في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 55587
تحميل: 8642

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55587 / تحميل: 8642
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السلوك الواضح والسليم، فما تُقدّمُه لهم من عطفٍ ومحبّةٍ ورعايةٍ سوف تبلغ به مبلغك من الهداية لهؤلاء الناس والاستقامة في أُمورهم، وبالتالي البناء السليم للمجتمع، والعيش الهانئ في ظلّ رعايتك لهم وقدرتك على نفسك في تطبيق الحقّ والنَظَر في أُمورهم.

إنّ نشر المحبّة والأُلفة، والاستشعار بأنّ الوالي يسعى إلى أن يكون قُدوة الإخلاص والوفاء والتعاطف في مُجتمعه ويتخلّق على الأثر الطيّب والمُقابلة الحسنة عند الناس.

الرَعيّةُ ورَحمةُ الوالي

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خير مَن مثّل الأخلاق بكلّ معانيها في تعامله وسيرته مع الناس، وقد قال القرآن في حقه: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ ) . (1)

ثُمّ في آية أُخرى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، أو آية أُخرى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) . (3)

يُؤكّد القرآن على الجانب الإنساني والعلاقة الإيمانيّة، ففي الجانب الإنساني يُؤكّد على الأخلاق والسيرة الصالحة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع الناس كافّة، إنّ القيم التي سار بها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والروح الإنسانيّة الصادقة التي عاش معهم بها هي التي أراحت الأنفس وسكّنت القلوب وملكت الأرواح، وفي هذا الجانب يُؤكّد

____________________

(1) سورة آل عمران: الآية 159.

(2) سورة الحجر: الآية 88.

(3) سورة الشعراء: الآية 215.

٣٢١

القرآن على العلاقة الإيمانيّة وما تستوجبه من تعاملٍ يحتاج إلى خفض الجناح للمؤمنين، وهذا هو مُنتهى الرعاية والعطف والرحمة، وإنّ أصل الرسالة وإرسال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو رحمة للبشريّة ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) . (1)

فالرحمة الإلهيّة المُهداة من الخالق إلى المخلوق لها تفاسير متعددةٍ ذكرها المفسّرون في كُتبهم، ولها صورٌ في عدّة جوانب يراها القارئ المُتمعّن والباحث البصير والمُفسّر الخبير، فالرحمة عامّةٌ وشاملةٌ، ومن هذه المفاهيم القرآنيّة يأخذ عليٌ (عليه السلام) قِيَمَه ومبادئه، ويستمدّها من هذا الفيض الإلهي العظيم وينشرها على رعيّته، ويعمل بها ليتّعظ وُلاته وأصحابه ومَن تبعه إلى يوم الدين، فهو يرأف برعيّته وقلبه كلّه رحمةً عليهم، ويدفع ولاته إلى إشعار الرعيّة بالرحمة من خلال الجَنبة الأخلاقيّة في التعامل معهم بالمحبّة واللطف والحنان والمودّة، وفي ذلك يقول (عليه السلام): (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ). (2)

ولذلك نجد الإمام (عليه السلام) يُحذّر من العدوان والشدّة على الناس الأبرياء ويُنبّه لذلك، بل ويُعاقب في أحيان أخرى مَن خالف أمره في هذا المجال، ويتضمن كلام وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ الوالي ليس سيفاً مُسلطاً على رقاب الخَلق يتحيّن الفُرص ويستغلّ الأوقات المُناسبة ليأكل الناس ويقضمهم كما يقضم السَبُع فريسته.

الرَعيّةُ والتعامُلُ الحَكيم

لقد ابتدأ الإمام (عليه السلام) ببيان الروابط الموجودة بين الناس جميعاً، حتى يُهيّئ

____________________

(1) سورة الأنبياء: الآية 107.

(2) نص العهد للأشتر.

٣٢٢

ذِهن الوالي بعد أن قدّم له بكلامٍ في أهميّة الرحمة بالأمّة، وإسداء المحبّة لهم واللُطف بالمعاملة معهم، ثُمّ يوجّه انتباهه إلى أنّ هؤلاء الناس الذين تربطك معهم رابطة دينٍ فأوصيتك بهم، وربما منهم تصدر بعض الأخطاء فاعطف عليهم لتلك الوصيّة ولوجود الرابطة. إنّها أروع الصور للمُعالجة الاجتماعيّة والمُراعاة النفسيّة في كيفيّة تهيأت الحالة النفسيّة للوالي لقبول الطرح التالي، وهو الصفح عن الخطأ والعفو عن الزلل في قِبال ذلك الطَلب وتلك الرابطة. ثُمّ يمدّ الإمام (عليه السلام) ذلك المحور كلّه ليربطه بالعليّ القدير حتى يتذكّر ذلك الوالي قُدرة الله عليه، أي ينتقل إلى مسألة رضاء الله الذي لا يتمّ إلاّ برضاء رعيّته ومُراعاته لهم، كما بيّن في هذا النص: (يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والخطأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِيّ الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ، وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلاكَ بِهِمْ).

السِيرةُ الصالحةُ

إنّ القائد لا بدّ وأن تكون لَديه مؤهّلاتٌ خاصّةٌ، وَلِنَقُل: ثقافةٌ عامّةٌ واطلاعٌ خاصٌّ بالعلوم السياسيّة الاجتماعية والنفسية، مع دراسةٍ ومعرفةٍ لطبيعة وتاريخ الشعب الذي يحكمه؛ حتى يطّلع على طُرق وأساليب حياة ذلك المجتمع، وهذه الأمور في غاية الأهميّة؛ لأنّ أوضاع وطبيعة معيشة الناس في مكان ما وأُسلوب حياتهم له خصوصيةٌ ذاتيةٌ يتميّز بها عن غيره، ولا يُمكن قياس المُجتمعات على نمطٍ واحدٍ من أسلوب الحياة، فما دام الراعي هو الأقرب إلى ذلك المجتمع، وعلى خط الإصلاح، وبناء المجتمع الصالح، فهو يحتاج إلى التربية العامّة للمجتمع.

٣٢٣

ويجب أن تكون طرقها ومناهجها مدروسةً دراسةً تامّةً، وذلك بوضع منهجاً عامّاً للتربية الاجتماعيّة باتّباع الطُرق المناسبة للإصلاح وبالتدريج، كما أوضحته الرسائل العمليّة الفقهيّة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر في كيفية البناء التربوي للإنسان، وتصحيح مسيرته وفق مراحل متعدّدةٍ، وبأُسلوبٍ علميٍّ دقيقٍ تُراعى فيه مُختلف الجوانب النفسيّة والاجتماعية ما دام الهدف هو الإصلاح والتقويم، وبعكسه لا تستقيم النفوس بل قد تحدث معصيةٌ أكبر وطغيانٌ أعظم وعنادٌ أشدّ باتجاه السلب، وعند ذاك ينتهي كلّ شيءٍ. وفي عصرنا الحالي تكون طبيعة عمل عالِم الاجتماع إذا طُلب منه وضع خطّةٍ مستقبليةٍ للتربية الاجتماعيّة لبلدٍ ما، الدراسة والاستنتاج والاستقراء، فيبدأ بدراسة علاقة الحاكم والمحكوم، ومعرفة أهميّة ذلك على صورة المسيرة التضامنيّة ومدى التعاون بينهما، ثُمّ حركة المُجتمع واتجاهاته وما إلى ذلك.

وقد أعطى الإمام عليٌّ (عليه السلام) الخطوط العامّة الدقيقة والنتائج الكاملة في بناء المجتمع بناءاً مُحكماً سليماً، ويمكن أن تُطرح هذه الحصيلة كأُنموذجٍ حضاريٍّ للعمل به في المجتمعات والشعوب المُختلفة، في حين أنّ هناك أُمَماً كثيرة لم تذق طعم الحياة الحقيقي، أو لم تشعر هذه الأُمم في يومٍ من الأيام بإنسانيتها وحقوقها، والمنهج الذي طرحه الإمام عليٌّ (عليه السلام) هو أفضل السُبل للحصول على النتائج الايجابيّة في مسيرة المُجتمعات، فالزَلل والخطأ سواءً كان عمداً أو بغير عمد يحدث من أي إنسان، والإنسان غير معصومٍ من الخطأ، فالغرض الذي يبتغيه الإمام (عليه السلام) هو البناء التربوي للمجتمع، وتشمل التربية الجميع ابتداءً من صاحب الأمر ونزولاً إلى المُعلّم المُربّي والأفراد بصورةٍ عامةٍ، والعامل على الشؤون العامّة والخاصة والأُسرة شمولية المجتمع، فقمّة الهَرَم في المجتمعات هو صاحب السلطة الذي يُمثّل أساس بناء سلوك المجتمع، وحافظ المسيرة من الانحرافات المتنوّعة وله أثرٌ

٣٢٤

فاعلٌ في التغيير نحو الأحسن والأجدى. فعليٌّ (عليه السلام) يُعطي هُنا الطُرق الأنسب لحفظ كيان المجتمع من خلال الشروع بالوالي أولاً؛ لأنّه المثل الأول والمعلّم والقائد الذي يصون الأمّة ويحفظ كرامتها، ولهذا يُؤكّد في جانبٍ آخر من هذا النصّ على اختيار العمّال وِفقَ خواص مجتمعه، طرحها في النص وبدون (مُحاباةٍ وإثرةٍ) كما ورد عنه (عليه السلام).

آلةُ الرِئاسةِ سِعَةُ الصَدر

هذا العنوان هو كلام عليٍّ (عليه السلام)، ويرتبط ارتباطاً مباشراً مع هذا النص الذي يقول فيه: (فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ) يُريد منه أن يُعطي من حلمه وسعة صدره الشيء الذي ينفع، فالرئيس محتاجٌ إلى الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة، ومنها سعة الصدر لإدارة شؤون البلد، فبدونها لا تتمّ الإدارة، فإنّ الصفح عن خطايا الناس هو من الحلم، ويعطي القدرة على تحمّل الأشياء التي لا تتوافق أحياناً وهوى النفس. وهو لا يريد للحاكم أن يكون حَجراً أصمّاً لا يسمع ولا يعي ولا يتفاعل، ورجلاً انتُزعت الرحمة من قلبه وأصبح ديكتاتوراً، وينسى نفسه وحاله في نهاية أمره من أنّه سيواجه الجبّار المُتعال في ذلك اليوم المحسوم، وتُؤكّد الدراسات الاجتماعية والنفسية في الوقت الحاضر على أن يكون التقويم للمجتمع وِفق متبنّياتٍ عقائديّةٍ تحمل سِمات أخلاقيّةٍ واجتماعيةٍ كمبادئ الإسلام، والتي تكون أنفع دواءً لبناء المجتمع، ومن العقاب المباشر قبل التوجيه ومُراعاة الظروف، والتجاوز عن السلبيات مع إسداء النُصح والإرشاد في نفس الوقت، وكما أنّ الإصلاح يجب أن يترافق مع البناء التربوي والتلويح بحُكم القانون ان

٣٢٥

حالة حدوث تمادي أو سوء استفادةٍ من لَدُن البعض لغرض استغلال المجتمع وهتك حُرمته وأمنه. ونلاحظ الآن علماء الاجتماع والنفس يُؤكّدون على أهميّة إصلاح الذات الإنسانيّة وتربيتها واستمرار العمل معها بمسايرتها، وعدم إطلاق العنان للشرِّ لكي يتّخذ مكاناً له في نفس الإنسان. وهذه التأكيدات جاءت بعد دراساتٍ تطبيقيةٍ واستقراءاتٍ نفسيّةٍ واجتماعيةٍ أُخذت من بعض المجتمعات وِفقَ طريقة دراسة العَيّنات، وتوصّل فيها الجميع إلى نتائج جيدةٍ، ووضعوا لها نظريّاتهم الخاصّة للعمل بها.

طُغيانُ السُلطةِ وجَبَروتُ الوَالي

الحقيقة أنّ هذا الأمر له سلبيّاته وأضراره ومخاطره الجسيمة على الأُمّة والبلاد؛ لأنّ الوالي إذا طغى استهان بكلّ أمرٍ حيويٍّ، ولم يُهمّه ظُلامة أُمّةٍ بكاملها من أجل إشباع رغباته وكبريائه؛ لأنّ هذا الإنسان تتنازعه سلطاتٌ متنوّعةٌ، منها ذاتيّةٌ داخليّةٌ ومنها مؤثراتٌ خارجيّة، وإحداهما تؤثّر على الأُخرى بصورةٍ مُباشرة أو غير مُباشرة، وقد تطغى عناصر الشرِّ في نفسه فيتكبّر ويطغى (وأعظم ما يحمل الإنسان على الطغيان ما يصير عنده من مالٍ كثيرٍ أو ما يكون له من سلطانٍ نافذٍ، فالأوّل هو طغيانُ المال، أي الطغيان الذي سببه المال، والثاني هو طغيان السلطان، أي الطغيان الذي سببه السلطة التي تكون للإنسان، وكِلا النوعين من الطغيان مُدمّرٌ ومًهلكٌ وفقاً لسنّة الله تعالى التي لا تتبدل...، والمقصود بطغيان السلطة: تجاوز حدّه وقدره بسبب ما أُوتيَ من سلطة الأمر والنهي ونفاذهما على الغير ولو جبراً وقهراً عند الاقتضاء، وأكثر ما يكون هذا الطغيان عند الحاكم ووُلاة الأمر؛ لأنّ سلطتهم وطغيانهم تتعلّقان

٣٢٦

بعموم الناس، وهم الذين يُبتلون بشرور طغيانهم. والنموذج لطغيان السلطة طغيان فرعون، والذي كان من مظاهر تجاوزه حدّه وقدره تَكبّره على الخالق حتّى ادّعى لنفسه الربوبيّة، وتكبّره على خلقِ الله حتى استعبدهم وظَلمهم وغمطهم حقوقهم. وقد كرّر الله تعالى قصّة فرعون في آياتٍ كثيرةٍ للاعتبار والاتّعاظ لحاجة الناس إلى الاعتبار بقصّة هذا الطاغية وما حلّ به عقاباً لطغيانه، وذلك لكثرة ما يَبتلي البشر بطغيان السلطة، ومن جُملة ما ورد في القرآن الكريم بخصوص فرعون وطغيانه قوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى‏ * إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوىً * اذْهَبْ إلى‏ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَى ) . (1)

قال الإمام الرازي في قوله تعالى ( إِنّهُ طَغَى ) : قال بعض المفسرين، معناه أنّه تكبّر على الله وكفر به، وقال آخرون: إنّه طغى على بني إسرائيل، والأَولى عندي الجمع بين الأمرين، فالمعنى: إنّه طغى على الخالق بأن كَفر به، وطغى على الخَلق بأن تكبّر عليهم واستعبدهم...

ومن طغيان السلطة على الناس: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الّذِينَ طغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) . (2)

قال ابن كثير في قوله تعالى ( الّذِينَ طغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ) : أي تمرّدوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذى بالناس.

وقال الآلوسي في قوله تعالى ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ) : وُصِفَ بذلك لكثرة

____________________

(1) سورة النازعات: الآيات 15 - 17.

(2) سورة الفجر: الآيات 6 - 14.

٣٢٧

جنوده، أو لأنّه كان يدقّ للمُعذَّب أربعة أوتادٍ ويشدّه بها مطروحاً على الأرض، فيُعذّبه بما يُريد من ضربٍ أو إحراقٍ أو غيره...

في الآيات التي ذكرناها من سورة الفجر جاء فيها بعد ذكر طُغيان فرعون ومَن قبله ( الّذِينَ طغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) ، وقد جاء في تفسيرها: (أي أنزلَ عليهم رِجزاً من السماء وأحلّ بهم عقوبةً لا يردّها عن القوم المجرمين، وفي تفسير الآلوسي في قوله تعالى ( إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) تعليل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب.

والآية وعيدٌ للعصاة مُطلقاً، وقيل: للكفرة، وقيل: وعيدٌ للعصاة ووعيدٌ لغيرهم، وهو ظاهر قول الحسن، وفي تفسير القرطبي في قوله تعالى ( إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) : أي يرصد عمل كلّ إنسان حتى يُجازيه به). (1)

فيبدأ إذن طغيان الإنسان بتحدّي الله تعالى، لكن ( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (2) حتى إذا ما طفح الكيل يأخذه الله بأمره أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ إلى حيث الهوّة السحيقة، حينئذٍ يُطلق صيحات الرحمة طالباً إياها من ربّه، وهناك يُخبَر بأنّ حُكم الله قد مضى بعد ما جاءه من الرُسل لتصحيح مسيرته والعودة عن غيّه فأبى واستكبر ونَسي أنّ الدهر لا يمتدّ به كثيراً. وكم من ظالمٍ ومتكبّرٍ قهر الناس بظلمه ويَحسب الخُلد الدائم ولا يعلم أنّه يوماً ما سيعود إلى بارئه، وأنّه كائنٌ ضعيفٌ اتجاه خالقه العظيم، وهنا يحدث الانهيار في ذلك المجتمع، ولا نذهب بعيداً في التفسير في أنّ الانهيار يعني موت الشعب والحاكم في ليلةٍ واحدةٍ، إنّما الانهيار الذي أقصده هو سقوط الحالة العامّة السائدة في المنهج

____________________

(1) زيدان - الدكتور عبد الكريم - السُنن الإلهيّة في الأُمم والجماعات والأفراد ص 190 الطبعة الأولى 1993م - 1413هـ.

(2) سورة البقرة: الآية 15.

٣٢٨

التعاملي الأخلاقي بين المُجتمع وضياع الأُلفة والمعاني والقيَم الأخلاقيّة التي تحفظ المُجتمع من الانهيار العامّ في العلاقات، وبذلك تفقد الثقة والاطمئنان والاستقرار، وينتهي دور التقدّم والتطوّر والنموّ ويبقى في مكانه ليتراجع بعد ذلك إلى الخَلف وتحت أقدامه أرضٌ محروقةٌ، وآبارٌ جافّةٌ، وأنهارٌ يبست، وعمران قد خرّب، وصراع الموت بين المجتمع، وبالتالي النهاية المحتومة للجميع، إلى ذلك يُنبّه إمامنا (عليه السلام) ويُذكّر بإرادات الله جلّ شأنه ووجوده، وعدم الوقوع في الانحراف.

٣٢٩

٣٣٠

الفَصلُ الثّاني

الدَعوَةُ لِلِقاءِ الأُمّة

وَعِلم الاجتماع السياسي

٣٣١

٣٣٢

للعلاقة الصميمة بين فئات المجتمع والراعي آثار ايجابية مهمة تنعكس علائمه المستقبلية في تطور المسيرة الاجتماعية وتقدمها، وقد شمل عهد الإمام (عليه السلام) للأشتر جانبا من مسألة لقاء الأُمّة ومعالجة السلبيات من خلال اطلاع الراعي عن قرب على حقائق أُمور المجتمع والتأكيد على هذا الأمر المهم.

وفي المقطع الآتي مفاهيم ودروس في عِلم الاجتماع السياسي (وَأَمَّا بَعْدُ، فَلا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأُمُورِ، وَالاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ، أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ؟! مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ). (1)

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

٣٣٣

يقوم قادة الدول في الوقت الحاضر بمُناوراتٍ سياسيّةٍ واجتماعيةٍ وتحركاتٍ عامّةٍ لجلب الأنظار، والتوجه إلى الأُمّة بالزيارات الشعبيّة لغرض كسب ودِّ الجماهير والتحدّث إليهم والاطّلاع على أُمورهم التي تهمّ حياتهم عن قُربٍ، ومعرفة ما يدور في نفوسهم وما وقع عليهم من حيفٍ أو خللٍ في المسيرة العامّة، وأحياناً يُبشّرهم بالمستقبل الزاهر السعيد ويوعدهم خيراً، فإنّ ذلك يُدخل على قلوبهم السرور والفرحة والبهجة والأمل الكبير، ويرفع درجة الثقة بين القائد وشعبه، لا بل وتتوثّق العلاقات الاجتماعيّة بين الناس وتتماسك، وتُزيد من قوّة اتّحاد الشعب ومحبّته والتفافه حول تلك القيادة، وهذا أُسلوبٌ متّبعٌ الآن في الثورة الشعبيّة أو القيادات الجماهيريّة التي تقود بعض البلدان، والتي تؤدّي إلى تقدّم البلد وتطوّره نحو الأحسن، على العكس من القيادات المُحاطة بالأسلحة المدجّجة والقابعة في القصور الذهبيّة الفارهة والحاكمة من وراء السِتار الحديدي، بحيث لا يهمّها إنْ ظُلم الشعب أو هُتكت حُرماته، بل لا يعلم بما تدور عليه الأحوال إلاّ بعد أن يُحاصره الشعب داكّاً حصونه، مُحطماً عُروشه، حينئذٍ يسأل ما الأمر؟ فتأتيه الإخبار بأنّ الشعب قد ثار وانتفض.

الآثارُ السلبيّةُ للاحتجاب

إنّ الحوادث والوقائع التاريخيّة دلّلت على النتائج السلبيّة للقادة القابعين في أوكارهم المُحصنّة وبروجهم العاجيّة، يحكمون الناس بالواسطة ولا يعلمون عن مجتمعهم شيئاً، وأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن في هذا العصر حتى يُشاهد ما يحدث من آثار الاحتجاب، الذي نهى ولاته عنه في تلك الأيام التي، ربما لم يكن الوالي بعيداً عن الأُمّة، بل إنّ القائد يُتابع الناس في الأسواق، ويخالطهم في مجالسهم، ويسأل عن

٣٣٤

أحوالهم بلا واسطةٍ، وليس كما حدَث في العُهود التي تلت خلافته، حيث كان الحاكم لا يدخل عليه أحدٌ إلاّ بعد أن يَمرَّ بالحاجب الأول والثاني والثالث، كما كان في العصر الأُمويّ والعبّاسي.

إنّ الولاة لا زالوا تحت رعاية الخليفة الراشدي علي (عليه السلام)، وهو مع ذلك يوصي: (فلا تطوّلنّ احتجابك عن رعيتك). يقول ابن أبي الحديد: (نهاه عن الاحتجاب؛ فإنّه مظنّة انطواء الأمور عنه، وإذا رفع الحجاب دخل عليه كل احد فعرف الأخبار، ولم يخفَ عليه شيء من أحوال الأُمّة). (1)

والاحتجاب عن المجتمع له آثار سلبية وهدّامة، وإنّه من ضيق الفكر والإدراك والتي تؤدّي إلى:

1 - قلّة علم الوالي بأحوال الرعية وعدم معرفة مفاصل الحياة العامة في المجتمع، وعدم الاطلاع على ما ينفعهم ويضرّهم أو التعرّف على ما فيما إذا كانت هناك إساءة أو خطأ في السلوك التعاملي من قبل الكادر الإداري أو أوامر صادرة من الوالي هي في واقعها مضرّة بالمجتمع، فباحتجاب الوالي تضيع عنه حقائق الأمور وتأخذ مجرىً آخر سعته التدميرية أكبر وأثره أعمق في نفوس الناس من خلال التذمّر وعدم الرضى.

2 - (يصغر عندهم جليل القدر، كبير الشأن، ممّن لهم خدمات جليلة أو لهم أثر حميد في المصالح العامة، وهذا التصغير والاحتقار ينفّر هؤلاء عن صوالح الأعمال أو تقديم التضحيات في سبيل منفعة المجتمع بل العكس، يحسّسه بالكراهة لأُولي الأمر). (2)

____________________

(1) شرح نهج البلاغة - م 17 - ص91.

(2) الراعي والرعية - ص 275.

٣٣٥

3 - (الاحتجاب يعظم الصغير، وهذا ينتج نتائج سيّئة ويؤدّي بعظماء النفوس وأهل النبوغ إلى الركود والجمود، بدل الرقي والتقدّم والتطلّع إلى المستقبل). (1)

4 - يشاب الحق بالبّاطل، وهذه مضيعة عظيمة للعدالة الاجتماعية (هذا السبب وحده يكفي لهدم كيان المجتمع وانهياره؛ لأنّ (العدل أساس الملك) وإذا انتشر الباطل وغمط حقّ الناس اختل ميزان العدالة وفي ذلك بلاء لا يشبهه بلاء والعياذ بالله، وإذا كان ذلك فإنّ الناس يسيؤون ظنونهم بحكومتهم وتفسد نياتهم بإخلاصها ومقدرتها على توزيع العدل والحقّ بينهم وبذلك تموت الثقة الاجتماعية بينهم وبين السلطة العامة). (2)

هذه العوامل، أو نتائج الاحتجاب ومردوداته السلبية، هي في الحقيقة لم يضعها الإمام (عليه السلام) في كتابه اعتباطاً أو دون دراية كاملة بحياة الناس وطرق تفكيرهم وتحليلهم للأمور.

إنّ الاطلاع العام والمعرفة الدقيقة بأحوال المجتمع لا يأتي إلاّ من خلال الاتصال المباشر بالأمّة، وذلك يكون بقطع الاحتجاب والظهور للمجتمع من خلال اللقاء والمقابلة؛ لأنّ المجتمع يضمّ عادةً فئات تتنوّع في تفكيرها وتختلف في رأيها، وهذا التباين في الواقع العملي والفكري للأفراد يفرز سلوكيات مختلفة تجسّم في النهاية الواقع الحيّ لحركة المجتمع اليومية التي يجب أن يكون الوالي على علم تام بأحوالها وصورها، وما يواجهه المجتمع من سلبيات متداخلة؛ كي يصلح ما فسد من الأمور وتتّسع عنده دائرة النظرة الشمولية العامّة، وبالتالي

____________________

(1) نفس المصدر السابق ص275.

(2) نفس المصدر السابق ص276.

٣٣٦

يجب أن يرفع عوائق التطوّر والعمران ويثيب المتفاني المثابر، ويحاسب من خلط الأوراق ليكسب ربحاً غير مشروع.

إنّ الذي ينظر، ويراقب ويتابع، وضع المجتمع عن كثب يسهل عليه حل عُقد الأمور بالحقّ والعدالة، ويمنع التشتّت والتفرّق الذي يولّده اختفاء النوايا الطاهرة وتراكم السلبيات والإجحاف الذي ولّده الاحتجاب، فينتج من جراء ذلك الصراع والتناحر الداخلي بفعل ابتعاد العامل عن حقيقة وواقع الأمور، ووجود المتضادات والتناقضات وتصادم المصالح الذاتية التي تظهر للعيان شاخصةً بذاتها لتلقي بظلالها المدمّرة على حياة الناس، وتؤدّي دور المخرب للدولة والمجتمع، ولا يبدد ذلك إلاّ الإطلالة البهية للقائد الشجاع المؤمن بالله سبحانه وتعالى الذي يدخل السرور على قلوب الناس الحائرة قبل أن (وَيَقْبُحُ اَلْحَسَنُ وَيَحْسُنُ اَلْقَبِيحُ وَيُشَابُ اَلْحَقُّ بِالْبَاطِلِ) (1) ، واحتجاب الوالي أو صاحب السلطة ينّمي هذه الأمور ويكثّرها من حيث لا يَعلم، والنفوس تحتاج أحيانا إلى دراية وعلم وفراسة حتى تقتحهما وتجد ما فيها من حقائق، فكيف إذا ما كان الوالي بعيداً حتى عن رؤية الناس والاطلاع على أحوالهم: (وَلَيْسَتْ عَلَى اَلْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ اَلصِّدْقِ مِنَ اَلْكَذِبِ)، أي: ليست هناك علامات دالّة للتمييز بين الصدق والكذب حتى يعرف الوالي صدق الأمور وحقيقتها من الكذب (وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ، أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ). (2)

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

(2) المصدر نفسه.

٣٣٧

إذن (فلأيِّ سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم أو في عمل تمنحه إيهام؟! فإن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا إلى البعد عنك فلا حاجة للاحتجاب). (1)

وقال ابن أبي الحديد في تفسير هذا المقطع: (مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ).

(لم تحتجب فإنّ أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرّفد! وأنت فإن كنت جواداً سمحاً لم يمكن لك إلى الحجاب داع، وإن كانت ممسكاً فسيعلم الناس ذلك منك، فلا يسألك احدٌ شيئاً، ثمّ قال له: على أنّ أكثر ما يسأل منك ما لا مؤونة عليه في ما مؤونة عليه في ماله، كردّ ظُلامة أو إنصاف من خصم). (2)

إنّ إنصاف الناس ورد الظُلامة ترسم عدالتك في أذهان الرعية، وإنّ ذلك أجدى وانفع وأقوى أثراً وأكثر ثواباً وأجزل عطاءٍ عند الله.

مكاشفة الأُمّة

ثمّ يعود الإمام (عليه السلام) إلى أمر هامٍّ جداً، ومبدأ حساس يتداوله بعض الساسة المعاصرون الآن كمبدأ جوهري في مستقبل الدولة وتطوّرها ألا وهو (مكاشفة الجماهير)، وهذه المكاشفة متنوّعة في عصرنا الحاضر إما تكون أمام ممثّلي الشعب في البرلمان أو من خلال اللقاءات الصحفية والتلفزيونية والإذاعية، أو مباشرةً مع جماهير الأُمّة وذلك لتوضيح ما خفي عن الناس وردّ التهم الواردة

____________________

(1) الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة ج3 - ص10.

(2) شرح نهج البلاغة - م 17 - ص91.

٣٣٨

على الحاكم إنّ وجدت (وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ). (1)

وإن ظنّت الرعية بك ظنّ سوءٍ من خلال ما وقع عليها من ظلم أو جور أو عمل باطل، وهذا جائز وموجود وسائد بين العامة، من أن المجتمعات التي فيها فاصلة القائد والشعب تزداد الظنون لدى الناس وتبلغ مبلغها وأثرها السلبي على حركة وسلوكية المجتمع في التعامل الصادق مع الدولة وكيانها. فبدون التعاون والتعامل الحقيقي لا يستقيم الأمر ولا تسلم الدولة من الانتكاسات غير المتوقعة.

إذن فإصحار الوالي، أي: خروجه إلى المجتمع وتوضيح الحقائق لهم وبيان الأعذار الشرعية للفعل المظنون به، يبدّد الغيوم السوداء المضلِّلة على الناس ويدفع بالظنون بعيداً عن أفكار المجتمع وتحليلاته. إنّ المجتمعات أغلبها من عامة الناس ولا تريد إلاّ العدل اليسير والحقّ ومراعاة الأمور العامة وقد لا تطمح فيما يكون ذلك، ومن صفاتهم أيضاً القناعة والاستجابة السريعة، وذلك أنّهم بلقائهم الوالي واستيعاب الأمور على حقيقتها يقتنعون بسرعة لاعتماد الثقة منهم بالوالي إذا فعل مثل هذا الطرح والتوضيح.

وفي محاورة لأبي حيان التوحيدي مع الوزير ابن سعدان، وزير صمصام الدولة البويهي، سنة 373 هـ. حيث قال الوزير لأبي حيان التوحيدي (ولو قالت الرّعيّة لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث ممّن غيب أمرك، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك؟! ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك ومصالحنا متعلقةٌ بك، وخيراتنا متوقّعةٌ من جهتك، ومسرّتنا ملحوظةٌ بتدبيرك، ومساءتنا مصروفة باهتمامك،

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

٣٣٩

وتظلّمنا مرفوعٌ بعزّك، ورفاهيتنا حاصلةٌ بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك، وبليغ اجتهادك؟! ما كان جواب سلطانها وسائسها؟! أما كان عليه أنّ يعلم أنّ الرعية مصيبةٌ في دعواها الّتي بها استطالت، بلى والله، الحقّ معترف به وإن شغب الشاغب وأَعْنَت المُعنت). (1)

قطعة جميلة متعلّقة ببحثنا هذا ولها ارتباط بعلم الاجتماع السياسي، في أنّ الرعية تخاطب السلطان (لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث في غيب أمرك...). هذا الحديث وهذا الخوض وهذه الظنون كلّها متأتية من عدم ظهور السلطان إلى الناس والاطلاع على أمورهم ومعرفة ما يدور في خِلدهم. فما يتكلّمون به حول السلطان من حقهم لأنّهم، كما يقول، أودعوا حالهم ومالهم وكل حياتهم له، لأنّهم يتوقّعون كلّ خيرٍ وكلّ عملٍ صالح وكلّ اهتمام، ورفع كلّ مظلمة وكلّ رفاهية ورحمة ورأفة من جانبه.

فباستقامة الولاة والحكّام والتفاتهم الواقعي إلى شعبهم تحلّ كل العقد والمشاكل الاجتماعية، وتزول المؤثّرات الخارجية التي تغطّي على الحقّ وتمحق العدالة وتعطّل الحدود، وأحيانا يستسلم الوالي إلى صراعات النفس ومنازعات الفكر بين أن يُصحر أو لا، أي: يخاطب الناس بالحقيقة أو يبتعد عنهم رابطاً نفسه بحبال الكبرياء والجبروت والتعالي، ولا يدير عينه إلى مظلمة يرتكبها أحد أعوانه فينصف المظلوم ويردّ الاعتبار إلى من أُهينت كرامته. إنّ هذه ليس من صفات الوالي المؤمن بالله ورسوله، فقد كان محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين أصحابٍ يلوذ به الفقير فيحميه، ويستغيث به المظلوم فينجيه، يعيش عيشهم ويمشي في أسواقهم، حتى قال فيه المنافقون بقصد التشويش على أفكار الناس

____________________

(1) التوحيدي، أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، ج3، ص87 - منشورات الشريف الرضي.

٣٤٠