في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)10%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57399 / تحميل: 9213
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

كتاب القصاص والديات

قد شدد الله تعالى في كتابه المجيد وعلى لسان رسوله الامين والائمة من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين في دم المؤمن وانتهاك حرمته وأكد على ذلك، فقد قال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميع)، وعن الامام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يغرنكم رحب الذراعين بالدم، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت، قالوا: يا رسول الله وما قاتل لا يموت؟ فقال: النار»، وفي عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله عليه): «إياك والدماء وسفكها بغير حله، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقه، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة»، وعن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب، وبرئ المقتول منه. وذلك قول الله عزوجل: (إني اُريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار)».. إلى غير ذلك.

بل ورد التشديد في الاعانة على قتل المؤمن والاشتراك فيه والرضا به، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والارض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكبهم الله على مناخرهم [وجوههم] في النار»،

٢٦١

وعن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال: بلى ذكرت عبدي فلاناً فترقى في ذلك حتى قتل فأصابك من دمه»، وعن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله»... إلى غيرذلك.

وكذا يحرم إيواء القاتل ومنعه من أولياء المقتول، كما تظافرت بذلك الاخبار عن أهل بيت العصمة الاطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

لكن الجرم مهما عظم فباب التوبة منه مفتوح، رحمة من الله تعالى بعباده واستصلاحاً لامرهم وإبعاداً لهم عن القنوط المهلك. نعم التوبة مشروطة..

أولاً: بتسليم المعتدي نفسه لاولياء المقتول، فإن شاؤوا اقتصو، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وإن شاؤوا عفو.

وثانياً: بأداء الكفارة إن رضي أولياء المقتول بالدية ولم يقتصو، وقد تقدم التعرض لها في كتاب الكفارات.

وقد جعل الله سبحانه القصاص حقاً لاولياء المقتول على القاتل وثقّل في الدية تعظيماً لحرمة القتل وردعاً عنه، قال عز اسمه: (ولكم في القصاص حياة يا اُولي الالباب).

كما أنه تعالى قد خص القصاص بالمعتدي ولم يرض به على غيره عدلاً منه تعالى في الحكم، قال عز اسمه: (ولا تزر وازرة وزر اُخرى)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إن أعتى الناس على الله عزوجل من قتل غير قاتله ومن ضرب من لم يضربه» والاخبار في ذلك كثيرة.

لكن مع كل ذلك نرى كثيراً من الناس ينتهكون حرمات الله تعالى

٢٦٢

ويتعدون حدوده - استخفافاً وتهاوناً وطغياناً وتجبراً - فهم يستخفون بالدماء ويتسرعون في إهراقها ثم هم يمنعون القاتل من أن يقتص منه ويدافعون عنه عصبية وحمية. كما أنهم يعصبون الدم بغير القاتل من الاهل والعشيرة ويقتصون منهم، رجوعاً لعادات الجاهلية الجَهْلاء، واندفاعاً وراء العصبية الحمقاء، واستجابة لدعوة الشيطان الرجيم، وعزوفاً عن دين الله القويم وصراطه المستقيم (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)، و(إن الذين يحادُّون الله ورسوله اُولئك في الاذلين * كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد رأينا أن نقتصر في هذا الكتاب على المهم من أحكام القصاص والديات على ما هو مورد للابتلاء من ذلك سداً لحاجة المؤمنين، مع إيكال بقية الفروع والاحكام للمطولات، حيث يضيق المقام عن استقصاء الكلام فيه. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ويقع الكلام في ذلك في قسمين..

٢٦٣

القسم الأول

في القصاص

وهو جزاء الجناية على البدن بمثله، والكلام فيه في ضمن فصول..

الفصل الأول

في قصاص النفس

من قتل نفساً كان لاولياء المقتول الاقتصاص منه وقتله بشروط..

الأول: أن يكون كامل، بأن يكون عاقلاً بالغ، فلا قصاص على المجنون وإن كان عامداً وكذا الصبي، وإن بلغ خمسة أشبار على الأحوط وجوب.

(مسألة ١): في ثبوت القصاص على السكران إذا بلغ حداً لا يعتد بقصده عن العقلاء إشكال. نعم لو كان يعلم من نفسه أنه إذا سكر اعتدى فأقدم على السكر كان عليه القصاص. كما أنه إذا لم يكن سكره أثر في جنايته فلا إشكال في عدم القصاص عليه. كما إذا رمى بما لايقتل عادةً فقتل اتفاقاً أو رمى حيواناً فأصاب إنسان، كما يتحقق ذلك من السكران كثير.

الثاني: أن يكون القتل عمد، فإن لم يكن عمداً لم يكن عليه قصاص. بل تثبت بقتله الدية على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.

(مسألة ٢): القتل على أنحاء ثلاثة..

٢٦٤

الأول: العمد، ويتحقق بالقصد للقتل وإن كان بفعل ما لا يوجبه عادة، كما إذا رمى رجلاً بحصاة صغيرة أو ضربه بعصا صغيرة ضربة خفيفة أو دفعه دفعاً خفيفاً فصادف قتله بذلك. كما يتحقق بالقصد إلى إصابة المقتول بما يتوقع به القتل عادة، بحيث لا يستغرب تحقق القتل به، وإن لم يقصد بذلك القتل.

الثاني: الشبيه بالعمد، ويتحقق بما إذا قصد إصابة المجني عليه بما لا يوجب القتل عادة من دون أن يقصد به القتل فصادف حصول القتل.

الثالث: الخطأ المحض، وهو الذي لا يقصد به إصابة المجني عليه، كما لو رمى شاة أو كافراً مهدور الدم فأصاب إنساناً مسلماً فقتله. وأولى من ذلك ما إذا لم يقصد به الفعل الذي تحقق به القتل، كما إذا مشى على سقف فخسفه فوقع على شخص فقتله، أو أخذ السلاح الناري ليصلحه فانطلقت منه رصاصة فأصابت شخصاً فقتلته ونحو ذلك.

الثالث: أن يكون المقتول حراً إن كان القاتل حر، فلا يقتص من الحر بقتل العبد ويقتص من العبد بقتل الحر أو العبد. ولا مجال لاطالة الكلام في ذلك وفي فروعه بعد عدم الابتلاء به أو ندرته.

الرابع: أن يكون المقتول مسلماً إن كان القاتل مسلم، فلا يقتص من المسلم بقتل الكافر، ويقتص من الكافر بقتل المسلم والكافر.

(مسألة ٣): إذا قتل الكافر المسلم دفع الكافر إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا استرقوه وإن شاؤوا عفو. وكذا يدفع لهم ماله. وإن أسلم قبل الاسترقاق لم يسترق، وكان لهم القتل أو العفو.

(مسألة ٤): إذا قتل الكافر كافراً اقتص منه إلا أن يسلم القاتل قبل القصاص فلا يقتل حينئذٍ، بل ليس لاولياء المقتول إلا الدية إن كان للمقتول دية.

(مسألة ٥): إذا تعمد المسلم قتل الذمي اقتص منه بعد أن يعطى فضل

٢٦٥

ما بين دية المسلم والذمي، فإن دية الذمي ثمانمائة درهم، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

الخامس: أن لا يكون القاتل أباً للمقتول، فلا يقتص من الاب لو قتل ابنه، ويقتص من الابن لو قتل أباه، كما يقتص من الاُم لو قتلت ولده، ومن الولد لو قتل اُمه، لكن بعد رد فاضل الدية إن كان ذكر.

السادس: أن لا يكون المقتول مجنون، فإن من قتل مجنوناً لا يقتص منه.

(مسألة ٦): الأحوط وجوباً عدم الاقتصاص من الرجل إذا قتل الطفل غير البالغ.

السابع: أن يكون القاتل مبصر، فإن كان أعمى فلا قصاص، بل تثبت الدية وتحملها عاقلته، لانه في حكم قتل الخط.

الثامن: أن يكون القتل محرم، فلو كان سائغاً في حق القاتل فلا قصاص، كما في سابّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) ، والمرتد الفطري قبل توبته، والمقتول بقصاص أو حدّ، والمهاجم لو قُتل دفاع.

(مسألة ٧): الظاهر ثبوت القصاص بقتل من عليه القتل حداً - كاللائط والزاني المحصن - إذا تولاه من ليس له إقامة الحد. وكذا بقتل من عليه قصاص إذا تولاه من ليس له القصاص من دون توكيل منه.

(مسألة ٨): إذا قتل المولود الشرعي ولد الزنا المحكوم بإسلامه ثبت لوليه القصاص، ولكن يعطى للقاتل فاضل الدية، فإن دية ولد الزنا ثمانمائة درهم كما يأتي.

(مسألة ٩): يثبت القصاص على الرجل بقتله للرجل وللمرأة، ويثبت القصاص على المرأة بقتلها للرجل وللمرأة. لكن لو قتل الرجل المرأة لم يقتل به

٢٦٦

إلا بعد دفع فاضل الدية له، فإن دية المرأة نصف دية الرجل. أما لو قتلت المرأة الرجل فهي تقتل به لا غير، ولا يجب عليها دفع فاضل الدية لاوليائه.

(مسألة ١٠): إذا اجتمع اثنان على قتل واحد فأمسكه أحدهما وقتله الآخر كان القصاص على القاتل، وكان على من أمسكه أن يخلَّد في السجن حتى يموت عقوبة وحدّ، فإن كان معهم ثالث ينظر إليهم لا يغير عليهم وهو يقدر على التغيير كانت عقوبته أن تسمل عيناه.

(مسألة ١١): إذا أمر رجل رجلاً بقتل رجل آخر فقتله كان على القاتل القصاص، وعلى الامر أن يخلّد في السجن حداً وعقوبة. إلا أن يكون المأمور عبداً للامر، فيقتل الامر ويخلّد العبد في السجن. ويجري ذلك فيما لو كان الامر أو المأمور أو المقتول امرأة. أما لو كان المأمور صغيراً غير مميز أو مجنوناً كذلك فيقتل الامر مطلقاً ولا شيء على المأمور. وأما لو كان المأمور صبياً مميزاً فلا قصاص على الامر ولا على المأمور، بل يخلّد الامر في السجن، وتثبت الدية على المأمور تؤديها عنه عاقلته، كما يظهر مما يأتي في الديات.

(مسألة ١٢): إذا اشترك أكثر من واحد في قتل واحد ثبت القصاص عليهم. وحينئذٍ يتخير الولي في استيفائه بين وجوه..

الأول: أن يقتص منهم جميعاً بعد رد فاضل الدية على كل منهم، فإذا كانا اثنين رد عليها دية تامة بينهم، وإن كانوا ثلاثة رد عليهم ديتان بينهم، لكل منهم ثلثا دية، وإن كانوا أربعة رد عليهم ثلاث ديات بينهم لكل منهم ثلاثة أرباع الدية، وهكذ.

الثاني: أن يقتص من واحد منهم، وحينئذٍ يجب على من بقي أن يرد على ولي المقتص منه ما فضل من الدية، فإن كان من بقي واحداً دفع إليه نصف الدية، وإن كانا اثنين دفع كل واحد منهما ثلث الدية، وإن كانوا ثلاثة دفع إليه

٢٦٧

كل منهم ربع الدية، وهكذ.

الثالث: أن يقتص من بعضهم أكثر من واحد. مثلاً إذا كان المشتركون في القتل أربعة كان له أن يقتص من اثنين، بعد أن يدفع لكل منهما نصف الدية، ويدفع الاثنان الباقيان كل منهما ربع الدية لوليي المقتص منهما فيكون لكل واحد من المقتولين المقتص منهما ثلاثة أرباع الدية، وهكذا بقية الصور المتصورة.

والضابط أن على كل مشترك من دم القتيل بنسبة شركته، فإن استوفى منه أكثر من ذلك بالاقتصاص منه كان له الفاضل من الدية على المستوفي للقصاص وعلى من لم يقتص منه ممن شارك في القتل بنسبة شركتهم. ومن ذلك يظهر أنه لو كان المشترك في القتل امرأة فقد لا يكون لها رد مع الاقتصاص منه، لأن ديتها نصف دية الرجل، فلو كان القاتل للرجل امرأتين كان لولي القتيل قتلهما معاً من دون رد عليهم. ولو كان القاتل رجلاً وامرأة كان له قتل الرجل وترد المرأة على ولي الرجل نصف الدية، وله قتل المرأة، ويرد الرجل نصف الدية على ولي القتيل لا على ولي المرأة، وعلى هذا النهج تجري بقية الصور المتصورة.

(مسألة ١٣): في كل مورد يجوز القصاص مع رد الولي فاضل الدية، يتعين تقديم رد الفاضل للجاني ثم الاقتصاص منه، ولا يحل الاقتصاص منه قبل الرد. أما لو كان الرد من غير الولي - كما تقدم في المسألة السابقة - فلا يتوقف الاقتصاص على تقديم الرد، بل يجوز الاقتصاص للولي قبله، ويجب بعده أن يرد بقية الجناة على ورثة المقتص منه.

(مسألة ١٤): إذا قتل الجاني أكثر من واحد كان لاولياء كل قتيل الاقتصاص منه. فإن اجتمعوا على الاقتصاص منه فلا شيء لهم. وإن عفا بعضهم أو رضي بالدية وقبل بها الجاني لم يسقط حق الباقين من القصاص. وإن سبق بعضهم بالقصاص من دون مراجعة الباقين فقد استوفى حقه. وهل

٢٦٨

يسقط حق الباقين، أو ينتقلون للدية - كما فيمن تعذر الاقتصاص منه - وجهان أقواهما الثاني.

(مسألة ١٥): المسلمون تتكافأ دماؤهم، فكل مسلم محترم الدم يثبت القصاص بقتله مهما كان نسبه ومن أي فرقة كان، بعد مراعاة الشروط المتقدمة.

الفصل الثاني

في أحكام القصاص

(مسألة ١٦): لا يثبت القصاص إلا بعد موت المجني عليه، فمن اقتص قبله بعد الجناية كان ظالماً للجاني وكان لولي الجاني حينئذٍ القصاص من المقتص، أو الرضا بالدية أو العفو. نعم إذا مات المجني عليه الاول بعد قتل الجاني ثبتت ديته في مال الجاني المقتول.

(مسألة ١٧): لا يستحق ولي المقتول مع القتل العمدي إلا القصاص. وليس له الالزام بالدية بدلاً عن القصاص إلا برضا الجاني. وحينئذٍ فلهما التراضي بما زاد على الدية أو نقص عنه.

(مسألة ١٨): إذا توقف القصاص من ولي المقتول على رده فاضل الدية للجاني كان لولي المقتول الخيار بين القصاص مع الرد وأخذ الدية، وليس للجاني الامتناع من الدية.

(مسألة ١٩): إذا تعذر القصاص في قتل العمد للخوف من القاتل أو موته أو لمنع السلطان من القصاص أو نحو ذلك ثبتت الدية في ماله، فإن لم يكن له مال بقيت في ذمته كسائر ديونه. نعم إذا هرب القاتل فلم يقدر عليه ولم يكن له مال اُخذت الدية من قرابته الاقرب له فالاقرب، فإن لم يكن له قرابة كانت

٢٦٩

الدية على الامام، ولا يتعدى لغير ذلك من صور تعدد القصاص.

(مسألة ٢٠): إذا صالح الجاني على الدية ثم امتنع من أدائها فلا يعود حق القصاص ويبقى مطالباً بالدية، وكذا إذا عجز عن أدائها فإنها تبقى في ذمته كسائر ديونه ولا يتحملها عاقلته عنه ولا الامام.

(مسألة ٢١): إذا أراد ولي المقتول القصاص من القاتل، فخلصه شخص أو قوم حتى امتنع الاقتصاص على الولي اُلزم الذي خلصه بإرجاعه وحبس حتى يحضره، فإن فدى نفسه بالدية ورضي بها ولي المقتول فذاك، وإن لم يفعل حتى مات القاتل اُلزم بالدية.

(مسألة ٢٢): يثبت حق القصاص لولي الميت وهو وارث المال وفي ثبوته للزوج والزوجة إشكال، نعم هما يرثان من الدية لو رضي بها الوارث بدلاً عن القصاص. وكذا من الدية الثابتة ابتداء، وهي دية الخط. وأما ما تعارف عند كثير من القبائل من إناطة الامر بغير الوارث، كرئيس القبيلة وأكابرها فهو من عادات الجاهلية التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان. واللازم على المؤمنين نبذ ذلك والرضوخ لاحكام الله تعالى والمحافظة على حدوده لينالوا بذلك رضاه ويستحقوا رحمته، وإلا تعرضوا لنقمة الله تعالى وعقابه في الدنيا والآخرة.

(مسألة ٢٣): لولي الميت القصاص، وأخذ الدية برضا الجاني وبدونه على اختلاف الصور المتقدمة. كما أن له العفو، إلا الامام فإنه ليس له العفو، بل لابد له إما من القصاص أو أخذ الدية.

(مسألة ٢٤): إذا كان المقتول مسلماً وليس له أولياء من المسلمين إلا الامام وكان له أولياء من أهل الذمة عرض عليهم الامام الاسلام فمن أسلم منهم فهو وليه، فإن شاء اقتص وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يسلم منهم أحد كان الامر للامام، وليس له إلا القصاص أوأخذ الدية، كما تقدم.

٢٧٠

(مسألة ٢٥): إذا كان ولي المقتول مولى عليه لصغر أو جنون فالظاهر أن لوليه العمل على ما فيه صلاحه من القصاص أو الدية أو العفو. والأحوط وجوباً له الاقتصار على مقتضى المصلحة المهمة التي يكون تفويتها تفريطاً في حقه عرف. ومع عدم وضوحها للولي ينتظر به حتى يرتفع الحجر عنه فيعمل حقه بنفسه.

(مسألة ٢٦): إذا كان ولي الميت محجوراً عليه لسفه أو فلس لم يمنعه ذلك من طلب القصاص، كما لا يمنعه من الرضا بالدية.

(مسألة ٢٧): يجوز لولي الميت المبادرة بالقصاص وإن كان الاولى استئذان الامام، أو نائبه الخاص، وفي عصر الغيبة يستأذن الحاكم الشرعي.

(مسألة ٢٨): إذا تعدد الاولياء كان لكل منهم الاقتصاص من القاتل منفرد، لكن مع ملاحظة حق الآخرين، فإن رضوا بالقصاص فذاك، وإن أراد بعضهم الدية دفع له سهمه منه، وإن عفا بعضهم دفع سهمه من الدية لاولياء المقتص منه. وإن كان بعضهم غائباً لم يبطل حقه، بل ينتظر حتى يحضر فيعمل حقه، وكذا إذا كان مجنوناً أو صغيراً فإنه لا يبطل حقه بل يعمله وليه أو ينتظر به ارتفاع الحجر عنه، كما تقدم.

(مسألة ٢٩): للولي استيفاء القصاص بنفسه مباشرة، أو بتوكيل غيره على أن يقوم به مجاناً أو باُجرة، وتكون الاُجرة عليه لا على المقتص منه.

(مسألة ٣٠): إذا كان المقتول ناقصاً - كمقطوع اليد أو الرجل أو فاقد العين - ثبت القصاص أو الدية على قاتله وإن كان تاماً ولا يجب على أولياء المقتول رد دية العضو الناقص على القاتل. نعم إذا كان المقتول مقطوع اليد اليمنى قصاصاً أو كان قد جني عليه في قطعها فأخذ ديتها كان على أوليائه رد دية اليد قبل القصاص، وإذا أخذوا الدية استثنوا دية اليد. وفي عموم ذلك لليد

٢٧١

اليسرى فضلاً عن بقية الاعضاء إشكال، بل منع.

(مسألة ٣١): المقتول عمداً إن كان عليه دين وليس له مال فلاوليائه القصاص ولا يضمنون الدين. نعم إذا عفوا في قتل العمد والخطأ ضمنوا الدين. ولو أخذوا الدية كان عليهم وفاء الدين منه.

(مسألة ٣٢): اللازم في القصاص قتل الجاني بما يجهز عليه من دون تعذيب ومثلة ونحوهما حتى لو كان قد قتل المجني عليه بالوجه المذكور. والمشهور أنه لا يقتص منه إلا بالسيف، ولكن الظاهر الاكتفاء بكل ما يجهز عليه كالسلاح الناري. هذا كله مع استسلامه للقصاص جبراً أو اختيار، أما مع امتناعه بحيث لا يمكن الاقتصاص منه إلا مباغتة فالظاهر جواز ما تيسر من الوجوه مع تحري الابعد عن التعذيب والاقرب للاجهاز.

(مسألة ٣٣): إذا أراد ولي الدم أن يقتص من الجاني فضربه ضربة غير قاتلة كان ضامناً لما حصل منه، فإن كان عامداً وكانت الضربة مما يقتص فيه كان على ولي الدم القصاص، وإلا كان عليه دية الضربة له، ثم يقتص منه. نعم إذا ضربه ضربة قاتلة حتى ظن أنه أجهز عليه لكنه عولج فبرئ فالأحوط وجوباً سقوط القصاص بذلك.

(مسألة ٣٤): ليس للمجني عليه قبل موته حق العفو أواختيار القصاص أو الدية، ولو اختار شيئاً من ذلك فلا أثر له، بل يبقى الحق للولي.

٢٧٢

الفصل الثالث

في قصاص الطرف

والمراد منه ما لا تبلغ فيه الجناية إزهاق النفس، سواءً اقتضت إتلاف عضو - كاليد والعين - أم ل، بل مجرد الاعتداء على البدن بمثل الجرح والخدش. فإنه يثبت في ذلك القصاص بالمثل في الجملة على تفصيل يتضح مما يأتي.

(مسألة ٣٥): يشترط في قصاص الطرف ما يشترط في قصاص النفس من كمال الجاني - بالبلوغ والعقل - وعمده، وحرية المجني عليه إذا كان الجاني حر، وإسلامه إذا كان الجاني مسلم، وعدم كون الجاني أباً للمجنى عليه وعدم كون المجني عليه، مجنوناً بل ولا صبياً على الأحوط وجوب، وأن يكون الجاني مبصر، وأن تكون الجناية محرمة، على التفصيل المتقدم هناك.

(مسألة ٣٦): الظاهر أن الجناية عمداً على الطرف موجبة لتخيير المجني عليه بين القصاص والدية، فإن اختار الدية فليس للجاني الامتناع، بخلاف الجناية على النفس، كما تقدم.

(مسألة ٣٧): إذا جنت المرأة على الرجل كان له القصاص بالمثل لا غير، وإذا جنى الرجل على المرأة كان لها القصاص منه بلا رد ما لم تبلغ دية الجناية ثلث دية قتل الرجل، فإذا بلغت ثلث الدية نزلت ديتها إلى النصف وكان عليها رد فاضل الدية. فمثلاً: إذا قطع الرجل إصبعاً أو إصبعين أو ثلاثاً من أصابع المرأة كان لها القصاص من دون رد، فإن قطع أربعاً كان لها القصاص مع رد نصف دية الاصابع المذكورة. وإذا فقأ الرجل عين المرأة أو قطع رجلها كان لها القصاص بفقء عينه أو قطع رجله مع رد نصف دية العين والرجل، وهو ربع

٢٧٣

دية النفس، وهكذ.

(مسألة ٣٨): المعيار في بلوغ الثلث وعدمه على وحدة الجناية عرفاً وتعدده، فإذا كان قطع الاربع الاصابع دفعة واحدة عرفاً كانت الجناية أكثر من الثلث وثبت الرد، أما إذا كان متفرقاً بحيث تعد جنايات متعددة فكل جناية دون الثلث ولا ردّ فيه.

(مسألة ٣٩): لا يشترط في القصاص في الاطراف التساوي في السلامة والعيب، فيقتص للمعيبة بالسليمة وللسليمة بالمعيبة بلا رد. نعم إذا كانت اليد شلاء فالأحوط وجوباً عدم القصاص فيه، بل الدية وهي ثلث دية اليد الصحيحة.

(مسألة ٤٠): تقطع اليد باليد، فإن كان للجاني مماثل للمقطوع من حيثية اليمين واليسار كان هو المقدم في القصاص، فتقطع اليمين باليمين واليسار باليسار، وإلا سقطت المماثلة في ذلك، فإن لم يكن للجاني يد قطعت رجله مع مراعاة المماثلة من حيثية اليمين واليسار مع الامكان، ويسقط مع التعذر.

(مسألة ٤١): إذا فقأ الاعور عيناً واحدة من ذي عينين كان له القصاص، فيفقأ عينه وإن صار أعمى. وأظهر من ذلك ما لو فقأ عين أعور مثله.

(مسألة ٤٢): إذا فقأ صحيح العينين العين الصحيحة من الاعور تخير المجني عليه بين القصاص من إحدى عيني الجاني مع أخذ نصف دية الانسان وأخذ دية تامة من دون قصاص. نعم لو كان عور الاعور لجناية جان فالأحوط وجوباً مع اقتصاصه عدم أخذ فاضل الدية.

(مسألة ٤٣): في إذهاب الرؤية من العين مع بقائها القصاص إن أمكن من دون تعد على الجاني بأكثر مما جنى ومع خوف التعدي تتعين الدية. وكذا الحال في جميع منافع الاعضاء إذا ذهبت مع بقاء العضو سالم.

٢٧٤

(مسألة ٤٤): يثبت القصاص في إزالة الشعر إذا لم يكن فيه إفساد لمحله بل كان ينبت ثاني. وكذا إذا كان فيه إفساد لمحله بحيث لا ينبت ثانياً إن أمكن القصاص، وإلا تعينت الدية.

(مسألة ٤٥): يثبت القصاص في قطع الذكر من الرجل والفرج من المرأة بالمثل، أما لو قطع الرجل فرج المرأة أو المرأة فرج الرجل فلا قصاص، بل تتعين الدية. نعم إذا قطع الرجل فرج امرأته وامتنع عن دفع الدية كان للمرأة القصاص بقطع ذكره.

(مسألة ٤٦): يثبت القصاص في الاسنان ذات الاُصول الثابتة في أصل الفك. ولا يسقطه نباتها بعد ذلك وإن عادت كحالها الاول. نعم الأحوط وجوباً عدم القصاص إذا كانت لغير البالغ، لما تقدم في شروط القصاص. وأما الاسنان النابتة في اللحم غير ذات الاُصول - المسماة بالاسنان اللبنية - فالظاهر وجوب القصاص فيها بمثلها إذا كان الجاني والمجني عليه كبيرين، وإن كان الفرض نادر. أما القصاص عنها بالسن الاصلية فهو لا يخلو عن إشكال. والأحوط وجوباً عدمه، والرجوع إلى الدية سواءً عادت أم لم تعد.

(مسألة ٤٧): لابد من المماثلة في قصاص الاسنان، فلا يقتص لاسنان المقدم بالطواحن ولا العكس، ولا يقتص بشيء منها بالانياب ولا العكس، بل الأحوط وجوباً عدم الاقتصاص للعليا بالسفلى وبالعكس. بل وعدم الاقتصاص للثنيتين المتوسطتين بالرباعيتين اللتين على جانبيهما وبالعكس، بل يرضى في جميع ذلك بالدية. نعم الظاهر عدم إخلال اختلاف الجانب بالمماثلة عرف، فيقتص لما في الجانب الايمن بما في الجانب الايسر وبالعكس. وإن كان الأحوط وجوباً الحفاظ على المماثلة في الجانب مع الامكان وعدم الاخلال بها إلا مع التعذر كما إذا لم يكن للجاني سن مماثل في الجانب الذي اعتدي على مثله في

٢٧٥

المجني عليه. ويجري جميع ذلك في الاصابع وفي جميع الاطراف.

(مسألة ٤٨): إذا قطع شيء من جسد الانسان أو شق ثم اُلصق واُعيد إلى ما كان عليه قبل الجناية - كما يشيع ذلك في عصورنا - فالظاهر سقوط القصاص. بل يشكل ثبوت الدية، ويحتمل الرجوع للحكومة التي يأتي الكلام فيها في الديات، فاللازم التصالح. نعم إذا اُصلح النقص بأجنبي لم يمنع من القصاص، كما لو فقأ عينه فزرع عين حي أو ميت بدله، أو قطعت شحمة اُذنه فوضع بدلها لحمة من بدنه أو بدن غيره بعملية تجميل أو نحو ذلك.

(مسألة ٤٩): إذا جنى بما يستوجب القطع أو الشق ثم اقتص منه فأراد إصلاحة بإلصاقه وإعادته على ما كان عليه قبل القصاص لم يمكّن من ذلك، ولو فعل اُعيد القصاص عليه لابقاء النقص. نعم في منعه من إصلاح النقص بأجنبي - نظير ما تقدم في المسألة السابقة - إشكال، والاظهر العدم.

(مسألة ٥٠): إذا قطع منه شيء واقتص لنفسه ثم تسنى للمجني عليه أن يعيد ما قطع منه بنفسه ورجع الحال إلى ما كان عليه قبل الجناية، فإن كان يعلم قبل الاقتصاص بقدرته على الاصلاح وحصوله منه ثم اقتص بنفسه كان عليه القصاص، وإن لم يعلم بذلك أو وكّل شخصاً بالقصاص ولم يباشره فلا قصاص عليه، بل الدية إن كان قد اقتص بنفسه جاهلاً بالحال. وإن قام غيره مقامه في الاقتصاص فلا دية عليه أيض، بل يتحملها المباشر، إلا أن يكون تابعاً للامام فتكون على بيت مال المسلمين. نعم إذا كان المجني عليه غارّاً لمطالبته بالقصاص مع علمه بحصول الاصلاح كان لمن يؤدي الدية الرجوع بها عليه. وعلى كل حال ليس للمقتص منه منع المجني عليه من الاصلاح، فضلاً عن أن يلزمه بعد حصول الاصلاح بإرجاع الحال إلى ما كان قبله.

(مسألة ٥١): لا يثبت القصاص في الجراح والشجاج مع انضباطها وعدم

٢٧٦

كون القصاص معرضاً للنفس للهلاك أو معرضاً للعضو التلف أو الضرر.

(مسألة ٥٢): لا يثبت القصاص في الجرح الواصل للجوف ولا الناقل للعظم عن محله، ولا الواصل لاُم الرأس، ولا الهاشم للعظم.

(مسألة ٥٣): لا يثبت القصاص في كسر العظم حتى كسر الذراع على الأحوط وجوب.

(مسألة ٥٤): في الجراح والشجاج التي يثبت فيها القصاص لابد من مساواة القصاص للجناية طولاً وعرضاً وعمقاً وتكفي المساواة العرفية. كما أنه يجوز الاقتصاص بالاقل. وفي استحقاق الدية للزائد إشكال.

(مسألة ٥٥): إذا اقتص من الجاني فسرت الجناية عليه بوجه غير متوقع لطوارئ خارجية فمات أو تلف عضو منه أو نحو ذلك فلا قصاص له ولا دية. وكذا إذا سرت الجناية بنفسها بوجه غير متوقع لا لطوارئ خارجية وكان القصاص بأمر الامام أو الحاكم الشرعي. وأما إذا لم يكن بأمره فلا قصاص، وفي سقوط الدية للسراية إشكال، فاللازم التصالح.

(مسألة ٥٦): في ثبوت القصاص في الضرب بالسوط وغيره، وفي اللطمة ونحوها إشكال، والأحوط وجوباً الاقتصار على الدية.

خاتمة

فيها مسائل..

الاُولى: إذا لجأ الجاني لحرم مكة المعظمة لم يقتص منه في النفس ولا في الجراح ولا في غيره، بل لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم حتى يخرج منه. نعم إذا جنى في الحرم اقتص منه فيه. ولا يلحق بالحرم المذكور

٢٧٧

حرمُ المدينة المشرفة ولا مشاهد الائمة (عليهم السلام) ، إلا أن يلزم من القصاص فيها هتكه، فيحرم.

الثانية: يستحب العفو عن القصاص في النفس والطرف وغيرهم، كما حثّ على ذلك الكتاب المجيد وتظافرت به الاخبار، قال تعالى:(وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم). وفي الحديث: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (فمن تصدق به فهو كفارة له) قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى عنه من جراح أو غيره». ويتأكد ذلك في النادم التائب، فإن في الندم وتأنيب الضمير من الالم النفسي ما قد يزيد على العقاب البدني. وخصوصاً إذا استسلم للقصاص الذي فيه من كسر النفس والاقدام على تحمل المشقة ما يطفئ غضب المعتدى عليه ويشفي غيضه وما يستحق به المستسلم للشكر الجزيل والجزاء الجميل.

الثالثة: إذا عفا من بيده القصاص عن القصاص فليس له الرجوع في ذلك، لأن حقه قد سقط بالعفو ولا يعود بعد سقوطه، قال تعالى: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)، وعن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الاية أنه قال: «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي، فله عذاب أليم، كما قال الله عزوجل».

٢٧٨

القسم الثاني

في الديات

الدية هي المال المفروض تداركاً للجناية الواردة على النفس أو البدن. وهي تثبت بالاصل في مورد الخط، ومع العمد في مورد لا قصاص فيه. كما تثبت شرعاً بدلاً عن القصاص في مورد تعذره، وتثبت بالتراضي بدلاً عن القصاص مع إمكانه، كما يتضح مما تقدم.

ويقع الكلام فيها في ضمن فصول.

الفصل الاول

في دية النفس

(مسألة ٥٧): دية قتل المسلم عمداً أحد اُمور..

الأول: مائة من الابل. ولابد من كونها مسنة. والأحوط وجوباً أن تكون داخلة في السنة السادسة، وأن تكون فحولة لا إناث.

الثاني: مائتان من البقر. ويكفي فيه ما يصدق عليه أنه بقر. وإن كان الأحوط استحباباً أن تكون إناثاً مسنّة، وهي الداخلة في السنة الثالثة.

الثالث: ألف من الغنم. ويكفي فيه ما يصدق أنه شاة.

الرابع: ألف دينار ذهب. وقد تقدم في كتاب الزكاة أن الدينار أربعة

٢٧٩

غرامات وربع تقريب، فتكون الدية أربعة كيلوات من الذهب وربع الكيلو تقريب.

الخامس: عشرة آلاف درهم فضة. وقد تقدم في كتابي الزكاة واللقطة أن الدرهم ثلاثة غرامات إلا ربع عشر الغرام تقريب، فتكون الدية ثلاثين كيلواً إلا ربع الكيلو من الفضة تقريب.

السادس: مائتا حلّة، وكل حلة ثوبان إزار ورداء. والأحوط وجوباً الاقتصار على برود اليمن.

(مسألة ٥٨): الأحوط وجوباً الاقتصار في كل خصلة من خصال الدية الستة على من يناسبه، فيؤخذ من أهل الابل - وهم أهل البوادي - الابل، ومن أهل البقر البقر، ومن أهل الغنم الغنم، ومن أهل الدنانير الدنانير، ومن أهل الدراهم الدراهم، ومن أهل الحلل الحلل، وإن كان بعض الناس من أهل أكثر من نوع واحد خيّر بينهم. نعم من لم يكن من أهل شيء من هذه الخصال كأهل المدن في زماننا - يتخير بين الخصال الستّ.

(مسألة ٥٩): في مورد ثبوت التخيير فالذي يخير هو الجاني ومن يقوم مقامه ممن يكلف بدفع الدية، لا من يستحق الدية. نعم إذا ثبتت الدية بالصلح بدل القصاص أمكن جعلها على وجه آخر، كما يمكن الزيادة على الدية.

(مسألة ٦٠): دية العمد يؤديها الجاني نفسه. نعم إذا ثبتت بالصلح بدل القصاص أمكن أن تجعل على غيره.

(مسألة ٦١): تؤدى دية العمد في سنة. والمراد بذلك أنها تؤدى في سنة من حين ثبوتها لا من حين حصول القتل. نعم إذا ثبتت بالصلح بدل القصاص أمكن تحديد مدة أدائها على خلاف ذلك.

(مسألة ٦٢): تقدم في أول الكلام في القصاص أن الخطأ على قسمين..

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب ميزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ علي (عليه السلام) في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول (عليه السلام): (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً). (١)

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها، ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كلّ مظلوم ومستضعف ومن تقتحمه العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية.

٣٦١

ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنكفئ موازين العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسمّيه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) ونسمّيه (الظالم). (١)

وقد قال الشاعر الإيراني مولوي في ذلك:

(ما هو العدل؟ هو وضع الشيء في موضعه.

ما هو الظلم؟ هو وضع الشيء في غير موضعه.

ما هو العدل؟ هو إعطاؤك الأشجار ماء.

ما هو الظلم؟ إنّه إعطاؤك الأشواك ماء). (٢)

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من بعضها: ( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (٣) .

____________________

(١) مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - بتصرّف -، ص ٥٥.

(٢) المصدر السابق، ص٧٢.

(٣) سورة الشورى: الآية ١٥.

٣٦٢

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) .

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (٢) .

( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ) .

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي (عليه السلام) مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

النظرة العلوية إلى الظلم

إنّ منهج الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه (عليه السلام) التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له (عليه السلام) يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه:

(وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) (٥) .

____________________

(١) سورة النحل: الآية ٩٠.

(٢) سورة الأنعام: الآية ٨٢.

(٣) الحسك: الشوك، والسَّعدَان: نبتة برية كحلمة الثدي يملأها الشوك.

(٤) المسهّد: المسهّر.

(٥) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج٢ - ص٢١٦.

٣٦٣

إن الإمام (عليه السلام) يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين وسيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول (عليه السلام): لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كلّه أحبّ إليه من أن يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام (عليه السلام) يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا) فالنفس نهايتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ثمّ إنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر من شدّته يوم القيامة، حيث قال (عليه السلام): (أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى، وَ لا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَلا مِمَّنْ بَقِيَ) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق، ص ٢٥٥.

٣٦٤

إنّ الإمام (عليه السلام) يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها يوم الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام (عليه السلام) في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك: (دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه) (١) .

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنّه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب ومرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والإمام (عليه السلام) يقول في ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً) (٢) .

ولا زالت كلمته (عليه السلام) التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) تدقّ أسماع

____________________

(١) نهج السعادة، المصدر السابق، ص ٣٠.

(٢) نهج البلاغة، تحقيق د. صبحي الصالح - ص ١٩٢.

٣٦٥

العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي (عليه السلام) لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهمّ أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم: (انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبّها البعيد، ولا تطلّ الدّماء (١) ولا تعطّل الحدود) (٢) .

وكذلك حينما كتب يطلب فيه تأديب (علي) ابن هرمة وكان على سوق الأهواز فخان وظلم: (إذا قرأت كتابي فنحّ ابن هرمة عن السّوق، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله، وأعزلك أخبث عزلةٍ - وأُعيذك بالله منه -. فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السّجن، واضربه خمسة وثلاثون سوطاً وطف به إلى الأسواق فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهد، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومر به إلى السجن مهاناً مقبوحاً منبوحاً - أي مشتوماً - ... واكتب إليَّ من اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه) (٣) .

أو كما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان: (... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك

____________________

(١) طلَّ الدماء: أبطله وأهدره.

(٢) نهج السعادة - المصدر السابق - ص٣٠.

(٣) المصدر السابق، ص٣٤.

٣٦٦

والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين... وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون) (١).

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة: (وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوى اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام (عليه السلام) على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتب إليه بمثل هذا، فكتب (عليه السلام) إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها. والسلام) (٢) .

____________________

(١) نهج السعادة - المصدر السابق - ص ٢٠.

(٢) المصدر السابق ص١٤٥.

٣٦٧

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام (عليه السلام) هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه: (إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام (عليه السلام) خير الآخرة - لمن يريد - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: يا كميل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلّي، فإن لم تكن من وجهه وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً:

(يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا

٣٦٨

- أو: تعيشوا - في الأرض مفسدين) (١) .

حتى وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم وصدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم:

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمّن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...) (٢) .

إنّ كتاب الإمام (عليه السلام) قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي

____________________

(١) علي صوت العدالة الإنسانية - المجلد الأوّل - ص١٣٦.

(٢) ابن مزاحم - نصر - وقعة صفّين - ص١٠٦.

٣٦٩

وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سُحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١). والسلام

عقيل المملق في كنف علي الخليفة

العدالة عند علي (عليه السلام) تطبّق على القاصي والداني، البعيد والقريب، وقد جسّد موقفه ذلك في كلامه الذي يقول فيه:

(وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاًَ وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! يَاعَقِيلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلا أَئِنُّ مِنْ

____________________

(١) سورة الأنفال: الآية ٥٣.

٣٧٠

لَظَى). (١)

هذا عقيل أخو الإمام (عليه السلام) وقصّته معروفة، لكنّ المسألة المهمّة هي القوة الإيمانية أو اليقين التام لدى عليّ (عليه السلام) (والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) فلا دنيا بحملها تقف أمامه، ولا بهرجها وزخرفها يخطف بصره.

رحم تجعله يعبث بمقدرات وأموال المسلمين؟!، فللرحم حقّ، ولكنّه إنّما يوصل بالحقّ، فللمسلمين أيضاً حقوقهم، وليس من العدل أن ترعى تلك على حساب هذه، فتسعد نفس بما تشقى بها أخرى!

إنّ في هذا المثل الرفيع أبلغ رسائل اللوم بسياسة الأمس التي أغدقت على أهل بيت الخليفة بذريعة صلة الرحم، دون الالتفات إلى هذا الذي يغدق على (الرحم) من أين هو؟ ولمن هو؟ ودون الالتفات إلى طبقات واسعة من أبناء الأمة تحرم من حقّها وهي به حقيقة لا لذنبٍ، إلاّ أنّها لم تكن من ذوي الرحم، وكأنّ حقّ الحياة مقرون بالرحم وحده.

العدالة والمجتمع

ما دمنا في موضوع العدل والظلم فقد دوّنت الكثير من كلام الإمام (عليه السلام) في هذا الشأن، ورأيت أن أطرح رسالته إلى عثمان بن حنيف، عامله على البصرة، وقد بلغ سمع الإمام (عليه السلام) أنّه دعي إلى وليمة لجماعة من القوم هناك، فمضى إليها، وقد تبدو مسألةً عاديةً للسامع، لكنّ المسألة العظيمة أنّ ابن حنيف على سدّة الحكم والولاية، عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما أعظمها عند علي وما أشدها على سمعه الذي ائتمنه على رعيته.

____________________

(١) نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - ج٢ - ص٢١٧.

٣٧١

إنّها دروس العدالة والأخلاق والحقّ وكلّ ما علا من المفاهيم الإنسانية والكلمات ذات العمق والمعنى الحضاري، ودرس وعبره لا مثيل له في التاريخ أبداً وهو القائل (عليه السلام) في ذلك (وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ) (١) .

فما أعظمه من كلام، وما أعظمها من موعظة تتلألأ في ظلام حياتنا وتجذب إليها القلوب ولا تزيغ عنها الأبصار، ما أحكمها من لغة وأروعها من بلاغة، وأفضلها من صور حيّة للواقع الذي نعيش في ظلامه، إنّها قطعه صغيرة من ذلك العقد الكبير الذي يهزّ الألباب وتتعلّق به القلوب ويتناغم مع الأنفس.

فوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) منهج عظيم في علم الاجتماع وعظه للجميع وغير محددة في زمان أو مكان لكنها كتبت باسم عثمان بن حنيف وقد ابتدأ كلامه (عليه السلام) بـ: (أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلا وَإِنَّ

____________________

(١) نهج البلاغة - شرح محمد عبده - ج٣ - ص٧٠.

٣٧٢

إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ) (١) .

إنّه عتاب عليّ (عليه السلام) لواليه، على تلك الاستجابة السريعة دون التبصّر بحقائق الأمور، إنّها العدالة التي قاتل خصومه بأسسها وقوائمها، العدالة التي جعلت من عليّ (عليه السلام) نبراساً للأمم، ومن مبادئه قطب الرحى التي تدور حوله أفئدة طلاب الحقّ والعدال الإنساني. ثمّ يسأل الإمام (عليه السلام) ابن حنيف هل تحريّت عن أساس الموارد لهذه الموائد في مجتمعٍ الفقير فيهم مردود والغني مدعو يفترش البساط الفاخر؟!

ثمّ يحذّره من أكل الحرام من هذا الطعام الذي لا يعلم طرق كسبه، هل هو حلال أو حرام؟! هل سرق من حقّ الناس الذين لا حول لهم ولا قوّة أم من الطرق المشروعة للكسب الحلال؟!. ثمّ يذكره بولي أمره كيف يحيا حياته، وابن حنيف عارفٌ جيداً، ألم تكن حياة المجتمع وعليّ سواء إن لم يكن اقل منها؟! ألم يكن قد اكتفى بذلك الثوب البالى؟! ألم يكن قد قنع بأقراص خبز الشعير والماء والملح؟!

وقد ذكّر ابن حنيف بهذا الوضع وهذه الصورة التي يعيشها إمامه، أليس هذا هو عليّ وهذه هي سيرته وحياته إلى أن يقول: (أَلا إنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونى بورعٍ واجتهاد، وعفةٍ وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلّ ما أظلّته السّماء، فشّحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونِعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غدٍ جدثٌ تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها

____________________

(١) نهج البلاغة - شرح محمّد عبده - ج٣، ص٧٠.

٣٧٣

وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم، إنّها هي نفسي أرُوْضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق) (١) .

إنّ الذي يروم بل يهدف إلى بناء مجتمع إنساني متكامل تسوده العدالة والمحبّة والتفاني لا بدّ له أن يستعرض هذه الكلمات العظيمة للإمام ويأخذ ما تستطيع قدرته على نفسه بتطبيقها، (ثمّ إنّ ورع الولاة وعفتهم يعين الخليفة على إصلاح شؤون الرعية) (٢) . ويوصي طالباً معونة ولاته له في تسديد الأمور على أقل التقدير، ويذكّر بالموت والقبر وتلك الظلمة الموحشة في أروع تصوير حي لمواقع تلك المرحلة ما بعد الموت، بعد أن وضّح لهم وكما يعلمون أنّه لم يخزن ذهباً ولا فضة ولا مالاً من غنائمها و(ما كان يهيئ لنفسه طمراً آخر بدل الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثمّ يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فإنّ مجموع الرداء والإزار يعد ثوباً واحداً فيها يكسو البدن لا بأحدهما) (٣) .

مفسدة الهدية

إذا كان التهادي بين الناس محبّذ، فهو لأولي الأمر رشوة لا غير...

فقد استعمل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجلاً من الأزد، يقال له ابن اللُبيّة، على الصدقة، فلمّ قدم، قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي. قال: (فهلاّ جلس في بيت أبيه أو بيت

____________________

(١) نفس المصدر السابق ص٧٠.

(٢) نفس المصدر السابق ص٧٠.

(٣) نفس المصدر السابق ص٧١.

٣٧٤

أمّه، فينظر يهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إنْ كان بعيراً له رغا، أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعر)، ثمّ رفع بيده رأينا عفرة إبطيه: (اللّهمّ هل بلّغت، اللّهمّ هل بلّغت؟! ثلاثاً). (١)

وفي مسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) نلتمس مصاديق هذه الرسالة العظمى؛ لقد جاءه الأشعث بن قيس - وهو كبير قومه بملفوفة (وهي نوع من الحلوى) فتعجب الإمام (عليه السلام) من أمرها فقال له بمنتهى الصراحة والوعظ: (أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟!، أمختبط أنت، أم ذو جنّة أم تهجر؟!).

ذاك أخوه عقيل وهذا الآخر من رعاياه، الأول طلب مالاً ليعينه به على عياله وأسرته المُملقة، والثاني شخصية اجتماعية ورئيس قوم متمكّن مادياً وله صوت مسموع بين أهله جاء ليرشيه، ذكّر الأول بنار الله التي سجّرها للظلمة والمنحرفين، وردّ الآخر على أعقابه بأقسى الكلام وأعظم المواعظ ليبقى يتذكّرها طيلة حياته، حيث رجع خائباً وباعتقاد تامّ من أنّه لا يستطيع أن يأخذ من إيمان عليّ (عليه السلام) أقل شيء ليس بحلوى مصنوعة بل بدنيا عامرة أهلها.

وهنا لا بد من التذكير بأنّ الأشعث بن قيس هذا هو الذي قاد الفتنة بأولئك النفر الذي فتنوا بخديعة معاوية يوم صفين برفع المصاحف، وجاء بهم فأحاطوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) متوعّداً إنّ لم تكف الحرب وترضى بتحكيم المصاحف لنسلمنّك إلى معاوية!!

تلك الهدية التي أعجبت صانعها غاية الإعجاب حتى التمس بها تقرباً إلى أميره قد صيّرتها طبيعتها - كرشوة - في عين علي (معجونة شنئتها كأنّما عجنت

____________________

(١) صحيح البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا - ج٢ ص٩١٧ حديث ٢٤٥٧ - كتاب الهبة - باب ١٦.

٣٧٥

بريق حية أو قيئها).

إذن قضية العدالة وارتباط مصير المجتمعات بها تعطي الدافع الكبير لتربية الأفراد من خلال نهج عليّ (عليه السلام) الواضح الجلّي الذي هو نهج الإسلام بعينه، والذي أعطى للإنسانية الصورة المثلى للعمل الصالح، بل كيف يربِّي الرجل أسرته وأهل بيته، وإذا كان قائداً أو إماما أو حاكماً كيف يربّي أمته ويوجّهها نحو الإصلاح؟! فقد روى أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) انّه: (كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضّال، ويعين الضعيف، ويمرّ بالتجار فيفتح القرآن ويقرأ: ( ِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) ، ثمّ يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس) (١) .

كان علي (عليه السلام) هكذا في حياته ونهجه، فهو الصورة الناصعة لرجل الإسلام الأول، فقد كان القائد والخليفة الذي آثر الناس على نفسه ولم تزلزل أقدامه أكداس التبر ورونق السلطان، طبّق الحقّ والعدالة على نفسه أولاً ثمّ سار إلى مجتمعه واعظاً وناصحاً ومُدلاًّ على طريق الحقّ لكسب رضا الله الذي هو فوق كلّ شيء.

فلا خلاف - إذن - في أنّ التربية تبدأ بالنفس الأولى وهو القائد المعني لما تعكسه تلك الصورة من آثار إيجابية عظيمة على نفوس المجتمع أجمع، وبناء الأخلاق لدى الأفراد تنمّي قيم العدالة لديهم ليكون سريان ذلك جارٍ على الأسرة ثمّ المجتمع الأوسع وبالتالي تصبح الطهارة عامّة فلا نجس ولا خبث، فالمجتمع السليم تُصان مفاهيمه بفعل حجم وسعة القيم الأخلاقية المطبّقة على

____________________

(١) علي إمام المتّقين، ج٢ ص٢٣٨.

٣٧٦

سلوك الناس ومفاهيمهم، وما يبرز من خلقٍ سيء أو ظلم فاحش سيرفضه المجتمع ويدحضه، بل سيقف بكلّ وعي وصلابة بوجه كلّ انحراف، وبالتالي لا مجال للدسّ والعبث وصانعي الخلل الاجتماعي، لأنّ الحقّ وسيرة الناس العادلة لا تسمح بذلك الانحراف.

(ولو قسّمنا العدالة إلى قسمين: العدالة الخلقية، والعدالة الاجتماعية. فلا ريب أنّ العدالة الخلقية أساس العدالة الاجتماعية، إذ لو لم يتصف الأفراد فكيف يمكن للمجتمع أن يتصف بها؟ أليس المجتمع مجموعة من الأفراد؟ وعليه فانتظار العدالة الاجتماعية مع عدم تنمية الإيمان والأخلاق والتقوى وخشية الله في الأفراد، وهمٌ من الأوهام، ومن هنا تنشأ مشاكل المجتمعات البشرية المتمثّلة في تسليط الجبّارين، والتمييز وانعدام العدالة، فلا بدّ - أولاً - من بناء الإنسان وتربية أفراد عدول، ثمّ تسليمهم زمام أمور المجتمع بأيديهم، وبذلك يمكن أن نأمل تحكيم العدل واستقرار العدالة الاجتماعية، وهو بالضبط ما عكسه كلام الإمام عليّ (عليه السلام)، فقد قال بشأن الظلم وانعدام العدالة الذي هو من أعظم الكوارث الاجتماعية: (بئس الزّاد إلى المعاد العدوان على العباد). (١)

فالإمام (عليه السلام) يحذّر كلّ التحذير هنا من تلك الميول الشيطانية لأنّ هدفه (عليه السلام) حفظ المجتمع في هذه الدنيا من الظلم والجور، وبعد فالإمام (عليه السلام) بحكم المسؤولية الإلهية وإمامة الأمة تحتم عليه مسؤوليته إمام الله إبراز وإظهار الطرق السليمة والمستقيمة للمسلمين؛ لئلا يسقطوا في حبائل الشيطان وبالتالي خسرانهم في الدنيا والآخرة.

____________________

(١) رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - ص ١٨٦.

٣٧٧

٣٧٨

خاتمة الكلام

لقد حاولت في هذا البحث أن أُظهر فكر الإمام عليّ (عليه السلام) الاجتماعي من خلال كلّ ما جاء عنه (عليه السلام) وإبراز ذلك مع إسناده بالحقائق التاريخية، والصور الاجتماعية الواقعية التي نعايشها الآن، ثمّ الاعتماد على الركائز الأساسية في بياناته (عليه السلام) التي فصلّها في أماكن متعدّدة كحقائق بارزة ومهمّة، والتي تعتبر أسس البناء الفكري للمجتمع الإسلامي وهي الأخلاق الإسلامية والعدالة الاجتماعية، وهذا بطبيعة الحال لا يأتي أو لا يقوم إلاّ من خلال العقيدة التي تقوم ببناء الذات الإنسانية وتقويمها بالفكر الإسلامي الحقيقي، وأسندنا ذلك بالآيات القرآنية الشريفة بالإضافة الى السيرة النبوية الطاهرة، وربطنا كل ذلك بحديثنا عن فكر الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي.

فإذن لا مناص من أن نتّخذ هذا الفكر الناضج والواضح كأساس لبناء النظرية الاجتماعية الإسلامية، لأنّه جمع القرآن الكريم والسنة الشريفة، وتفكيره الحي، والتجربة المريرة التي مرّ بها في منهج واحد متكامل الجوانب.

إنّ الذي يريد أن يبني نظرية اجتماعية إسلامية متكاملة لا بدّ له من مراعاة هذا الجانب الحيوي.

والحقيقة التي لا تجافى أنّ مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من الفراغ الواسع في المعرفة التامّة بالفكر الاجتماعي الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بعقيدتنا الإسلامية،

٣٧٩

وحتى لم يكن لدينا لحد الآن صورة واحدة واضحة الجوانب عن أهمية علم الاجتماع ونظرياته وماهيته، والجوانب التي يهتمّ بها، بل لا زلنا بحاجة إلى تبنّي فلسفة تاريخية لتفسير التاريخ وفق المنظور الإسلامي بصورة ناضجة وكاملة لارتباط ذلك بالمسيرة الاجتماعية ارتباطً كاملاً، ومن خلال مناهج تاريخية للتربية وبناء الأفكار لدى الطليعة الشبابية وفي جميع المراحل الدراسية طبقاً للتفسير الإسلامي، وبناء الأمة على ذلك وهذا ليس بالشيء المستحيل أمام مفكّرينا العظام الذين اغنوا كل المجالات الحياتية لمجتمعاتنا بتلك الأفكار والاستقراءات والاستنتاجات التي نستطيع أن نقول بشأنها وبكل فخر أنّها الصالحة لبناء المجتمعات الإنسانية، ما عدا الجوانب التي أهملت ومع كلّ الأسف!

حيث لم تعط الاهتمام اللازم في الحوزات الدينية أو طلاّبها واعتمدوا على بعض المساهمات الناقصة في بعض الأحيان في حين أنّ التخطيط للإنسانية أو المجتمعات البشرية يأتي من خلال علم الاجتماع؛ حيث اهتمّت الدول المتقدمة المستقبلية التي يستهدي بها قوّام الكيانات السياسية في قيادة مجتمعاتهم وبنائها البناء السليم، وهذا ما لا نجده إلاّ في الإسلام العظيم الذي يقوم على القرآن الكريم الذي حفظه الله من كل تحريف أو تزوير، والتراث الفكري الخالد الذي هو قانون يصلح لكل زمان ومكان، وفسحه اجتهادية تعالج كلّ المشاكل المستجدّة التي يواجهها العالم المعاصر التي لم يأت بها نصّ القرآني أو سنّة نبوية، كلّ ذلك يحفّزنا إلى عرض المنهج الإسلامي لمعالجة مشاكل المجتمعات الإنسانية واتّخاذه السبيل الذي يحفظ الإنسانية وحقوقها دون أن تصل إليها أيادي الشرّ والبغي للعبث بها.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390