في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 55585
تحميل: 8642

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55585 / تحميل: 8642
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

آنذاك إذا ما علمنا أنّها يدويّةٌ وتحتاج إلى خُبرةٍ وتجربةٍ عِدّة سنوات، وإن لم يكن تعلّمها من الصغر تتوارثها العوائل من الأب إلى أولاده وأحفاده، ثُمّ هناك بعض الصناعات يُحتقر الإنسان العامل بها، وليس له منزلةٌ بين المجتمع، بحيث استمرت هذه النظرة وانتقلت إلى مُجتمعاتنا، وأصبحت أعرافاً اجتماعيةً لم تنقرض، إلاّ قبل أربعة عقود تقريباً في بعض المناطق من الدول الإسلاميّة، إن لم يكن بعضها لا زال مُتداولاً في بعض المناطق المتخلفة والقَبَليّة.

وقد أدركنا بعض هذه المفاهيم الخاطئة لدى المجتمع، فالاحتقار الاجتماعي هو صفةٌ ذميمةٌ وبعيدةٌ كلّ البُعد عن أصل المبادئ الإسلاميّة والإنسانية والخُلقيّة، وهذه متأتيةٌ إمّا من عاداتٍ وأعرافٍ قديمةٍ أو روّج إليها مَن رفضوا المُساواة بين البشر، والحقيقة أنّه لا فَرق بين هذا وذاك إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.

النظرة العامّة للصنّاع عند اليونانيّين القُدماء

في الحضارة اليونانيّة القديمة في أثينا كانوا يعتبرون أنواع المِهن (دنيئة) (وها هوذا زنوفون يتحدّث في زهوٍ وفي غير مُجاملةٍ بوصفه واحداً من طبقة الفُرسان، فيقول: إنّ الجماعات المُتمدّنة ترى أنّ ما يُسمّونه بالفنون الإليّة الحقيرة تزري بصاحبها... وهي مُحقّةٌ في نظرتها هذه، ذلك بأنّ العَمل فيها يهلك أجسام القائمين به، سواء فيهم العمّال ومَن يُشرفون عليهم، فهي تضطرّهم إلى أن يقضوا وقتهم جالسين في نورٍ ضئيلٍ أو جاثمين أيّاماً طوالاً أمام الأفران، وهذا الضعف الجسمي يصحبه على الدوام ضعفٌ نفساني، وفوق هذا وذاك فإنّ ما تتطلّبه هذه الفنون الآليّة الحقيرة من الوقت لا يترك للمشتغلين بها فراغاً يُنفقونه في مطالب الصداقة أو الدولة. وكان ينظر إلى التجارة هذه النظرة نفسها، فكان اليوناني الارستقراطي النزعة أو الفيلسوف لا يعدّها إلاّ وسيلة لجمع المال مع إلحاق

٢٦١

الأذى بمن يُجمع منهم، وهو في رأي هذا وذاك لا تبغي خَلق السِلع، بل كل ما تبغيه هو شراءها رخيصةً وبيعها غاليةً، ولهذا فما مِن مواطن خليقٍ بالاحترام يرضى أن يعمل فيها). (1)

العربُ في الجاهليّة والحرف الصناعيّة

إنّ مَن يقرأ التاريخ القديم يجد أنّ العرب قبل الإسلام احتقروا الصُنّاع أيضاً، ونظروا إليهم نظرة استخفافٍ واستهجانٍ، (والحرف، أي العمل باليد، من الأمور المُستهجنة عند الأعراب وعند أكثر العرب أيضاً، فلا يليق بالعربي الشريف الحُرّ أن يكون صانعاً؛ لأنّ الصنعة من حِرف العبيد والخَدم والأعاجم والمستضعفين من الناس). (2)

تطابق واختلاف

هناك حالتان تصور وضع المجتمع الطبقي، واحدة في أثينا القديمة والثانية عند العرب قبل الإسلام، والرابط بين الاثنين هو ازدراء الصُنّاع، لكن ما الذي جمع بين النظريتين في الدولة الأثينية القديمة والجاهلية الأولى؟ الحقيقة لا أعتقد أنّ هناك توافقاً سابقاً بهذا الشأن، وأنّ محور الربط بين النظرة الواحدة اتجاه الصنّاع الصراع الطبقي الموجود في كلّ مجتمع من هذه المجتمعات، ثُمّ الفراغ العقائدي السماوي الذي يُساوي بين الناس، بل إنّ الأديان دأبت على تشجيع العمل بين الأفراد، وإلاّ لو كان هناك مصدرٌ فكريٌّ واحدٌ لهذا التمييز الطبقي لظهر في جميع الجوانب الاجتماعية الأُخرى، إذ إنّ اليونانيين القدماء احتقروا الصنّاع والتجار

____________________

(1) ديوارنت - ول وايريل - قصة الحضارة ص 62 المجلّد الرابع، ترجمة محمد بدران 1408 - 1988، بيروت.

(2) علي - الدكتور جواد - المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج7 ص 26 الطبعة الثانية 1413 - 1993.

٢٦٢

وأصحاب المصارف في آنٍ واحدٍ ولم يُسمح لهم بالانتخاب، في حين أنّ العرب قبل الإسلام كانت تزدري الصنّاع وأصحاب الحِرف في حين كانت تنظر إلى التجّار نظرة سُموٍّ وعُلوٍّ وتقدير، بل مارس أغلبهم العمل فيها.

إذن، المهنة الرئيسيّة كانت التجارة، ولهم أسواقٌ خاصّةٌ بذلك، (لقد كان الجاهليّون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطين في عالم التجارة. والتجارة تكاد تكون الحِرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها وإلى المُشتغل بها نظرة استهجانٍ وانتقاصٍ، بل اعتُبرت عندهم من أشرف الحِرف قَدراً ومنزلةً، ونُظر إلى التاجر نظرة تقديرٍ وإجلالٍ، مع أنّها حِرفةٌ مثل سائر الحِرف، فيها من الحِيَل والخداع واللعب على الناس ما في أيّة حِرفةٍ أخرى، وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد في الزراعة أو الصناعة، ولكنّها نظرةٌ واجتهادٌ إلى الحياة، وظروفٌ طبيعيةٌ جعلت العرب تجاراً في الغالب، فشرّفوا التجارة على غيرها من الحِرف وقدّموها في المنازل والدرجات، وقد بقيت على هذه المنزلة والدرجة في الإسلام كذلك، وأُشير إلى شرفها وسُموّ منزلتها في كُتب الحديث، ممّا يدلّ على ما كان للتجارة من منزلةٍ في نفوس الناس). (1)

على أنّ هذا لم يُعطنا العلّة من احتقار الصناعة واتخاذ التجارة، فالذي أعتقده أنّ مكّة المُكرّمة لَعبت دوراً بارزاً في تنمية التجارة والتشجيع عليها من خلال وجود المواسم الدينيّة الكُبرى، حيث تهرع القبائل العربية من كلّ حدبٍ وصوبٍ لأداء المراسيم الدينية في الأشهر المُعينة من السَنَة، وهذا يتطلّب بضائع جاهزةٍ للبيع والشراء حتى لا يتأخر البدوي في عودته إلى محلّه، فيأتون له بالبضائع من بلاد الروم وفارس حيث الصناعة المتطوّرة هناك، ثُمّ بعد ذلك لم

____________________

(1) المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام م7 ص227.

٢٦٣

يألف العرب الحِرف الصناعية بمعناها الكامل، فمثلاً في مجتمعاتنا قبل عدّة عُقود من الزمن - وليس ببعيد ذلك - كان بعض الصُنّاع تُحتقر أعمالهم، مثل الحائك الذي لا ينظر إليه بمنزلة اجتماعية إن لم يكن يُزدرى في بعض الأحيان، وكذلك بعض الصناعات الأُخرى، وفي حقل الزراعة أيضاً الذي سنتكلّم عنه في فصلٍ قادمٍ إن شاء الله.

وقد بحثتُ عن أصل ذلك في الكُتب التاريخية وما ورد عن الحضارات السابقة؛ لنربط ذلك مع موضوعنا الذي أكّد عليه إمامنا (عليه السلام)، والمقارنة بين القِيَم الاجتماعية التي طرحها الإمام (عليه السلام) والأعراف والعادات والتقاليد الموروثة في المجتمعات ومن ضمنها المجتمع العربي.

لقد كان إنسان الجزيرة العربية في غنىً عن الأمور والأعمال التي تحتاج إلى فنٍّ وممارسةٍ وخبرةٍ، فهو حينما يذهب إلى الحواضر يجد ما يحتاج إليه جاهزاً، فكان لا يرغب بتعلّمها، حيث إنّ المِهن تُقيّد حركته وتنقّله في البوادي، بالإضافة إلى النظرة السلبيّة العامّة، فلم يسع إلى العمل فيها ولم يُكلّف نفسه في التحري عن كيفيّة تصنيع المواد الأوّلية، وبالتالي ضعفت حيلته فقهرته فابتعد عنها فتركها لغيره، ثُمّ إنّه قبل الإسلام حينما دعت الحاجة إلى المواد المُصنعة هاجر أهل المِهَن الصناعيّة إلى الجزيرة العربيّة من العراق وإيران وبلاد الروم الذين وجدوا في الفراغ الصناعي عند أهل الجزيرة وما جاورها خير مكسبٍ يرتزقون به؛ لعدم معرفة أهل المنطقة بفنّ الصناعة، وعدم قبولهم تطويع أنفسهم لتعلّم هذه الحِرف، الأمر الذي جعل هؤلاء الصنّاع يكسبون الأرباح والمغانم لانفرادهم بهذه المهنة، وعدم وجود مُنافس لهم، وللخبرة العريقة التي كانت لديهم، بالإضافة إلى أنّ أصحاب هذه المهن أخذوا يستخدمون العبيد والضُعفاء والهاربين من بلادهم، وهؤلاء غالباً ما يكونون مقطوعي الأثر عن أهلهم وبُلدانهم مقابل عرب

٢٦٤

الجاهليّة الذين كانوا يعتزّون بقبيلتهم وأصلهم ونَسبهم الذي يمتدّ إلى عدّة أظُهرٍ من الأجداد، وأنسابهم هذه جعلتهم يستهزئون بل يسخرون ويحتقرون مَن لا أصل له ولا قبيلة تحميه، حيث كانت عندهم العصبيّة القبلية في أُوجها، وبما أنّ هؤلاء الصنّاع كانوا من الأجانب المقطوعين الأصل سرى عليهم الاستهجان والاحتقار، فأصبح أشبه ما يكون بالعُرف الاجتماعي السائد بين المجتمع، فلا يقوم بهذه الأعمال إلاّ مَن هو وضيعٌ وخسيس النسب، فالصناعات إذن خاصّةٌ بهؤلاء ولا تَليق بغيرهم، بحيث أصبح العرب في الجاهليّة ينظرون تلك النظرة إلى أصحاب هذه المهن، وربما يكون ما أوردناه هُنا هو الرأي الأصح.

الإسلام والحِرف

لقد جاء الإسلام بمفاهيم إنسانيّةٍ إلهيّةٍ جعلت من الأفكار المُتخلّفة الجاهليّة موضع السُخريّة والرفض، وأعطت المفاهيم الجديدة لصور الحياة الاجتماعيّة، والتي رفعت من شأن العامل والصانع وغيره بنظرته الإنسانية العالميّة وإلغائه العصبيّة القبليّة، وجعلت من ذلك الأعرابي الذي كان يُفضّل قبيلته على كلّ شيءٍ إنساناً يعتزّ بإسلامه، ويفخر بأنّه ينتسب إليه لا إلى غيره، وذكر أنّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: (إنّي لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني). (1)

في كلامه هذا (عليه السلام) قلبَ كلّ الموازين الطبقيّة، وأعطى دفعاً معنويّاً للصنّاع وأهل الحِرف، وكذلك فقد أعطى أئمّةُ أهل البيت (عليهم السلام) دفعاً معنوياً كبيراً للرجل الذي له عملٌ معينٌ، فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله إنّ (الكادّ على عياله

____________________

(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - م7 - ص505.

٢٦٥

كالمجاهد في سبيل الله) (1) ، ورغم كلّ ما ذكرناه، فهناك نقص في المعلومات الكاملة عن هذه المجتمعات والطبقات الموجودة فيها، وقد اطّلعنا على بعض الحقائق التاريخية التي تُدلّل على أنّ بعض المجتمعات لا تُزوّج الصنّاع النساء، ولا يتزوجون منهم لاحتقار حِرفهم، وتكاد هذه الحالة أن انقرضت في أغلب مُدُنِنا الإسلاميّة، في حين أنّ الإمام (عليه السلام) طلب رعايتهم والاهتمام بهم لعلاقتهم بحركة المجتمع وكيان الأمة، ثُمّ إنّهم صنفٌ متقدّم يُساعد على عمران البلاد، وكما هو معلوم أنّ كتبنا التاريخية، أي المصادر الرئيسية وأُمّهات الكتب ما عدا الدراسات المعاصرة لم تكتب سوى تاريخ النُخبة وترفِهم ولهوهم، وكم جاريةٍ لديهم، وكم قصر عندهم، وما يأكله السلطان، ثُمّ التحدّث عن عدل الخليفة الوهمي أو الصور المزيفة عن عدالة خلفاء بني أُميّة وبني العبّاس؛ لأنّ أغلب تلك الكُتب دوّنت في حياة هؤلاء السلاطين وتحت رعايتهم الماديّة ودعمهم المعنوي للمؤرّخين، وأهملوا كتابة التاريخ الاجتماعي للناس وحياتهم وصنوف وطبقات المجتمع وما يعملون وما يُنتجون والحالة الاقتصادية والمدنيّة السائدة آنذاك، سوى ما كتبه ابن خلدون في مُقدّمته وما تبعه في القرون الأخيرة من المؤرّخين والكُتّاب والمستشرقين أمثال ادم متز في كتابه (تاريخ الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع) الاجتماعية، فخلاصة الأمر أنّ الوضع الاجتماعي لم يتبدّل بسرعةٍ بعد قيام الإسلام، حيث انشغال المسلمين الأوائل بالفتوحات الإسلاميّة الكُبرى، وعدم توجههم إلى أمور قد استغنوا فيها عن التكلّف في البحث عنها أو تصنّيعها، حيث دخلوا البلدان العامرة بالصناعات وفنونها، وإنّ الكثير من أهل البلاد المفتوحة

____________________

(1) فروع الكافي - م5 - ص90 - باب من كدّ على عياله.

٢٦٦

أصبحوا مسلمين، وقسمٌ آخر بقي على دينه، سواء كان من أهل الذمّة أو غيرهم من القوميات والشعوب المفتوحة، وهؤلاء - كما قلنا - قد تفنّنوا في الصناعة والعُمران، وهم متخصّصون في ذلك، وعلى رغم ما جاء في الدين من مبادئ ساميةٍ إلاّ أنّه بقي هناك مَن يأنف العمل في الصناعات بل يستحقرها، ولهذا اتّسع نطاق الصنّاع من القوميّات الأُخرى والمناطق المفتوحة في الحواضر الإسلاميّة، وأبدعوا بذلك وتفننوا في بناء القصور والفُسيفساء والأواني والنجارة والحِدادة والأصباغ والأنسجة، حيث الموال الغزيرة التي تَتدفّق كلّ يومٍ على مراكز الدولة سواء كانت في دمشق أو بغداد في الفترات المتأخرة عن الخلافة الراشديّة.

عليٌّ (عليه السلام) والعملُ بصورةٍ عامّة

يقول الإمام عليٌّ (عليه السلام): (فإنّهم سِلمٌ لا تخافُ بائقته، وصُلحٌ لا تخشى غائلته، وتفقّد أُمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك)، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يُعطي إرشاداته التطبيقيّة على ضوء المعرفة الكاملة بحياة المجتمعات، فيقول: (سِلمٌ لا تخافُ بائقته، وصُلحٌ لا تخشى غائلته)؛ لأنّ هؤلاء كانوا يعيشون تحت رعاية الدين الإسلامي، والبعض كانوا حديثي العهد بالإسلام، وجُلّ اهتمامهم في عملهم، ولم يستمِلهم الخوص في الصراعات السياسية، وكانوا أشبه ما يكون بالطبقات التي ابتعدت كُلّياً عن الصراعات والنزاعات، وما نقرأه من تدخّل بعض العناصر في الصراعات سواء من الذين دخلوا الإسلام حديثاً أو الموالي أو المُعاهدين في فترات مُتأخّرة لم يكونوا من تلك الفئات التي ذكرها الإمام وهم التجّار والصنّاع، إنّما هؤلاء فئةٌ جديدةٌ استحدثتها الأوضاع السياسيّة في البلاد الإسلاميّة، ووصول عناصر بعضها تُربّى في أحضان السلطة وتقدّم، والبعض الآخر كانت له صولاتٌ عسكريّةٍ وقياديةٍ في الجيوش الإسلاميّة، ويمتلك

٢٦٧

بعضهم خُبراتٍ إداريةٍ أو ثقافيةٍ أوصلته إلى قصر الخليفة، وأصبح بعضهم يُحيك المؤامرات أو يُشارك فيها لسببٍ أو آخر، فهؤلاء لم يكونوا من الذين خصّهم الإمام (عليه السلام) بالذِكر من الذين تطوّروا في مِهنهم وأصبح لهم وجودٌ خاصٌ واهتمامٌ لم يكن مألوفاً؛ للحاجة الماسة إليهم، فانحاز هؤلاء إلى أعمالهم خوفاً وتحرُّزاً من البَطش بهم وسلب أموالهم وهتك حُرماتهم، بل تحوّل قسمٌ من أبنائهم إلى دراسة العلوم العقليّة والنقليّة واللغويّة، وساهموا مساهمةً جادةً في تطوير هذه العلوم وأحسنوا العمل بها، فحازوا على الحضوة والجاه لدى السلطان أو الولاة.

إذن، بقيت الصناعات وتفرّعاتها بيدهم، وذكر الشيخ المطهّري حول ذلك أنّه (لم يكن للعرب على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنون وصناعاتٌ، وإن كان فهو لم يكن، وإنّما اقتبسوا فنون ما بين النهرين ومصر وسورية وإيران، ونجد في صحف الصين، أنّ الخلفاء الأُمويّين كانوا يطلبون أساتذة الفنّ من جميع الولايات المفتوحة، ويستفيدون منهم في بناء المُدن والقصور والمساجد، فكانوا يطلبون الأساتذة البيزنطيّين في صناعة القاشاني والفُسيفساء المعرّق لتجميل مساجد دمشق، وكانوا يجعلون عليهم أساتذةً إيرانيّين، وكانوا يستخدمون لأبنية مكّة صُنّاعاً من مصر والقُدس ودمشق، وكان هذا مستمرّاً حتى عهد العباسيّين أيضاً). (1)

فالتجارة والصناعة إذن صنوان لا يفترقان في تقدّم العمران والمدنيّة وإدارة البلاد اقتصادياً، وهما بطبيعة الحال تُساهمان سويّةً في مجالات تقدّم البُلدان وتطوّرها.

____________________

(1) مطهري - الشيخ مرتضى - الإسلام وإيران، ج3 ص17، 1405 - 1985 ترجمة هادي الغروي.

٢٦٨

الزِراعةُ والأرضُ والزُرّاع

لقد ذكرنا في باب الخراج وعمارة الأرض عن الزراعة والأراضي الزراعيّة الشيء اليسير، إلاّ أنّنا نقول في هذا الفصل: إنّ الإسلام قد أولى اهتمامه إلى هذه المِهنة، والأرض الزراعية، وقسّم الأراضي إلى عِدّة أنواع، ووضع لكلّ قِسمٍ حُكمه الشرعي، حيث الأراضي الواسعة التي دخلت الإسلام عُنوة وفتحاً أو صُلحاً وسِلماً، ومنها الصالحة والعامرة والموات، واعتُبِرت المورد المالي الرئيسي للدولة الإسلاميّة آنذاك.

إنّ عرب الجاهليّة كانوا لا يهتمّون بهذه المِهنة وانتاجها وتنوعه، بل تكاد تبدو غريبةً على البعض، إلاّ ما غُرس من نخيلٍ وأشجارٍ مثمرةٍ حول الواحات والينابيع التي كان بعضها ينمو تلقائيّاً، وإنّ ما وُجد من مزارع في الحواضر والمُدن سواء كانت في المدينة المُنوّرة أو الطائف أو غيرها من المناطق فإنّ أغلبها مِلك لليهود والنصارى المقيمين هناك، وإذا ما كانت بعض المزارع بيد العرب فإنّ أغلبهم يستخدم الموالي والعبيد والأحباش وغيرهم ممَن كانت لهم خبرةٌ في ذلك، أو للاستخدامات الأُخرى المتعلقة بالحرث ونقل الماء وغيره، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ عموم الجزيرة العربيّة وأطرافها لا تعرف الزراعة كلّها، إنّما كانت اليمن تُسمّى باليمن السعيد لكثرة زراعتها وتنوعها، والأطراف الساحلية الأُخرى من عمان، ثُمّ بلد السواد العراق، ثُمّ بلاد الشام في هوائها العَذب وزرعها المُتعدّد الألوان ناهيك عن بلاد النيل وزراعتها، إذن ما نتكلّم عنه هو منطقة الجزيرة العربيّة بالذات، الذي تحدّث عنها المؤرّخون وقالوا في أهلها حول الزراعة: (أمّا الأعراف، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المُزارع (الخضّار)). (1)

____________________

(1) المُفصّل في تاريخ العَرب قبل الإسلام - م7 - ص26.

٢٦٩

ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المُزارع عند أهل الحَضَر أيضاً، حتى أنّ بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض. حتى بعد الفتح، تاركين ذلك إلى أهل الذِمّة، والتعليل لذلك كما يقول الدكتور جواد علي: (وكراهة الزرع، كراهة نشأت من عدم توفّر الماء والأرض لأكثر الناس). (1)

إلاّ أنّنا لا نتوافق مع الأستاذ الكبير الدكتور جواد علي في هذا الرأي، والسبب هو أنّ المسألة عند أهل الجزيرة هي نفسيّةٌ واجتماعيةٌ اتّجاه الزراعة، وأنّ القبائل كانت لا تهتمّ إلى هذا الأمر لعدم وجود الحاجة الماسة إليه، فما يحتاجه من الحنطة والشعير يكتاله الأعرابي أيّام المواسم من الحواضر التي تجلبه من المناطق الأُخرى، ثُمّ إنّ التمر موجودٌ بكثرةٍ، بالإضافة إلى اعتمادهم على أكل اللُحوم ومُنتجات الحيوان اللبنيّة، فالثريد هو غذائهم الرئيسي، والتمر والكروم هو فاكهتهم المُفضّلة، أمّا البقية فالأعشاب البريّة تسدّه، فالذي اعتقده أنّ تلك لم تجلب اهتمامه وتدفعه الحاجة إليها، ثُمّ إنّ العمل فيها كما في الصناعة يقوم به العبيد والموالي وأمثالهم، فهو لا يعتقد بشَرف تلك المِهنة وبوجود هؤلاء فيها، بعد ذلك إن القبليّ آنذاك كان همّه الغزو والقتال والغارة والغنيمة وأخذ الثأر، فلم يلتفت إلى هذه الناحية التي يعتبرها وضيعةً ويقوم بها غيره ممَن جُلبوا للعمل فيها من المناطق الأُخرى، ثُمّ عدم ثبات السَكن بالنسبة إليهم حيث إنّ لأغلبهم مواسم مُعينة ومناطق خاصة يتنقّلون فيها طلباً للماء والكلأ، وإنّما يكون الاستقرار في المُدن وقُرب الواحات الكبيرة والعيون الغزيرة، فكان ينظر إلى أهلها نظرة سخريّةٍ واستهزاءٍ؛ لأنّها تقف حائلاً بوجه الأصالة والشجاعة والبطولة التي لا تكون إلاّ من خلال الغزو المُستمر حسب اعتقاده، ثُمّ بعد ذلك إنّها كبقيّة المِهن

____________________

(1) المصدر السابق ص26.

٢٧٠

تحتاج إلى خُبرةٍ وتمرّسٍ بمعرفة التُربة والبذور والمواسم الزراعيّة وتنشئة الزرع، ومراقبته، وتربيته التي لا يعرفها أغلبهم، فهو يعرف النخلة تُشتل وتُلقّح تلقائيّاً أحياناً، أو الأشجار التي تُغرس وتنشأ ذاتيّاً وهي تتحمل العطش الصحراوي، ومن خلال وجود هذه الحالات ولعدم معرفته بخصائص العمل الزراعي تجعله يزدري العمل به، وهذه حالةٌ نفسيّةٌ لدى الكثير من الناس حينما يحتاج إلى أمرٍ ما وهو لا يستطيع الوصول إليه أو الحصول عليه، فيُحاول أن يُقنع نفسه بأنّ هذا الشيء غير مفيد أو غير صالح، لا بل يبدأ يحتقره ويستهزئ بأمره، ليس كُرهاً له إنّما لأنّه لا يستطيع إدراكه، فيبقى ينظر إليه نظرةَ استخفافٍ ذاتيٍّ، ويحاول أن يُقنع نفسه بالعزوف والترفّع عنه وكراهيته إن أمكن، وأنّه لو أراد لاستطاع، ولكن في حقيقة الأمر لا يستطيع فعل شيءٍ، ويُقنع الآخرين بصواب رأيه إلى أن تتسع هذه الحالة النفسيّة البسيطة إلى حالةٍ اجتماعيةٍ وعُرف سائد، وقد أعطانا أمير المؤمنين (عليه السلام) صورةً لمثل هذا النوع من الناس (وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أهل الزَّهَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلا مَغْدًى). (1)

أبو جهل بعقليّته الجاهليّة

إنّ عمليّة الاحتقار لبعض المِهن عند بعض الناس اتخذت أشكالاً مُتعدّدة واتّسعت دائرتها، واعتبر البعض أنّ هذا الاستخفاف والسخرية بتلك المِهَن صفةٌ من صفات الأصالة والسُموّ (وقد استغلّ أهل الحواضر - وهُم قِلّةٌ - ما أنف منه أهل البادية - وهُم الأكثريّة - في الجزيرة العربية، فكان منهم الزُرّاع كأهل المدينة

____________________

(1) نهج البلاغة - ص75، تحقيق د. صبحي الصالح.

٢٧١

والتُجّار كأهل مكّة، غير أنّه بمعنى أشمل ظلّت كثيرٌ من المِهن والحرف مزدراةً يُعيَّر بها أصحابها، فالتميميّون - بني تميم - كانوا يُعيّرون الأزديين بأنّهم بحّارةٌ، لأنّ أبناء عمومتهم في عُمان كانوا يشتغلون بالملاحة، والقرشيّون كانوا يحتقرون أهل المدينة لأنّهم زُرّاع، وحين لقيَ أبو جهلٍ مصرعه في غزوة بدر، لم يُؤسف على مقتله بقدر ما أُسف على انتهاء حياته بيد المسلم الأكار (الفلاح)، إذ يقول وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: (فلو غير أكار قتلني)، أراد به احتقاره وانتقاصه، أي: كيف مثل الأكار يقتل مثل أبي جهل؟!

كذلك قال أبو جهل عندما ارتقى ابن المسعود - الصحابي الجليل - عنقه: (لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم)، وهو قولٌ يعكس احتقار أبي جهلٍ العربي القرشي للإجارة على رعي الغنم وما أشبه من الإجارات، مَثَلُه في ذلك كَمَثل ما يُسمّون بـ (أشراف العرب) أي: الذين يترفّعون عن كلّ حِرفةٍ، أَوَلَم يعلم أبو جهل - لعنه الله - وأشراف العرب بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يرعى غنم أهل مكّة مُقابل بضع قراريط بجانب احتقارهم للعمل والمهن والحِرف؟! كانت العرب تبجّل الشعراء الذين يمدحون الناس مقابل الدراهم). (1)

زراعةُ الخضرواتِ والنَظرةُ الاجتماعيّة

إنّ الاحتقار والازدراء لا ينحصر في جانبٍ واحدٍ، بل تعدّى إلى زارع الخضروات أيضاً، ولا تعجّب من ذلك وأكثر من هذا، إنّ مَن يزرع الطماطم (البندورة) وبقيّة الخُضر كان يُنظر إليه نظرةَ استخفافٍ وسخريةٍ نتيجةً للجهل والتخلّف بين أغلب أهل الريف آنذاك، حيث كانوا يزرعون الحنطة والشعير والرُز وبقيّة الحبوب ولا يزرعون الطماطم، بل إنّ بعضهم لا يأكلها، حيث يعتمدون على

____________________

(1) النفيسي - الدكتور عبد الله - في السياسة الشرعية ص49، الكويت 1405 هـ - 1984م.

٢٧٢

السمن الحيواني والرُز والثريد، ويستهزئون بابن المدينة الذي يأكل الطماطم بأنّه لا أهليّة له ولا شجاعة ولا يفهم من الأمور الاجتماعية شيئاً؛ بسب أكله هذه المادّة، وأنّ مَن يزرعها ليست له منزلةٌ اجتماعيةٌ بين العشائر، وهذا ما أدركناه في أيّامه الأخيرة في العراق، إلاّ أنّه انقرض وأصبح كأنّه شيءٌ لم يكن، إلاّ عند بعض العقول المُتخلّفة جداً والمتمسّكة بأعرافها القديمة، وإلاّ إنّ أغلب مناطق العراق الآن تزرع الطماطم والخضروات، فبعد ما زالت الأسباب التي تُسيطر على أفكار الناس انتهت هذه الحالة العُرفيّة المستهجنة فعلاً، وعَقلَ الناس الكثير من الأمور وأدركوا سخافة الآراء التي كانوا يتلبّسون بها، وتوجّهوا بصورةٍ طوعيّةٍ إلى الأخذ بالآراء الصحيحة، وشعروا بالنقص الشديد نظراً للحاجة الواسعة، ثُمّ أحسّوا باعتقاداتهم الخاطئة بعد زوال المؤثّر النفسي والاجتماعي وقبول المجتمع ككلٍّ هذا التحوّل في الأعراف الاجتماعيّة.

الرسولُ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والعمل الزراعي

إنّ المبادئ الإسلاميّة بشخص الرسول العظيم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أعطت أهميّةً قصوى للزراعة والمزارعين، ودعا إلى الاهتمام بالأرض لأنّها مصدر الخير والبركة، وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خير دليلٍ على ذلك: (مَن كانت له أرضٌ فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعَجز عنها فليمنحها أخاه المسلم، ولا يُؤجّره إيّاها) (1) .

(وظهر من روى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: الزراعة أفضل المكاسب؛ وذلك لِما فيها من عموم الانتفاع، حتى منهم من فضّلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولِما للقوت الذي يأتي منها من صِله بحياة الناس، ومع ذلك بقي

____________________

(1) الصالح - الدكتور صبحي - النظم الإسلاميّة نشأتها تطوّرها ص 379 الطبعة السادسة.

٢٧٣

العُرف الجاهلي مسيطراً على عقليّة السادة الكبار، من افتخارهم بحيازة الأرض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد للعمل بالأرض، أمّا هم فقد خُلقوا ليكونوا سادةً، عملهم امتلاك الأرض، وقد ظَهر من هؤلاء جيلٌ امتلك أراضاً واسعةً في البلاد المفتوحة شغّل فيها أهل الذمّة، والنبط سكان الأرض المفتوحة، ومئات وآلاف من الرقيق والعبيد) (1) ، وقد كان الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) يؤكّدون على أهميّة الزراعة حتى رُوي عنهم (عليم السلام) قولهم: (الكيمياءُ الأكبر الزراعة) (2) ، بل أعطوا المقامات السامية للمُزارعين قولهم: (الكيمياءُ الأكبر الزراعة) (2) ، بل أعطوا المقامات السامية للمُزارعين، فقد ذكر يزيد بن هارون قال، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (الزرّاعون كنوز الأنام، يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلةً، يُدعَون المباركين) (3) .

عمارةُ الأرض الزِراعيّة

لقد وجّه الإمام (عليه السلام) أنظار ولاته وعُمّاله إلى مسألة إعمار الأرض والاهتمام بالفلاحين كفئةٍ اجتماعيّةٍ لها دورٌ مباشرٌ في حياة الدولة والمجتمع بما يُقدمونه من أموالٍ خراجيّةٍ وغيرها وتأمين الغذاء للبلاد، وكانوا هؤلاء من المسلمين ومن أهل الذمّة وغيرهم، واعتبر أنّ عمران البلاد وتقدّمها ومصدر قوّتها فيما تحصل عليه من خَراج هذه الأراضي، فلا بدّ إذن من بذل المال ومساعدة أهلها في الحالات الاستثنائيّة والحوادث غير المُتوقّعة التي ربما تحدث، وقد تحدّثنا عن بعضها في فصل الخراج (وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرض أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ إلاّ بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ

____________________

(1) المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام - ج 7 ص27.

(2) فروع الكافي - م5 ص261 - باب فضل الزراعة.

(3) المصدر السابق - 262.

٢٧٤

عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إلاّ قَلِيلاً، فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ).

إذن، الاهتمام بالأرض ومُعالجة مشاكل المزارعين هي الحلّ الأنجع لإعمار الأرض والبلاد بما تُعطيه الأرض من خيراتٍ كثيرةٍ، وقد عالج الإمام (عليه السلام) كلّ المشاكل التي قد تَحدث، متعرضاً لها واحدةً بعد أُخرى؛ لِما في هذه الحِرفة وأهلها من آثارٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ على البلاد والمُجتمع، وفي رسالةٍ منه (عليه السلام) إلى قرظة بن كعب الأنصاري (ره): (أمّا بعد، فإنّ رجالاً من أهل الذّمّة من عَمِلَك ذكروا (أنّ) نهراً في أرضهم قد عفا وأُدفن، وفيه لهم عِمارةٌ على المسلمين، فانظر أنت وهُم، ثُمّ أعمر وأصلح النّهر، فلعمري لئن يعمروا أحبّ إلينا من أن يخرجوا وأن يعجزوا أو (لئن) يقصروا في واجبٍ من صلاح البلاد، والسلام). (1)

إنّ قضيّةً مهمّةً كقضية إحياء أرضٍ أو كَري نهرٍ قد دُفن ومُحي أثره بفعل طمى أو غرين تجمع فيه أو ارتفاعه عن مستوى النهر الأصل فلا يصعد إليه الماء، فلا بدّ إذن من تنظيمه وتنظيفه في آنٍ واحدٍ رغم أنّ هؤلاء من المُعاهدين، إلاّ أنّ إحياء أرضهم هو فيه عمارةٌ للبلاد، وخير ذلك يعود على المسلمين، فيحثّ واليه بالتعاون معهم في إعمار وإصلاح هذا النهر، وعدم تركه ما دام لديهم همّةٌ في ذلك ورغبةٌ شديدة في إعماره التي هي أحبّ إلينا من أنّ يتركوا عجزاً ولا مُبالاة في الأمر، وبالتالي يقصروا عن عمل إحياء الأرض التي هي أهمّ الواجبات لصلاح وعمران البلاد.

____________________

(1) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة - المُجلّد 4، 5 ص 29.

٢٧٥

٢٧٦

البابُ الرابِع

المواردُ الماليّةِ

والآثار العامّة

٢٧٧

٢٧٨

الفصلُ الأوّل

المالُ والإعمار

٢٧٩

٢٨٠