في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 55575
تحميل: 8642

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55575 / تحميل: 8642
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهنا أيضاً - كما في نواحٍ أُخرى - دخل على الإسلام عام 200 هـ - 815م، بسبب تقلّص ظلّ الروح العربيّة، عادات شرقية قديمة، رغم ما جاء به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شأنها من الإنكار والمنع الصريح، وذلك الخليفة الأمين - وهو ابن هارون الرشيد - لمّا ملك، بلغ من كَلَفه بالخصيان أنّه (طلبهم وابتاعهم، وغالى بهم، وصيّرهم لخلوته، في ليله ونهاره وقوامه وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سمّاهم الجراديّة، وفرضاً من الحبشان سمّاهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهنّ - نقلا عن الطبري - وقد قال أبو نواس ساخراً:

احمدوا الله جميعا

يا جميع المـُسلمينا

ثُمّ قولوا لا تملّوا

ربنا ابقِ الأمينا

صيّرَ الخصيان حتّى

صَيّر التعنين دينا

فاقتدى الناس جميعاً

بأمير المؤمنينا) (1)

إنّ الأمين وأمثاله لا يُمثّلون الدين ولا حقيقة الإنسان المُسلم، إنّما يمثّل الدين أهله الأوائل (سلمان وعمّار وأبو ذر وخزيمة وهاشم المرقان وسعد بن قيس وعدي بن حاتم وبلال وحِجر بن عدي والأشتر... وغيرهم)، ولا ننسى أيضاً ما حَدَث مِن تَقدّم وعمران في أيّام الدولة الإسلاميّة في الأندلس (اسبانيا والبرتغال الحالية)، وكيف توغّل المسلمون الأوائل في عُمق أوربا المسيحيّة التي كانت تعيش في أحلك ظروفها في تلك القرون المُظلمة التخلّف والجهالة، فما إن انتشرت المفاهيم الإسلاميّة حتى سعى رجالهم إلى ترجمتها ودراستها ابتداءً من

____________________

(1) متز - آدم - الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريده - المُجلّد الأول - ص127 - 1377 هـ - 1957م.

١٦١

التاريخ الحافل وسير الأئمّة الأوائل والرجال الذين ساروا مع النبي وجاهدوا ذلك الجهاد المرير، ثُمّ درسوا تاريخ الدولة الأُمويّة والعبّاسيّة، فتوصّلوا إلى حقائق مُهمّة عرفوا من خلالها كيفية تدمير الدولة الإسلاميّة في الأندلس، ومن خلال ما وضعته من نقاط:

1 - فصل الحاكم عن المجتمع وإبعاده عنهم.

2 - بسط سيطرة الطبقة الارستقراطيّة من المجتمع على مُقدّرات الأُمور.

3 - انحلال الرقابة الذاتيّة أو الحكوميّة لأُمور البلاد.

4 - الدعم والتشجيع لانغماس أهل السلطنة والحكومة - وعلى رأسهم ما يُسمّى بخليفة المسلمين والقدوة العُليا للآخرين - في الملذات الشخصيّة والفساد الأخلاقي والتفنن في بناء القصور وغير ذلك، وإهمال الطبقة الاجتماعيّة.

5 - إهمال الإصغاء إلى أهل الفكر والعلم وأصحاب الرأي السديد الذين تحترق قلوبهم ألماً على ما يجري.

6 - أرسلوا وبشكل مُلفت للنظر النساء الجميلات الأوربيات وبأعداد كبيرة وبثّوهنّ في قصور ملوك الطوائف، بحيث أصبح هؤلاء الأمراء نياماً لا يعرفون ليلهم من نهارهم، بين أقداح الخمور والجواري والغلمان.

7 - تشجيع حالة النفاق والتحاسد والتباغض بين الملوك، وتشجيع أحدهم في الاستحواذ على أخيه؛ فأصبح الأخ يقتل أخاه جشعاً وطمعاً وأنانيّة.

8 - بعث الإرساليات الغربية على هيئة رجال كنيسة إلى داخل قصور الأمراء، يتلبّسون بالدين للخداع والكيد والتجسّس.

9 - الأصل المهم في كلّ هذه الحقائق هو الابتعاد عن أصل الشريعة المحمديّة الحقّة الواضحة، والابتعاد عن تلك التعاليم السمحة، ثُمّ تحطيم كلّ القيم الأخلاقيّة التي كانت تُميّز المسلم عن غيره وتحفظ كيان المجتمع من التخلخل.

١٦٢

إذن، المشكلة ليست في الفكر إسلامي كما يدّعي البعض بأنّ الإسلام غير صالح للعمل بمنهجه وعقيدته في عصرنا الحالي لتخلفه وعدم قدرته على مسايرة التقدّم الحضاري الكبير، المشكلة تكمُن فيمَن أساء للدين بأعماله الشنيعة، والذي أعطى انطباعاً سلبيّاً عنه، والمستشرق والقارئ الغربي، بل حتى المسلم في بعض الأحيان، يرى صورة الإسلام في أعمال هؤلاء وسلوكيّاتهم وقد قدمنا نموذجاً صغيراً من تلك السيرة التي مرّت على الأُمّة. فالتقدّم والإزهار الذي يؤمن به الدين هو التقدّم الروحي الأخلاقي الإيماني وبناء الإنسان أولاً، بالإضافة إلى العمران والمدنيّة، لأن ما فائدة التطور المادي إذا كانت المجتمعات تُعاني من المشكلات الأخلاقيّة والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وهذا ما نلاحظه اليوم في العالم الغربي دون استثناء.

فلا بُدّ إذن من فكر مَرِن يستوعب كلّ التطوّرات الحاصلة ضمن هذه العقيدة التي تجعل من الإنسان إنساناً بحقيقة معناه، وتخلق منه فرداً صالحاً يسعى إلى رفاهية المُجتمع ويستخدم التقدّم العلمي الهائل في خدمة البشريّة لا لدمارها، وهذا لا يكون إلاّ باتّخاذ العقيدة الإسلاميّة قاعدةً وأساساً مع إيمانٍ كاملٍ بها، وخَلْق نظريّةٍ اجتماعيةٍ تعتمد على منهج عليٍّ (عليه السلام) وتطبيقاته وأُطروحاته النابعة من المبادئ العظيمة للدين الإسلامي. فالاهتمام بإبراز سيرة النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهج علي (عليه السلام) في الحياة والحكم واجبة؛ لأنّها من الضروريّات الأساسية وهي خير مَن يدحض وينكر على من يتقوّلون على الإسلام وأهله.

إنّ أيّ مُجتمع إذا ما داخله ترف الأُمراء وطبقة (الأشراف) على حساب مصالح عامّة للناس وعمران البلاد، فإنّ مصيره الانهيار لا محالة، وكذلك انحطاط وضع الطبقات الدنيا من المجتمع ماديّاً واقتصادياً، (ولكنّ الأمر لا يقتصر على تلك الأحوال الاقتصادية، بل يجرّ معه الأحوال الأخلاقية، فهناك ارتباط بين

١٦٣

هذه وتلك؛ لأنّ حال الحضارة في العمران، حينما تصل إلى هذا الحدّ، لا بُدّ من أن يتبعها فساد الأخلاق وانتشار الشرور، ويكون ذلك في بادئ الأمر، في الطريق المُتّبع في تحصيل المعاش. أمّا ابن خلدون فيقول: أمّا فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكدّ والتعب في حاجات العوائد. التلون بألوان الشرّ في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها فذلك يكثر منهم الفُسق والشرّ والسفسفة والتَحيّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص فيه واستجماع الحيلة له. فتجدهم أجرياء على الكذب والمغامرة والغش، والخلابه والسرقة، والفجور في الأيمان، والربا في البياعات، ثُمّ تجدهم أبصر بطريق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة بدواعيه...، ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة، ويُجاريهم في ذلك كثيرٌ من ناشئة الدولة وولدانهم، ومن أُهمل عن التأديب وغلب عليه خلق الجواري وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات. وذلك أنّ الناس بشر متماثلون، إنّما تفاضلوا وتميّزوا بالخُلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، فمَن استحكمت فيه الرذائل بأيّ وجه كان وفسد خُلق الخير فيه لم ينفعه زكاء نَسَبه، ولا طيب منبته، ولهذا نجد كثيراً من أعقاب البيوتات وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدولة منطرحين في الغِمار، مُنتحلين للحِرَف الدنيّة في معاشهم، بما فسد من أخلاقهم وتلونوا به من صِبغة الشرور والسفسفه، وهكذا تنتهي الحضارة إلى فساد الأخلاق، كما انتهت إلى فساد وجود المُجتمع، ووقوع الناس في هوّة الفقر، بل إنّ فساد الأخلاق ليس إلاّ نتيجة لفساد وجوه المعاش وانتشار الفقر) (1) ، لقد فات الكاتب مسألةٌ مهمّة،

____________________

(1) شيخ الأرض - تيسير - علم الاجتماع عند ابن خلدون - ص154 - الجامعة الإسلاميّة، العدد الثالث، السنة الثانية.

١٦٤

وهي عامل الدين والحاكم والمجتمع، واتّجه إلى تفسير الانحطاط الأخلاقي وانتشار الفساد بالعوامل الاقتصادية.

وأتيتُ بذلك شاهداً على إنّنا لحدّ الآن لم نُفسّر التاريخ تفسيراً سليماً، إنّما هناك إرهاصات، وهذه الإرهاصات يشوب الكثير منها تبنّي أفكار أو نظريّات خاصّة واعتمادها، وعدم درس الحقائق التاريخيّة دراسة علميّة دقيقة. وما ذلك إلاّ الضعف في منهجية بحوثنا. وقد ساير بعضُ الكُتّاب الايديولوجيّات التي يؤمنون بها لتفسير التاريخ طبقاً لتلك المُعتقدات وغاب التفسير الديني للعوامل التي أثّرت على حركة المُجتمع وتطوّره ثُمّ انحداره وموته، فالكاتب هُنا أكّد على التفسير الاقتصادي للانحلال الخُلقي وانتشار الفساد، وكان كلّ اعتماده على رُأى ابن خلدون في ذلك، من زيادة الضرائب والمكوس والغارة على أموال العامّة وجمع الأموال بشتّى الوسائل لبناء القصور والحدائق وبذخ الأموال على شراء الجواري وغيرها، التي أثّرت على الأسعار والتجارة والصناعة والزراعة فارتفعت أيضاً أسعارها، وتحمل الضغط كلّه الطبقة الفقيرة، واستشرت حالة الانتفاخ الحرام للطبقة المتسلطة من المجتمع على حساب الطبقة العامّة.

وهذا مضمون ما طرحه ابن خلدون واعتمده الكاتب.

إنّ للعوامل الاقتصادية أثراً لا يُنكر، لكن لو التفتنا إلى جانب مُهم ومؤثّر هو مدى إيمان الناس واحترامهم لمبادئهم وعقيدتهم وتمسّكهم بها مع وجود حاكم مُسلم بمعنى الكلمة يعي ويفهم حقائق الدين، ويُطبّقها على شَعبه كما يُطبّقها على نفسه يسود واقعة الحقّ والعدالة والإنصاف، ويُعين الضعفاء، ويُهين الأقوياء الظلمة، ويُراقب نفسه فيما أمره الله تعالى، من حفظ أموال الرعيّة، وصيانة ممتلكاتهم، والدفاع عن حياتهم وأرواحهم من العدوان والطُغيان. وفي طرح الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر خير معلم وبيان، حينئذ لا يُمكننا أن نسمع

١٦٥

عن فساد أخلاقي واجتماعي، وما عاشه المسلمون الأوائل مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو خير مثال لذلك، فإذن هناك ترابط تامّ بين كلّ هذه العوامل التي أدّت إلى الدمار والانهيار، ويجب أن نعي هذا الأمر، ونؤكّد عليه من خلال أُطروحاتنا وبحوثنا.

النظام الاجتماعي الأخلاقي والحضارة

إنّ وجود نظامٍ أخلاقيٍّ اجتماعيٍّ يستلهم أُصوله ومبادئه من العقيدة الإسلاميّة ويقوم بالإسهام في نظم الحياة الإنسانية كلها لا بّد منه، (والحق أنّ صياغة الفرد والجماعة والدولة صياغةً أخلاقيةً على النحو الذي شرّعه الإسلام في نظامه الأخلاقي، بحيث تسودها الأخلاق الإسلاميّة في كافة التصرفات والقرارات والتطبيقات وسائر الأحوال يهمّ إلى درجة كبيرة في إيجاد خضوع للقانون مضموناً وجوهراً لا شكلاً ومَظهَراً، وهو أمرٌ يحتاجُ إلى نظامٍ أخلاقيٍ عمليٍ يوصل إلى هذا الهدف، يمتلك من الخصائص والضمانات والوسائل العمليّة ما يُمكن له من أن يتحوّل إلى واقعٍ ماثلٍ حيٍّ، وأن ينقل من النظريّة إلى التطبيق، وهذه الخصائص والضمانات والوسائل قد انفرد بها نظام الأخلاق الإسلامي.

أما (الأخلاق الإنسانيّة)، في مختلف الفلسفات الداعية إلى الأخلاق والتي تمثّل دعوة عامّة إلى الأخلاق الحسنة مع الاختلاف في مضمونها ومفرداتها، فإنّه ليست سوى دعوة غير ملزمة وهمسات توجيهيّة وتذكير بالأخلاق في لائحة مواعظ وإرشادات، مع ترك الإنسان حُراً في مدى الاقتناع والاستجابة، وإذا كانت كذلك فماذا تُجدي؟ وماذا بها من غِنى؟ وأنّى لها أن تصمد أمام هوى النفس وبريق الذهب وفرصة المتاع ولذائذ الدُنيا؟). (1)

____________________

(1) البياتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الإسلامُي مقارناً بالدولة القانونيّة ص 137 الطبعة الثانية.

١٦٦

ونستطيع أن نقول: إنّ أيّ تطوّرٍ حضاريٍ يجب أن يُرافقه تطوّرٌ أخلاقيٌ في المُجتمع، وهذا يستلزم وجود عقيدةٍ صائنةٍ حيّة تُحدد معالم وأسس ذلك المنحى، ولم نرَ غير الإسلام جامعاً لهذين الشطرين معاً، فمع وجود العقيدة الصحيحة السليمة وتلازم الأخلاق مع التطور الحضاري، فإنّ المُجتمع حتماً سينجو من المخاطر الأكيدة والمحيطة به مع هذا التطور الحاصل في العلوم والتقنية العالية في الاستخدامات الصناعيّة والتي طوت المسافات في الكُره الأرضية وانغمست في الراحة التامّة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع الانحلال الخُلقي والتدهور الحضاري بعد انطماس القِيَم الأخلاقيّة وذوبانها في المفاهيم الديمقراطية والحريّة الشخصيّة والحضارة الزائفة، والعالم الآن يعيش ذلك، فالغرب المُتقدّم في طريقه إلى الظلام الدامس والموت الأحمر والقضاء على البشريّة تدريجيّاً، حيث انتشار الفساد بكافّة أنواعه، من زنى ولواطٍ وفجورٍ متنوع، وخمورٍ ومُخدّراتٍ مستشريةٍ بين الشباب والأطفال، وأمراضٍ متنوعةٍ لا علاج لها أصلاً كـ (الايدز) وغيره من الأدواء التي ستقضي على آثار ذلك التقدّم العلمي وتلك المدنيّة، إذن تبقى القضيّة الأخلاقية بكافّة صورها هي الأساس في المحافظة على قِيَم المُجتمع وتماسكه والمحافظة على ظواهره الاجتماعية.

فدراسة العلم الاجتماعي الأخلاقي لدى عليٍّ (عليه السلام) والاستفادة منه والعمل به لا يكون إلاّ من خلال الحاكم الذي يتحرّق قَلبَه على رعيّته، ويتمسك بحبل الله الممدود، ويتّخذ من وصايا عليٍّ أنموذجاً تطبيقياً في قيادته وحياته مع الناس، ويكون هو أُمثولة القائد الشجاع والمؤمن الذي يسعى لخير أهله وبَلده، ويُبعدهم عن تلك الشُرور المُحرقة في الدنيا وفي الآخرة، وإلاّ لأصبح المجتمع ذا نسقٍ واحدٍ في الحياة، وعندئذ تنتفي الحاجة للتنظيم والتدبير، فالمجتمعات خليطٌ من مُختلف أفكار وعقول شتى ومستوياتٍ علميةٍ مُتباينة، وفقرٍ وغنى بينهما هوة شاسعة،

١٦٧

وإيمان عالٍ وجحود وابتعاد عن دين الله، فما بين هذا وذاك يتّضح لنا الاختلاف البائن وصور السلوك المُختلف، وما ينتج عن ذلك من مشاكل واختلافات تحتاج إلى طُرق معالجةٍ علميّةٍ ودقيقةٍ؛ لأنّ قيادة المُجتمعات ليست في طرح النظريّات على الورق، ولا هي قوالب جاهزةٍ مصنوعةٍ في المعامل نأخذها ونضعها على رؤوس الناس ليسيروا بها وِفقَ ما صُنعت إليه.

حُريّة الإنسان في المُجتمع

هُناك مَن يقول أنّ الإنسان يولد حُرّاً، والمجتمع هو الذي يُقيّد حُريّته وحركته، فالطفل حينما يُولد تأخذه القابلة فوراً وتُقمّطه بقماطه وتشدّ يديه ورجليه وتمنع حركته، فإذن أوّل شيءٍ يستقبله هو القيد بِيَدِ عُضو من المجتمع الكبير وهي القابلة، فتُقيّد حريّته، في حين أنّ هناك كلمة للإمام (عليه السلام) هي أبلغ من كلّ كلامٍ، وأكثر واقعيّةٍ من غيرها، ولها مدلولاتها التحرّرية، وفيها معانٍ سامية هدفها خَلق الإرادة الفكريّة والعمليّة لدى الإنسان، فقد قال (عليه السلام):

(لا تكنْ عبدَ غيرك وقد خلقك الله حُرّاً)، فالعبوديّة خالصةٌ لله تعالى لا لغيره، والإنسان حُرٌّ في إرادته وفي تفكيره وفي حياته العامّة، وهذه الحريّات يجب أن يُرافقها مُراعاة الجوانب والضوابط التي حدّدتها الشريعة؛ حتى لا تُنتهك حُقوق الآخرين المشروعة في العيش بسلام وأمان، وتُصان الحياة العامّة والنُظم التي تُسيّر الحياة الاجتماعيّة من كلّ انحراف أو تجاوز، مع احترام القوانين التي تُنظّم المسيرة الاجتماعيّة، ومع ضمان سلامة الحُريّات العامّة ضمن إطار الشريعة الإسلاميّة، فإنّ الإنسان سيتحرّر ذهنه من الضغوطات القاتلة لحركة الإبداع والتطور، وبالتالي فإنّ هذا الإنسان سوف لا يشعر بالذلّ والاستعباد والحقارة

١٦٨

ويكون عنصراً نافعاً، حتى في جانب الإيمان العقائدي يرفض الدين الاعتقاد الوراثي المُقولَب والجاهز، إنّما يرى في ذلك آثاراً سلبيةً مُستقبلاً، ويؤكّد على أنّ الإنسان يجب عليه التفكير والتدبّر قبل الإيمان والاعتقاد؛ حتى يضمن التماسك والرصانة أمام كلّ التيّارات المختلفة؛ فعليٌّ هو سعادة للبشريّة في أفكاره وسلوكه؛ لأنّها قابلة للتطبيق مع العقيدة الإسلاميّة في وقت واحد، لأنّ الأولى فرع من الثانية، فإنّهما قانون شامل للمجتمعات تسعد به وتعيش بسلام معه.

ولو عُدت لكُتب الإمام (عليه السلام) وكلامه لوجدته كيف يهتم بأُمّته، بل برعيته وهم عموم المجتمع، سواء كانوا مسلمين أو ذميّين، فالعدالة عنده للجميع مادام هو في ظلّ الإسلام.

الحزمُ واللِينُ

إنّ طبيعة الناس الذين يُكوّنون المجتمع لا تتوافق في سلوكيّة مُعيّنة؛ نتيجة للتباين في الأفكار والفَهم والاعتقادات في القوانين والنُظم، والإمام (عليه السلام) يرسم خط سيرٍ القائد في علاقته مع شَعبه مادام المجتمع بهذا الشكل من الاختلاف، فلابدّ إذن من مسيرة خاصّة وهو خلط الشدّة بضغث من اللِّين، (والضغث في الأصل: قبضةٌ حشيشٍ مختلط يابسها بشيءٍ من الرَطِب، ومنه (أضغاثُ الأحلام) للرؤيا المُختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد: امزج الشدّة بشيء من اللين فاجعلهما كالضغث) (1) .

ثُمّ إذا بدا أنّ الأمر لا ينفع معه إلاّ اتخاذ الحزم والشدة بناءً على مُقتضيات المصلحة الإسلاميّة والعامة وضمن الحدود الشرعية، فاستخدام ذلك

____________________

(1) ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - م 17 - ص 4 - دار إحياء الكتب العربيّة - الحلبي وشُركاه.

١٦٩

ضروريٌّ.

وهذه مسألة أساسيّة في إدارة الحياة الاجتماعية والسياسية للبلد، وهي أيضاً حالةٌ نفسيّةٌ توجد في أعماق الكثير من الناس، فهي تستخفّ بالحاكم الذي يكون سياج مملكته هدفاً واهناً للأعداء والطامعين، والمجتمع إذا استشعر ضعف الدولة وعدم قُدرتها في السيطرة على مقاليد الأمور لضعف الوالي فسوف يختلّ التوازن الاجتماعي والسياسي، وينهار معه النظام الاجتماعي والأمني، ويصبح الأمر في غاية الخُطورة.

والبلد يكون حينئذ غابةً لوحوشٍ ضاريةٍ ومتنوعةٍ يأكل بعضها البعض الآخر. إنّها مسألةٌ عظيمةٌ وحيويّةٌ، فالوالي المسلم عليه أن يُحافظ ويصون ويعدل ويُراعي الجميع، باسطاً لهم نفسه، مادّاً يده، مُعطياً الحقوق والحريّات بما شرّعته العقيدة الإسلاميّة، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(كُلّكم راعٍ وكُلّكم مسؤولٌ فالإمام راعٍ وهو مسؤول، والرجّل راعٍ على أهله وهو مسؤولٌ، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وهي مسؤولةٌ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤولٌ، ألا فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول). (1)

فالمسؤوليّة جسيمةٌ وخطيرةٌ، وتتطلّب نفساً تخاف الله وترعى حُرماته، وقلباً رءوفاً، وفكراً ناضجاً يستعمله في المُلمّات، مدبّراً قديراً أميناً شجاعاً.

هذه كلّها متطلّبات واقعيّة تُعطي معاني أساسيّة لطبيعة علاقة الراعي مع الرعيّة والحاكم مع المحكوم.

____________________

(1) صحيح البخاري - ضبط وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلد الخامس - ص 1988 - الحديث رقم 4892 - مطبعة الهندي.

١٧٠

الرعايّةُ للجُمَيع

طَرفٌ آخر من المُعادلة الاجتماعيّة تشمله الرعايّة الإنسانيّة الإسلاميّة، ويدخل في الموازنة العامّة وِفقَ إطارٍ خاصٍّ تُنظّمه صورة الرسالة التالية، التي توضّح تتبّع الإمام (عليه السلام) للأحداث، ودفاعه عن طوائف المُجتمع المُختلفة، حيث قال (عليه السلام):

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَلا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالإِدْنَاءِ وَالإِبْعَادِ وَالإِقْصَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ). (1)

لقد أعطى الإمام (عليه السلام) طريقة العمل مع صنف آخر من المُتجمع بعد أن وصل إليه خبر تعرّض بعض أكابر القوم من الدهاقين الذين يأمرون ولا يأتمرون للضغط والشدّة والقسوة، وكذلك الاحتقار والجفوة لهم، فالإمام يقول: يجب أن يكون هُناك توازنٌ في التعامل والعلاقة مع هؤلاء الناس، لا أن تُدينهم فهم ليسوا أهلاً لذلك؛ لأنّهم من أهل الشرك وأنت والي المسلمين، ولا تُقصيهم - أي تُبعدهم وتجفوهم - لأنّهم من المُعاهدين، فأشعرهم بالمعاملة اللينة مشوبة بطرف من الشدّة؛ حتى لا يشعر بضعفك في حيالهم وعند ذلك يستهينون بأمرك، وأشعرهم بأنّك شديد في وقت الشدّة، أي: يكون عملك متداخلاً بين قوّةٍ ورأفةٍ أو تقريبٍ وإبعادٍ مع هؤلاء، للأسباب النفسية التي يجب أن يُراعيها العالِم أو والي المسلمين،

____________________

(1) نهج البلاغة - ص 376 - تحقيق د. صحبي الصالح.

١٧١

هذا في جانب العلاقة مع المشركين والمُعاهدين.

هناك جانب آخر يُظهره الإمام ويُوضّحه لعُمّاله، وكما جاء في هذا الكلام له (عليه السلام) (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ.

فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ، وأرفِقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لا تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ.

وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلامُ). (1)

فبعد أن أثنى (عليه السلام) على عامله من أنّه من الرجال الذين يعتمدهم في مُهمّاته في إدارة البلاد، ومن الذين يستعين به على إقامة العدل وإظهار دين الله، استمر الإمام (عليه السلام) في بيان مزاياه على أنّه من الولاة الذين يقمع - أي يدحَر - به الأعداء ويكسر به شوكة المُتكبّرين، أصحاب الذنوب والخطايا، ثُمّ قال: (وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ) (الثغر: مظنّة طروق الأعداء في حدود المملكة، واللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الإنسان). (2)

ففي كلامه (عليه السلام) تشبيهٌ رائعٌ من أنّه الخندق المُتقدّم الذي يُدافع من خلاله عن ثغور المسلمين أمام أطماع الأعداء الغاصبين، ثُمّ يطلب منه الاستعانة بالله أولاً وقبل كل شيء أمام الهموم والمشاكل التي تواجهه، والنظر إلى الأمور بدقةٍ وحذرٍ مُتناهي، فالمجتمع وأي مجتمع كان لا يمكن أن يتّصف بسلوك واحد ومسيرة واحدة أبداً، اللّهمّ ربما إلاّ في حالة واحدة عابرة، لها وقت مُحدّد وتزول

____________________

(1) شرح نهج البلاغة - المجلد 17 ص 3.

(2) نهج البلاغة - محمد عبده - ص 76.

١٧٢

بزوال المُؤثّر هي حالة (العقل الجَمعي) التي تمرّ بها المجتمعات في وقت ومكان واحد ومُحدّد. فالإمام (عليه السلام) يُشدّد على الموازنة الدقيقة في التعامل مع الناس (... قيل لبعضهم: مَن أرجح الملوك عقلاً، وأكملهم أدباً وفضلاً؟ قال: مَن صحب أيّامه بالعدل، وتحرّز جهده من الجور، ولقي الناس بالمُجاملة، وعاملهم بالمُسالمة، ولم يُفارق السياسة، مع لين في الحُكم، وصلابة في الحق، فلا يأمَنُ الجريءُ بطشه ولا يخاف البريء سطوته). (1)

ثِقلُ المُوازنَة

قد ذكرنا آنفاً أنّ المجتمع في طبقاته وسُلوكه مُتنوع، وكل طبقة يجب أن يكون لها تعامُل خاصّ بها، علاوة على أن يكون هَمُّ الوالي الأوّل هو النَظر إلى شؤون العامّة من الناس، ومراقبة سَيرِ حياتهم واحتياجاتهم من جميع المجتمع والاهتمام بما دونهم، ولا العكس كذلك فلكلّ موقعٍ خاص، ولا أقصد بوجوه المُجتمع الطبقة الخاصّة التي ذكرها الإمام في عهده للأشتر، إنّما تلك لها مبحثٌ خاصٌّ بها، وهي بعيدةٌ عن هذا المعنى المطروح وهناك فاصلةٌ بينهما. والرعية عموماً تؤلّف الأغلبيّة الساحقة من المجتمع وهُم العامّة، وهذه الطبقة هي الثقل الأساس في المُجتمع والطبقة المضحيّة إذا ما تعرّضت البلاد للعدوان، فهي في المُقدّمة، وقد وضّح إمامنا ذلك أيضا في عهده للأشتر، وأغلب ما تكون هذه الفئة من الناس أصحاب نفوس طيّبة طاهرة مع وجود الرعاع فيهم، فلا مُنافاة في

____________________

(1) ابن الأزرق - بدائع السلك في طبائع الملك - ج1 - ص231 - تحقيق الدكتور علي سامي النشار.

١٧٣

ذلك، وهي راضية بما قسم الله لها من رزقٍ ومن منزلةٍ، غير آبهة بما يتصارع عليه الآخرون طلباً لجاهٍ أو سلطةٍ أو جمع مال، يُريدون أن يسدّوا رَمَق أطفالهم بمعيشتهم اليوميّة. فليس من العقل إلحاق الضَرر بهذا الإنسان المُستضعف، لأنّ ذلك معناه انهيار الدولة؛ لأنّ هؤلاء الناس ليسوا جُثثاً هامدةً لا قول ولا فعل لهم طيلة حياتهم، إنّما كلمتهم أقوى من أيّ شيء، وإذا أُطلقت فهي البركان المُتفجّر، وهذا لا يحدث إلاّ في حالات مُعيّنة، منها انتشار الظُلم واستدامته، ومحاربتهم في معايشهم، وإهمال حقوقهم المشروعة وقضمها حين ذاك يُحدث ما لم يكن في الحُسبان وما لا يُحمد عُقباه؛ لأنّهم الطبقة الأوسع انتشاراً والأكثر عدداً والقوة العاملة التي تُدير حركة المجتمع بجُهدها وبذلها، فالشدّة المطلوبة هنا ليس مع هؤلاء المساكين الضعفاء وإن بَدَرَ منهم شيءٌ فذلك لا يعني أن يكون مُسوّغاً للوالي لكي يُمارس حالة الظُلم والإجحاف، بل سوء العمل والخطأ، والتأديب يتناسب مع الإساءة التي ارتكبها وهي حالة عادية في المجتمعات، إنّما الشدّة مع الذي يدّعي القوّة ويُحاول بكلّ إمكاناته كسب المنافع الباطلة وأكل السُحت الحرام ولو على حِساب حقّ المُجتمع، بل أحياناً إجحافه وظلمه، وأحياناً تطمع نفسه وتُمنّيه للسيطرة على مُقدّرات البلاد والحُكم، وهذه الطبقة - على ما اعتقد - هي التي يقصدها الإمام (عليه السلام) لغرض الحذر منها ومتابعتها واستخدام القوّة معها؛ حيث تكون في أغلب الأوقات قريبةً من الوالي بل في بلاطه، وقد سمّاها الإمام بتسميات مُتعدّدة، منها الطبقة الخاصّة والأُخرى (بالعُظماء)، وجعل قِبالَها مُصطلح للعامّة (بالضعفاء). والعظماء هؤلاء يُحاولون بناء كياناتهم على حِساب مَن هُم أضعف قُدرة وأقلّ مقدِرة وأبعد رغبةً، الذين اكتفوا بما أعطاهم الله من مكانة.

١٧٤

عِلمُ النَفس الاجتِماعي

والعلاقاتُ العامّة مَعَ المُجتَمَع

إنّ قائد البلد وحاكمه لا بدّ وأن يستخدم مُختلف الأساليب في علاقته بطبقات الشعب، ولا بّد أن يكون مُلمّاً بعض الشيء بعلم النفس الاجتماعي الذي يُعطي للموازنة الاجتماعية حالة الضخّ المعنوي لاستقرار وضع المجتمع، وفي ذلك قال (عليه السلام): (وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَالسَّلامُ) (1) .

إنّ إنزال النفس للرعية والالتفات الكريم لهم تضع حالة الاستقرار في موضعها، وتعطي زخماً قويّاً للعلاقة الصميمة بين الراعي والرعيّة.

إنّ الشعور بأحاسيس المجتمع له دورٌ في تبادل المحبّة والوفاء بين الوالي والرعية، فلا يأتي لمقابلة رعيته بوجه مُقطب عبوس يقطر بُغضاً وحِقداً وكراهيّة، أي لا يُقابل المجتمع إلاّ وهو مبسوط الوجه، أي الانبساط والراحة حتى يعطي الدلالة على الرضا والمحبّة؛ لأنّه ليس رئيساً للشرطة أو المحتسب في البلاد ليكون بتلك الصورة حتّى يخافه المُجرم والمُسيء، إنّما هو أبٌ للرعيّة وقائدٌ لمسيرتهم.

ثُمّ يطلب الإمام (عليه السلام) أن يعطيهم من نفسه حتى يتحدثوا معه ويستأنسوا به، والسماح لهم بتقديم طلباتهم وطرح مظالمهم، فالمساواة بينهم مبدأٌ أساسيٌّ عند الإمام (عليه السلام)، وهذه المساواة لا تكون في جانبٍ واحدٍ محدودٍ، بل حتى في أقلِّ الأشياء في اللحظة والنَظرة، وهذا الوصف كمال الدِقّة في التعبير، حيث يتبين من خلاله حجم العلوم

____________________

(1) نصّ العهد للأشتر.

١٧٥

النفسية والاجتماعية التي يحملها الإمام (عليه السلام)، والتي صورّها في كلامٍ بليغٍ لا يُدركه إلاّ مَن أمعن في التصوير البلاغي، وهذه تحتاج إلى بحوثٍ خاصّةٍ في العلوم النفسيّة والاجتماعية، حيث لو نظرنا إلى القرب الدقيق في الحالة الوضعيّة الدقيقة لِلحْظَة والنظْرة، أو في الحركة التي تتمّ بين الأجفان وإدارة العين، والعين إذا نظرت بحركات مُعيّنة، أو الجفن إذا تحرّك، نجد أنّها تحمل في طيّاتها معانٍ كثيرةٍ، فالمَحبّة والغضب، وعدم الرضا فيها والقبول الحَسن وما يتبع ذلك، والشاعر يقول:

اقسم اللحظ بيننا إنّ في اللحـ

ـظ لعنوان ما تجنّ الصدور

أنّما البرّ روضةٌ فإذا ما

كان بشرٌ فروضةٌ وغدير

وكذلك في الإشارة والتحيّة، وهي قضية نتعرّض لها يوميّاً في مجتمعاتنا، حيث نقول: إنّ فلاناً نظر إليّ نظر شازِرة فما هو قصده في ذلك؟! وربما تحدث مشكلةٌ تؤدّي إلى قضيّة اجتماعية تُنسحب إلى أطراف أُخرى من جرّاء تلك النَظرة التي ربما تكون مقصودة أو غير مقصودة. أو أنّ فلاناً من الناس كانت تحيّته عابرةً، فالسبب في ذلك حتماً أنّه قد سمعَ شيئاً اتجاهه. وقد تكون هذه الصورة غير موجودةٍ أصلاً، وليس فيها أيّ هدفٍ أو معنى، أو أنّ نظرته تدلّ على ارتياحه وإشارته تدلّ على حُبّه لي.

فإذن، المجتمعات في حياتها اليوميّة قد اهتمّت في هذه العناوين والأعراف وتعوّدت عليها وتوارثتها، وأخذت النفوس تقرأ المعاني في العُيون، وتعرف الأهداف في الإشارة والتحيّة، فالناس أخذت تلتفت إلى هذه الأُمور وتهتمّ بها، فإذا ما كان صاحب تلك التعبيرات في العين والوجه واليدين (الوالي أو الحاكم) فهنا الأمر يكون أشدّ وأكثر أهميةً وخطورةً، ولكن إذا ما ساوى في هذه الصور بين الناس؛ فلا يبقى هناك تأويلٌ مُعيّنٌ أو إشعارٌ بحالة رضى أو رفض لبعض الناس دون الآخرين.

لله دَرّك يا أمير المؤمنين في عُمق هذه العُلوم يا سيدي، فقد أعطيتنا دروساً لنا ولِما بعدنا في كافّة نواحي الحياة، ثُمّ (حتى لا

١٧٦

يطمع العُظماء في حيفك ولا ييئس الضعفاء من عَدلك)، كل ذلك من أجل رعاية ضعفاء الناس من المجتمع، لأنّ كبراء القوم - أي عظماءهم - يترصّدون حركة وُكلام الوالي، وهدفهم الانقضاض على الفريسة، أو الجيفة - إن صحّ التعبير - لأنّ مَن يطمع بظلم ضعفاء الناس وسرقة حقوقهم المشروعة عند الوالي لمصالحه الذاتية، ومتابعة ما يقوم به الوالي لهؤلاء من حركات وأفعال لإجهاض كلّ عمل خيرٍ وصالح للناس هو في حقيقة الأمر سقوطٌ على المطامع الدنيويّة التي هي في واقع أمرها جيفة نتنة، وهؤلاء العُظماء يُحاولون الاستفادة من كلّ بابٍ مفتوحٍ حتّى يستطيعون اقتحام قلبِ ونفس الوالي لتحقيق مآربهم على حساب غيرهم، وهذه حقيقة واقعة، فهم إذن أظلم مَن عليها؛ لظلمهم ضعفاء المجتمع واستغلال الحضوة والجاه عند الوالي، وقد قال إمامنا (عليه السلام) في جانب من وصيّته لابنه الحسن (عليه السلام): (وظُلم الضعيف أفحش الظُلم)، فالأعمال التي قد تبدو عاديةً بسيطةً، وهي إشارةٌ ونظرةٌ وتحيّةٌ ولحظةٌ، إلاّ أنّها تترك آثاراً عظيمة لدى الآخرين، فالمُتتبّع يتربّص تلك الحركات ويُدركها فوراً، فإذا كانت حيفاً للناس أو ظلماً فقد فتح فاه ومَدّ يديه وانبسطت أساريره طمعاً بالوالي لسلب وظلم الضعيف. وكذلك أنّ الإمام (عليه السلام) يُخبر الوالي أنّ الضعفاء إذا شعروا بظُلمك سوف يُصيبهم اليأس من عدالتك، ومسألة اليأس من العدل تجرّ إلى أُمورٍ كثيرةٍ سنتداولها في بحثنا هذا.

١٧٧

١٧٨

الفَصلُ الثّالث

تقسيماتُ المُجتمَع

١٧٩

١٨٠