في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)10%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57397 / تحميل: 9213
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب ميزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ علي (عليه السلام) في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول (عليه السلام): (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً). (١)

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها، ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كلّ مظلوم ومستضعف ومن تقتحمه العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية.

٣٦١

ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنكفئ موازين العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسمّيه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) ونسمّيه (الظالم). (١)

وقد قال الشاعر الإيراني مولوي في ذلك:

(ما هو العدل؟ هو وضع الشيء في موضعه.

ما هو الظلم؟ هو وضع الشيء في غير موضعه.

ما هو العدل؟ هو إعطاؤك الأشجار ماء.

ما هو الظلم؟ إنّه إعطاؤك الأشواك ماء). (٢)

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من بعضها: ( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (٣) .

____________________

(١) مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - بتصرّف -، ص ٥٥.

(٢) المصدر السابق، ص٧٢.

(٣) سورة الشورى: الآية ١٥.

٣٦٢

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (٢) .

( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ) .

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي (عليه السلام) مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

النظرة العلوية إلى الظلم

إنّ منهج الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه (عليه السلام) التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له (عليه السلام) يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه:

(وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) (٥) .

____________________

(١) سورة النحل: الآية ٩٠.

(٢) سورة الأنعام: الآية ٨٢.

(٣) الحسك: الشوك، والسَّعدَان: نبتة برية كحلمة الثدي يملأها الشوك.

(٤) المسهّد: المسهّر.

(٥) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج٢ - ص٢١٦.

٣٦٣

إن الإمام (عليه السلام) يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين وسيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول (عليه السلام): لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كلّه أحبّ إليه من أن يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام (عليه السلام) يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) فالنفس نهايتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر من شدّته يوم القيامة، حيث قال (عليه السلام): (أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى، وَ لا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَلا مِمَّنْ بَقِيَ) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق، ص ٢٥٥.

٣٦٤

إنّ الإمام (عليه السلام) يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها يوم الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام (عليه السلام) في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك: (دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه) (١) .

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنّه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب ومرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والإمام (عليه السلام) يقول في ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً) (٢) .

ولا زالت كلمته (عليه السلام) التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) تدقّ أسماع

____________________

(١) نهج السعادة، المصدر السابق، ص ٣٠.

(٢) نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح - ص ١٩٢.

٣٦٥

العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي (عليه السلام) لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهمّ أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم: (انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبّها البعيد، ولا تطلّ الدّماء (١) ولا تعطّل الحدود) (٢) .

وكذلك حينما كتب يطلب فيه تأديب (علي) ابن هرمة وكان على سوق الأهواز فخان وظلم: (إذا قرأت كتابي فنحّ ابن هرمة عن السّوق، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله، وأعزلك أخبث عزلةٍ - وأُعيذك بالله منه -. فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السّجن، واضربه خمسة وثلاثون سوطاً وطف به إلى الأسواق فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهد، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً - أي مشتوماً - ... واكتب إليَّ من اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه) (٣) .

أو كما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان: (... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك

____________________

(١) طلَّ الدماء: أبطله وأهدره.

(٢) نهج السعادة - المصدر السابق - ص٣٠.

(٣) المصدر السابق، ص٣٤.

٣٦٦

والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين... وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون) (١).

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة: (وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوى اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام (عليه السلام) على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتب إليه بمثل هذا، فكتب (عليه السلام) إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها. والسلام) (٢) .

____________________

(١) نهج السعادة - المصدر السابق - ص ٢٠.

(٢) المصدر السابق ص١٤٥.

٣٦٧

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام (عليه السلام) هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه: (إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام (عليه السلام) خير الآخرة - لمن يريد - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: يا كميل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلّي، فإن لم تكن من وجهه وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً:

(يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا

٣٦٨

- أو: تعيشوا - في الأرض مفسدين) (١) .

حتى وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم وصدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم:

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمّن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...) (٢) .

إنّ كتاب الإمام (عليه السلام) قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي

____________________

(١) علي صوت العدالة الإنسانية - المجلد الأوّل - ص١٣٦.

(٢) ابن مزاحم - نصر - وقعة صفّين - ص١٠٦.

٣٦٩

وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سُحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١). والسلام

عقيل المملق في كنف علي الخليفة

العدالة عند علي (عليه السلام) تطبّق على القاصي والداني، البعيد والقريب، وقد جسّد موقفه ذلك في كلامه الذي يقول فيه:

(وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاًَ وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! يَاعَقِيلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلا أَئِنُّ مِنْ

____________________

(١) سورة الأنفال: الآية ٥٣.

٣٧٠

لَظَى). (١)

هذا عقيل أخو الإمام (عليه السلام) وقصّته معروفة، لكنّ المسألة المهمّة هي القوة الإيمانية أو اليقين التام لدى عليّ (عليه السلام) (والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) فلا دنيا بحملها تقف أمامه، ولا بهرجها وزخرفها يخطف بصره.

رحم تجعله يعبث بمقدرات وأموال المسلمين؟!، فللرحم حقّ، ولكنّه إنّما يوصل بالحقّ، فللمسلمين أيضاً حقوقهم، وليس من العدل أن ترعى تلك على حساب هذه، فتسعد نفس بما تشقى بها أخرى!

إنّ في هذا المثل الرفيع أبلغ رسائل اللوم بسياسة الأمس التي أغدقت على أهل بيت الخليفة بذريعة صلة الرحم، دون الالتفات إلى هذا الذي يغدق على (الرحم) من أين هو؟ ولمن هو؟ ودون الالتفات إلى طبقات واسعة من أبناء الأمة تحرم من حقّها وهي به حقيقة لا لذنبٍ، إلاّ أنّها لم تكن من ذوي الرحم، وكأنّ حقّ الحياة مقرون بالرحم وحده.

العدالة والمجتمع

ما دمنا في موضوع العدل والظلم فقد دوّنت الكثير من كلام الإمام (عليه السلام) في هذا الشأن، ورأيت أن أطرح رسالته إلى عثمان بن حنيف، عامله على البصرة، وقد بلغ سمع الإمام (عليه السلام) أنّه دعي إلى وليمة لجماعة من القوم هناك، فمضى إليها، وقد تبدو مسألةً عاديةً للسامع، لكنّ المسألة العظيمة أنّ ابن حنيف على سدّة الحكم والولاية، عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما أعظمها عند علي وما أشدها على سمعه الذي ائتمنه على رعيته.

____________________

(١) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج٢ - ص٢١٧.

٣٧١

إنّها دروس العدالة والأخلاق والحقّ وكلّ ما علا من المفاهيم الإنسانية والكلمات ذات العمق والمعنى الحضاري، ودرس وعبره لا مثيل له في التاريخ أبداً وهو القائل (عليه السلام) في ذلك (وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ) (١) .

فما أعظمه من كلام، وما أعظمها من موعظة تتلألأ في ظلام حياتنا وتجذب إليها القلوب ولا تزيغ عنها الأبصار، ما أحكمها من لغة وأروعها من بلاغة، وأفضلها من صور حيّة للواقع الذي نعيش في ظلامه، إنّها قطعه صغيرة من ذلك العقد الكبير الذي يهزّ الألباب وتتعلّق به القلوب ويتناغم مع الأنفس.

فوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) منهج عظيم في علم الاجتماع وعظه للجميع وغير محددة في زمان أو مكان لكنها كتبت باسم عثمان بن حنيف وقد ابتدأ كلامه (عليه السلام) بـ: (أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلا وَإِنَّ

____________________

(١) نهج البلاغة - شرح محمد عبده - ج٣ - ص٧٠.

٣٧٢

إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ) (١) .

إنّه عتاب عليّ (عليه السلام) لواليه، على تلك الاستجابة السريعة دون التبصّر بحقائق الأمور، إنّها العدالة التي قاتل خصومه بأسسها وقوائمها، العدالة التي جعلت من عليّ (عليه السلام) نبراساً للأمم، ومن مبادئه قطب الرحى التي تدور حوله أفئدة طلاب الحقّ والعدال الإنساني. ثمّ يسأل الإمام (عليه السلام) ابن حنيف هل تحريّت عن أساس الموارد لهذه الموائد في مجتمعٍ الفقير فيهم مردود والغني مدعو يفترش البساط الفاخر؟!

ثمّ يحذّره من أكل الحرام من هذا الطعام الذي لا يعلم طرق كسبه، هل هو حلال أو حرام؟! هل سرق من حقّ الناس الذين لا حول لهم ولا قوّة أم من الطرق المشروعة للكسب الحلال؟!. ثمّ يذكره بولي أمره كيف يحيا حياته، وابن حنيف عارفٌ جيداً، ألم تكن حياة المجتمع وعليّ سواء إن لم يكن اقل منها؟! ألم يكن قد اكتفى بذلك الثوب البالى؟! ألم يكن قد قنع بأقراص خبز الشعير والماء والملح؟!

وقد ذكّر ابن حنيف بهذا الوضع وهذه الصورة التي يعيشها إمامه، أليس هذا هو عليّ وهذه هي سيرته وحياته إلى أن يقول: (أَلا إنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونى بورعٍ واجتهاد، وعفةٍ وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشّحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونِعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غدٍ جدثٌ تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها

____________________

(١) نهج البلاغة - شرح محمّد عبده - ج٣، ص٧٠.

٣٧٣

وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم، إنّها هي نفسي أرُوْضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق) (١) .

إنّ الذي يروم بل يهدف إلى بناء مجتمع إنساني متكامل تسوده العدالة والمحبّة والتفاني لا بدّ له أن يستعرض هذه الكلمات العظيمة للإمام ويأخذ ما تستطيع قدرته على نفسه بتطبيقها، (ثمّ إنّ ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على إصلاح شؤون الرعية) (٢) . ويوصي طالباً معونة ولاته له في تسديد الأمور على أقل التقدير، ويذكّر بالموت والقبر وتلك الظلمة الموحشة في أروع تصوير حي لمواقع تلك المرحلة ما بعد الموت، بعد أن وضّح لهم وكما يعلمون أنّه لم يخزن ذهباً ولا فضة ولا مالاً من غنائمها و(ما كان يهيئ لنفسه طمراً آخر بدل الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثمّ يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فإنّ مجموع الرداء والإزار يعد ثوباً واحداً فيها يكسو البدن لا بأحدهما) (٣) .

مفسدة الهدية

إذا كان التهادي بين الناس محبّذ، فهو لأولي الأمر رشوة لا غير...

فقد استعمل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجلاً من الأزد، يقال له ابن اللُبيّة، على الصدقة، فلمّ قدم، قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي. قال: (فهلاّ جلس في بيت أبيه أو بيت

____________________

(١) نفس المصدر السابق ص٧٠.

(٢) نفس المصدر السابق ص٧٠.

(٣) نفس المصدر السابق ص٧١.

٣٧٤

أمّه، فينظر يهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إنْ كان بعيراً له رغا، أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعر)، ثمّ رفع بيده رأينا عفرة إبطيه: (اللّهمّ هل بلّغت، اللّهمّ هل بلّغت؟! ثلاثاً). (١)

وفي مسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) نلتمس مصاديق هذه الرسالة العظمى؛ لقد جاءه الأشعث بن قيس - وهو كبير قومه بملفوفة (وهي نوع من الحلوى) فتعجب الإمام (عليه السلام) من أمرها فقال له بمنتهى الصراحة والوعظ: (أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟!، أمختبط أنت، أم ذو جنّة أم تهجر؟!).

ذاك أخوه عقيل وهذا الآخر من رعاياه، الأول طلب مالاً ليعينه به على عياله وأسرته المُملقة، والثاني شخصية اجتماعية ورئيس قوم متمكّن مادياً وله صوت مسموع بين أهله جاء ليرشيه، ذكّر الأول بنار الله التي سجّرها للظلمة والمنحرفين، وردّ الآخر على أعقابه بأقسى الكلام وأعظم المواعظ ليبقى يتذكّرها طيلة حياته، حيث رجع خائباً وباعتقاد تامّ من أنّه لا يستطيع أن يأخذ من إيمان عليّ (عليه السلام) أقل شيء ليس بحلوى مصنوعة بل بدنيا عامرة أهلها.

وهنا لا بد من التذكير بأنّ الأشعث بن قيس هذا هو الذي قاد الفتنة بأولئك النفر الذي فتنوا بخديعة معاوية يوم صفين برفع المصاحف، وجاء بهم فأحاطوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) متوعّداً إنّ لم تكف الحرب وترضى بتحكيم المصاحف لنسلمنّك إلى معاوية!!

تلك الهدية التي أعجبت صانعها غاية الإعجاب حتى التمس بها تقرباً إلى أميره قد صيّرتها طبيعتها - كرشوة - في عين علي (معجونة شنئتها كأنّما عجنت

____________________

(١) صحيح البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا - ج٢ ص٩١٧ حديث ٢٤٥٧ - كتاب الهبة - باب ١٦.

٣٧٥

بريق حية أو قيئها).

إذن قضية العدالة وارتباط مصير المجتمعات بها تعطي الدافع الكبير لتربية الأفراد من خلال نهج عليّ (عليه السلام) الواضح الجلّي الذي هو نهج الإسلام بعينه، والذي أعطى للإنسانية الصورة المثلى للعمل الصالح، بل كيف يربِّي الرجل أسرته وأهل بيته، وإذا كان قائداً أو إماما أو حاكماً كيف يربّي أمته ويوجّهها نحو الإصلاح؟! فقد روى أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) انّه: (كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضّال، ويعين الضعيف، ويمرّ بالتجار فيفتح القرآن ويقرأ: ( ِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) ، ثمّ يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس) (١) .

كان علي (عليه السلام) هكذا في حياته ونهجه، فهو الصورة الناصعة لرجل الإسلام الأول، فقد كان القائد والخليفة الذي آثر الناس على نفسه ولم تزلزل أقدامه أكداس التبر ورونق السلطان، طبّق الحقّ والعدالة على نفسه أولاً ثمّ سار إلى مجتمعه واعظاً وناصحاً ومُدلاًّ على طريق الحقّ لكسب رضا الله الذي هو فوق كلّ شيء.

فلا خلاف - إذن - في أنّ التربية تبدأ بالنفس الأولى وهو القائد المعني لما تعكسه تلك الصورة من آثار إيجابية عظيمة على نفوس المجتمع أجمع، وبناء الأخلاق لدى الأفراد تنمّي قيم العدالة لديهم ليكون سريان ذلك جارٍ على الأسرة ثمّ المجتمع الأوسع وبالتالي تصبح الطهارة عامّة فلا نجس ولا خبث، فالمجتمع السليم تُصان مفاهيمه بفعل حجم وسعة القيم الأخلاقية المطبّقة على

____________________

(١) علي إمام المتّقين، ج٢ ص٢٣٨.

٣٧٦

سلوك الناس ومفاهيمهم، وما يبرز من خلقٍ سيء أو ظلم فاحش سيرفضه المجتمع ويدحضه، بل سيقف بكلّ وعي وصلابة بوجه كلّ انحراف، وبالتالي لا مجال للدسّ والعبث وصانعي الخلل الاجتماعي، لأنّ الحقّ وسيرة الناس العادلة لا تسمح بذلك الانحراف.

(ولو قسّمنا العدالة إلى قسمين: العدالة الخلقية، والعدالة الاجتماعية. فلا ريب أنّ العدالة الخلقية أساس العدالة الاجتماعية، إذ لو لم يتصف الأفراد فكيف يمكن للمجتمع أن يتصف بها؟ أليس المجتمع مجموعة من الأفراد؟ وعليه فانتظار العدالة الاجتماعية مع عدم تنمية الإيمان والأخلاق والتقوى وخشية الله في الأفراد، وهمٌ من الأوهام، ومن هنا تنشأ مشاكل المجتمعات البشرية المتمثّلة في تسليط الجبّارين، والتمييز وانعدام العدالة، فلا بدّ - أولاً - من بناء الإنسان وتربية أفراد عدول، ثمّ تسليمهم زمام أمور المجتمع بأيديهم، وبذلك يمكن أن نأمل تحكيم العدل واستقرار العدالة الاجتماعية، وهو بالضبط ما عكسه كلام الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد قال بشأن الظلم وانعدام العدالة الذي هو من أعظم الكوارث الاجتماعية: (بئس الزّاد إلى المعاد العدوان على العباد). (١)

فالإمام (عليه السلام) يحذّر كلّ التحذير هنا من تلك الميول الشيطانية لأنّ هدفه (عليه السلام) حفظ المجتمع في هذه الدنيا من الظلم والجور، وبعد فالإمام (عليه السلام) بحكم المسؤولية الإلهية وإمامة الأمة تحتم عليه مسؤوليته إمام الله إبراز وإظهار الطرق السليمة والمستقيمة للمسلمين؛ لئلا يسقطوا في حبائل الشيطان وبالتالي خسرانهم في الدنيا والآخرة.

____________________

(١) رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - ص ١٨٦.

٣٧٧

٣٧٨

خاتمة الكلام

لقد حاولت في هذا البحث أن أُظهر فكر الإمام عليّ (عليه السلام) الاجتماعي من خلال كلّ ما جاء عنه (عليه السلام) وإبراز ذلك مع إسناده بالحقائق التاريخية، والصور الاجتماعية الواقعية التي نعايشها الآن، ثمّ الاعتماد على الركائز الأساسية في بياناته (عليه السلام) التي فصلّها في أماكن متعدّدة كحقائق بارزة ومهمّة، والتي تعتبر أسس البناء الفكري للمجتمع الإسلامي وهي الأخلاق الإسلامية والعدالة الاجتماعية، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي أو لا يقوم إلاّ من خلال العقيدة التي تقوم ببناء الذات الإنسانية وتقويمها بالفكر الإسلامي الحقيقي، وأسندنا ذلك بالآيات القرآنية الشريفة بالإضافة الى السيرة النبوية الطاهرة، وربطنا كل ذلك بحديثنا عن فكر الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي.

فإذن لا مناص من أن نتّخذ هذا الفكر الناضج والواضح كأساس لبناء النظرية الاجتماعية الإسلامية، لأنّه جمع القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتفكيره الحي، والتجربة المريرة التي مرّ بها في منهج واحد متكامل الجوانب.

إنّ الذي يريد أن يبني نظرية اجتماعية إسلامية متكاملة لا بدّ له من مراعاة هذا الجانب الحيوي.

والحقيقة التي لا تجافى أنّ مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من الفراغ الواسع في المعرفة التامّة بالفكر الاجتماعي الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بعقيدتنا الإسلامية،

٣٧٩

وحتى لم يكن لدينا لحد الآن صورة واحدة واضحة الجوانب عن أهمية علم الاجتماع ونظرياته وماهيته، والجوانب التي يهتمّ بها، بل لا زلنا بحاجة إلى تبنّي فلسفة تاريخية لتفسير التاريخ وفق المنظور الإسلامي بصورة ناضجة وكاملة لارتباط ذلك بالمسيرة الاجتماعية ارتباطً كاملاً، ومن خلال مناهج تاريخية للتربية وبناء الأفكار لدى الطليعة الشبابية وفي جميع المراحل الدراسية طبقاً للتفسير الإسلامي، وبناء الأمة على ذلك وهذا ليس بالشيء المستحيل أمام مفكّرينا العظام الذين اغنوا كل المجالات الحياتية لمجتمعاتنا بتلك الأفكار والاستقراءات والاستنتاجات التي نستطيع أن نقول بشأنها وبكل فخر أنّها الصالحة لبناء المجتمعات الإنسانية، ما عدا الجوانب التي أهملت ومع كلّ الأسف!

حيث لم تعط الاهتمام اللازم في الحوزات الدينية أو طلاّبها واعتمدوا على بعض المساهمات الناقصة في بعض الأحيان في حين أنّ التخطيط للإنسانية أو المجتمعات البشرية يأتي من خلال علم الاجتماع؛ حيث اهتمّت الدول المتقدمة المستقبلية التي يستهدي بها قوّام الكيانات السياسية في قيادة مجتمعاتهم وبنائها البناء السليم، وهذا ما لا نجده إلاّ في الإسلام العظيم الذي يقوم على القرآن الكريم الذي حفظه الله من كل تحريف أو تزوير، والتراث الفكري الخالد الذي هو قانون يصلح لكل زمان ومكان، وفسحه اجتهادية تعالج كلّ المشاكل المستجدّة التي يواجهها العالم المعاصر التي لم يأت بها نصّ القرآني أو سنّة نبوية، كلّ ذلك يحفّزنا إلى عرض المنهج الإسلامي لمعالجة مشاكل المجتمعات الإنسانية واتّخاذه السبيل الذي يحفظ الإنسانية وحقوقها دون أن تصل إليها أيادي الشرّ والبغي للعبث بها.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390