في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)15%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57398 / تحميل: 9213
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقلب الحقائق ( وَقَالُوا مَالِ هذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ... ) (١) .

بالإضافة إلى ذلك كان يحضر مراسمهم ويؤمّهم في صلاتهم، وكذلك عمل الإمام علي (عليه السلام) من بعده على سيرته ونهجه. فمن لم يكن هكذا فإنّه خارج نطاق الشريعة المحمّدية. ثمّ يدعو الإمام (عليه السلام) إلى تعويد النفس على الإصحار، ولا يسمح لحبّ الذات والتفرّد بالرأي بأن يسيطر.

____________________

(١) سورة الفرقان، الآية ٧.

٣٤١

٣٤٢

الفصل الثّالث

المظالم في وصايا عليّ (عليه السلام)

٣٤٣

٣٤٤

إنّ الخطأ بحقّ أفراد من المجتمع لا يأتي من العاديين من الناس فقط، إنّما هناك حيف وظلم وغبن قد يصدر من حاكم جائر أو سلطة غاشمة أو قوّة قضائية متنكّرة للحقّ، أو من قبل أصحاب النفوذ والجاه من الطبقات الأرستقراطية في المجتمع، أو أحياناً من جرّاء إهمال قضية اجتماعية مهمّة لها مردودات على اقتصاديات الناس وحياتهم العامة، حينئذٍ لا يستطيع هذا الشخص، أو الجماعة، الذين ارتكب بحقّهم الظلم أو التغاضي عن حقّهم وعدم الانتصاف لهم إلا أن ينظروا إلى الله تعالى ليتظلّموا عنده، وقد قال علي (عليه السلام): (احذر من دمعة المؤمن؛ فإنّها تقصف من دمّعها (أو) (أدمعها) وتطفئ بحور النّيران عن صاحبها). (١)

أو في جانب آخر من كتاب له إلى حذيفة بن اليمان:

(وآمرك بالرّفق في أمورك والدّين، والعدل في رعيتك؛ فإنّك مساءلٌ عن ذلك، وإنصاف المظلوم). (٢)

وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: (ونظر المظالم هو قود المتظالمين

____________________

(١) نهج السعادة، المصدر السابق، ص ٣٥.

(٢) نفس المصدر السابق، ص ٢٠.

٣٤٥

إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العِفة، قليل الطمع، كثير الورع؛ لأنّه يحتاج إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين [ كالخلفاء أو من فرض إليه الخلفاء نظراً في الأمور العامة... قد نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المظالم في الشِرب الذي تنازعه الزبير بن العوام (رضي الله عنه) ورجل من الأنصار فحضره بنفسه فقال للزبير: (اسق أنت يا زبير ثمّ الأنصاري، فقال الأنصاري إنّه لابن عمّتك يا رسول الله؟ فغضب من قوله، وقال: يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء إلى الكعبين). وإنّما قال أجره على بطنه أدباً له لجرأته عليه. واختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين، هل كان حقا بيّنه لهما حكما أو كان مباحاً فأمر به زجراً على الجوابين). (١)

(وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بيتٌ سمّاه بيت القصص، يلقي الناس فيه رقاعهم) (٢) .

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي

يحدث الظلم أحيانا نتيجة الطمع وحبّ الغلبة، بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إنّ الإنسان يحتاج إلى من يتظلّم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية، وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالة والده وقوّته وسطوته التي تعيد ما أخذ منه إليه، بالإضافة إلى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبي بينه

____________________

(١) الماوردي - الأحكام السلطانية - تحقيق الدكتور أحمد البغدادي ص ١٠٢، الكويت ١٩٨٩م.

(٢) شرح نهج البلاغة - المجلّد ١٧ - ص٨٧.

٣٤٦

وبين أبيه حينئذٍ يشكو إليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من أخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل وإحساسه واطمئنانه النفسي بأنّ والده سوف يأخذ حقّه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلّق بالأثر النفسي في ذات الإنسان نعايشها يومياً في مجتمعنا، هذا في الحلقة الأولى المكوّنة للمجتمع، وهكذا يسري الأمر إلى المجتمع كلّه بكافّة طبقاته، فإذا ما أحسّ الإنسان بعدالة ولي أمره واهتمامه باستماع مظالم الناس والإجابة عليها فوراً، قولاً وفعلاً، فإنّ ذلك سوف يدفع الناس إلى الالتفاف حول الأب الأكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمّات والشدائد من الأيام.

وقد اهتمّ إمامنا في ذلك الاهتمام الواسع، فأخذ يفصّل جوانب هذا العمل ويسعى إلى تربية الولاة للأخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدّد لهم معالم النظر في المظالم، وصوره، وكيفيته، ومِلاكاته، ومراعاة حالات الشاكي (المتظلّم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه، وإعادة الحقّ إلى نصابه بالصورة الصحيحة. وعلي (عليه السلام) قال لبعض عمّاله، في كتاب بعثه إليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش: (وأنا بين أظهر الجيش فارفعوا إليّ مظالمكم، وما عَراكم ممّا يغلبكم من أمركم، ولا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله) (١) .

فإذن، قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لأنّها تثبت العدالة وتجري الأحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وأنّ سلامة المجتمع وصحّته تأتي من رفع المظلومية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الأمر يحتاج إلى قوّة إيمانية وعدالة سلطانية تعطي الإنسان سلامة أمره واستقراره، وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية وامتزاج ذلك

____________________

(١) نفس المصدر السابق، ص١٤٧.

٣٤٧

بالقيم الأخلاقية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا علي (عليه السلام) يوصي في أنفاسه الأخيرة، ولديه الحسن والحسين (عليه السلام)، بقوله: (أوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحقّ، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم). (١)

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المُرادي، يوصي علي (عليه السلام) بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت، ثمّ قول الحقّ، فالحقّ عند علي (عليه السلام) معناه إرادة الله وكلمته، ففيها نجاة الأمة وخلاصها واستقامتها. ثمّ أكّد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثمّ إعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في علي (عليه السلام) طعامه ولباسه وكرامته وعزّه، بتلك الرأفة، وذلك الحبّ، أطعم الأيتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز إذ عجن بالذلّة والمنّة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الإمامين سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليها السلام)، وحبيبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويؤكّد عليهم وهو الذي قد خَبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب عليٍّ، وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وإنّهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممّن قرب أو بعد، ممّن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل.

إنّه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية، ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدقّ أسماع وعقول الناس في كلّ زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثمّ انتقل إلى الشيء الأعظم والأهم ألا وهو: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما

____________________

(١) مروج الذهب - م٢ - ص٤١.

٣٤٨

في الله لومة لائم).

حتى في آخر اللحظات يدعو إلى إنصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين، فإنّ ذلك أساس العدل والحكم الذي أراده الله، ومهما يكن هذا الظالم كُونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقيم (ولا تأخذكما في الله لومة لائم) ونستنتج من قوله (عليه السلام) هذا ثلاث قضايا مهمّة، كأنّهن الأعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع:

١ - الرحمة.

٢ - إعانة الضعفاء، أي: فقراء الأمة ومن لا حيلة ولا قوّة له.

٣ - العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف إلى جنب المظلوم واخذ حقّه ممّن ظلمه.

لله درك يا أبا الحسن! من أبٍ رؤوفٍ وحاكمٍ عادلٍ ومربٍّ أخلاقي عظيم، واجتماعي فريد، جمعتَ كلَ الخصال وأعطيت كلّ روحك لهؤلاء الناس الأيتام والضعفاء المظلومين فأعطوك كلّ شيء.

شرائط النظر في المظالم

لم يجعل الإمام (عليه السلام) مسألة النظر في المظالم في المستوى الإرشادي فقط، إنّما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الأمر، فوضع لهذا الأمر المهم مقوّمات أساسية لا يمكن أن يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها، ولا يمكن أن تكون عدالة في هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها أمير المؤمنين في هذا النص: (وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ

٣٤٩

عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ). ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ) (١) .

إنّ النظر في المظالم يتطلّب أولاً - وقبل كلّ شيء - أن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلوماً لذلك، ثمّ العمل بالبنود المهمّة التي وضعها علي (عليه السلام) التي تدلل على صحّة عملية النظر في المظالم، وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الآخر؛ لأنّها متلازمة في أمرها.

و(تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ) (٢) .

إنّ الإنسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والآثار النفسية المتبقية في ذهنه، من إرهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الأُبّهة العالية، تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته، وربّما يفرّ ولا يعرض قضيّته وهو معتقداً أنّ سلامة نفسه هي أفضل من الحصول عل ظُلامته. ولهذا يضع أمير المؤمنين (عليه السلام) الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الأعمال، فهو أولاً يطلب أن يجلس الوالي بنفسه وأن لا يوكل غيره لذلك؛ لكي يعالج المشاكل ويحلّ العقد ويباشر الأمور ويطلّع عليها

____________________

(١) نص العهد للأشتر.

(٢) نص العهد للأشتر.

٣٥٠

شخصياً. ثمّ ينصب ميزان العدل لإنصاف المظلوم والأخذ بالظالم وإعادة الحقّ إلى نصابه، ونشر راية الرحمة على رؤوس الأبناء، أي المجتمع؛ لأنّ الراعي يعتبر الأب للقوم، فإذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا يُدنيهم ولا يتظلّمون عنده بالحقّ فلا نفع من ذلك إذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة.

فلا تبطر!. كما قال الإمام (عليه السلام) وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكلّه شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامّة بأوضاع المجتمع واعتباراته، ومستقرئ للأوضاع والأحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطي النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عمّاله لكي تكون أشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع، إذ يضع النقاط على الحروف لكلّ مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بُعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة وأخرى، فكلّها نابعة من أساس واحد ومصدر أصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي أصل لبناء كل أمر.

فمرّة يأمر ولاته بتفقد أمور الرعية بإرسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبّرون على الناس حتى يدوّنوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة والتامّة إلى الولاة دون إضافات أو نواقص متعمّدة من الذين لا يستطيعون المجيء إليه. وكذلك يأمرهم بالأمر التالي: فانشر العدل بنشر أصحابك الثقاة، ومرّة أخرى يكون هناك إنسان مظلوم نهب حقه وهدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحقّ والرحمة بواسطة إنسان ظالم، سواء كان عاملاً من عمّال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شَرطة، أو أي إنسان آخر، ولا يجد من يتظلّم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه إلاّ الله والذي بيده ولاية الأمر، وهي بطبيعة الحال أمانة في عنقه من الله لرعاية أمر عباده.

وهذا الأمر قمّة في العدالة الإنسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات

٣٥١

التي توجد فيها هذه المبادئ الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للإخلاص والتفاني والتضحية سواء كان لدينها أو وطنها.

ثمّ يطلب الإمام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عامّاً، ويريد من كلامه أيضاً أنّ لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب أن يكون وَقوراً متواضعاً؛ لأنّ الله ينظر إلى حكمه وعدله (فتواضع لله الذي خلقك)، ثمّ لا يتعرّض الحاشية والحرّاس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الأعوان الممحلقين أعينهم بشدّة، وفي وجوههم القسوة والشدّة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام (حتى يكلمك متكلّمهم غير متتعتعٍ (١)) أي: لا يترددون في العرض عندك، ثمّ يقول: فإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).

فأمير المؤمنين (عليه السلام) استشهد بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يؤكّد وبوضوح عدم طُهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، إذ لا يستديم الحكم إلاّ بالعدل وإنصاف المظلومين.

وإذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فإنّ التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لأنّ الناس لا يمكن أن تستكين للضيم والقهر مدّة طويلة.

وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلّل على ذلك.

ثمّ يجب أن يتوقع الوالي كلّ شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذي أعياهم الفقر، وأتعبهم الفقر، والدواهي التي أصابتهم من العمّال والأعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثمّ لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من أعدائهم.

____________________

(١) التعتعة: التردّد. من العجز، أي: غير خائفين من عرض الكلام.

٣٥٢

هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربّما يجرح، أو عنف في كلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في للنفوس المؤجّجات للأحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى (وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الإنسانية القيّمة التي يضع مضامينها علي (عليه السلام) ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لأمّته من الضياع والهتك والتسلّط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للإنسان أن يعيش ضمن مبدأ الإسلام العظيم الذي يعطي للإنسان حريّته وكرامته، وكذلك يقول للوالي: بأن لا يضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم، فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدّث إليهم. إنّ الله يعوض عن ذلك للإنسان الذي يحمل الحبّ والحنان والعطف والرفق، بل كلّ معاني الكلمات التي تبعث في القلب والنفس الروحَ الإنسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله رحمته وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الإنسان، إنّ الوالي بهذا العمل أدّى فرائضه وأدّى حقّ عبادته، ومعنى ذلك أنّه أطاع الله من خلال التعاليم الإلهية التي أوجبها على عباده، فالأجر والثواب على تلك الأعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الإحسان ورضى النفس وبدون منٍّ أو أذى أو استكثار، وإن أردت أن تمنع فامنع بلطفٍ واعتذارٍ؛ فإنّ ذلك أسمى وأرفع وأبلغ أثراً في النفوس وأكثر تقبّلاً وقناعة لدى لناس بحيث تدفعهم إلى مَحالّهم وهم راضين عنك، شاكرين عملك.

٣٥٣

التحصين الاجتماعي

إنّ التحصين عند علي (عليه السلام) من المسائل المهمّة، وهذا يأتي من خلال بناء هيكلية المجتمع وتربيته على الأُسس القرآنية الأخلاقية التي تمنع الظلم والتجاوز وتعطي للحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الساحة الاجتماعية كلّها لكي تسري مبادئها بين الناس، فالغاية - إذن - هو البناء الاجتماعي السليم والمتماسك والمتمحور حول المبادئ الحقيقة للإسلام التي أرادها الله وجاهد من أجل تثبيتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وضحى من أجلها عليّ (عليه السلام). بالإضافة إلى كلّ ذلك التكافل الاجتماعي، كلّ هذه المفاهيم تؤدّي إلى الصورة المثالية التي هيَّأها عليٌّ (عليه السلام) للإنسانية كمنهج عامٍّ تسير عليه، وحينما أقول الصور المثالية لا أعني بذلك (جمهورية أفلاطون) أو (المدينة الفاضلة عند الفارابي)، أو غيرها، إنّما الإنسانية بحاجة إلى مبادئ عامة إنسانية عادلة تصون كرامتها وتحفظ شرفها وتبعد المخاطر عنها وهذا هو الدين وهدف علي (عليه السلام).

إذن فالإنسان هو رأس المال الأساسي عنده، فإذا ضاع أو تلف رأس المال خسرنا كل شيء وإذا ما استثمر في مجالاته الصحيحة زاد ونما وعمّت بركته على الجوانب الأخرى، وهذا يبدأ بتطبيق العدل أولا، لأنّه المربّي هو الأساس والمؤثّر على طبيعة أخلاق المجتمع، فإذا ما شعر المجتمع بأنّ الحاكم إنسان زاهد عابد في العلن وظالم سارق في السر فإنّ آثاره السلبية على المجتمع أعمق ممّا يتصوّر. بحيث يضيع الضعيف تحت أقدام القوي، وتُسلب إرادته وحقّه وحرّيته فيأكل القويُّ الضعيف وأصبحت الشريعة شريعة غابٍ وليست شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحيث يتقادم المجتمع ويهرم قبل أوانه وينهار الكيان الاجتماعي

٣٥٤

والسياسي قبل موعده، وتموت الحضارة والعمران في وقت واحد قبل بلوغ سلّم الأمن والاستقرار.

لكلّ يومٍ عملهُ

(ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، مِنْهَا: إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ. وَمِنْهَا: إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ. وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ).

(ثمّ بيّن (عليه السلام) أنّه لابدّ له من هذا المجلس لأمر آخر غير ما قدّمه (عليه السلام)، وذلك لأنّه لابدّ من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه، والنّوّاب عنه، فيتعيّن عليه أن يباشرها بنفسه، ولابدّ من أن يكون في كتب عمّاله الواردة عليه ما يعيا كتّابه عن جوابه، فيجيب عنه بعلمه ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلّع الكتّاب عليه، فيجيب أيضاً عن ذلك بعلمه. ثمّ قال: له لا تدخل عمل يوم لآخر فيتعبك ويكدّرك، فإنّ لكل يوم ما فيه من العمل). (١)

(وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَاعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ، وَلَا مَنْقُوصٍ بَالِغاً - مِنْ بَدَنِكَ - مَا بَلَغَ، وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ لِلنَّاسِ فَلا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ

____________________

(١) شرح نهج البلاغة - م ١٧ - ص ٨٨.

٣٥٥

الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ كَصَلاةِ أَضْعَفِهِمْ وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).

(هذا ولمّا فرغ (عليه السلام) من وصيته بأمور رعيته، شرع في وصيته بأداء الفرائض التي افترضها الله عليه من عبادته، ولقد أبهر البلغاء في قوله (عليه السلام): (وإن كانت كلّها لله)، أي: النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات والفرائض أيضاً، ثمّ قال له: (كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ) أي: لا يحملنك شغل السلطان أن تختصر الصلاة اختصاراً بل صلّها بفرائضها وسننها وشعائرها، في نهارك وليلك، وإن أتعبك ذلك ونال من بدنك وقوّتك.

ثمّ أمره إذا صلّى بالناس جماعة أن لا يطيل فينفّرهم عنها، وأن لا يخرج الصلاة وينقصها فيضيعها). (٢)

____________________

(١) نص العهد للأشتر.

(٢) الراعي والرعية - ص ٢٧٤.

٣٥٦

الفصل الرّابع

العدل والظلم

٣٥٧

٣٥٨

كان فكر علي (عليه السلام) كله إرساء للعدالة والحقّ في المجتمع الإسلامي، والعمل بهما كما عمل من قبل ابن عمّه النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد أعطى ذلك المفهوم جُلّ اهتمامه لارتباطه المباشر أساسا بالشريعة الإسلامية والأمانة الإلهية؛ لتثبيت الهدف الأسمى وهو إنقاذ المجتمع من الظلم والاستغلال.

فالحروب التي واجهها لم تكن إلاّ حروباً على عدله الذي لا يحيف ولا يركن لمداهنة أولئك الذين يخشون أن يضعهم ميزان العدل مع الناس سواء..، وما الحقد الذي تَلَى ذلك على أهل بيته (عليه السلام) إلاّ لعدله، والمساواة التي كسر من خلالها شوكة الظالمين والباغين والطامعين.

فاهتمام الإمام (عليه السلام) جاء لحفظ مكانة الدين وفق النهج السماوي العادل، حيث كان هدفه السير بالعدل و(العدل الواسع الذي يسع الناس جميعاً لينتظموا في ميزان واحد، هو الأمل الذي كان يحدو علياً ويقطع عليه طريق زهده في الحكومة... العدل والمساواة اللذان أقسم على إجرائهما على الجميع سواء، ابتداءً بنفسه وبنيه، لم يكونا فقط مفتاح الخير والرحمة وعودة الحقوق المهدورة، بل كانا أيضاً مفتاح الاختيار الصعب، ومحكّ الإيمان وغربال الرجال:

٣٥٩

(وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ! لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاكُمْ وَأَعْلاكُمْ أَسْفَلَكُمْ) (١) .

الأنبياء ومحاربة الظلم

لقد سار الأنبياء والرسل بالبشرية بالنصّ الصريح في محاربة الظلم والظالمين وقطع دابر المفسدين رغم المعاناة القاسية التي قوبلوا بها من الطغاة وأعوانهم.

ولم يكن الأنبياء والرسل وحدهم في هذه الساحة وهذه المنازلة على مرّ التاريخ، فقد سار على نهجهم أتباعهم وأنصارهم وأصبح الاتجاه والميل إلى مفهوم العدالة اتجاهاً إنسانيا عامّاً حتى اهتمّ به الفلاسفة والعلماء والمفكّرون وأصبح ذلك محور نظرياتهم المتعلّقة بالإنسان والاجتماع العام.

و(قد ذهب بعض الحكماء إلى اعتبار العدل فضيلة قاعدة لجميع الفضائل، وأنّه أساس الجمعية التآنسيّة - أي: المجتمع البشري، والعمران والتمدّن، فهو أصل عمدة الممالك المجتمعات - التي لا يتمّ حسن تدبيرها إلاّ به). (٢)

إنّ مسألة حرية الإنسان وكرامته والعدالة الاجتماعية ومنع إقامة أيّ صرح للظلم والظالمين أصبح المنطوق الأوّل لتلك النظريات والأطروحات الاجتماعية.

____________________

(١) عبد الحميد - صائب - تاريخ الإسلام الثقافي ص ٤١٨ - الغدير - بيروت، الطبعة الأولى - ١٤١٧ - ١٩٩٧.

(٢) التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوّره، ص ٢٩٥.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390