على رقابها وقطع الرؤوس، ونهب الأموال بشتّى الحُجَج والادعاءات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بالإضافة إلى حُكم الجواري والغُلمان والغانايت، حيث (كانت أموال الدولة تُنفق على قصور الخُلفاء والأمراء وملاهيهم، وعلى عُمّال الدولة الموالين، وكان هؤلاء في دورهم يُنفقونها أكياساً على المُقرّبين والأتباع والجواري والخصيان. والخُلفاء والأمراء والعُمّال هُم طبقة المجتمع العبّاسي الأول من حيث اليسر، تليهم فيه طبقة التجّار، أمّا عامّة الشعب، فلهم البؤس والدمار والموت المُهين). (1)

وهذه صورة تاريخيّة لوجه من وجوه الخلافة والإمارة، إنّه الأمين بن هارون الرشيد حينما آلت اليه السَلطنة، وأصبح يُلّقب (بأمير المؤمنين) زوراً وبهتاناً، لاحظ ما وصلت أليه الحالة في عهده، فقد (استلزمت العادة في بيوت السادة الكبراء عند الدول الشرقيّة وفي الدولة الرومانيّة أن تُهيّأ هذه البيوتات بالخصيان، وقد حَرّم الإسلام ذلك، وشدّد القرآن وشدّدت السُنّة في تحريم خصاء الإنسان أو البهائم، ووكّل لواليّ الحبشة أن يمنع ذلك، ويُؤدّب عليه،

____________________

(1) الإمام علي صوت العدالة الإنسانيّة - م 5، ص106.

١٦٠