مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 124958
تحميل: 4970

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124958 / تحميل: 4970
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه!

فقال: إجعلوا عليه حرساً. ففُعل ذلك به.(١)

فقام إليه حسّان بن أسماء فقال: أَرُسُلُ غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟

فقال له عبيداللّه: وإنّك لهاهنا!؟(٢) فأَمر به فَلُهِزَ وتُعْتِعَ وأجلسَ في ناحية، فقال محمّد بن الأشعث: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنّما الأمير مؤدِّب!».(٣)

تأمّل وملاحظات:

١)- قد يتساءل المتأمّل عجباً من أمر هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه الذي كان يعرف مكر ابن زياد وغدره، وكانت خبرته السياسية والإجتماعية وتجارب العمر الطويل تفرض عليه أن يحتمل احتمالًا قويّاً أن تكون حركة النهضة قد اخترقت من قبل جواسيس ابن زياد: كيف مضى برجله إلى مواجهة المحذور من إهانة أو حبس أو

____________________

= على ميلين من الكوفة نزل به الخوارج الذين خالفوا عليّاًعليه‌السلام .

(١) وفي رواية للطبري أنّ هانئاً بعد أن ضُرب: «إذ خرج الخبر إلى مذحج، فإذا على باب القصر جَلبة سمعها عبيداللّه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج!» (تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٦)، وفي رواية المسعودي: «وضرب هانيء بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الشرط، فجاذبه الرجل ومنعه السيف، وصاح أصحاب هانيء بالباب: قُتل صاحبنا! فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت الى جانب مجلسه..» (مروج الذهب، ٣: ٦٧).

(٢) يُقال هذا تعبيراً عن الإستهانة بوجود المخاطب لتحقيره وتصغيره.

(٣) الإرشاد:١٩٠؛ وانظر: الكامل في التأريخ، ٣: ٣٩١؛ وتجارب الأمم، ٢: ٤٥ - ٤٧؛ ومثير الأحزان: ٣٢ - ٣٤.

١٠١

قتل دون أن يأخذ الأهبة والإحتياط الكافيين لكلّ احتمالات لقائه بابن زياد، كأن يأخذ معه من رجالات قبيلته (مذحج) مجموعة لايقوى معها ابن زياد على إهانته أو حبسه أو قتله، أو يوقف عند باب القصر كتيبة من قبيلته تقتحم القصر إذا استبطأته وقتاً محدّداً بينه وبينها!؟

وهذا تساؤل في محلّه تماماً! ومن البعيد جدّاً ألّا يكون هانيرضي‌الله‌عنه قد فكّر بتلكم الإحتياطات لمواجهة محذورات لقائه بابن زياد في القصر لو كان رسل ابن زياد إليه من الجلاوزة أو ممّن يرتاب فيهم هانيرضي‌الله‌عنه ، لكنّ الرسل الذين انتقاهم ابن زياد- على علمٍ ومكر هم ممّن لايرتاب هانيرضي‌الله‌عنه فيهم أو في بعضهم على الأقلّ، فمنهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي الذي كانت ابنته رويحة زوجة لهاني، وأسماء بن خارجة، أو ابنه حسّان،(١) وهو زعيم قبيلة فزارة،(٢) ومحمّد بن الأشعث زعيم قبيلة كندة،(٣) فهؤلاء من كُبّار وجهاء الكوفة وأشرافها، ومن البعيد جدّاً- في ظنّ هانيرضي‌الله‌عنه - أن يكونوا رُسُلَ غدر أو أهلَ خيانة!

والظاهر أنّ هذا هو الذي جعلَ هانئاًرضي‌الله‌عنه يستبعد الإحتمال السيء، فلم يعدّ العدّة ولم يأخذ الأهبة والإحتياط لمحذورات هذا اللقاء، فانطلت حيلة ابن زياد عليه، وصدّق الرُسُل في مانقلوه إليه من أنّ ابن زياد تفقّده لإنقطاعه عنه، وقال إنّه لم يعلم بمرضه ولو علم به لقام بزيارته! فاستظهر هانيءرضي‌الله‌عنه أنّ ابن

____________________

(١) اختلفت المصادر التأريخية في أنّ أحد رسل ابن زياد إلى هانيء كان أسماء أو إبنه حسّان، لكنّ رواية الإرشاد - في المتن - توحي وكأنّ حسّاناً لم يكن أحد الرسل لكنّه صحب أباه إلى هانيء، فلمّا رأى ما صنع ابن زياد بهانيء اعترض عليه، فردَّ عليه ابن زياد: «وإنّك لهاهنا!؟» وكأنه لم يلتفت إلى وجوده من قبل!

(٢) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٣٧٢.

(٣) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٣٧٢.

١٠٢

زياد حتى تلك الساعة لم يكن له علم بمكان مسلمعليه‌السلام ، فدعا بثيابه فلبسها، وببغلة فركبها، ومضى معهم!

ومع استبعاد الإحتمال السيء واستظهار أنّ ابن زياد لم يكن حتى تلك اللحظة قد علم بمكان مسلمعليه‌السلام ، لايكون من الحكمة الإمتناع عن لقائه، أو أخذ الأهبة والعدّة للمحذور منه، أوطلب الأمان شرطاً للقائه، لأنّ كلَّ ذلك سيكشف عن المستور، ويؤكّد التهمة، ويؤديّ إلى تعجيل ضار في توقيت قيادة حركة النهضة لموعد قيامها ضد ابن زياد، ولعلَّ كلّ هذه الأمور قد خطرت على بال هاني بن عروة، فآثر المجازفة بنفسه دفعاً لكلّ تلك الأضرار والمساويء.

من هنا، يُستبعد ما أورده صاحب كتاب تجارب الأمم حيث قال: «ودعا عُبيد اللّه هانيء بن عروة، فأبى أن يُجيبه إلّا بأمان! فقال: ماله وللأمان، هل أحدث حدثاً!؟ فجاءه بنوعمّه ورؤساء العشائر فقالوا: لاتجعل على نفسك سبيلًا وأنت بريء. وأُتيَ به ...»،(١) أو ما رواه الطبري أنّ ابن زياد قال لأسماء بن خارجة ومحمّد بن الأشعث: «إئتياني بهانيء. فقالا: إنّه لايأتي إلّا بأمان! قال: وماله وللأمان، وهل أحدث حدثاً!؟ إنطلقا فإنْ لم يأتِ إلّا بأمانٍ فآمناه! ..».(٢)

٢)- يبدو أنّ حيلة ابن زياد كانت قد انطلت حتى على بعض رُسُلِه إلى هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه ، إذ إنّ سياق القصة يكشف عن أنّ أسماء بن خارجة(٣) أو حسّاناً إبنه قد فوجيء بغدر ابن زياد بهم وبهانيءرضي‌الله‌عنه ، فانتفض معترضاً بعدما رأى ما

____________________

(١) تجارب الأمم، ٢: ٤٥ - ٤٦.

(٢) تأريخ الطبري،٣: ٢٨٢.

(٣) في تجارب الأمم، ٢: ٤٧ أنّ الذي اعترض على ابن زياد أسماء بن خارجة نفسه، وكذلك في الفتوح، ٥: ٨٤.

١٠٣

صُنع بهانيءرضي‌الله‌عنه وقال لابن زياد: أَرُسُلُ غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟ فقال له ابن زياد: وإنّك لهاهنا!؟ فَلُهِزَ وتُعتع وأُجلس ناحية، وفي رواية الفتوح: «فضرب حتى وقع لجنبه فحبس في ناحية من القصر وهو يقول: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، إلى نفسي أنعاك يا هانيء!».(١)

أمّا محمد بن الأشعث فقد روى الطبري قائلًا «وزعموا أنّ أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيداللّه، فأمّا محمّد فقد علم به! ..»،(٢) وسواء أكان عالماً بخطّة ابن زياد أم لم يكن يعلم، نراه- وقد أدركه عِرق النفاق الضارب في أعماق عائلته- يقول متملقاً لابن زياد: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنّما الأمير مؤدِّب!

أمّا عمرو بن الحجّاج الزبيدي- وهو أحد هؤلاء الرسل الذين جاؤا بهانيرضي‌الله‌عنه إلى ابن زياد- فقد غاب فجأة ولم يشهد ما جرى في هذا اللقاء، مع أنّ المفروض عرفاً وهو أحد الرسل الثلاثة أن يبقى كوسيط لإزالة السخيمة بين هانيرضي‌الله‌عنه وابن زياد، أو ليحامي عن هانيءرضي‌الله‌عنه إذا تجاوز ابن زياد حدّه واعتدى عليه- كما حصل فعلًا- خصوصاً وأنّ هاني بن عروة زوج ابنته!

إذن فغيابه المتعمّد فجأة عن مسرح الحدث يكشف عن علمه المسبّق بخطة ابن زياد للإيقاع بهانيءرضي‌الله‌عنه ، وعن تواطئه معه لحبسه وقتله! ولقد أراد من وراء هذا الغياب الفاجيء المتعمّد أمرين: الأوّل هو أن يصرف عن نفسه حرج عدم دفاعه عن هانيءرضي‌الله‌عنه في حال حضوره، كما يدفع بذلك عن نفسه أيضاً شبهة

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٨٤.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٤.

١٠٤

تواطئه مع ابن زياد لقتل هانيءرضي‌الله‌عنه ، لقد كان عمرو بن الحجاج الزبيدي حقاً رسول غدر! أمّا الأمر الثاني: فهو أنَّ هذا الخائن أراد أن يستبق الوقت ليمتطي موجة غضب قبيلة مذحج التي كانت ستثور حتماً لما أصاب هانيءرضي‌الله‌عنه ، فيقود جموعها الزاحفة بسيوفها نحو القصر لإنقاذه، وهناك ليفرّق هذه الجموع الغاضبة، ويصرفها عن القصر بخدعة مشتركة- كما سيأتي- بينه وبين شريح القاضي وابن زياد! إنّ هذا الدور الخياني نفسه دليل آخر قاطع على علم الزبيدي المسبّق بخطة ابن زياد.

٣)- أظهرت هذه الرواية وكأنّ هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه إنّما امتنع عن تسليم مسلمعليه‌السلام لإبن زياد لسبب أخلاقي عربي وإسلامي وهو حماية الضيّف والذبُّ عن الجوار «واللّه إنَّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!»، وفي هذا الموقف- وبهذا الحدّ الأخلاقي- شرف ومفخرة لهانيءرضي‌الله‌عنه وأيُّ مفخرة!

لكنّ هناك نصوصاً تأريخية أخرى تؤكّد أنّ الدافع الذي منع هانئاًرضي‌الله‌عنه من تسليم مسلمعليه‌السلام كان دافعاً أسمى وأعلى من الدافع الأخلاقي! وهو الدافع الايمانيّ الطافح بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، فقد روى ابن نما (ره) أنّ هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه قال: «واللّه إنّ عليَّ في ذلك العار أن أدفع ضيفي ورسول ابن رسول اللّه، وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان ..»،(١) وفي رواية ابن أعثم: «بلى واللّه، عليَّ في ذلك من أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي، وهو رسول ابن بنت

____________________

(١) مثير الأحزان: ٣٤.

١٠٥

رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...»،(١) وفي رواية المسعودي أنّ هانئاًرضي‌الله‌عنه قال لابن زياد: «إنَّ لزياد أبيك عندي بلاءً حسناً،(٢) وأنا أُحبّ مكافأته به، فهل لك في خير؟ قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقُّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك ..».(٣)

٤)- من مجموع النصوص التأريخية التي روت لنا قصة هذا اللقاء بين هانيءرضي‌الله‌عنه وبين ابن زياد، أو جوانب من هذا اللقاء، يتضح جليّاً أنَّ هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه كان يتمتع- وهو في التسعين من العمر- برباطة جأش، وثقة بالنفس، وشجاعة ملفتة للإنتباه، كما كان في غاية الإطمئنان والثقة بأنَّ مذحج لن تسلمه إذا تعرّض لمكروه، وأنَّ الكوفة يومذاك بالفعل كانت ساقطة بيد المعارضة وماهي إلّا إشارة تصدر عن مسلمعليه‌السلام حتّى يتحقق ذلك الأمر فعلًا وعلناً، فقوله لابن زياد لما هدّده بالقتل: «إذن لكثر البارقة حول دارك!» كاشف عن ثقته بردّ الفعل المناسب الذي كان لابد سيصدر عن مذحج خاصة وعن قيادة الثورة عامة، ومدُّه يده الشريفة إلى قائم سيف الشرطي ليقتل به ابن زياد كاشف عن شجاعته الفائقة، وقوله لابن زياد: «.. تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك»، أو قوله: «أيها الأمير، قد

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٨٢ - ٨٣.

(٢) روى الطبري في تأريخه، ٣: ٢٨٣ أنّ ابن زياد قال لهانيءرضي‌الله‌عنه : «ياهانيء، أما تعلم أنَّ أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحداً من هذه الشيعة إلاّ قتله غير أبيك وغير حُجر، وكان من حُجر ماقد علمتَ، ثمَّ لم يزل يُحسنُ صحبتك، ثمَّ كتب إلى أميرالكوفة أنّ حاجتي قِبَلَكَ هانيء؟ قال: نعم. قال: فكان جزائي أن خبّأت في بيتك رجلاً ليقتلني!؟...» هذا هو الجميل أو الإحسان أو البلاء الحسن الذي كان لزياد عند هانيءرضي‌الله‌عنه .

(٣) مروج الذهب، ٣: ٦٧.

١٠٦

كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي، فأنت آمن وأهلك! فَسِرْ حيث شئت!»(١) كاشف عن ثقته التامة بأنَّ الكوفة فعلًا بيد قيادة الثورة، وأنّ ابن زياد ليس إلّا أميراً رمزياً يومذاك! ولايخفى على ذي دراية أنّ قوله لابن زياد: «.. فإن شئت أعطيك الآن موثقاً مغلّظاً الّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتّى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلقُ إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذمامه وجواره!» كان قولًا صادقاً وفيه من العمق السياسي الشيء الكثير، إذ لو خرج من القصر لأخرج مسلم بن عقيلعليه‌السلام من داره فعلًا ولكن إلى قيادة الثورة بالفعل، ولأعلنها حرباً على ابن زياد يؤلّب لها الآلاف الكثيرة من المبايعين من مذحج وكندة وبقية القبائل الأخرى، فليس بعد يومه ذاك مايدعو الى الصبر والإنتظار- بعدَ أن اخترق ابن زياد حركة المعارضة من داخلها وعلم بكلّ شيء!- وهذا لاينافي أنّ هانئاًرضي‌الله‌عنه كان صادقاً بقوله لابن زياد: «ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك!»، لأنّه قد يشفع لابن زياد- بعد انتصار الثورة بالفعل وسيطرتها على الكوفة وعلى القصر- ويأتيه كما وعده ويضع يده في يده ليسرّحه مع أهله إلى الشام، ولهانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه من المنزلة الرفيعة عند مسلمعليه‌السلام وعند أهل الكوفة ما يُستبعد عندها ردُّ شفاعته، أللّهمَّ إلّا إذا اعتُرضَ عليه بالدماء الزاكيات التي سفحها ابن زياد ظُلماً وجورا.

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٢؛ وفي رواية ابن قتيبة أن ابن زياد قال لهانيء: «يا هانيء، أما كانت يد زياد عندك بيضأ؟ قال: بلى. قال: ويدي؟ قال: بلى.. قد كانت لكم عندي يدٌ بيضأ، وقد أمنتك على نفسك ومالك!» (الإمامة والسياسة، ٢: ٥).

١٠٧

الخدعة المشتركة!

في قصة حبس هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه هناك دور خيانيٌّ لاريب فيه، تقمّصه عمرو بن الحجّاج الزبيدي المتفاني في امتثال أوامر أعداء أهل البيتعليهم‌السلام مع أنّ هانئاًرضي‌الله‌عنه كان صهراً له! ودور خيانيُّ صريح آخر تقمّصه شريح القاضي العُمريّ الأمويّ الميل والهوى،(١) بتنسيق وتخطيط من ابن زياد لعنه اللّه.

تقول الرواية التأريخية: «وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانياً قد قُتل! فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمر بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك!

فقيل لعبيداللّه بن زياد: هذه مذحج بالباب!

فقال لشريح القاضي: أُدخلْ على صاحبهم فانظر إليه، ثم أخرج وأعلمهم أنّه حميٌّ لم يُقتل!

فدخل شريح فنظر إليه، فقال هاني لما رأى شريحاً:(٢) ياللّه! ياللمسلمين!

____________________

(١) لما نهى أميرالمؤمنين عليُّعليه‌السلام الناس في مسجد الكوفة عن الجماعة في صلاة التراويح كان شريح يصيح: واسنّة عُمراه (راجع: تنقيح المقال، ٢: ٨٣)، وكان عثمانياً.

(٢) وفي رواية للطبري: «فمَّر بهانيء بن عروة، فقال له هانيء: إتّقِ اللّه يا شريح فإنه قاتلي! فخرج شريح حتّى قام على باب القصر فقال: لا بأس عليه! إنما حبسه الأمير ليسائله!» (تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٦)، وفي رواية أخرى للطبري: «وأمر عبيداللّه مهران أن يُدخل عليه شريحاً، فخرج فأدخله عليه ودخلت الشرط معه، فقال: يا شريح، قد ترى ما يُصنع بي! قال: أراك حيّاً! قال: وحيُّ أنا مع ما ترى!؟ أخبر قومي أنّهم إنْ انصرفوا قتلني! فخرج إلى عبيداللّه فقال: رأيته حيّاً، ورأيت أثراً سيئاً! قال: وتنكر أن يُعاقب الوالي رعيّته!؟ أخرج إلى هؤلاء فأخبرهم. فخرج، وأمر =

١٠٨

أهلكت عشيرتي!؟ أين أهل الدين!؟ أين أهل المصر!؟- والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر- فقال: إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إنْ دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني!

فلما سمع كلامه شريح خرج إليهم، فقال لهم: إنّ الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأعرّفكم أنّه حيٌّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!

فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أمّا إذا لم يُقتل فالحمد للّه! ثمّ انصرفوا!».(١)

وفي رواية الدينوري: «فقال لهم سيّدهم عمرو بن الحجّاج: أما إذ كان صاحبكم حيّاً فما يعجلكم الفتنة!؟ انصرفوا!. فانصرفوا».(٢)

لقد تجسّد دور شريح القاضي الخياني- وما أكثر أدواره الخيانيّة- في ممارسته التورية في عبارته الأخيرة: «فأمرني أن القاكم وأعرّفكم أنّه حيّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!» لأنه أتى بهذه العبارة بعد قوله لهم: «فأتيته فنظرت إليه»، فكأن الذي أمره هو هانيرضي‌الله‌عنه نفسه لا ابن زياد، ليشيع في نفوسهم الطمأنينة، وليوحي لهم أنّ هائناً يقول: إنّ الذي أثاركم وألّبكم خبرٌ باطل، ولا داعي لهذه الإثارة وهذه الفتنة!

وهنا يواصل عمرو بن الحجّاج دوره الخياني الطويل، فلا يردٌّ على شريح

____________________

= عبيداللّه الرجل - أي مهران - فخرج معه، فقال لهم شريح: ما هذه الرعّة السيئة!؟ الرجل حيُّ، وقد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه!! فانصرفوا ولاتُحلّوا بأنفسكم ولابصاحبكم. فانصرفوا!»، (تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٣).

(١) الإرشاد: ١٩٢.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٣٨.

١٠٩

القاضي فيقول مثلًا: لنرَ سيّدنا هانئاً ولنكلّمه أو لنخرجنّه من القصر عنوة! أو مايشبه هذا القول، أو لايكتفي بقول شريح فيدخل القصر- وهو من المقرّبين لابن زياد- ليرى بنفسه هانئاً وحقيقة ما جرى عليه داخل القصر!!

بل نراه يؤكد صحة مقالة شريح ويخاطب جموع مذحج الثائرة قائلًا: «صدق، ليس على صاحبكم يأس فتفرّقوا!».(١) ، «أمّا إذا كان صاحبكم حيّاً فما يُعجلكم الفتنة!؟ انصرفوا» فتنصرف هذه الجموع فاشلة وقد ذهبت ريحها، وأكثرهم يحبُّ العافية لتفشّي (الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت) في قلوبهم، ولو انبعث في تلك اللحظات الحاسمة رجال من مذحج فأنكروا على الزبيدي الخائن(٢) رأيه وموقفه، وحرّضوا جموع مذحج على اقتحام القصر وإطلاق سراح هانيرضي‌الله‌عنه ثمَّ واصلوا تطهير الكوفة من كلّ رجس أمويّ، لكان قد كُتب لمذحج دور رياديّ في تغيير مجرى تأريخ حياة المسلمين، يُذكر فيشكُر إلى قيام الساعة، لكنّهم آثروا طاعة ابن الحجاج الزبيدي حرصاً على احترام عرف قَبَليّ- وحُبّاً للعافية!- وإن

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٧٦.

(٢) إنّ استمرار ولاء عمرو بن الحجّاج الزبيدي لإبن زياد لعنه الله حتّى بعد مقتل هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه ليؤكّد حقيقة أنّ هذا الرجل قد تواطاء مع ابن زياد منذ البدء لقتل هانيرضي‌الله‌عنه ، فكان رسول غدرٍ، ثم ركب موجة غضب مذحج ليخدع جموعها الثائرة وليصرفهم عن إخراج زعيمهم من القصر بقوّة السلاح، متآمراً عليهم في تنفيذ الخدعة المشتركة لتضليلهم، فهو كما يقول أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حقّ الأشعث بن قيس: «وإنّ أمرأً دلَّ على قومه بالسيف، وساق إليهم الحتف، لحريُّ أن يمقته الأقرب، ولايأمنه الأبعد!»، (نهج البلاغة: ٦١ - ٦٢، رقم ١٩)، وكفى بعمرو بن الحجاج عاراً وخزياً في الدنيا والآخرة إشتراكه في جيش ابن زياد لقتال الإمامعليه‌السلام ، ومنع الماء عنه وعن أصحابه وأهله، وتحريضه الناس في كربلاء على التزام طاعة يزيد وعلى قتل الإمامعليه‌السلام .

١١٠

كان ذلك خلافاً لما هو أحقٌّ وأهمّ!، فكُتب لهم دور في الخذلان والخيبة، ماتلاه التأريخ على مسامع الأجيال إلّا وبعث في العقول والقلوب استنكاراً وريبة ونفورا!!

قيام مسلم بن عقيلعليه‌السلام

إنّ أصعب مقاطع النهضة الحسينية المباركة من ناحية التحليل التأريخي هو مقطع حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيلعليه‌السلام بعامة وحركة أحداث قيامه وانكساره السريع بخاصة، ففي هذا المقطع من كثرة الحلقات المفقودة، ومن تشابك العوامل وتداخلها وتنوّعها، ومن اضطراب النقل التأريخي لبعض مهمّ من وقائع هذا المقطع، ومن خفاء علل بعض مهمّ آخر، ما يجعل المتتبّع المتأمّل في حركة هذه الأحداث في حيرة غامرة.

وكثيرون ممّن كتبوا في أحداث هذا المقطع- والأقدمون منهم خاصة- مرّوا به مروراً مرتبكاً كما ارتبكت رواياته التأريخية، فجاء ما نقلوه أقرب إلى السطحية منه إلى التعمق، خالياً من الربط المطلوب بين حلقات أحداثه، فاقداً لما ينبغي أن يكون فيه من التحليل والتعليل.

والمحققّون الذين بذلوا جهداً كبيراً في تحليل وقائع هذا المقطع وفي الربط بينها، وإنْ جاؤا بتحليلات وتفاسير جديدة وصحيحة غير قليلة- شكر اللّه سعيهم- إلّا أنهم وجدوا أنفسهم مضطّرين إلى إعتماد بعض الإفتراضات التي لاتسندها رواية أو حتى إشارة تاريخية، وما ذلك إلّا لكثرة الثغرات التأريخية في هذا المقطع، التي ألجأت المتتبع المحقّق إلى مثل هذه الإفتراضات التي ربّما كانت

١١١

صحيحة وفي محلّها تماماً.(١)

ونحن هنا، لاندّعى أنا سنقدّم التفسير والتحليل الجامع المانع لجريان حركة أحداث هذا المقطع، بل نقول: إننا في هذه السطور سنحاول ردم بعض الثغرات، وسنسلّط الضوء الكافي على قضايا مهمّة لم تنل من قبل من الإهتمام والإيضاح ما يكفي لإبراز دورها الكبير في ما وصلت إليه أحداث الكوفة من نتائج مؤسفة، ويُظهر أهميتها الكبرى في تفسير جريان تلك الأحداث.

وفي البدء يكون من اللازم أن نقدّم الإجابة عن هذا السؤال:

المبادرة التي كان ينبغي أن تتحقّق!

في حسابات التحرّك نحو الأهداف المنشودة هناك مبادرات ضرورية ينبغي القيام بها والسبق إليها لضمان نجاح الحركة السياسية الإجتماعية التغييرية في الوصول الى أهدافها، بل ولضمان صدق المنتمين إلى هذه الحركة فيما بايعوا قائدهم وعاهدوه عليه، بل ولاختبار قدرتهم بالفعل على تنفيذ الأوامر الملقاة من قبل القيادة إليهم، وصبرهم الميداني على تحمّل تبعات تلك الأوامر المفترضة الإطاعة.

وإدراك ضرورة القيام بمثل هذه المبادرات ليس من مختصات العقول المتفوّقة في الوعي والذكاء، بل إنّ إدراك هذه الضرورة في متناول العقل العادي، هذا عمرو بن لوذان يخاطب الإمام الحسينعليه‌السلام قائلًا: «وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال، ووطأوا لك الأشياء، فقدمت عليهم، كان ذلك رأياً،

____________________

(١) مثل افتراض أنّ الثلاثين رجلاً أو العشرة أو الثلاثة الذين بقوا أخيراً مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام بعد انفضاض الناس عنه: لابدّ وأن يكونوا شجعاناً، ومن صفوة مؤمني الكوفة ونخبة رجال الحركة (راجع: مبعوث الحسينعليه‌السلام : ١٨٩).

١١٢

فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل!».(١)

وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للإمامعليه‌السلام أيضاً: «إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراوه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره! ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه!».(٢)

ويقول له ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : «فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم».(٣)

والإمامعليه‌السلام لايُخطّيء هذا الإدراك، بل يقرّرعليه‌السلام أنّ هذا الإدراك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس: «يا ابن عمّ، إني واللّه لأعلم أنك ناصح مشفق!»،(٤)

ويقول للمخزومي: «فقد واللّه علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل!»،(٥)

ويقول لعمرو بن لوذان: «يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي!».(٦)

إذن فقد كان ينبغي للقوّة المعارضة للحكم الأموي في الكوفة أنْ تُعدَّ العدّة وتستبق الأيام للقيام، وتبادر إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة قبل مجيء الإمامعليه‌السلام إليها، «وذلك مثلًا باعتقال الوالي الأمويّ وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلّا بإذن خاص، وذلك

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٥؛ والكامل في التاريخ، ٢: ٥٤٩.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤.

(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٥.

(٤) نفس المصدر.

(٥) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤.

(٦) الكامل في التأريخ، ٢: ٥٤٩.

١١٣

لحجب أخبار مايجري فيها عن مسامع السلطة الأموية أطول مدّة ممكنة من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الإنتفاضة في الكوفة قبل وصول الإمامعليه‌السلام ، حتى يصل الإمامعليه‌السلام فيمسك بزمام الأمور ويقود الثورة إلى حيث كامل الأهداف.

وليس في رسائل الإمامعليه‌السلام إلى أهل الكوفة ولافي وصاياه إلى مسلم بن عقيلعليه‌السلام مايمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرّ الإمامعليه‌السلام أنها من العقل والرأي! بل لقد دعاهمعليه‌السلام إلى القيام مع مسلمعليه‌السلام ، حيث قالعليه‌السلام في رسالته الأولى إليهم- على رواية ابن أعثم-: «فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!».

وفي رسالته الثانية التي بعثها إليهم بيد قيس بن مسهّر الصيداويرضي‌الله‌عنه - والتي لم تصل إليهم لأنّ ابن زياد كان قد قبض على الرسول- دعاهم الإمامعليه‌السلام إلى السرعة والعزم على الأمر والجدّ فيه، حيث قالعليه‌السلام فيها: «فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!»، إذ الكمش في الأمر هو العزم عليه والسرعة فيه!».(١)

لكنّ هذه المبادرة لم تصدر عن الشيعة في الكوفة، مع أنّ فيهم من ذوي الخبرات العريقة في المجالات الإجتماعية والسياسية والعسكرية عدداً يُعتدُّ به، ومن البعيد جداً أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة لم يكن قد طرأ على أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ أهمّ الأسباب التي أدّت إلى عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجيء الإمامعليه‌السلام إليها هي:

____________________

(١) راجع: الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ٣٥٠ - ٣٥١.

١١٤

١)- لم يكن للشيعة في الكوفة- وهم من قبائل شتّى- خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام عميدٌ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملماتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعددّون من الشيعة في الكوفة، لكلّ منهم تاثيره في قبيلته، لكنهم لاتصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية- بتركيز خاص على الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة- في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الأنفاس، والإضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الأمر الذي زرع بين الناس على مدى تلك السنين العشرين العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الإطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلًا على كلّ ما أشرنا إليه من التعددّية والتشتّت نفس المنحى الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة، فلولا التعددية في مراكز الوجاهة والزعامة لما تعدّدت الرسائل والرسل منهم إلى الإمامعليه‌السلام .

فلو كان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفى الإمامعليه‌السلام منهم رسالة واحدة تأتي من زعيمهم، لا إثنا عشر ألف رسالة! ولما احتاج الإمامعليه‌السلام إلى أن يسأل آخر الرسل: «خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟».(١)

____________________

(١) اللهوف: ١٥.

١١٥

كما يكفي دليلًا على ضعف الثقة والإطمئنان، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكريرضي‌الله‌عنه بين يدي مسلم بن عقيلعليه‌السلام : «أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ أحدّثك عمّا أنا موطنٌّ نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم ولأقاتلنّ معكم عدوّكم ولأضربن بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ماعند اللّه».(١)

٢)- هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة إنقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدتَ من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيتعليهم‌السلام ، فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الأمويّ في بعض هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيتعليهم‌السلام خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثوّروا قبائلهم ضد الحكم الأموي علانية، وينهضوا بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة، ذلك لأنّ أفراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن يخدمون في أجهزة الأمويين ويوالونهم سيسارعون إلى إخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيُقضى على ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضى على الزعيم الشيعيّ وعلى أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه تجد إزاءه أيضاً زعيماً آخر- أو أكثر- مثل عمرو بن الحجاج الزبيدي،(٢) يتفانى في خدمة

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٩.

(٢) ومثل كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي (المذحجي).

١١٦

الأمويين إلى درجة أنْ يؤثر مصلحة الأمويين حتى على مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب(١) في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لإطلاق سراح هانيرضي‌الله‌عنه فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والأزد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً على أيّ زعيم كوفي شيعيّ أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحكم الأمويّ، وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الأمويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالإستعانة بالسلطة الأموية نفسها.

٣)- يُضاف إلى السببين الأوّل والثاني- وهما أهمّ الأسباب- سبب ثالث وهو تفشّي مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جُلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما عبّر به محمد بن بشر الهمداني- الذي روى تفاصيل اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام في دار المختار (ره)، وروى مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبداللّه الحنفيرضي‌الله‌عنه ، في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الإمامعليه‌السلام - حينما

____________________

(١) مرَّ بنا فيما مضى من البحث أنّ جميع الدلائل والمؤشرات التأريخية ترفع الريب وتؤكد على أنّ عمرو بن الحجّاج كان قد تعمّد الخيانة والغدر بهانيرضي‌الله‌عنه وبقبيلة مذحج نفسها، وأصرّ على الإنضواء تحت راية بني أميّة وشارك مشاركة فعّالة في جريمة قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأنصاره وسبي عيالاته.

١١٧

سأله الحجّاج بن عليّ قائلًا: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلًا: إنّي كُنت لأحبّ أن يُعزّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنت لأِحبَّ أنّ أنْ أُقتل، وكرهتُ أن أكذب!(١)

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضاً: قول عبيداللّه بن الحرّ الجعفي مخاطباً الإمامعليه‌السلام : «واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!».(٢)

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة انتشار هذا المرض، وتفطّنوا لأثره السيء على كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية الف حساب، نلاحظ ذلك مثلًا في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الأوّل: «فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلاتغرّوا الرجل من نفسه!».(٣)

وبعدُ، فلعلّ هذه الأسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكّل إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجيء الإمامعليه‌السلام .».(٤)

حدود مهمّة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

من هنا كانت مهمّة مسلمعليه‌السلام هي تعبئة وتنظيم وإعداد القوّة الموالية لأهل

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٥١.

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٩.

(٤) الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ٣٥٢ - ٣٥٥.

١١٨

البيتعليهم‌السلام والمعارضة للحكم الأمويّ في الكوفة، والوصول بها إلى المستوى الكافي للقيام بكلّ ما تقتضيه متطلبّات ومسؤوليات النهضة مع الإمام الحسينعليه‌السلام .

ولاشكّ أنّ الوصول بهذه الحركة والقوّة إلى ذلك المستوى المنشود يحتاج إلى وقت كافٍ تُسدُّ فيه كلّ الثغرات وتستكمل فيه كل النواقص الروحية والعملية، لأنّ الغاية لم تكن إسقاط الحكومة المحليّة في الكوفة فحسب، بل الغاية في الأصل هو إعداد الكوفة روحياً وعملياً- من جديد- كمركز لمواجهة ميدانية فاصلة مع جيش الشام.

وكان الأصل في مهمّة مسلم بن عقيلعليه‌السلام هو مواصلة تعبئة وتنظيم وإعداد الحركة الثورية حتى يأتي الإمام الحسينعليه‌السلام الى الكوفة، فيواصل من موقعه الذي لايرقى إليه موقع في القلوب قيادة النهضة على طريق تحقيق كامل أهدافها، والمتأمّل في ما كتبه مسلم بن عقيلعليه‌السلام من الكوفة إلى الإمامعليه‌السلام ، وفي أسلوبه وطريقته في التعامل مع الأحداث سواء في أيام النعمان أو ابن زياد يلحظ هذا الأصل واضحاً جليّاً لاريب فيه.

لقد كان مسلمعليه‌السلام يتحاشى المواجهة الميدانية الفاصلة مع الحكومة الأموية المحليّة في الكوفة ما كان ذلك باختياره، حتى يستكمل الإعداد والتحضير من كلّ جهة لمهمّته التي أرسله من أجلها الإمامعليه‌السلام الى الكوفة، وكانت الحكومة المحليّة في الكوفة من جهتها أيضاً تتحاشى المواجهة الميدانية الفاصلة مع التكتل الثوري لأنها لم تكن تملك القدرة على ذلك إلّا إذا جاءتها النجدة من الشام.

والمتأمّل في أسلوب وطريقة تعامل عبيداللّه بن زياد مع حركة الأحداث في الكوفة يلحظ بوضوح أنّ هذا الطاغية- على ضوء معرفته ومعرفة أبيه العريقة

١١٩

بالوضع السياسي والإجتماعي والنفسي في الكوفة، وبرجالها وقبائلها- كان يسعى بدهائه وخبثه وغدره إلى أن يخرج من أزمتها برغم صعوبتها منتصراً دون الحاجة إلى الإستنجاد بجيش الشام، طمعاً في تقوية موقعه الإداري ومركزه القيادي عند يزيد بن معاوية.

وهكذا كان، فقد لجأ إلى حيلة اختراق الحركة من داخلها بواسطة أحد جواسيسه المحترفين المهرة، ثمَّ تواطأ مع عمرو بن الحجاج الزبيدي وغيره من الوجهاء الخونة(١) لاعتقال هانيرضي‌الله‌عنه ثمّ لامتطاء موجة غضب مذحج الزاحفة نحو القصر، ثمّ لصرفها عنه وتفريق جموعها، ثمّ للوصول بعد ذلك الى المطلوب الأساس وهو اعتقال مسلمعليه‌السلام .

الإضطرار والقرار الإستثنائي

إذا كان اعتقال هانيرضي‌الله‌عنه في حسابات ابن زياد يعتبر الخطوة الناجحة الثانية- بعد نجاح خطوته الأولى في اختراق الحركة الثورية من داخلها- علىطريق سعيه لإنهاء الأزمة الكوفية يومذاك، فإنّ اعتقال هانيرضي‌الله‌عنه في حسابات مسلم بن عقيلعليه‌السلام كان قد مثّل منعطفاً حرجاً خطيراً اضطرّه إلى الخروج عن خطّ السير المرسوم في الأصل، وألجأه إلى قرار استثنائي من أجل

____________________

(١) لايبعد أن يكون لمحمد بن الأشعث الكندي وهو أحد رسله إلى هانيرضي‌الله‌عنه علم بأنه يريد اعتقاله وقتله: «وزعموا أنّ أسماء لم يعلم في أيّ شيء بعث إليه عبيداللّه، فأمّا محمّد فقد علم به!..» (تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٤)، كمالا يبعد أن يكون لكثير بن شهاب الحارثي المذحجي - المتفاني في نصرة ابن زياد - دور كبير في مساعدة عمرو بن الحجّاج على تفريق جموع مذحج عن القصر، لأنّ من المستبعد أن يغيب مثل هذا الوجيه الخائن عن مثل هذا الحدث وهو من وجهاء مذحج.

١٢٠