في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 53930
تحميل: 7758

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53930 / تحميل: 7758
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هنا وجد كونت أنّ خلاص المجمتع من تلك الفوضى العقلية يحتاج إلى فلسفة إصلاحيّة جديدة، فالفلسفة من وجهة نَظره ليست لها غاية في ذاتها، وإنّما هي وسيلة للوصول إلى غايات عمليّة في شؤون الاجتماع والأخلاق والسياسة والدين، وأنّ الفلسفة بهذا المفهوم هي علم الاجتماع، وأنّ هناك قاعدتين لكي يفهم الناس ظواهر المجتمع بهذا الأُسلوب هما:

1 - أن تكون ظواهر المجتمع خاضعة لقوانين ولا تسير وفق أهواء ومصادفات.

2 - تيسير وسائل فهم الناس للقوانين التي تخضع لها ظواهر الاجتماع) (1) .

وعلى أساس ما تقدّم حول إصلاح الفكر الإنساني والوضع العام الذي عاشه الفرنسيون بعد الثورة، وما ترتب عليه من نشوء لجان للإصلاح كان كونت عضواً في لجنة الإصلاح الاجتماعي بعد الثورة، فسعى إلى معرفة ودراسة الظواهر الاجتماعية دراسة مباشرة، هدفه منها كشف القوانين التي تؤثر على الظواهر الاجتماعية للمجتمع الفرنسي، ورأى أنّه لا بدّ من قيام علم وظيفته دراسة ظواهر الاجتماع دراسة علمية وصفية تحليلية، وأطلق عليه اسم (علم الاجتماع) هدفه القضاء على الفوضى الأخلاقيّة، وبالتالي القضاء على الفوضى الاجتماعية.

نظرية كونت في الأسرة

(الأُسرة في نظر كونت هي أساس الحياة الأخلاقية الفرديّة والحياة السياسيّة في نفس الوقت، ففي داخل الأسرة تنشأ الفضائل الاجتماعيّة، والمجتمع الإنساني في نظره: عبارة عن أسرة كبيرة العدد، والحركة مستمرة فيها تعتمد على

____________________

(1) المصدر السابق ص 308، 308.

٤١

تقدّم العلوم والفنون، ولهذا فإنّ علم الاجتماع يُقرّر حقيقة تاريخية، وهي أنّه في كلّ مجتمع وصل إلى درجة من التقدّم توجد قوّتان جماعيّتان تتميّز كلّ منهما عن الأُخرى... إحداهما: هي السلطة الزمنية التي تحكم وتُسيطر، والأُخرى: هي السلطة الروحية التي توجّه وترشد (من خلال ديانته الجديدة ديانة الإنسانيّة)، وهذا الازدواج هو مظهر من مظاهر الحضارة، ولهذا يجب أن ندركه إدراكاً تامّا، وأن نُنظّمه تنظيماً يُحقّق للمجتمع تقدّمه وسعادته). (1)

ولا بدّ أن نشير إلى أنّ هناك مدارس اجتماعية متعدّدة، منها:

1 - المدرسة الاجتماعية البيولوجيّة: بزعامة هربرت سبنسر، وأفكار هذه المدرسة تقوم على الربط بين الظواهر البيولوجية والظواهر الاجتماعيّة.

2 - المدرسة الماديّة التاريخية: بزعامة الفيلسوف الألماني كارل ماركس، وتعتبر الماديّة الاقتصادية بمثابة قطب الرحى في التطوّر السياسي والأخلاقي والاجتماعي، ومِن ثَمّ ينتهي إلى أنّ العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد الذي يشكّل شؤون المجتمع في السياسة والأخلاق والدين، ومعنى ذلك أنّ كلّ ما يحدث في جوّ المجتمع، وكلّ ما ينشأ فيه من ظواهر ونُظم إنّما يرجع إلى طبيعة اقتصادية.

3 - المدرسة الجغرافيّة: بزعامة برون ومشيليه، وتقوم على تفسير كلّ ما يحدث في المجتمع بظواهر جغرافيّة وبصورة تعسفيه.

4 - المدرسة النفسية: بزعامة (تارد وغوستاف لوبون) تلك التي لا تعترف باستقلال علم الاجتماع، وتقول بأنّ ظواهر علم الاجتماع إنّما تقوم على التقليد والمحاكاة الناجمين عن الإرادة الفرديّة وترتيباً على ذلك تلحق ظواهر الاجتماع بعلم النفس، وتلك محاولة كان هدفها القضاء على شخصيّة علم

____________________

(1) المصدر السابق ص 324.

٤٢

الاجتماع، وتفسير الظواهر الاجتماعية تفسيراً نفسيّاً.

وهناك مدارس أُخرى، منها: المدرسة الاثنولوجية، والمدرسة الانثربولوجيا الاجتماعية أو دراسة المجتمعات المُختلفة، والمدرسة الفرنسيّة لعلم الاجتماع بزعامة دوركايم ومعاوينه. (1)

البناء المُستقبلي وعِلم الاجتماع

كان لطرح فكرة معرفة الطبيعة البشريّة، واستخلاص القوانين والمبادئ التي تتحكّم في تطور المجتمعات وتقدّمها أثره الإيجابي، وذلك من خلال معرفة الظواهر الاجتماعية في أي مجتمع كان، والتأثيرات التي تتركها تلك الظواهر، بالاضافة إلى المؤثّرات الحضاريّة الخارجيّة، والانفجار العلمي الواسع الذي بدأ من خلاله طرح الأفكار والنظريّات وبقوة للتاثير على سلوكيّات الناس بإدخال طُرق حضاريّة جديدة نابعة من الحَرب الإعلاميّة والنفسية التي تقودها الدول المتقدّمة ضدّ دول العالم الثالث التي لا سبيل لها للدفاع عن فكرها ومُعتقدها وتراثها أمام الأقمار الصناعيّة والأجهزة الكومبيوتريّة المُعقّدة والانترنيت الدولي والبث الإذاعي والتلفزيوني الذي يدخل كلّ بيت وفي كلّ نقطة من العالم وفي كلّ لحظة ودون حياء أو استئذان، كل ذلك مؤثّرات تحتاج إلى البحث والدراسة بصورة عامّة ووضع العلاج المناسب لكلّ داء، فالشبكات والقنوات الفضائيّة التلفزيونيّة التي تحمل السموم في مضامينها، وتوجّه بثّها إلى البلدان الأُخرى نستطيع أن نصفها بالفاسد المنافق؛ لأنّ هدفها الأوّل إفساد المجتمع، وحرف الناس عن معتقداتهم الدينية وقيمهم الأخلاقيّة وبالتالي طمس المعالم الحضاريّة

____________________

(1) المصدر السابق ص 353.

٤٣

والتراثية وتدميرها بصورة كاملة، في حين تُعطي صورة مُغايرة لهدفها الأصلي بأنها رسول الحريّة والتقدّم الحضاري.

وأمام هذا الغزو الثقافي فنحن نحتاج إلى عِلم الاجتماع في هذا الوقت أكثر من أيّ وقت مضى، ذلك العلم الذي قدّمه علي (عليه السلام) بفكره الاجتماعي الواسع لا بالنظريات الاجتماعية الأوربيّة وغيرها، فالذي يستهوينا ويجذب قلوبنا هو تخطيط مستقبلي وفق أُسس علميّة ومنهجيّة واضحة، وبناء حضاري وتقدّم عمراني واقتصادي وثبات سياسي واجتماعي، ونموّ حقيقي وواقعي يعطينا الهيكلية الصحيحة لبناء المجتمع المُتماسك الذي يسوده العدل والمساواة، وهذا يحتاج إلى الدراسة والبحث في جميع جوانب خلايا النسيج الاجتماعي، وقد أعطى الإمام (عليه السلام) صورة واضحة لذلك البناء من خلال تعاطيه كافة المشكلات بصورة علمية وموضوعية، بحيث وضع لتحليل ودراسة الظواهر الاجتماعية أُسساً مثاليّة تستند إلى دراسة لم يسبقه أحد بها، مستوحاة من الفكر الإسلامي العظيم، فبالإضافة إلى معرفة كافّة الجوانب المؤثّرة في الحياة العامّة، والطرق والأساليب الواجب اتّخاذها والنابعة من خزين عميق وخلفيّة علميّة واسعة لا يسع أحد حملها الإّ علي (عليه السلام) نراه يعطي لكلّ جانب من جوانب مسيرة المجتمع وحركته تصوّراته المستقبليّة بصورة متوازنة، والتي ما إن بعدت عن المسيرة حتّى انحرف المجتمع، وحلّ الضياع الذي يتبعه الفساد الاجتماعي والإداري، والخلل في المعاملات العامّة الاقتصادية وغيرها، وبالتالي ينهدم كيان المجتمع ويفلت زمام الأمر من أيدي أهل السلطة وقوامها، فالامام علي (عليه السلام) يصلح في موقع الاصلاح، ويُنبّه قبل اجتياح الفيضان وخراب المجتمع والبلدان، ويضع لنا صورة القائد الذي يجب أن يكون في مكانه الحقيقي، وكأن تناسق وترادف الكلمات في بياناته ورسائله خطوات مُبرمجة وواضحة المعالم يسير عليها

٤٤

المهتدي إلى جادة السلام، والتي بدورها تُعطي الملاكات الكاملة لازدهار حياة الأُمّة وإبعاد كلّ المخاطر عنها وعن مسيرة تطوّر وضع المُجتمع.

كما نعلم أنّ هناك اتصالاً وثيقاً بين العلوم الاجتماعية بأشكالها، سواء كان في حقل التاريخ والجغرافية، أو علم النفس وعلم الاجتماع والتربية، أو العلوم السياسيّة والاقتصادية، فهي العلوم التي تدرس الجوانب المتعدّدة لموضوع واحد - المجتمع والحياة الاجتماعية - فمن الطبيعي أن تتقاطع وتتماسك ويتّصل بعضها ببعض ليُكمله.

وأكثر ما تكون هذه الظاهرة بروزاً في العقود المتأخرة من قرننا الحالي، حيث تطوّرت الحياة، واحتاجت المجتمعات والدول إلى دراسات علمية مُعمّقة لغرض استخلاص النتائج الإيجابية لبلورة صيغة تكفّل بناء مجتمع لا نستطيع أن نقول أنّه مثالي، بل تضمن فيه الحقوق المشروعة، ويمنع الظلم، وتسود العدالة والسعادة والاستقرار والرفاهية، وبالتالي فالحاجة أصبحت ماسّة إلى صياغة سياسات اجتماعية جديدة، ومثال واحد يكفي في توضيح مستوى الترابط الوثيق بين هذه العلوم المختلفة، ومثالنا الذي نختاره هو مشروع تخطيط سياسة تعليمية في مجتمع ما، فمشروع كهذا لا بد أن يبدأ بالدراسات التالية:

1 - دراسة ديموغرافية لذلك المجتمع.

2 - دراسة تاريخية للمراحل الحضاريّة التي مرّ بها هذا المجتمع وكياناته.

3 - الاطلاع على المراحل التي كان فيها التقدم الاجتماعي والحضاري واضح المعالم، والآثار السياسية المنعكسة على ذلك.

4 - دراسة سايكولوجية أفراد كلّ منطقة من مناطق الكيان الاجتماعي، ومعرفة الترابط والتنافر الموجود فيه.

5 - العقيدة الدينية التي يؤمن بها المجتمع وقوّة الإيمان لدى أفراده والتلازم

٤٥

الموجود في سلوكيّة المجتمع من جرّاء ذلك ومدى الإيمان بالقيم الأخلاقيّة والروحيّة والالتزام بها.

6 - دراسة العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والثقافية العامّة التي يحملها ذلك المجتمع، واستخلاص ما كان فيها نفع ودفع وما كان منها يشلّ ويهدم.

7 - دراسة جغرافيّة من كافّة النواحي (المناخ، والطقس، واختلاف درجات الحرارة، والأمطار)، وأثر ذلك على حركة الأفراد وقوّة الإبداع لديهم، وعلى أمزجتهم.

8 - البناء الاقتصادي للمجتمع، وحجم الفواصل الطبقيّة بين الناس، ومدى أهميّة وتأثير ذلك في حركة وتطور المُجتمع ونموّه.

9 - الأسرة التي تعتبر النواة الأولى في الكيان الاجتماعي ومعرفة قوّة ترابط النسيج الاجتماعي ومدى تأثير ذلك الترابط في المسيرة العامّة.

10 - الاطلاع على البيانات والاحصائيّات عن المتعلّمين وغير المُتعلّمين، وأثر ذلك في الدفع المعنوي للإقبال على التعليم العام.

هذه نقاط عن الجوانب المُهمّة والأساسية التي يجب دراستها لغرض وضع سياسة تعليمية خاصة لأيّ مجتمع، وهذا يدخل ضمن علم الاجتماع التعليمي، وبالتالي نرجو من ذلك الحصول على نتائج إيجابية لبناء تلك السياسة حتى نحصل على النجاحات المرجوّة والمطلوبة.

وقد وضّح علي (عليه السلام) ذلك لنا في صور مُختلفة، وأعطانا نتائج مُثمرة جاهزة وُمتكاملة في مُختلف جوانب الحياة العامّة، لذلك تبرز أهمية دراسة عِلم الاجتماع.

وللإمام (عليه السلام) - كما قلنا - أفكار رسمها، وعلوم بثّها في مُختلف المجالات سبقت عقول أُولئك الذين ادّعوا الريادة في العلوم الاجتماعية أو غيرها، وكما هو معلوم

٤٦

من جُملة التعاريف والمعاني الموجودة لعلم التاريخ، أنّه (كلّ تطوّر حاصل في المجتمع)؛ فإذا ما علمنا أنّ الإمام (عليه السلام) هو أول مَن وضع أساس الارتباط الوثيق بين حركة التاريخ وعلم الاجتماع كدعامة أساسيّة للتخطيط المستقبلي وبناء الدولة المتكاملة والمجتمع المُترّاص والوصول بالمجتمع إلى أعلى مرحلة من مراحل النضج الفكري ووضوح الرؤى، وهذه القضايا لا تنفذ إلى المجتمع، وتأخذ قرارها في فكر المجتمع الإنساني خلال سنة واحدة أو سنتين أو أكثر إنّما تحتاج إلى عملية بناء طويلة.

إنّنا نؤكّد أنّ الإمام (عليه السلام) رجل الاجتماع الأوّل، ورجل العدالة الاجتماعية والنظام الاجتماعي الحديث بما حوته أفكاره الدقيقة والمُشخّصة لكلّ السلبيّات والإيجابيات.

٤٧

٤٨

الفصل الثّاني

الترابط الوثيق

٤٩

٥٠

تُراث الأمّة وبناء المُجتمع

الحضارات التي تعاقبت على الأرض حمّلت هذه الكرة الفضائيّة تاريخاً تراثاً ضخماً دلّ على تطوّر الشعوب ومدنيّتها والأحوال التي مرّت بها، وأصبح لدى الأجيال فيما بعد علماً تراكمي في كافة مناحي الحياة، وبالأخص الجانب الاجتماعي منها.

وحياة الأمم والشعوب فيها تنوع واختلاف وسلائق خاصة بكلّ منها، وكما نعلم فإنّ لكلّ مجتمع بشري طبائع وأعرافاً متداولة وقيماً متواردة تُميّزه عن غيره، ولا يمكن للإنسان الباحث أن يغضّ النظر عن ذلك، فدراسة حياة الشعوب لا بدّ أن تبدأ من دراسة التراث المتراكم الذي ما زال البعض منه حياً تتداوله المجتمعات من جيل إلى آخر وتعمل به، فالقيم والأعراف والعادات والتقاليد وغيرها مضافةً إلى التطورات الحضاريّة المُختلفة تُلقي بظلالها على حركة تطوّر المجتمع وتقدّمه، لذا فالبحث التاريخي الاجتماعي يحتاج الدخول في مفاصل الحياة العامّة للمجتمعات البشريّة، أو ما يُسمّى بالظواهر الاجتماعيّة، ومنها القيم والأفكار والمُعتقدات والمفاهيم الشعبيّة الخاصة، أي التراث بصورة عامة نحصل من خلالها على الصورة الحقيقة الناصعة عن ذلك المجتمع، ولا نتغافل عن جانب ونبرّز جانباً آخر، كما لا نطوي طبيعة حياة الجمع العام ونتعلّق بحياة البلاط والحاشية، فالحركة الاجتماعية لا تقوم بها طبقة من المجتمع دون الأُخرى

٥١

فالكلّ رسم بصماته على تاريخ البلد، وأنّ حركة المجتمع تبدأ من الصغير والكبير على السواء، فالكلّ يتكامل بأجزائه، ولا تنهض المدنيّة الحضاريّة لبلدٍ نحو الأفضل الإّ بتظافر أجزاء كيانه، وكذلك لا ننسى أنّ أفكار العامّة تحمل من التراث ما لم يحمله غيرها وتحتفظ وتفخر به، وهذا يعتبر عندهم جزءاً من الإرث المعنوي الكبير لهم، إذن لا يُمكن سحق كلّ ذلك والحكم عليه بالإعدام؛ لأنّه جزء من أدوات حركة المجتمع العامّة، لذلك نرى قيام الدين الإسلامي بمراعاة هذا الأمر وطوّر فيه الصالح من العادات والتقاليد والأعراف، وخير مثال ما قام به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خلال مسيرته الخالدة والحافلة عندما أقرّ الكثير من السُنن والأعراف والعادات الصالحة، وأصلح ما فسد منها ضمن إطار المحافظة على تراث الأمّة من خلال الاقتداء بالسنّة الطيّبة الطاهرة في قيادة الناس للصلاح.

أمّا أن يقوم من يدّعي التقدميّة والتطور بطمس أفكار الديانات البشريّة وقلعها من أذهان الناس الذين اعتنقوها منذ مئات السِنين، ويهتم بأمور لا تمثل حقيقة معنى التراث النافع للمجتمع، ويعمل على تنمية المفاسد الاجتماعية فيه إنّما ذلك يعتبر سحقاً لكل القيّم التي تحيي الإنسان وتحافظ على كرامته، وقد نسي هؤلاء أنّ الفطرة الطاهرة ستبقى ما بقي الإنسان في هذه الحياة، ويخرج زرعها من الإرض عند أول قطرة ماء تسقى بها، وهذا ما شاهدناه في حياتنا المعاصرة، وكما أنّ هناك سُنناً إلهيّة لا يمكن إهمالها والابتعاد عنها وإدارة الظاهر لها، هناك أيضا سُنن - اجتماعيّة سارت عليها المجتمعات لا يمكن محوها من الأذهان بصورة تامّة، فما صلح منها يعتبر عاملاً مهمّاً في تقدّم المجتمعات وتطورها، وما كان سيّئاً منها يجب تقويمه بصورة صحيحة بعيداً عن العنف والتهوّر والقوّة؛ لأنّ إزالة الأفكار الخاطئة عن أذهان بعض الناس يحتاج إلى بناء ذهنيّة جديدة، كما فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع ذلك المجتمع البدوي المتعصّب المتمسّك بتقاليده وعاداته التي

٥٢

تحسبه لا يتنازل عنها يوماً، إلاّ أنّه بخُلُقه الكريم وشريعته السمحاء قام ببناء ذلك المجتمع على أساس الإسلام وحضارته العظيمة.

إذن؛ يجب أن يعتمد عملنا على التحاور العقلائي الذي يستند إلى الأدلّة الواقعية الحيّة والمُعتمدة على الصور التاريخيّة والواقع المُعاش، وتوضيح ما تتركه تلك العادات والسُنن السيئة من سلبيات ظاهرة في حياة المجتمع، ولذلك نقول: إنّنا بحاجة إلى الكثير من الاهتمام بدراسة تراث الأمم وتشذيبه للاستفادة منه في بناء المجتمعات، فنأخذ المآثر الحسنة للاستفادة منها، ونضع الدراسات التاريخيّة الاجتماعية على ضوء ذلك، وطرح منهج تفسيري وتحليلي مناسب للضرورة المطلوبة حتى نحصل على الصورة الحقيقيّة للمجتمع ومناحيه وما يعتمده؛ كي نفقه ما نُخطّط له ونكتب إليه ونتحدّث عنه، ونقدّم ما هذّبناه من الأفكار إلى الأجيال القادمة نقياً صافياً نافعاً، وهذا هو هدفنا وهدف علم الاجتماع.

فعليٌّ (عليه السلام) قد اهتمّ بالتاريخ والتُراث الصالح والحضارات والدول، وأكد على معرفتها وصور إعمالها حتى يمكن الاستفادة من بعضها في المحافظة على تشكيلات المجتمع والكيان السياسي (ثُمّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إلى بِلادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ).

ثُمّ إنّ الإمام (عليه السلام) يؤكّد على الاهتمام بالسنن الصالحة للمجتمع، ويرفض أن تنقض مثل تلك السنن أو يحدث بها أضرار (وَ لاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الأمّة وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ؛ فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا، وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ

٥٣

قَبْلَكَ). (1)

فالإمام (عليه السلام) يشير إلى احتمال أن تطغى على ذات الإنسان الحاكم حالة من رفض لما سنّه مَن كان قبله على سدّه الحكم، لتداخل عوامل عديدة، منها: الطموح، وحبّ الذات، والظهور بمَظهر المُصلح، والاغترار بالنفس أو الكُره لِما هو موجود بحيث يدفعه ذلك إلى ترك العمل بما وضعه أو سنّه مَن كان قبله أو ما صلح عليه أمر الرعيّة، وكما ذكرت سابقاً فإنّ المجتمعات لها سُنن انتقلت اليها تعاقباً، أو سارت عليها من جيل إلى جيل، فالإمام (عليه السلام) يوضح الأمور بحيث يشعر الوالي بالالتفات إلى صغائرها، فهو ينظر إلى جميع جوانب حياة المجتمع كعالمٍ اجتماعي تاريخي لا مثيل له وعارفٍ بطبائع الخلق ومعلمٍ للإنسانيّة، فالسنّة الصالحة هي لصالح المجتمع وتقدّمه وازدهاره، والمجتمع الذي جرت سليقته على المسير في تلك السنن الصالحة سوف يحظى بالرقي، فما من شيء حفظ في قلب الأمّة، من سنة صالحة، أو طبع سليم، أو أخلاق اجتماعية صحيحة مُتداولة، أو أعراف وتقاليد تنجي المجتمع من الأخطار والمشاكل، أو أدب جرى على الألسن وحفظ في الصدور إلاّ واعتبر سُلّم طريق لحفظ الاستقامة والعدالة من غيره ومن كل تعليم جديد وارد من بعيد، فالخزين المحفوظ خيرٌ من الحديث الذي لا يألفه الإنسان ولا يستقرئ ويُعالج واقعة (وَ لاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الأمّة، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ)، فالإمام (عليه السلام) يشير إلى أنّ المجتمع إذا كان يعيش وادعاً سليماً بتلك السُنن، ولم تخالف شرعاً ولا عقيدة، فما الداعي للاضرار بها، فتغيير ثقافات المجتمعات بصورة كاملة وطمرها تحت الأرض يورث العناء والتبعثر والتشتّت؛ لأنّ هذه الثقافات تداولها المجتمع

____________________

(1) نص عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر - نهج البلاغة - تحقيق الدكتور صبحي الصالح - ص 431 دار الهجرة - 1395.

٥٤

ومرّت بمخاضات كثيرة حتى صُقلت ووصلت إلى الآخرين شبه تامّة تقريباً، وذلك نتيجة لِما قدّمه السابقون من تجارب وتضحيات، وربما خسائر مادّية ومعنوية حتى وصلت إلينا سُنّة صالحة.

فالإمام (عليه السلام) هنا يؤكّد على السُنّة الصالحة فقط؛ لأنّها الأكثر أثراً في النفس، وبها سارت الأُمّة بالمنهج الصحيح، فالمجتمعات البشريّة التي لديها تراث حضاري ضخم هي أكثر المجتمعات ثقافةً وعلماً، لكنّ الظروف التي مرّت على بعض تلك الشعوب، من حروب دامية، وسيطرة أجنبيّة، وأيّام قاحلة سوداء مظلمة، واقتتال طائفي وقومي بعيد كلّ البعد عن القيم الأنسانيّة أدّى إلى خمود حركة تلك الشعوب ودمارها، بحيث أصبح من العسير عليها أن تنهض مرّة أُخرى، بل تراجعت وتخلفت، فالإمام علي (عليه السلام) يُشير إلى البُعد الثقافي والحضاري للشعوب، وأثره في النظرة الاجتماعية للوالي اتجاه رعيته، وما نلاحظه الآن هو كثرة اهتمام الدول بماضي الأُمم وحضاراتها وتراثها، وقد سارت على هذا النهج الكثير من الدول، واهتمّت بالتراث الشعبي من حيث الأزياء وفنّ العمارة والمساكن والأداب، بالأضافة إلى الفنون الشعبيّة والصناعات اليدويّة المحليّة، وأخذت تُطوّرُها وتبعث فيها الحياة من جديد لتبرزها إلى الشعوب وتفخر بها وتصرف الأموال الطائلة عليها من أجل ذلك.

ولا زال الكثير من الشعوب يعتزّ بتراثه وأمجاده، وهي وسائل دفع معنوي لتلك المجتمعات للنهوض والتقدّم، وما من شعب بدّل ثقافته وتُراثه وطرحهما جانبا واستعاض عنهما بافكار وثقافات دخيلة، إلاّ وبرز الخلل فيه وانتشر الفساد ولم تعمر البلاد، فالتقدّم الحضاري لا يعني تدمير أفكار الشعوب أو إفسادها وترك كلّ ما هو خيّر وصالح، فالحضارة والتقدّم لا تتنافى مع السُنن الصالحة وحفظ التراث، بل بالعكس إذا امتزج العلم والمعرفة بتلك السنن

٥٥

الصالحة تحدث تطوّرات عظيمة وطفرات حضارية واسعة، ولا يكون هناك تنافر بين الصور الحضاريّة الإنسانيّة وبين التراث العام للأُمّة ما كان صالحاً منه، بل يزيد من ثباته، ويُقوّي إرادة المجتمعات في التقدّم والتطوّر في كافّة نواحي الحياة، ولا أعني هُنا بالتراث (الفجور والرقص وحالات تبنّي القوانين الجاهليّة، وصور التعامل القديم وغيرها)، فذلك لنا موقف آخر اتجاهه.

ثُمّ ينتقل الإمام علي (عليه السلام) إلى جانب مُرتبط بما سبقه، وهو دور العِلم والعُلماء في مساعدة الوالي لقيادة المجتمع فيقول:

(وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ). (1)

فالعلماء وأهل المعرفة وحكماء الأُمّة من ذلك البلد هُم أعرف بخفايا وخبايا وتاريخ مُجتمعهم والأدوار السياسيّة التي مرّت عليهم، وهنا يطلب الإمام (عليه السلام) الأخذ بأفكارهم والتباحث معهم ومُحادثتهم في أمور البلاد من أجل الصالح العام؛ لأنّهم أعرف الناس بما صلح عليه أمر الأُمّة والبلاد، وأكثر الناس دراية فيما استقاموا عليه من قبل؛ لأنّهم في حقيقة الأمر أئمّة في واقع مجتمعهم، وأعلم بالحال من غيرهم، وعندهم التاريخ الاجتماعي كُلّه، فالوالي بإمكانه بناء نهجه باستخلاص العِبَر والدروس مما يحمّله هؤلاء، فهم سجل ناصح للحقائق التاريخيّة، وهؤلاء نستطيع أن نُعبّر عنهم أيضاً بالقيّمين الحقيقيّين على تُراث المجتمع، فيجب أن يتقدّموا على غيرهم في مُباحثة ومداولة الوالي، والأخذ منهم أفضل من الأخذ من طرف بعيد غيرهم؛ لأنّهم مُستودع علمي وثقافي وتُراثي

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. الصالح - ص431.

٥٦

وتاريخي ضخم، ونستدلّ من ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) أعطانا قانوناً اجتماعيّاً عامّاً ينفع المجتمعات البشريّة، وهو أنّ كلّ مُجتمع إنساني له خصائصه وميزاته وتراثه وامتداده التاريخي عند هذا الطرف الاجتماعي أو ذاك؛ لأنّ التاريخ الإنساني مُترابط بعضه ببعض، بحيث لا يمكن تطبيق سُنن وطُرق حياتيّة لهذه المجتمعات أو وضع تشريعات وقوانين تمسّ حياة الأمّة وتحذف عنها تراثها وتاريخها بصورة كاملة، إلاّ بشريعة واحدة استوعبت كلّ هذه المعاني، وهي الشريعة الإلهيّة التي جاء بها محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنّها أقرّت الشيء الصالح والقانون الثري والملائم الذي تَحتفظ به الأمم، والذي لا يتناقض مع أصل العقيدة الدينيّة والإيمان بالله والرُسل واليوم الآخر.

فالمجتمعات التي لها تراث حضاري كبير، امتزجت فيه السُنن الصالحة مع التشريعات الإلهيّة القادمة عليهم حقّقت طفرات حضاريّة وعلمية كبيرة، وتقدّماً منقطع النظير في تلك الحياة التي تسودها العدالة الاجتماعية، وفرق كبير بين هذا وبين الأفكار الوضعيّة الواردة لتلك الشعوب، والتي تؤدّي إلى مسخ ثقافاتها وتُراثها عن طريق الأفكار التي تتنافر أساساً مع البُنية الثقافية والتراثية لتلك المجتمعات، ولم تمتزج معها حتى لفظتها بعيداً عن واقع مجتمعاتها ولو بعد مُدّة طويلة وعادت الشعوب إلى مبادئها الأصيلة.

فمعالجة مشاكل المجتمع تأتي من خلال أخذ الحقائق والمعارف عن المجتمعات من خلال عُلماء الأمّة وحُكمائها؛ حتى لا تضيع البلاد في المتاهات الضالة المُنحرفة، وقد لا حظنا أنّه ما من حكم حاول إبدال التقاليد وأساليب الحياة وعادات المجتمع الصالحة وتراثه الخالد، خصوصاً في بُلداننا الإسلاميّة التي عمل الدين على تنقية التراث فيها وتربية المجتمع تلك التربية الصالحة، إلاّ وفشل.

٥٧

حيث أخذت الشعوب المبادئ الإسلاميّة، واحتفظت بالتراث المُنقّى رغم محاولات الحُكّام المتأثّرين بالغرب الذين حاولوا اتّخاذ ذلك المنهج الغريب لتلك الصور الحضاريّة المُزيّفة وغير الواقعية، والتي لا علم ولا معرفة ولا تقدّم في جنباتها كنظام اجتماعي جديد حاولوا تطبيقه بالقوّة ليسحقوا تلك القيم والمبادئ الإسلاميّة لتعيش الشعوب السنين من عمرها على السراب حيث انتشر الفساد وضاع كلّ شيء منهم، إلاّ أنّ المبادئ الأصيلة التي حفظت التراث الصالح عادت وبرزت من جديد متحدية كلّ التعدّي والتغيير والإبدال الذي حاول الحُكّام العمل به.

وما (رضا خان) في إيران و(كمال اتاتورك) في تركيا إلاّصور حقيقيّة وتاريخيّة لِما قام به هؤلاء من تلك الأعمال الشائنة ضدّ شعوبهم.

وليس ما نُشاهده الآن من انقلاب حقيقي وعودة إلى الفطرة السليمة في إيران وتركيا إلاّ شاهداً حيّاً على ما ذكرناه سابقاً.

منفعة الأُمّة وصلاح أمرها إذاً هما من واجبات الوالي، وما يتعين عليه القيام به، والإمام علي (عليه السلام) يؤكّد ذلك ويقول: (وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ، مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ، أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله)، أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا) (1) ، وهذا تأكيد ثانٍ للإمام (عليه السلام) على الأخذ بالعبرة التاريخيّة النافعة والسنّة الفاضلة مع الاهتداء بالقرآن والسُنّة النبويّة الطاهرة، ثُمّ الاقتداء بإمامه في أعماله المُقيّدة في هذا الجانب بما شاهده من عمل الإمام علي (عليه السلام) بتك الفريضة أو السُنّة النبويّة.

____________________

(1) نص العهد للأشتر.

٥٨

عِلم الاجتماع والتاريخ

هناك ارتباط وثيق بين علم الاجتماع والتاريخ؛ إذ إنّ المجتمع بحركته اليوميّة هو تاريخ للبشريّة مُستقبلاً، والدراسة الاجتماعية لا تكون ناضجة وتامّة إذا لم تكن هناك دراسة مُتكاملة للتاريخ الاجتماعي وظواهره الاجتماعية، ثُمّ تأتي دراسة الأمور الأُخرى السياسية والاقتصاديّة والنفسيّة والعسكريّة وغيرها، وكلّها تدخل في هذا النطاق، ولهذا بُذلت الجهود لوضع فلسفة خاصة لتفسير التاريخ، وكانت هُناك عدّة تفسيرات مُتنوّعة حسب الايدلوجيات المطروحة، ومنها التفسير الإسلامي للتاريخ، الذي يعتمد على السُنن التاريخيّة التي وضّحها القرآن الكريم، وكان هناك مجموعة من العُلماء والفلاسفة الذين درسوا التاريخ والمجتمعات ليُعطوا للعالم نظرياتهم الخاصة التي لا تعتبر قانونا تامّاً للمجتمعات إنّما فيها الغثّ والسمين، إلاّ أنّ أغلبهم كان يؤكّد على الجانب الأخلاقي في حياة الأمم والشعوب، فقد (كان (فيخته) - وهو أقرب إلى العنصر الأخلاقي في فكر (كانت) - يعتبر المُطلق جوهريّاً من حيث أنّه نظام أخلاقي، فإنّ مفهومه الأساس (للأنا) كان يعني (كما كان يُردّده بيسر) لا (الأنا) الفرديّة ولكن المطلق، والأرواح الفرديّة المتناهية هي الأحوال التي تفصح بها الحياة اللامُتناهية عن نفسها، ووفقاً لهذه النظرة، فإنّ كلّ واحد يجب أن يكون له مكان وحيد في التاريخ، ومع ذلك فإنّ (فيخته) كان يعلن في مُحاضراته المنشورة بعنوان منهج للوصول إلى الحياة الأسعد (مَن لا يزال له أنا بعد، فليس يوجد فيه بكل تأكيد أي شيء طيب)). (1)

____________________

(1) ويد جيري - البان ج - المذاهب الكبرى في التاريخ من كونفو شيوس إلى توينبي - ص 230 ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم بيروت - الطبعة الثانية 1979.

٥٩

إلاّ أنّ هذا الفيسلوف كان ضائعاً في متاهات اللامعقول والخيال العاري، فهو يضع فكره على بساط الريح ولا يعلم متى وكيف ينزل إلى عالم الواقع، ثُمّ يؤكّد على عنوان (الأنا) في الإنسان دون أن يوضّح الطبيعة الذاتيّة للإنسان، وهو يريد أن يحصل على الأشياء الطيّبة - أي زينة النفس الإنسانيّة (الأخلاق الفاضلة) - ويُهمل مسألة مهمّة، وهي النوازع الذاتية في نفس الإنسان، والطموحات والرغبات التي تدفعه إلى المنازلة مع العالم المجهول لاكتشاف الحقائق النافعة لتطوير المجتمع وتقدُّمه، فقد نفى كلّ شيءٍ ولم يُعطِ شيئاً للنفس الإنسانيّة وللدغدغة الذاتيّة للروح، فهو يغوص في مفاهيم غامضة نوعاً ما، ويبتعد فيها عن الواقع الذي لا مناصّ منه، وهو تأثير العقائد الروحيّة على كبح جماح النفس أمام المطالب غير المشروعة، والتي تضرّ بالقيم الروحية والأخلاقيّة، وتُفسد الحالة الاجتماعية، وتتفشّى فيها حالة (الأنا) بصورة قاطعة على خلاف رغباتها ونوازعها باتّجاه الخير، فحبّ الإنسان للظهور بموقع عامل الخير هو دافع ذاتي وحبّ للأنا إذا ما أردنا مُقايسته وأثره في النفس العاملة، ولكنّه في واقع الحال شيء حسن، وهو أن يعمل الإنسان الخير ولو كان الدافع الأول هو حبّ الظهور للحصول على الإطراء والثناء والمديح من الآخرين، وهُنا يبدأ دور العقائد الروحيّة في تهذيب فكر الإنسان لتُرشده إلى أنّ هذا العمل الطيب إذا كان خالصاً لله وبعيداً عن الرياء فهو أصلح وأنفع؛ فصلاحه يحافظ على كرامة الإنسان، ونفعه هو الفلاح بالثواب عند الله، حتى في مجالات العبادة والتوسّل والدعاء، فإنّ الدوافع الأساسيّة لذلك هو إشباع رغبات النفس للتقرّب إلى الله تعالى والحصول على ثوابه وحسناته.

فإذن؛ (الأنا) هنا مشروعة بإرادة الله تعالى، وهي لا تتناقض مع العدالة والحق والاستقامة في المجتمع، بل تُعطي هذه المفاهيم قوّة كاملة للتطبيق والعمل بها.

إذن؛ لا بدّ من فصل بين الدوافع الذاتيّة

٦٠