في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)0%

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 390

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الرضا الزبيدي
الناشر: شارع معلّم
تصنيف: الصفحات: 390
المشاهدات: 53945
تحميل: 7761

توضيحات:

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53945 / تحميل: 7761
الحجم الحجم الحجم
في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: شارع معلّم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المشروعة النافعة والضارّة غير المشروعة، فعمليّة بناء الذات لدى الإنسان وفق التصوّرات الواقعيّة لا تأتي من الطرح النظري الفارغ، إنّما تأتي من أصالة المبادئ الروحيّة التي تصقل أفكار الإنسان ونفسه باتجاه حفظ المعالم الاجتماعية والتعاون الإنساني.

وقد (كان فيخته، وهو يناقش مصيرية الإنسان، يصف (الكمال) كأنّه (غاية الإنسان البعيدة المنال)، وأنّه (أبديّة استكمال موهبته)، فإنني (أعرف في كلّ لحظة من حياتي ما يجب أن أفعله، وفي هذا تكمن قابليتي في النطاق الذي يتعلّق هذا بي)، ولكنّني (لا أستطيع أن أفهم قابليتي بتمامها؛ فإنّ ما أكونه في العالم الآخر يُفارق فكري) (1) .

ويظلّ (فيخته) في هذا الدوران الذي لا يبلغ بصاحبه مركز الدائرة، إنّما غايته البقاء في محيطها الأبعد، (غير أنّ الإرادة الأبديّة تتصرّف بالكلّ في سبيل الأحسن، وفي النهاية كلّ شيء يصل إلى مرفأ السلام الأمين وإلى التطهير الأبديَّين). (2)

وكان فيخته يقرّ بأنّ هذا الضرب من التفكير لا يمكن أن ينتج بأيّة حال من ملاحظة العالم البسيطة، فكان يُبرهن في الواقع على أنّ أوّل حكمة لنا يجب أن تكون (عدم قبول الحياة الظاهرة في الزمن كشيء أكيد وحقيقي بذاته، وإنّما افتراض وجود ما هو أرفع، فيما وراء هذه الحياة). (3)

وكان (ماكس نوردو) 1849 - 1923م بتأثير أوجست كونت يجنح أحياناً إلى جعل علم الاجتماع والتاريخ متماثلين.

(إنّ علم الاجتماع هو التاريخ ولكن بدون أسماء أعلام، والتاريخ هو علم

____________________

(1) نفس المصدر السابق ص230.

(2) نفس المصدر السابق ص230.

(3) نفس المصدر السابق ص230.

٦١

الاجتماع مَجداً وفرداً) وكان يتوجه، منطلقاً من هنا نحو علم النفس فيلحّ إلحاحاً نوعيّاً على الشخص الفردي (إنّ علم الناس الفردي وحده هو الحقيقي)؛ إذ ليس من الممكن الوصول إلى فكرة دقيقة عن بنية الحياة الإنسانيّة الداخليّة إلاّ بدراسة المميزات الفرديّة وضروب الفكر وردّ الفعل، باختصار البيولوجية والسيكولوجية الفرديّين؛ ذلك أنّ (تاريخ البشريّة مؤلّف من أعمال رجال فرديّين، وإذ كان يُعطي وصفا قائماً على السعادة الحسيّة لرغبة الفرد في الحياة، فهو يعيش وسوف يعيش؛ لأنّه ينتفع باللذّة من الحياة)، إلاّ أنّه في ختام رأيه يُعلن أنّ المَثل الأعلى وحده يستطيع دعم بحث في المعرفة غير مُنحاز: (الطيبة والحبّ النزيه). (1)

إنّ (نوردو) تدور آراؤه كما هو (نيتشه) أيضاً على (الأنا)، أي: حبّ الذات، وهي في نظره تقود الإنسان إلى الأفكار الأخلاقيّة واللاهوتيّة ثُمّ يطلب (المحافظة عليها)، وكان قد سبقه العالم الألماني (فريديريك نتشه 1844 - 1900م) في ذلك التخبّط الممقوت والدوران الزائف والابتعاد الممزوج بالتعصّب عن صور الحق، وكان هذا قد هاجم تصورات هيجل العقلية والمثالية، ويَعتبر التاريخ (مُجرّداً من المعنى)، أو يقول: (إنّ القوى التي تعمل في التاريخ تكون ممكنة التميّز منذ أن نضع جانباً من التأمّلات في معنى الغائيّة والأخلاقيّة والدينية، فيجب أن تكون هذه القوى التي تعمل كذلك في مجموع ظاهرة الوجود العضوي، إنّ أوضح حالات ظهورها توجد في مملكة النبات). (2)

وهو متأثر إلى أبعد حدّ حول حركة الإنسانيّة بالتفسير البيولوجي للتطور، حيث يعتبر أيضاً ((النفس) و(الروح) و(حريّة الاختيار) و(الله)

____________________

(1) المصدر السابق ص277.

(2) المصدر السابق ص274.

٦٢

كلّها معاني في خدمة الأخلاق، وليست سوى (أكاذيب)). (1)

إنّها مُجرّد أفكار سطحيّة يدور بها صاحبها في سوق بائر، ولا مكان لها في المجتمع البشري الذي انقلب على واقعه الآن بحثا عن المبادئ السماويّة والروحيّة والأخلاقيّة للتخلّص من كابوس المدنيّة المُعاصرة الذي سحق كلّ القيم.

إلاّ أنّ عالماً كوليام وينوودريد (1838 - 1975م) وضع دراسات تحت عنوان (استشهاد الإنسان) بحث فيه من وجهة نظره الخاصّة في أمرٍ مهمٍ، وأبدى رأياً متميّزاً عن غيره، وباشر في طرح نظريّته وتشعّباتها، ثُمّ عالج تاريخ البشريّة بصور أُخرى، حيث (اعتبر طبيعة التقدّم من خلال الحروب، ومن خلال الأديان، والكفاح في سبيل الحرية ورقي الذكاء ونمو المعرفة بواعث أساسية، وكانت فكرته الرئيسيّة هي أنّ الأجيال المُتتابعة لا تتوصل إلى الارتقاء إلى مُستويات أرفع في الحياة إلاّ (بالاستشهاد)، وكان (ريد) يرمي من وراء هذه النظرة الشاملة التصويرية للتاريخ الحقيقي، إلى البرهان على أنّ الحروب وإن كانت وهميّة خُرافيّة، والعبوديّة مهما كان الذم الذي يوجّه اليها - بل والجهل - أمورٌ كانت تُساعد في تقدّم الجنس البشري). (2)

إنّه يخلط بين القيم السماويّة والأهداف الرساليّة، وبين الأفكار الوهميّة التي لا تصلح إلى الأيمان بها أبداً، وهذا الخط غير منطقي وليس فيه أيّة واقعية.

أمّا هيجل، فيعتقد (أنّ هذه الفكرة عن الأخلاقيّة تَحُلّ أحد الألغاز الكبرى في حياة البشر، وهو أنّ الطيّب التقي غالباً، أو أكثر الأحيان يعيش حياة نكدة في هذا العالم، بينما الخبيث الذي يميل إلى الشرّ يعيش حياة رغدة، فهو يرى أنّ الإنسانيّة إذا اخلصت نفسها لهدف واحد ووجّهت جهودها إليه دون النَظر

____________________

(1) المصدر السابق ص275.

(2) المصدر السابق ص279.

٦٣

إلى ما سواه؛ فحينئذٍ لا يمكن أن يعتبر ما يسمّى تعساً أو منعماً من الأفراد عناصر أساسيّة في النظام المنطقي المُحكم الذي يسير عليه العالم، وكل ما هو مطلوب إنّما هو أن يتحقّق هذا الهدف العظيم، وأنّ الناس يشعرون بعدم الرضا لمجرد أنّهم لا يجدون الحاضر مُلائماً لتحقيق الأهداف التي يعتقدون أنّها حقّ وعدل.

ولكن ما هو الشكل الذي به يمكن تحقيق الهدف العظيم؟

يُجيب هيجل بأنّه: الدولة، ولكنّها لا تعني عنده السلطة المُلزمة التي تكون قانوناً فوق كلّ فرد أو جماعة وتكون جزءاً من المجتمع، إنّها الشكل الذي تتخذه الروح إذ تتجسد تجسداً كاملاً، (وهذا هو اتحاد الذاتي مع الإرادة العقليّة) إنّها الكلّ الأخلاقي، الذي هو ذلك الشكل من الحقيقة الذي يكون فيه للفرد حريّة يتمتّع بها، ولكن على شرط أن يعترف بالأمور المشتركة لهذا (الكل)، ويعتقد فيها وتتجه إرادته نحوها، إنّ الإرادة الذاتيّة، والاندفاع الذاتي يُحرّكان البشر ويدفعانهم إلى النشاط الذي يُحقّق (الوجود العملي)، إن الفكرة هي المنبع الداخلي للعمل، والدولة هي الحياة الخُلقيّة المُتصوّرة التي توجد حقيقة في عالم الواقع، لذلك فكلّ ما لدى الأفراد من أخلاق إنّما حصل لديهم بهذه الطريقة فقط، إنّها الحقيقة فكرة الروح ظاهرة في المظهر الخارجي للإرادة الإنسانيّة وحُريّتها، ويعرفها هيجل بأنّها: (فكرة إلهيّة)). (1)

أمّا كتابات هـ ج. ويلز (1866 - 1947م) مثل مُختصر لتاريخ العالم، فهو يُعطي جانباً من اهتمامه وبحوثه إلى المسيحيّة والإسلام، إذ (تأتي أهميّة المسيحية والإسلام التاريخية الهائلة من أنّهما كلاهما - وفقاً لطريقة كلّ منهما الخاصّة - قد وعدا ولأوّل مرّة في سير التجربة البشريّة، بإعطاء تربية أخلاقيّة مُشتركة لكتلة

____________________

(1) الشرقاوي - محمود - التفسير الديني للتاريخ ج1 - ص86 - دار الشعب.

٦٤

من الناس، وتقديم تاريخ مشترك للماضي، وكذلك بتقديم فكرة مشتركة عن المصير الإنساني وأهدافه...، ورأى (ويلز) أنّه بالرغم من أنّه كُتب الكثير، وبصورة خاطئة، عن تناقض العلم والدين، فالحقيقة ليس ثمّة شيء كهذا، فما كشفت عنه جميع الأديان العالميّة بالإلهام والحَدس هو أنّ التاريخ كلّما أصبح أكثر وضوحاً، والعلم كلّما اتّسعت آفاقه يؤيّد أنّه كواقعة معقولة ويمكن البرهان عليها، أنّ الناس يُشكّلون أخاءً عالميّا، وهمُ أصل مشترك تتقاطع حيواتهم الفرديّة وأُممهم وعروقهم، وتتمازج وتتجه نحو اتحادٍ نهائي في مصيرٍ مُشتركٍ بين الجميع فوق هذا السيّار الصغير التائه بين الكواكب). (1)

وقد رُدّ عليه بأنّ (هذا الاعتراف بالدور الذي تلعبه الأديان في التاريخ لا يمنع من أن نتساءل مع ذلك فيما إذا كان (ويلز) يعطيها اعتبارها تماما كما يجب، فقد كان يتصوّر الدين من زاوية اجتماعيّة قبل كلّ شيء كتصور مثالي ساذج للإخاء بين الناس، ويؤدّي ما في هذا التصور من نقص، عمليّا، إلى رؤية خاطئة لطبيعة الدين كما ظهر في التاريخ، كان (ويلز) نادراً ما يستخدم عبارة (الله) وفي كتابه: الله الملك الذي لا يُرى، 1917، يصف الله كأنّه شخص، والدليل الذي يقود البشرية في حربها ضدّ الشر وفي كفاحها من أجل الخير، غير أنّ (ويلز)، كأنّما كانت هذه الفكرة تركبه، يعدل عنها في كتاباته التالية..، وكان (ويلز) في ختام مؤلّفه يلحّ على الأخلاق، فالمعرفة يجب أن ترتكز على متانة الأخلاق، (والتاريخ لم يتوصّل بعد ليكون أثراً عظيماً في مستوى الكرامة الإنسانية)، والحياة الإنسانية ستبقى على الدوام مشروعاً يتقدّم وسيتقدّم) (2) .

____________________

(1) المذاهب الكبرى في التاريخ - ص294.

(2) نفس المصدر السابق ص294.

٦٥

السُنَنُ التاريخيّة ودورها الإيجابي

إنّ الشيء المُهم هو وضع دراسة للمجتعمات البشرية تحت عنوان (لماذا الانحراف؟)، وأخذ أبعاد ذلك من واقع المجتمع وصور من المراحل التي مرّت بها المجتمعات، ودراسة كلّ مرحلة على حِدة، ومعرفة أسباب السعادة والاستقرار أو الانحراف والانحطاط، فهذا الفيلسوف والمؤرّخ (أرنولد توينبي) صاحب نظريّة (التحدّي والاستجابة) في التاريخ، يُعطي صورة أقرب من غيرها إلى الواقع (... إنّ التاريخ الكلّي للمدنية يمكن أن يدرك على أنّه سلسلة من التحدّيات الخُلقيّة والعقليّة التي واجهت الإنسان، ووضعت أمام عبقريّته نوعاً من الحيرة، كان عليه أن يتحرّك مُستخدماً كلّ فكره وطاقاته لمُحاولة التصدّي لها، وعندما يعثر المجتمع على الحلول الناجحة يتحرك نحو مستويات أعلى وأعلى جديدة، فإذا لم يتمكّن المُجتمع من مواجهة هذه التحدّيات فإنّه يتفكّك وينهار إلى حدّ التلاشي. وإذن؛ فتاريخ المدنيّة عبارة عن مراحل من النجاح والفَشل في مواجهة التحدّيات، وهذا هو السرّ في تعاقب المدنيّات في كلّ منطقة من العالم.

إنّ أحد العلامات المُميّزة للمشاكل أنّها شديدة الصِلة بالقيم الأخلاقيّة، وهي اجتماعية من وجهة نظر خاصّة؛ لأنّها مُتّصلة إتصالا وثيقاً بالعلاقات الإنسانيّة، وتظهر في المضمون الذي تتواجد فيه باستمرار علاقات الإنسان، أو هي مشاكل؛ لأنّها تُعتبر خروجاً على ما يمكن اعتباره صوابا أو صحيحاً على أساس ما يُحدّده المجتمع للصفات المرغوبة، أو بمعنى آخر: إنّ المشاكل تُعتبر كذلك؛ لأنّها تُقلقل الأنماط والعلاقات التي يضع المجتمع لها أهمية كُبرى خلال التاريخ). (1)

____________________

(1) غيث - دكتور محمد عاطف - دراسات في علم الاجتماع التطبيقي ص 66 - دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر - بيروت.

٦٦

إلاّ أنّ توينبي لم يُحدّد في هذا المقطع أسباب تعثّر المجتمع وتفكّكه وانهياره، بل تلاشيه كما يذكر، أو الطُرق التي اتخذها مجتمع ما والحلول الناجحة - كما يصفها - التي تأخذ به إلى العُلا والتقدّم، أو الأسباب في النجاح والفشل في مسيرة المدنيّات التي مرّت وانقضت، فكلّ ذلك لم يُبيّنه لنا (توينبي) ليسهّل علينا الطريق في وضع المنهج الحقيقي لدراسة المجتمعات، ورغم أنّ توينبي له نظريّته الخاصّة، فهو دائما يعزو تحرّك المجتمع إلى تحدّي الواقع وشدّة وطأته على الأمم، فيُحفّز طاقات البشر فتُحرّك كوامنها بتدافع قوي ضدّ ضغط ذلك التحدّي ليتمكن المجتمع عند ذاك من بناء حضارة أو مدنيّة، لكن لم يذكر الوسائل أو المبادئ التي تتحكّم بهذه الاستجابة وتعطيها دافعاً معنويّاً كبيراً في نفوس المجتمع، فلا بدّ من قيمٍ تفرض نفسها وتُعطي زخماً دافعاً قويّاً لبناء معنويّات الإنسان المُنهارة أساساً بفعل الضغوطات الطاغوتيّة أو المبادئ الفاسدة المستشرية، بما فيها الظُلم والجور وسيادة الباطل واندثار الحق وغير ذلك، في حين وضح لنا القرآن الكريم السُنن التاريخيّة التي أبصرت العيون وفتقت العقول وأعطت المدلول ليبني الإنسان مستقبله على أحسن ما يكون، قال الله تعالى في كتابه المجيد:

( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَى‏ مِنْ إِحْدَى‏ الأمم فَلَمّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السّيّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّتَ الأَوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) . (1)

( سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً ) . (2)

(... فإنّ الله يُحدّثنا عن الثبات في سنّة الله، فلا تتبدّل ولا تتحول إلى سُنّة

____________________

(1) سورة فاطر: الآية 42 و43.

(2) سورة الأحزاب: الآية 62.

٦٧

أُخرى أو إلى مسار آخر، تماما كما هو القانون الطبيعي الذي يحكم الوجود الكوني الذي لا مجال لتبديله، كما يُحدّثنا عن بعض هذه السُنن بأنّها (سنّة الأولين) للايماء بأنّ الإنسان هو الذي يُحرّك هذه القوانين التاريخيّة، فلا مُنافاة بين نسبتها إلى الله من حيث إنّه هو الذي أودع في الأسباب سرّ السببيّة، وربط بين السبب والمُسبب، ونسبتها إلى الإنسان باعتبار أنّه هو الذي يمسك بالسبب في حركته الإراديّة في تحريك الأسباب في حركة الوجود في الأمر الذي يجعل من التنمية الثقافيّة للإنسان هدفاً كبيراً للرسالات، لتكون حركته في اتجاه الإمساك بالخير لا الشر لتنطلق السُنن في خطّ الإيجاب بإرادته المنطلقة من فكره ومشاعره وتطلعاته، ولا بدّ لنا في الدراسة القرآنية من اكتشاف هذه السُنن في حركة التاريخ على مُستوى القاعدة التي تحكم النظام الإنساني الطبيعي في الكون، ليستفيد من ذلك في وعي النتائج السلبيّة أو الإيجابية في الواقع، ولنعرف كيف نُحرّك القضايا الإنسانيّة في اتجاه الحصول على حياة إنسانيّة مُتوازنة، والابتعاد عن كلّ الأوضاع السيّئة التي تُرهق مسيرة الإنسان وتُثقل مصيره؛ لأنّ هناك فرقاً بين دراسة الحركات الإنسانية في التاريخ الذي صنعه الإنسان في الماضي والتاريخ الذي يصنعه في الحاضر والمُستقبل). (1)

وكذلك فقد قال إمامنا علي (عليه السلام):

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَالْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ، خَلَقَ الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَاسْتَعْبَدَ الأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ، وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ، وَبَعَثَ إلى الْجِنِّ وَالإِنْسِ رُسُلَهُ؛ لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، وَلِيُبَصِّرُوهُمْ

____________________

(1) المنهاج - مجلة تصدر عن مركز الغدير للدراسات الاسلامية - العدد الثالث، السنة الاولى 1996م - 1417هـ ص 263، منتدى المنهاج، السيد محمد حسين فضل الله.

٦٨

عُيُوبَهَا، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا وَحَلاَلِهَا وَحَرَامِهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ وَكَرَامَةٍ وَهَوَانٍ، أَحْمَدُهُ إلى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إلى خَلْقِهِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً، وَلِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلاً، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً). (1)

يُبيّن الإمام (عليه السلام) قدرة الله تعالى وسُلطانه وعظمته وعزّته، ويدّلل على أنّ الذي خَلق الخَلق وأسكنه الأرض سواء كان الجِن والإنس هو الله تعالى، وأعطاء العقل والتفكير ثُمّ لم يترك خلقه بدون واعظ أو هادٍ ومُدلٍّ على الطريق الذي يؤدّي بصاحبه إلى الراحة والاطمئنان في الدنيا والآخرة، فلذلك أرسل الرُسل إلى مخلوقاته، ليُبيّنوا معايب هذه الدُنيا التي نزلوا فيها إلى أجل مُحدّد، فرفعوا الغطاء عن وجهها الحقيقي بما نقلوه عن الباري عزّ وجل، ووضّحوا ذلك بالسيرة الصالحة لهم، ونبّهوا إلى قدرة الإنسان على اكتشاف الحقائق والسير على خطّ الاستقامة، واتّخاذ ذلك منهجاً بالبُعد عن مغريات الدنيا، ويُحذّرون الخلق ثُمّ يضربون الأمثال والقصص التي مرّت بها الأمم، أي: التعريف بالسنن التاريخيّة التي تحدثنا عنها، وبعد أن يأتي الرسول ليكشف الغطاء ويحذر، ويضرب الأمثال ليفتح عين الخلق على عيوب الدنيا وزخرفها، وتبدل أحوالها بين صحّة وعافية ونعيم وأمراض وحلال وحرام أ فإنّها غير مستقرة في طبيعتها كما وضّح لنا القرآن ذلك، وغير دائمة في صداقتها وعلاقتها، فهي تقذف بالإنسان من حالٍ إلى حال في لحظة من لحظاتها، دون أن تستثني أحداً من سُكّانها، وتُسقط الجبابرة من عروشهم إلى الموت أو قعر السجون، إنّها متقلبة كما يصفها الإمام (عليه السلام)، ثُمّ يذكّر بالأجر والثواب الإلهي الذي أعدّه الله تبارك وتعالى لمَن

____________________

(1) نهج البلاغة ص 265 خطبة 183.

٦٩

أحسن العمل في الدنيا وشخصت عينه للآخرة، واستفاد من الفيوضات الإلهيّة التي أودعها في الأرض ليبني ويُعمّر، فحصل عند ذاك على الجنّة وذلك هو الفلاح، والعقاب كلّ العقاب للعصاة المَردة الذين سعوا بكلّ قوّة وراء دُنياهم، وحاولوا استعباد كلّ إنسان، بل ظلمه وسلبه، بل استخدموا أُسلوب الخراب بدل البناء، والانحطاط بدل الرفعة والسُمو، وجعلتهم كالكلب يلهث وراء صاحبه أملاً بالحصول على شيء من فتات موائده إن بقي منه شيء، ثُمّ تركتهم في غرامهم يهيمون يديرون الرؤوس يمينا وشمالاً بحثاً عنها، فلا يرون إلاّ عجوزاً شمطاء ذهبت كلّ زينتها التي غطّت بها وجهها الكالح كما وصفها نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام)، فهي ليست حورية عذراء، كما أغرتهم بذلك فخسروا كلّ شيء في الدنيا وأُدخلوا النار في الآخرة بعد أن باعوا كلّ بضاعتهم وضاعت عليهم أثمانها، والمُطيع لله المتّعظ بعبرته السائر على نهج نبيه فقد حصل على العِزّة والكرامة، وعكسه العاصي الذي هانت عليه نفسه وضعفت حيلته أصبح في هوان تام.

ثُمّ يحدّد الإمام العمر للإنسان وللحياة بصورة عامّة (ولكلّ قدرٍ أجلاً، ولك أجلٍ كتاباً).

. (1)

فكلام الإمام (عليه السلام) الذي يُعبّر عمّا أعطاه كتاب الله من عِبَر وأمثال صادقة يؤكّد على أن المصدر الحقيقي لأفكار الإمام (عليه السلام) هو الإسلام العظيم، فقد طرح كتاب الله الحقائق الناصعة عن حياة الأمم والشعوب السالفة، فأعطانا هَدْيه باتخاذنا من وقائع في الماضي درساً وعِبرة ولحياة المجتمعات صيانة من

____________________

(1) سورة الأعراف: الآية 34.

٧٠

الانحرافات والخرافات التي تضلّ وتصمّ وتعمي وتغطي - أي تغطي الحق - فإلى أيّ شيء في هذا الواقع الفاسد يلتجئ الإنسان للخلاص من الغيّ والظُلم والانهيار، وبناء المستقبل على دعائم ثابتة، متجنباً الأخطاء والسلبيّات إذا لم يأخذ بما مرّ على الأقوام التي سبقت من عِظه واعتبار؛ إنّها سُنّة الله في الأوّلين.

إذن؛ القانون الذي سار عليه الإمام (عليه السلام) وطرحه للمستقبل هو الأخذ بسُنن الله في خلقه كعبرة ماضية تحتاج إلى تمعّن وبصيرة للحصول على النتائج المفروزة من جرّاء انحراف الأمم وطغيانهم بما ابتعدت فيه عمّا قدّره الله وأعطاه لخلقه، بحيث أساءت التعامل مع الحقائق الموجودة في الكون، وتخلخلت العلاقات الاجتماعية الصحيحة، وفَضّلت الانحراف على السلوك السليم الذي أراده الله، فكانت النهاية القاتلة؛ لأنّ الإنسان إذا لم يعتبر بما مضى وما جرى، ولا يأخذ بالصالح ولا يترك الطالح، فمعنى ذلك تفضيل الانحراف على الاستقامة، والدمار على الإعمار لطمع وجشع دنيوي قصير أمده قليل فائدته، إذا ما عرفنا أنّ هناك ثواباً وعقاباً عند الله للعاصين من خلقه، وهذه المعاني وهذه الدراسات هي التي نُريد من خلالها دراسة مستقبلنا، ووضع منهج صحيح للعمل به في مجتمعنا، يكون أُنموذجاً رائعاً ليعمم على المجتمعات الإنسانيّة من خلال طرحه كمُنقذ للإنسانية من الضلال والانحطاط والقلق المستمر التي تعيشه تلك الشعوب، وخوفها من مستقبلها المُظلم، والفراغ العقائدي الواسع لديهم لإخراجهم من الواقع المرّ الذي يمرّون به.

فالمنحى إذن، هو الاتّجاه نحو الدعوة إلى الله، والسير على النهج القويم الذي رسمه الباري عزّ وجل لعباده، بما حوته الشريعة من الحلال والحرام والأخلاق الفاضلة والتقوى التي هي الماسك الحقيقي للمجتمعات من الزيع والانحراف والفساد العام عن خط الاستقامة، وإلاّ نبقى جميعاً نعيش دوّامة النظريّات والتطبيقات والدراسات، ومرّة أُخرى يقول الإمام (عليه السلام):

٧١

(أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ، فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عليه السلام)، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً!

أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ؟ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ؟ أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَهَزَمُوا بِالأُلُوفِ وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ؟). (1)

إنّها أروع مثال واعظ، وعبرة جارية، وصوّر حيّة لواقع مضى، وأمرٍ قادم، ودول تفنى، وآخرى تقوم. إنّها أعظم ناقوس يدقّ في أعماق العقل ليُنبّه إلى ما قد سلف وما قد يأتي وما تدور به السنين والأيام من عوالم ورجال وأفكار، فكلّها سنن تاريخيّة مضت، فلا يأمن الإنسان من غده، ولا يطغى بما ملك وأقام، ولا يأنس بمال وسلطان وعساكر مؤلّفة، فإنّ لها أجلاً مُحدّداً، وهذا هو قانون الله، وهذه كلماته ولا مبدل لكلمات الله ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) . (2)

إذن؛ كلّ انحراف زائل، وكل تخطّي على الحق ساقط، فالتحوّل يكون باتخاذ السُنن عِبرة وواعظاً؛ حتى لا ينحرف مَن هو جبّار عنيد، ولا يسير خلفه شَعب ذليل مسكين، فينحرف الجميع ويسقطوا في الفتنة كلّهم، وهذا ليس ببعيد عن

____________________

(1) نهج البلاغة ص262 تحقيق د. صبحي الصالح.

(2) سورة الأنبياء: الآية 105.

٧٢

عصرنا الحالي، إذ أنّ التاريخ يعيد نفسه، والعالم سائر بلا وعي وإدراك إلى الغاية التي يطلبها، فلا بدّ من هدف لحياة الإنسان وتآلف المجتمعات، وإذا ما بقيت الإنسانيّة بدون هدف سامٍ تنظر إليه الأبصار في لحظة من حياتها؛ لا تستقيم الأمور ولا تهدأ الأوضاع، فمِن ضياع إلى دمار، ومن دمار إلى خراب أكثر، وهكذا يبقى الجميع في دوّامة الرُعب والخوف والحذر، ليس من الله، بل من خَلق الله الذين انحرفوا وحرّفوا وسار الجميع في خطّ الانحراف التام، وقد أعطى الإمام علي (عليه السلام) صورة بلاغيّة ناطقة، وذات معانٍ حيّة تتعلّق بتلك السُنن من خلال قوله (عليه السلام):

(بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ؛ لِئَلاَّ تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إلى سَبِيلِ الْحَقِّ، أَلاَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً، لا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَمَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً وَالْعِقَابُ بَوَاءً). (1)

ومُلخّص الكلام أنّ الإمام (عليه السلام) في بياناته المعبّرة خير تعبير عن كلّ الوقائع أعطى للعقل المُتبصّر حقائق لا يمكن إغضاء البصر عنها، وهي التي نستطيع أن نُعبّر عنها بأنّها أساس وقوائم بناء النظريّة الاجتماعية الإسلاميّة العالميّة، وهي محور الكلام الذي ذكره إمامنا (عليه السلام)، وأرقى ما يُمكن اتخاذه كنهج ناضج وكتخطيط مستقبلي مرسوم تسير عليه البشرية بسعادة تامّة واستقرار وثبات لا مثيل له، فيمكن لنا أن نستخرج هذه الدعائم الأساسيّة بما يلي:

1 - الاعتبار بالسُنن التاريخيّة والتي بَيّنها القرآن الكريم.

2 - المحور الأساس هو العقيدة الإسلاميّة كنهج وسلوك صائن من الخلل

____________________

(1) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح - ص200.

٧٣

والزلل.

3 - تحريك العقل وإثارة كوامنه من خلال هذه العقيدة.

4 - معرفة السُنن الكونيّة التي ذكرها القرآن لكشف حقائق الكون، والاستزادة بالمعرفة بها للاستفادة مما وضعه الله لنا في مسيرتنا الحياتية.

5 - من خلال العقيدة الإسلاميّة تنبع القيم الأخلاقية السامية للاسلام، التي تُحصّن الفرد وترفع الحالة المعنوية للمجتمع بالاطمئنان التام والاستقرار.

6 - كل هذه النقاط والثوابت من أجل الهدف الأعلى وهو رضاء الله، وكما قال الباري عزّ وجل: ( تَبَارَكَ الّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى‏ كُلّ شَي‏ءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) . (1)

هذه الثوابت هي الرموز الأساسية لبناء النظريّة الاجتماعية الإسلاميّة العالمية، والتي بدونها لا يمكن الاتّكاء على أي شيء آخر في تصحيح مسيرة المجتمعات.

فقد أكّد الإمام (عليه السلام) على مسألة الاعتبار والعِظة بحال الشعوب السالفة والأُمم الماضية، وأولاها أهتمامة، وهذه المقاطع من خطبة للإمام علي (عليه السلام) تُعطي الشواهد الكاملة لهذا الطرح الواسع:

(فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَصَوْلاَتِهِ وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ (2) ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي (3) خُدُودِهِمْ (4) وَمَصَارِعِ

____________________

(1) سورة الملك: الآيات 1 و2.

(2) المثلات: العقوبات.

(3) مثاوي: جمع مثوى بمعنى المنزل.

(4) ومنازل الحدود: مواضعها من الأرض بعد الموت.

٧٤

جُنُوبِهِمْ (1) ). (2)

وفي جانب آخر من خطابه (عليه السلام):

(فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وُلدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ (عليهم السلام)، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ (3) الأَحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ (4) الأَمْثَالِ!) (5) .

ثُمّ يطرح الإمام (عليه السلام) جانباً آخر من جريان السُنن على خلقه، وحال أمرِ الشعوب والأُمم التي كفرت بأنعُم الله، وطغت، وتجبّرت، فألبسها الله ثوب الخزي، ونزع عنها لباس الكرامة والعِزّة، وسلبهم النِعَم التي حاطتهم بخيرها، فأصبحوا بعد ذلك قاعاً صفصفا وعبرةً لغيرهم.

(أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً (6) فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ، فَانْظُرُوا إلى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، وَقَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ (7) ، وَبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ (8) فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ) (9) .

ثُمّ يُحذّر الإمام (عليه السلام) من سوء الأعمال وقبائح الأفعال التي تُقلّب الأحوال:

____________________

(1) ومصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(2) نهج البلاغة - تحقيق د. صبحي الصالح، ص290.

(3) الاعتدال: هنا التناسب.

(4) الاشتباه: هنا التشابه.

(5) نهج البلاغة - تحقيق د. صحبي الصالح ص297.

(6) أربابا: سادات.

(7) غضارة النعمة: سعتها.

(8) وقصص أخبارها: حكايتها وروايتها.

(9) نهج البلاغة - تحقيق د. صحبي الصالح - ص297.

٧٥

(واحذَروا ما نَزَلَ بالأُمَمِ قَبلكُمْ مِنْ المَثلاتِ بِسوءِ الأفعال، وذَميمِ الأعمال، فَتَذَكّروا في الخَيرِ والشّرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم). (1)

فالعِبَر، كالآيات التي تُخبر عمّا أصاب الأُمم الماضية من النكال ونزل بهم من العذاب لمّا حادوا عن الحق وركبوا طُرق الظلم والعدوان.

____________________

(1) المصدر نفسه ص296.

٧٦

الفَصلُ الثّالِث

السَيرُ على نهجِ عَليّ (عليه السلام)

٧٧

٧٨

الإمام علي (عليه السلام) والفِكر الاجتماعي الإسلامي

لقد كُتبت الكثير مِن الكُتب التي بحثت في الشؤون التاريخيّة والاجتماعية، إلاّ أنّ بعضها وللأسف الشديد لم يتوخَّ الدِقّة أو يعتمد على الطرح العلمي السليم، الذي يجب أن لا يبحث صاحبه في جانب ويترك حقائق أُخرى من نفس الموضوع، ومع ذلك فإنّ ما كُتب حول الفكر الاجتماعي الإسلامي لا يفي بالغرض المطلوب أو يسدّ الحاجة الواسعة لوضع نظرية اجتماعية إسلاميّة نحن بأمسّ الحاجة اليها، وما ظهر من كُتب، فإنّها بارقة أملٍ على الطريق الطويل.

أمّا فكر الإمام (عليه السلام) الاجتماعي، لا يزال حبيس النظرة الضيقة، والتبعيد المُتعمّد والمُجحف واغماط الحقّ الواضح، والظلم هنا عمّ جانبين مُهمّين:

1 - الإسلام كدين وفكر حَيٍّ.

2 - علي (عليه السلام) كعبقريّة فكريّة في كافّة المجالات.

فما بال الذين يرغبون بذكره لم يُوفّوه حقّه؟ وغيرهم يترك فكره وعلمه جانباً ويتمسك بالأفكار الوافدة والغربية التي تفصلنا عنها مسافات فكريّة واجتماعية كبيرة، وهذا ما لا يقبله منطق ولا عَقل، ثُمّ أنْ يبرز كتّاب من المسلمين مُتحمسين باهتمام بالغ على أنّهم مفكّرون اجتماعيّون لكنّهم يتركون فكر علي (عليه السلام) على الرفوف في طيّات الكُتب، فهذا هروب من الحقيقة هي والواقع والأمانة العلمية إلى السلبية الجامدة والانغلاق الفكري والتقوقع على الفكر

٧٩

المذهبي، ولا عدالة وحقّ في ذلك، فالإسلام دين الجميع، وهو شامل لكلّ البشريّة، والاهتمام ببثّ وتحليل فكر رجاله الصالحين هو الدين، ووظيفة شرعية تُحتّم على الجميع إظهار الحقائق كما هي بدون أيّ تحريف أو تشويه.

ثُمّ إنّه ليس من حقّ أحد أن يدّعي الحياديّة يكون بجانب فئة مُعينة ويُهمِل الأُخرى، ثُمّ بيان أيّ مُفكّر وطرحه والاهتمام به يجب أن يكون ذلك تابع إلى الصفات والخصائص التي تجلّت فيه من علم ومعرفة ونُبوغ وشجاعة، فعلي (عليه السلام) برز عن غيره، ووضع فكره وعلمه وشجاعته في خدمة الإسلام. والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (أنا مدينة العِلم وعَليّ بابها)، فهو غَرْسُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وثمرته اليانعة، وقرآنه الناطق في خلق الله.

إذن؛ لا بُدّ من توضيح الحقائق ووضع فكر الإمام (عليه السلام) أمام الباحثين والمُنظّرين فيما يتعلّق ببحثنا حول علم الاجتماع عند علي (عليه السلام) أو مصادر التفكير الاجتماعي عنده، وإعطائه مُتكاملاً من أبرز جوانبه لكي ينهل منه العُلماء أفكارهم، ويضعوا المناهج السليمة لمُجتمعاتهم حتى يكون البناء المُستقبلي لتلك المجتمعات صحيحاً غير عليل، وواقعياً لا أفكاراً وتصورات ذهنيّة بحتة ومتيناً حتى لا ينهار.

إنّ الإمام أعطى بكلامه وخُطبه المعاني المدروسة والطُرق الحيّة التي تنير المستقبل للأُمم والأجيال الإنسانيّة، حتى كأن ما طرحه كان نتائج لدراسات واحصاءات واستقراءات اجتماعية مُتكاملة، وأعطى بذلك طريقة اتّباع المنهج العلمي الصحيح في البناء الاجتماعي، ووضع بذلك أُسس هذا العلم، ويجب أن لا نغفل أنّ هذا (العلم لا يزال في مبدأ نشأته، وإن ظهرت عِدّة مؤلّفات قيّمة لبعض الأساطين في الغرب والشرق، وكانت لجهودهم المحمودة ثمرات طيّبة رفعت من شأن هذا العلم الجليل، ونبهت أذهان النوابغ إلى مكانته بين العلوم السياسيّة والاقتصادية والقضائيّة والأخلاقيّة وغيرها، وإنّ أقدَمَ مَن ألّفَ بهذا

٨٠