في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)10%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57974 / تحميل: 9404
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقلب الحقائق ( وَقَالُوا مَالِ هذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ... ) (١) .

بالإضافة إلى ذلك كان يحضر مراسمهم ويؤمّهم في صلاتهم، وكذلك عمل الإمام علي (عليه السلام) من بعده على سيرته ونهجه. فمن لم يكن هكذا فإنّه خارج نطاق الشريعة المحمّدية. ثمّ يدعو الإمام (عليه السلام) إلى تعويد النفس على الإصحار، ولا يسمح لحبّ الذات والتفرّد بالرأي بأن يسيطر.

____________________

(١) سورة الفرقان، الآية ٧.

٣٤١

٣٤٢

الفصل الثّالث

المظالم في وصايا عليّ (عليه السلام)

٣٤٣

٣٤٤

إنّ الخطأ بحقّ أفراد من المجتمع لا يأتي من العاديين من الناس فقط، إنّما هناك حيف وظلم وغبن قد يصدر من حاكم جائر أو سلطة غاشمة أو قوّة قضائية متنكّرة للحقّ، أو من قبل أصحاب النفوذ والجاه من الطبقات الأرستقراطية في المجتمع، أو أحياناً من جرّاء إهمال قضية اجتماعية مهمّة لها مردودات على اقتصاديات الناس وحياتهم العامة، حينئذٍ لا يستطيع هذا الشخص، أو الجماعة، الذين ارتكب بحقّهم الظلم أو التغاضي عن حقّهم وعدم الانتصاف لهم إلا أن ينظروا إلى الله تعالى ليتظلّموا عنده، وقد قال علي (عليه السلام): (احذر من دمعة المؤمن؛ فإنّها تقصف من دمّعها (أو) (أدمعها) وتطفئ بحور النّيران عن صاحبها). (١)

أو في جانب آخر من كتاب له إلى حذيفة بن اليمان:

(وآمرك بالرّفق في أمورك والدّين، والعدل في رعيتك؛ فإنّك مساءلٌ عن ذلك، وإنصاف المظلوم). (٢)

وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: (ونظر المظالم هو قود المتظالمين

____________________

(١) نهج السعادة، المصدر السابق، ص ٣٥.

(٢) نفس المصدر السابق، ص ٢٠.

٣٤٥

إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العِفة، قليل الطمع، كثير الورع؛ لأنّه يحتاج إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين [ كالخلفاء أو من فرض إليه الخلفاء نظراً في الأمور العامة... قد نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المظالم في الشِرب الذي تنازعه الزبير بن العوام (رضي الله عنه) ورجل من الأنصار فحضره بنفسه فقال للزبير: (اسق أنت يا زبير ثمّ الأنصاري، فقال الأنصاري إنّه لابن عمّتك يا رسول الله؟ فغضب من قوله، وقال: يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء إلى الكعبين). وإنّما قال أجره على بطنه أدباً له لجرأته عليه. واختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين، هل كان حقا بيّنه لهما حكما أو كان مباحاً فأمر به زجراً على الجوابين). (١)

(وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بيتٌ سمّاه بيت القصص، يلقي الناس فيه رقاعهم) (٢) .

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي

يحدث الظلم أحيانا نتيجة الطمع وحبّ الغلبة، بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إنّ الإنسان يحتاج إلى من يتظلّم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية، وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالة والده وقوّته وسطوته التي تعيد ما أخذ منه إليه، بالإضافة إلى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبي بينه

____________________

(١) الماوردي - الأحكام السلطانية - تحقيق الدكتور أحمد البغدادي ص ١٠٢، الكويت ١٩٨٩م.

(٢) شرح نهج البلاغة - المجلّد ١٧ - ص٨٧.

٣٤٦

وبين أبيه حينئذٍ يشكو إليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من أخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل وإحساسه واطمئنانه النفسي بأنّ والده سوف يأخذ حقّه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلّق بالأثر النفسي في ذات الإنسان نعايشها يومياً في مجتمعنا، هذا في الحلقة الأولى المكوّنة للمجتمع، وهكذا يسري الأمر إلى المجتمع كلّه بكافّة طبقاته، فإذا ما أحسّ الإنسان بعدالة ولي أمره واهتمامه باستماع مظالم الناس والإجابة عليها فوراً، قولاً وفعلاً، فإنّ ذلك سوف يدفع الناس إلى الالتفاف حول الأب الأكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمّات والشدائد من الأيام.

وقد اهتمّ إمامنا في ذلك الاهتمام الواسع، فأخذ يفصّل جوانب هذا العمل ويسعى إلى تربية الولاة للأخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدّد لهم معالم النظر في المظالم، وصوره، وكيفيته، ومِلاكاته، ومراعاة حالات الشاكي (المتظلّم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه، وإعادة الحقّ إلى نصابه بالصورة الصحيحة. وعلي (عليه السلام) قال لبعض عمّاله، في كتاب بعثه إليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش: (وأنا بين أظهر الجيش فارفعوا إليّ مظالمكم، وما عَراكم ممّا يغلبكم من أمركم، ولا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله) (١) .

فإذن، قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لأنّها تثبت العدالة وتجري الأحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وأنّ سلامة المجتمع وصحّته تأتي من رفع المظلومية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الأمر يحتاج إلى قوّة إيمانية وعدالة سلطانية تعطي الإنسان سلامة أمره واستقراره، وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية وامتزاج ذلك

____________________

(١) نفس المصدر السابق، ص١٤٧.

٣٤٧

بالقيم الأخلاقية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا علي (عليه السلام) يوصي في أنفاسه الأخيرة، ولديه الحسن والحسين (عليه السلام)، بقوله: (أوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحقّ، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم). (١)

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المُرادي، يوصي علي (عليه السلام) بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت، ثمّ قول الحقّ، فالحقّ عند علي (عليه السلام) معناه إرادة الله وكلمته، ففيها نجاة الأمة وخلاصها واستقامتها. ثمّ أكّد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثمّ إعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في علي (عليه السلام) طعامه ولباسه وكرامته وعزّه، بتلك الرأفة، وذلك الحبّ، أطعم الأيتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز إذ عجن بالذلّة والمنّة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الإمامين سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليها السلام)، وحبيبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويؤكّد عليهم وهو الذي قد خَبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب عليٍّ، وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وإنّهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممّن قرب أو بعد، ممّن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل.

إنّه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية، ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدقّ أسماع وعقول الناس في كلّ زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثمّ انتقل إلى الشيء الأعظم والأهم ألا وهو: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما

____________________

(١) مروج الذهب - م٢ - ص٤١.

٣٤٨

في الله لومة لائم).

حتى في آخر اللحظات يدعو إلى إنصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين، فإنّ ذلك أساس العدل والحكم الذي أراده الله، ومهما يكن هذا الظالم كُونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقيم (ولا تأخذكما في الله لومة لائم) ونستنتج من قوله (عليه السلام) هذا ثلاث قضايا مهمّة، كأنّهن الأعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع:

١ - الرحمة.

٢ - إعانة الضعفاء، أي: فقراء الأمة ومن لا حيلة ولا قوّة له.

٣ - العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف إلى جنب المظلوم واخذ حقّه ممّن ظلمه.

لله درك يا أبا الحسن! من أبٍ رؤوفٍ وحاكمٍ عادلٍ ومربٍّ أخلاقي عظيم، واجتماعي فريد، جمعتَ كلَ الخصال وأعطيت كلّ روحك لهؤلاء الناس الأيتام والضعفاء المظلومين فأعطوك كلّ شيء.

شرائط النظر في المظالم

لم يجعل الإمام (عليه السلام) مسألة النظر في المظالم في المستوى الإرشادي فقط، إنّما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الأمر، فوضع لهذا الأمر المهم مقوّمات أساسية لا يمكن أن يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها، ولا يمكن أن تكون عدالة في هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها أمير المؤمنين في هذا النص: (وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ

٣٤٩

عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ). ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ) (١) .

إنّ النظر في المظالم يتطلّب أولاً - وقبل كلّ شيء - أن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلوماً لذلك، ثمّ العمل بالبنود المهمّة التي وضعها علي (عليه السلام) التي تدلل على صحّة عملية النظر في المظالم، وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الآخر؛ لأنّها متلازمة في أمرها.

و(تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ) (٢) .

إنّ الإنسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والآثار النفسية المتبقية في ذهنه، من إرهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الأُبّهة العالية، تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته، وربّما يفرّ ولا يعرض قضيّته وهو معتقداً أنّ سلامة نفسه هي أفضل من الحصول عل ظُلامته. ولهذا يضع أمير المؤمنين (عليه السلام) الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الأعمال، فهو أولاً يطلب أن يجلس الوالي بنفسه وأن لا يوكل غيره لذلك؛ لكي يعالج المشاكل ويحلّ العقد ويباشر الأمور ويطلّع عليها

____________________

(١) نص العهد للأشتر.

(٢) نص العهد للأشتر.

٣٥٠

شخصياً. ثمّ ينصب ميزان العدل لإنصاف المظلوم والأخذ بالظالم وإعادة الحقّ إلى نصابه، ونشر راية الرحمة على رؤوس الأبناء، أي المجتمع؛ لأنّ الراعي يعتبر الأب للقوم، فإذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا يُدنيهم ولا يتظلّمون عنده بالحقّ فلا نفع من ذلك إذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة.

فلا تبطر!. كما قال الإمام (عليه السلام) وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكلّه شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامّة بأوضاع المجتمع واعتباراته، ومستقرئ للأوضاع والأحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطي النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عمّاله لكي تكون أشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع، إذ يضع النقاط على الحروف لكلّ مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بُعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة وأخرى، فكلّها نابعة من أساس واحد ومصدر أصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي أصل لبناء كل أمر.

فمرّة يأمر ولاته بتفقد أمور الرعية بإرسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبّرون على الناس حتى يدوّنوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة والتامّة إلى الولاة دون إضافات أو نواقص متعمّدة من الذين لا يستطيعون المجيء إليه. وكذلك يأمرهم بالأمر التالي: فانشر العدل بنشر أصحابك الثقاة، ومرّة أخرى يكون هناك إنسان مظلوم نهب حقه وهدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحقّ والرحمة بواسطة إنسان ظالم، سواء كان عاملاً من عمّال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شَرطة، أو أي إنسان آخر، ولا يجد من يتظلّم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه إلاّ الله والذي بيده ولاية الأمر، وهي بطبيعة الحال أمانة في عنقه من الله لرعاية أمر عباده.

وهذا الأمر قمّة في العدالة الإنسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات

٣٥١

التي توجد فيها هذه المبادئ الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للإخلاص والتفاني والتضحية سواء كان لدينها أو وطنها.

ثمّ يطلب الإمام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عامّاً، ويريد من كلامه أيضاً أنّ لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب أن يكون وَقوراً متواضعاً؛ لأنّ الله ينظر إلى حكمه وعدله (فتواضع لله الذي خلقك)، ثمّ لا يتعرّض الحاشية والحرّاس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الأعوان الممحلقين أعينهم بشدّة، وفي وجوههم القسوة والشدّة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام (حتى يكلمك متكلّمهم غير متتعتعٍ (١)) أي: لا يترددون في العرض عندك، ثمّ يقول: فإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).

فأمير المؤمنين (عليه السلام) استشهد بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يؤكّد وبوضوح عدم طُهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، إذ لا يستديم الحكم إلاّ بالعدل وإنصاف المظلومين.

وإذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فإنّ التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لأنّ الناس لا يمكن أن تستكين للضيم والقهر مدّة طويلة.

وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلّل على ذلك.

ثمّ يجب أن يتوقع الوالي كلّ شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذي أعياهم الفقر، وأتعبهم الفقر، والدواهي التي أصابتهم من العمّال والأعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثمّ لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من أعدائهم.

____________________

(١) التعتعة: التردّد. من العجز، أي: غير خائفين من عرض الكلام.

٣٥٢

هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربّما يجرح، أو عنف في كلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في للنفوس المؤجّجات للأحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى (وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الإنسانية القيّمة التي يضع مضامينها علي (عليه السلام) ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لأمّته من الضياع والهتك والتسلّط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للإنسان أن يعيش ضمن مبدأ الإسلام العظيم الذي يعطي للإنسان حريّته وكرامته، وكذلك يقول للوالي: بأن لا يضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم، فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدّث إليهم. إنّ الله يعوض عن ذلك للإنسان الذي يحمل الحبّ والحنان والعطف والرفق، بل كلّ معاني الكلمات التي تبعث في القلب والنفس الروحَ الإنسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله رحمته وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الإنسان، إنّ الوالي بهذا العمل أدّى فرائضه وأدّى حقّ عبادته، ومعنى ذلك أنّه أطاع الله من خلال التعاليم الإلهية التي أوجبها على عباده، فالأجر والثواب على تلك الأعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الإحسان ورضى النفس وبدون منٍّ أو أذى أو استكثار، وإن أردت أن تمنع فامنع بلطفٍ واعتذارٍ؛ فإنّ ذلك أسمى وأرفع وأبلغ أثراً في النفوس وأكثر تقبّلاً وقناعة لدى لناس بحيث تدفعهم إلى مَحالّهم وهم راضين عنك، شاكرين عملك.

٣٥٣

التحصين الاجتماعي

إنّ التحصين عند علي (عليه السلام) من المسائل المهمّة، وهذا يأتي من خلال بناء هيكلية المجتمع وتربيته على الأُسس القرآنية الأخلاقية التي تمنع الظلم والتجاوز وتعطي للحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الساحة الاجتماعية كلّها لكي تسري مبادئها بين الناس، فالغاية - إذن - هو البناء الاجتماعي السليم والمتماسك والمتمحور حول المبادئ الحقيقة للإسلام التي أرادها الله وجاهد من أجل تثبيتها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وضحى من أجلها عليّ (عليه السلام). بالإضافة إلى كلّ ذلك التكافل الاجتماعي، كلّ هذه المفاهيم تؤدّي إلى الصورة المثالية التي هيَّأها عليٌّ (عليه السلام) للإنسانية كمنهج عامٍّ تسير عليه، وحينما أقول الصور المثالية لا أعني بذلك (جمهورية أفلاطون) أو (المدينة الفاضلة عند الفارابي)، أو غيرها، إنّما الإنسانية بحاجة إلى مبادئ عامة إنسانية عادلة تصون كرامتها وتحفظ شرفها وتبعد المخاطر عنها وهذا هو الدين وهدف علي (عليه السلام).

إذن فالإنسان هو رأس المال الأساسي عنده، فإذا ضاع أو تلف رأس المال خسرنا كل شيء وإذا ما استثمر في مجالاته الصحيحة زاد ونما وعمّت بركته على الجوانب الأخرى، وهذا يبدأ بتطبيق العدل أولا، لأنّه المربّي هو الأساس والمؤثّر على طبيعة أخلاق المجتمع، فإذا ما شعر المجتمع بأنّ الحاكم إنسان زاهد عابد في العلن وظالم سارق في السر فإنّ آثاره السلبية على المجتمع أعمق ممّا يتصوّر. بحيث يضيع الضعيف تحت أقدام القوي، وتُسلب إرادته وحقّه وحرّيته فيأكل القويُّ الضعيف وأصبحت الشريعة شريعة غابٍ وليست شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحيث يتقادم المجتمع ويهرم قبل أوانه وينهار الكيان الاجتماعي

٣٥٤

والسياسي قبل موعده، وتموت الحضارة والعمران في وقت واحد قبل بلوغ سلّم الأمن والاستقرار.

لكلّ يومٍ عملهُ

(ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، مِنْهَا: إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ. وَمِنْهَا: إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ. وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ).

(ثمّ بيّن (عليه السلام) أنّه لابدّ له من هذا المجلس لأمر آخر غير ما قدّمه (عليه السلام)، وذلك لأنّه لابدّ من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه، والنّوّاب عنه، فيتعيّن عليه أن يباشرها بنفسه، ولابدّ من أن يكون في كتب عمّاله الواردة عليه ما يعيا كتّابه عن جوابه، فيجيب عنه بعلمه ويدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة ومصلحة الولاية أن يطلّع الكتّاب عليه، فيجيب أيضاً عن ذلك بعلمه. ثمّ قال: له لا تدخل عمل يوم لآخر فيتعبك ويكدّرك، فإنّ لكل يوم ما فيه من العمل). (١)

(وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَاعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ، وَلَا مَنْقُوصٍ بَالِغاً - مِنْ بَدَنِكَ - مَا بَلَغَ، وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ لِلنَّاسِ فَلا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ

____________________

(١) شرح نهج البلاغة - م ١٧ - ص ٨٨.

٣٥٥

الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ كَصَلاةِ أَضْعَفِهِمْ وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).

(هذا ولمّا فرغ (عليه السلام) من وصيته بأمور رعيته، شرع في وصيته بأداء الفرائض التي افترضها الله عليه من عبادته، ولقد أبهر البلغاء في قوله (عليه السلام): (وإن كانت كلّها لله)، أي: النظر في أمور الرعية مع صحة النية وسلامة الناس من الظلم من جملة العبادات والفرائض أيضاً، ثمّ قال له: (كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ) أي: لا يحملنك شغل السلطان أن تختصر الصلاة اختصاراً بل صلّها بفرائضها وسننها وشعائرها، في نهارك وليلك، وإن أتعبك ذلك ونال من بدنك وقوّتك.

ثمّ أمره إذا صلّى بالناس جماعة أن لا يطيل فينفّرهم عنها، وأن لا يخرج الصلاة وينقصها فيضيعها). (٢)

____________________

(١) نص العهد للأشتر.

(٢) الراعي والرعية - ص ٢٧٤.

٣٥٦

الفصل الرّابع

العدل والظلم

٣٥٧

٣٥٨

كان فكر علي (عليه السلام) كله إرساء للعدالة والحقّ في المجتمع الإسلامي، والعمل بهما كما عمل من قبل ابن عمّه النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد أعطى ذلك المفهوم جُلّ اهتمامه لارتباطه المباشر أساسا بالشريعة الإسلامية والأمانة الإلهية؛ لتثبيت الهدف الأسمى وهو إنقاذ المجتمع من الظلم والاستغلال.

فالحروب التي واجهها لم تكن إلاّ حروباً على عدله الذي لا يحيف ولا يركن لمداهنة أولئك الذين يخشون أن يضعهم ميزان العدل مع الناس سواء..، وما الحقد الذي تَلَى ذلك على أهل بيته (عليه السلام) إلاّ لعدله، والمساواة التي كسر من خلالها شوكة الظالمين والباغين والطامعين.

فاهتمام الإمام (عليه السلام) جاء لحفظ مكانة الدين وفق النهج السماوي العادل، حيث كان هدفه السير بالعدل و(العدل الواسع الذي يسع الناس جميعاً لينتظموا في ميزان واحد، هو الأمل الذي كان يحدو علياً ويقطع عليه طريق زهده في الحكومة... العدل والمساواة اللذان أقسم على إجرائهما على الجميع سواء، ابتداءً بنفسه وبنيه، لم يكونا فقط مفتاح الخير والرحمة وعودة الحقوق المهدورة، بل كانا أيضاً مفتاح الاختيار الصعب، ومحكّ الإيمان وغربال الرجال:

٣٥٩

(وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ! لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاكُمْ وَأَعْلاكُمْ أَسْفَلَكُمْ) (١) .

الأنبياء ومحاربة الظلم

لقد سار الأنبياء والرسل بالبشرية بالنصّ الصريح في محاربة الظلم والظالمين وقطع دابر المفسدين رغم المعاناة القاسية التي قوبلوا بها من الطغاة وأعوانهم.

ولم يكن الأنبياء والرسل وحدهم في هذه الساحة وهذه المنازلة على مرّ التاريخ، فقد سار على نهجهم أتباعهم وأنصارهم وأصبح الاتجاه والميل إلى مفهوم العدالة اتجاهاً إنسانيا عامّاً حتى اهتمّ به الفلاسفة والعلماء والمفكّرون وأصبح ذلك محور نظرياتهم المتعلّقة بالإنسان والاجتماع العام.

و(قد ذهب بعض الحكماء إلى اعتبار العدل فضيلة قاعدة لجميع الفضائل، وأنّه أساس الجمعية التآنسيّة - أي: المجتمع البشري، والعمران والتمدّن، فهو أصل عمدة الممالك المجتمعات - التي لا يتمّ حسن تدبيرها إلاّ به). (٢)

إنّ مسألة حرية الإنسان وكرامته والعدالة الاجتماعية ومنع إقامة أيّ صرح للظلم والظالمين أصبح المنطوق الأوّل لتلك النظريات والأطروحات الاجتماعية.

____________________

(١) عبد الحميد - صائب - تاريخ الإسلام الثقافي ص ٤١٨ - الغدير - بيروت، الطبعة الأولى - ١٤١٧ - ١٩٩٧.

(٢) التفكير الاجتماعي - نشأته وتطوّره، ص ٢٩٥.

٣٦٠

عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب ميزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ علي (عليه السلام) في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول (عليه السلام): (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً). (1)

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها، ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كلّ مظلوم ومستضعف ومن تقتحمه العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية.

٣٦١

ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنكفئ موازين العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسمّيه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) ونسمّيه (الظالم). (1)

وقد قال الشاعر الإيراني مولوي في ذلك:

(ما هو العدل؟ هو وضع الشيء في موضعه.

ما هو الظلم؟ هو وضع الشيء في غير موضعه.

ما هو العدل؟ هو إعطاؤك الأشجار ماء.

ما هو الظلم؟ إنّه إعطاؤك الأشواك ماء). (2)

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من بعضها: ( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (3) .

____________________

(1) مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - بتصرّف -، ص 55.

(2) المصدر السابق، ص72.

(3) سورة الشورى: الآية 15.

٣٦٢

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1) .

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (2) .

( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ) .

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي (عليه السلام) مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

النظرة العلوية إلى الظلم

إنّ منهج الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه (عليه السلام) التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له (عليه السلام) يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه:

(وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) (5) .

____________________

(1) سورة النحل: الآية 90.

(2) سورة الأنعام: الآية 82.

(3) الحسك: الشوك، والسَّعدَان: نبتة برية كحلمة الثدي يملأها الشوك.

(4) المسهّد: المسهّر.

(5) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج2 - ص216.

٣٦٣

إن الإمام (عليه السلام) يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين وسيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول (عليه السلام): لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كلّه أحبّ إليه من أن يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام (عليه السلام) يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) فالنفس نهايتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر من شدّته يوم القيامة، حيث قال (عليه السلام): (أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى، وَ لا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَلا مِمَّنْ بَقِيَ) (1) .

____________________

(1) المصدر السابق، ص 255.

٣٦٤

إنّ الإمام (عليه السلام) يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها يوم الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام (عليه السلام) في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك: (دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه) (1) .

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنّه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب ومرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والإمام (عليه السلام) يقول في ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً) (2) .

ولا زالت كلمته (عليه السلام) التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) تدقّ أسماع

____________________

(1) نهج السعادة، المصدر السابق، ص 30.

(2) نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح - ص 192.

٣٦٥

العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي (عليه السلام) لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهمّ أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم: (انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبّها البعيد، ولا تطلّ الدّماء (1) ولا تعطّل الحدود) (2) .

وكذلك حينما كتب يطلب فيه تأديب (علي) ابن هرمة وكان على سوق الأهواز فخان وظلم: (إذا قرأت كتابي فنحّ ابن هرمة عن السّوق، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله، وأعزلك أخبث عزلةٍ - وأُعيذك بالله منه -. فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السّجن، واضربه خمسة وثلاثون سوطاً وطف به إلى الأسواق فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهد، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً - أي مشتوماً - ... واكتب إليَّ من اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه) (3) .

أو كما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان: (... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك

____________________

(1) طلَّ الدماء: أبطله وأهدره.

(2) نهج السعادة - المصدر السابق - ص30.

(3) المصدر السابق، ص34.

٣٦٦

والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين... وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون) (1).

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة: (وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوى اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام (عليه السلام) على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتب إليه بمثل هذا، فكتب (عليه السلام) إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها. والسلام) (2) .

____________________

(1) نهج السعادة - المصدر السابق - ص 20.

(2) المصدر السابق ص145.

٣٦٧

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام (عليه السلام) هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه: (إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام (عليه السلام) خير الآخرة - لمن يريد - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: يا كميل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلّي، فإن لم تكن من وجهه وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً:

(يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا

٣٦٨

- أو: تعيشوا - في الأرض مفسدين) (1) .

حتى وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم وصدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم:

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمّن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...) (2) .

إنّ كتاب الإمام (عليه السلام) قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي

____________________

(1) علي صوت العدالة الإنسانية - المجلد الأوّل - ص136.

(2) ابن مزاحم - نصر - وقعة صفّين - ص106.

٣٦٩

وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سُحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1). والسلام

عقيل المملق في كنف علي الخليفة

العدالة عند علي (عليه السلام) تطبّق على القاصي والداني، البعيد والقريب، وقد جسّد موقفه ذلك في كلامه الذي يقول فيه:

(وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاًَ وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! يَاعَقِيلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلا أَئِنُّ مِنْ

____________________

(1) سورة الأنفال: الآية 53.

٣٧٠

لَظَى). (1)

هذا عقيل أخو الإمام (عليه السلام) وقصّته معروفة، لكنّ المسألة المهمّة هي القوة الإيمانية أو اليقين التام لدى عليّ (عليه السلام) (والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) فلا دنيا بحملها تقف أمامه، ولا بهرجها وزخرفها يخطف بصره.

رحم تجعله يعبث بمقدرات وأموال المسلمين؟!، فللرحم حقّ، ولكنّه إنّما يوصل بالحقّ، فللمسلمين أيضاً حقوقهم، وليس من العدل أن ترعى تلك على حساب هذه، فتسعد نفس بما تشقى بها أخرى!

إنّ في هذا المثل الرفيع أبلغ رسائل اللوم بسياسة الأمس التي أغدقت على أهل بيت الخليفة بذريعة صلة الرحم، دون الالتفات إلى هذا الذي يغدق على (الرحم) من أين هو؟ ولمن هو؟ ودون الالتفات إلى طبقات واسعة من أبناء الأمة تحرم من حقّها وهي به حقيقة لا لذنبٍ، إلاّ أنّها لم تكن من ذوي الرحم، وكأنّ حقّ الحياة مقرون بالرحم وحده.

العدالة والمجتمع

ما دمنا في موضوع العدل والظلم فقد دوّنت الكثير من كلام الإمام (عليه السلام) في هذا الشأن، ورأيت أن أطرح رسالته إلى عثمان بن حنيف، عامله على البصرة، وقد بلغ سمع الإمام (عليه السلام) أنّه دعي إلى وليمة لجماعة من القوم هناك، فمضى إليها، وقد تبدو مسألةً عاديةً للسامع، لكنّ المسألة العظيمة أنّ ابن حنيف على سدّة الحكم والولاية، عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما أعظمها عند علي وما أشدها على سمعه الذي ائتمنه على رعيته.

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج2 - ص217.

٣٧١

إنّها دروس العدالة والأخلاق والحقّ وكلّ ما علا من المفاهيم الإنسانية والكلمات ذات العمق والمعنى الحضاري، ودرس وعبره لا مثيل له في التاريخ أبداً وهو القائل (عليه السلام) في ذلك (وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ) (1) .

فما أعظمه من كلام، وما أعظمها من موعظة تتلألأ في ظلام حياتنا وتجذب إليها القلوب ولا تزيغ عنها الأبصار، ما أحكمها من لغة وأروعها من بلاغة، وأفضلها من صور حيّة للواقع الذي نعيش في ظلامه، إنّها قطعه صغيرة من ذلك العقد الكبير الذي يهزّ الألباب وتتعلّق به القلوب ويتناغم مع الأنفس.

فوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) منهج عظيم في علم الاجتماع وعظه للجميع وغير محددة في زمان أو مكان لكنها كتبت باسم عثمان بن حنيف وقد ابتدأ كلامه (عليه السلام) بـ: (أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلا وَإِنَّ

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح محمد عبده - ج3 - ص70.

٣٧٢

إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ) (1) .

إنّه عتاب عليّ (عليه السلام) لواليه، على تلك الاستجابة السريعة دون التبصّر بحقائق الأمور، إنّها العدالة التي قاتل خصومه بأسسها وقوائمها، العدالة التي جعلت من عليّ (عليه السلام) نبراساً للأمم، ومن مبادئه قطب الرحى التي تدور حوله أفئدة طلاب الحقّ والعدال الإنساني. ثمّ يسأل الإمام (عليه السلام) ابن حنيف هل تحريّت عن أساس الموارد لهذه الموائد في مجتمعٍ الفقير فيهم مردود والغني مدعو يفترش البساط الفاخر؟!

ثمّ يحذّره من أكل الحرام من هذا الطعام الذي لا يعلم طرق كسبه، هل هو حلال أو حرام؟! هل سرق من حقّ الناس الذين لا حول لهم ولا قوّة أم من الطرق المشروعة للكسب الحلال؟!. ثمّ يذكره بولي أمره كيف يحيا حياته، وابن حنيف عارفٌ جيداً، ألم تكن حياة المجتمع وعليّ سواء إن لم يكن اقل منها؟! ألم يكن قد اكتفى بذلك الثوب البالى؟! ألم يكن قد قنع بأقراص خبز الشعير والماء والملح؟!

وقد ذكّر ابن حنيف بهذا الوضع وهذه الصورة التي يعيشها إمامه، أليس هذا هو عليّ وهذه هي سيرته وحياته إلى أن يقول: (أَلا إنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونى بورعٍ واجتهاد، وعفةٍ وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشّحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونِعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غدٍ جدثٌ تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها

____________________

(1) نهج البلاغة - شرح محمّد عبده - ج3، ص70.

٣٧٣

وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم، إنّها هي نفسي أرُوْضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق) (1) .

إنّ الذي يروم بل يهدف إلى بناء مجتمع إنساني متكامل تسوده العدالة والمحبّة والتفاني لا بدّ له أن يستعرض هذه الكلمات العظيمة للإمام ويأخذ ما تستطيع قدرته على نفسه بتطبيقها، (ثمّ إنّ ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على إصلاح شؤون الرعية) (2) . ويوصي طالباً معونة ولاته له في تسديد الأمور على أقل التقدير، ويذكّر بالموت والقبر وتلك الظلمة الموحشة في أروع تصوير حي لمواقع تلك المرحلة ما بعد الموت، بعد أن وضّح لهم وكما يعلمون أنّه لم يخزن ذهباً ولا فضة ولا مالاً من غنائمها و(ما كان يهيئ لنفسه طمراً آخر بدل الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثمّ يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فإنّ مجموع الرداء والإزار يعد ثوباً واحداً فيها يكسو البدن لا بأحدهما) (3) .

مفسدة الهدية

إذا كان التهادي بين الناس محبّذ، فهو لأولي الأمر رشوة لا غير...

فقد استعمل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجلاً من الأزد، يقال له ابن اللُبيّة، على الصدقة، فلمّ قدم، قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي. قال: (فهلاّ جلس في بيت أبيه أو بيت

____________________

(1) نفس المصدر السابق ص70.

(2) نفس المصدر السابق ص70.

(3) نفس المصدر السابق ص71.

٣٧٤

أمّه، فينظر يهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إنْ كان بعيراً له رغا، أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعر)، ثمّ رفع بيده رأينا عفرة إبطيه: (اللّهمّ هل بلّغت، اللّهمّ هل بلّغت؟! ثلاثاً). (1)

وفي مسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) نلتمس مصاديق هذه الرسالة العظمى؛ لقد جاءه الأشعث بن قيس - وهو كبير قومه بملفوفة (وهي نوع من الحلوى) فتعجب الإمام (عليه السلام) من أمرها فقال له بمنتهى الصراحة والوعظ: (أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟!، أمختبط أنت، أم ذو جنّة أم تهجر؟!).

ذاك أخوه عقيل وهذا الآخر من رعاياه، الأول طلب مالاً ليعينه به على عياله وأسرته المُملقة، والثاني شخصية اجتماعية ورئيس قوم متمكّن مادياً وله صوت مسموع بين أهله جاء ليرشيه، ذكّر الأول بنار الله التي سجّرها للظلمة والمنحرفين، وردّ الآخر على أعقابه بأقسى الكلام وأعظم المواعظ ليبقى يتذكّرها طيلة حياته، حيث رجع خائباً وباعتقاد تامّ من أنّه لا يستطيع أن يأخذ من إيمان عليّ (عليه السلام) أقل شيء ليس بحلوى مصنوعة بل بدنيا عامرة أهلها.

وهنا لا بد من التذكير بأنّ الأشعث بن قيس هذا هو الذي قاد الفتنة بأولئك النفر الذي فتنوا بخديعة معاوية يوم صفين برفع المصاحف، وجاء بهم فأحاطوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) متوعّداً إنّ لم تكف الحرب وترضى بتحكيم المصاحف لنسلمنّك إلى معاوية!!

تلك الهدية التي أعجبت صانعها غاية الإعجاب حتى التمس بها تقرباً إلى أميره قد صيّرتها طبيعتها - كرشوة - في عين علي (معجونة شنئتها كأنّما عجنت

____________________

(1) صحيح البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا - ج2 ص917 حديث 2457 - كتاب الهبة - باب 16.

٣٧٥

بريق حية أو قيئها).

إذن قضية العدالة وارتباط مصير المجتمعات بها تعطي الدافع الكبير لتربية الأفراد من خلال نهج عليّ (عليه السلام) الواضح الجلّي الذي هو نهج الإسلام بعينه، والذي أعطى للإنسانية الصورة المثلى للعمل الصالح، بل كيف يربِّي الرجل أسرته وأهل بيته، وإذا كان قائداً أو إماما أو حاكماً كيف يربّي أمته ويوجّهها نحو الإصلاح؟! فقد روى أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) انّه: (كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضّال، ويعين الضعيف، ويمرّ بالتجار فيفتح القرآن ويقرأ: ( ِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) ، ثمّ يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس) (1) .

كان علي (عليه السلام) هكذا في حياته ونهجه، فهو الصورة الناصعة لرجل الإسلام الأول، فقد كان القائد والخليفة الذي آثر الناس على نفسه ولم تزلزل أقدامه أكداس التبر ورونق السلطان، طبّق الحقّ والعدالة على نفسه أولاً ثمّ سار إلى مجتمعه واعظاً وناصحاً ومُدلاًّ على طريق الحقّ لكسب رضا الله الذي هو فوق كلّ شيء.

فلا خلاف - إذن - في أنّ التربية تبدأ بالنفس الأولى وهو القائد المعني لما تعكسه تلك الصورة من آثار إيجابية عظيمة على نفوس المجتمع أجمع، وبناء الأخلاق لدى الأفراد تنمّي قيم العدالة لديهم ليكون سريان ذلك جارٍ على الأسرة ثمّ المجتمع الأوسع وبالتالي تصبح الطهارة عامّة فلا نجس ولا خبث، فالمجتمع السليم تُصان مفاهيمه بفعل حجم وسعة القيم الأخلاقية المطبّقة على

____________________

(1) علي إمام المتّقين، ج2 ص238.

٣٧٦

سلوك الناس ومفاهيمهم، وما يبرز من خلقٍ سيء أو ظلم فاحش سيرفضه المجتمع ويدحضه، بل سيقف بكلّ وعي وصلابة بوجه كلّ انحراف، وبالتالي لا مجال للدسّ والعبث وصانعي الخلل الاجتماعي، لأنّ الحقّ وسيرة الناس العادلة لا تسمح بذلك الانحراف.

(ولو قسّمنا العدالة إلى قسمين: العدالة الخلقية، والعدالة الاجتماعية. فلا ريب أنّ العدالة الخلقية أساس العدالة الاجتماعية، إذ لو لم يتصف الأفراد فكيف يمكن للمجتمع أن يتصف بها؟ أليس المجتمع مجموعة من الأفراد؟ وعليه فانتظار العدالة الاجتماعية مع عدم تنمية الإيمان والأخلاق والتقوى وخشية الله في الأفراد، وهمٌ من الأوهام، ومن هنا تنشأ مشاكل المجتمعات البشرية المتمثّلة في تسليط الجبّارين، والتمييز وانعدام العدالة، فلا بدّ - أولاً - من بناء الإنسان وتربية أفراد عدول، ثمّ تسليمهم زمام أمور المجتمع بأيديهم، وبذلك يمكن أن نأمل تحكيم العدل واستقرار العدالة الاجتماعية، وهو بالضبط ما عكسه كلام الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد قال بشأن الظلم وانعدام العدالة الذي هو من أعظم الكوارث الاجتماعية: (بئس الزّاد إلى المعاد العدوان على العباد). (1)

فالإمام (عليه السلام) يحذّر كلّ التحذير هنا من تلك الميول الشيطانية لأنّ هدفه (عليه السلام) حفظ المجتمع في هذه الدنيا من الظلم والجور، وبعد فالإمام (عليه السلام) بحكم المسؤولية الإلهية وإمامة الأمة تحتم عليه مسؤوليته إمام الله إبراز وإظهار الطرق السليمة والمستقيمة للمسلمين؛ لئلا يسقطوا في حبائل الشيطان وبالتالي خسرانهم في الدنيا والآخرة.

____________________

(1) رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - ص 186.

٣٧٧

٣٧٨

خاتمة الكلام

لقد حاولت في هذا البحث أن أُظهر فكر الإمام عليّ (عليه السلام) الاجتماعي من خلال كلّ ما جاء عنه (عليه السلام) وإبراز ذلك مع إسناده بالحقائق التاريخية، والصور الاجتماعية الواقعية التي نعايشها الآن، ثمّ الاعتماد على الركائز الأساسية في بياناته (عليه السلام) التي فصلّها في أماكن متعدّدة كحقائق بارزة ومهمّة، والتي تعتبر أسس البناء الفكري للمجتمع الإسلامي وهي الأخلاق الإسلامية والعدالة الاجتماعية، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي أو لا يقوم إلاّ من خلال العقيدة التي تقوم ببناء الذات الإنسانية وتقويمها بالفكر الإسلامي الحقيقي، وأسندنا ذلك بالآيات القرآنية الشريفة بالإضافة الى السيرة النبوية الطاهرة، وربطنا كل ذلك بحديثنا عن فكر الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي.

فإذن لا مناص من أن نتّخذ هذا الفكر الناضج والواضح كأساس لبناء النظرية الاجتماعية الإسلامية، لأنّه جمع القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتفكيره الحي، والتجربة المريرة التي مرّ بها في منهج واحد متكامل الجوانب.

إنّ الذي يريد أن يبني نظرية اجتماعية إسلامية متكاملة لا بدّ له من مراعاة هذا الجانب الحيوي.

والحقيقة التي لا تجافى أنّ مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من الفراغ الواسع في المعرفة التامّة بالفكر الاجتماعي الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بعقيدتنا الإسلامية،

٣٧٩

وحتى لم يكن لدينا لحد الآن صورة واحدة واضحة الجوانب عن أهمية علم الاجتماع ونظرياته وماهيته، والجوانب التي يهتمّ بها، بل لا زلنا بحاجة إلى تبنّي فلسفة تاريخية لتفسير التاريخ وفق المنظور الإسلامي بصورة ناضجة وكاملة لارتباط ذلك بالمسيرة الاجتماعية ارتباطً كاملاً، ومن خلال مناهج تاريخية للتربية وبناء الأفكار لدى الطليعة الشبابية وفي جميع المراحل الدراسية طبقاً للتفسير الإسلامي، وبناء الأمة على ذلك وهذا ليس بالشيء المستحيل أمام مفكّرينا العظام الذين اغنوا كل المجالات الحياتية لمجتمعاتنا بتلك الأفكار والاستقراءات والاستنتاجات التي نستطيع أن نقول بشأنها وبكل فخر أنّها الصالحة لبناء المجتمعات الإنسانية، ما عدا الجوانب التي أهملت ومع كلّ الأسف!

حيث لم تعط الاهتمام اللازم في الحوزات الدينية أو طلاّبها واعتمدوا على بعض المساهمات الناقصة في بعض الأحيان في حين أنّ التخطيط للإنسانية أو المجتمعات البشرية يأتي من خلال علم الاجتماع؛ حيث اهتمّت الدول المتقدمة المستقبلية التي يستهدي بها قوّام الكيانات السياسية في قيادة مجتمعاتهم وبنائها البناء السليم، وهذا ما لا نجده إلاّ في الإسلام العظيم الذي يقوم على القرآن الكريم الذي حفظه الله من كل تحريف أو تزوير، والتراث الفكري الخالد الذي هو قانون يصلح لكل زمان ومكان، وفسحه اجتهادية تعالج كلّ المشاكل المستجدّة التي يواجهها العالم المعاصر التي لم يأت بها نصّ القرآني أو سنّة نبوية، كلّ ذلك يحفّزنا إلى عرض المنهج الإسلامي لمعالجة مشاكل المجتمعات الإنسانية واتّخاذه السبيل الذي يحفظ الإنسانية وحقوقها دون أن تصل إليها أيادي الشرّ والبغي للعبث بها.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390