مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 125073
تحميل: 4981

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125073 / تحميل: 4981
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

معالجة الوضع الطاريء الجديد الذي فرضه ابن زياد على الحركة باعتقاله هانياًرضي‌الله‌عنه ، إذ لم يعد أمام مسلمعليه‌السلام عندها إلّا أحد اختيارين:

الأوّل: هو البقاء على أصل خطّ السير المرسوم فيمواصلة التعبئة والإعداد والتحضير، لكنّ هذه المواصلة لم تعد ممكنة بعد اعتقال هانيرضي‌الله‌عنه وذلك: لأنّ هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه هو أقوى وأمنع شخصية كوفية من الناحية القبلية- فضلًا عن وجاهته الإجتماعية والدينية وموقعه البارز في حركة الثورة- فإذا تمكّن ابن زياد من اعتقاله ولم يواجه بانتفاضة كبرى جادة مستميتة من قبيلته خاصة ومن حركة الثورة عامة، فإنّ الكوفة بعدها لن تنتفض لإنقاذ أيّ رجل آخر من قبضة ابن زياد، وعندها فما هي فائدة مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير!؟ ثمّ إنّ ابن زياد بعدها سيعتقل من يشاء من أشراف ووجهاء الكوفة بلا أدنى محذور، ومعنى هذا أنّ مسلماًعليه‌السلام لم يعد آمناً في الكوفة، ولاشك أنّه الرجل الثاني الذي سيُعتقل مباشرة بعد هانيرضي‌الله‌عنه الذي كان أقوى وأمنع حصن يمكن أن يحميه.

الثاني: هو التخلّي عن مواصلة الإعداد والتحضير، والتحرك قبل استكمال شرائط التحرك- تحت قهر الضرورة والإضطرار- لمواجهة حاسمة مع السلطة الأموية المحلّية في الكوفة، وهو الإختيار الوحيد الذي لابُدّ من النهوض للقيام به فوراً.

وهكذا كان ...

يحدّثنا عبداللّه بن حازم البكري(١) فيقول: «أنا واللّه رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هانيء لأنظر ما صار إليه أمره، فدخلت، فأخبرته الخبر، فأمرني أن

____________________

(١) أورد الطبري إسمه هكذا: «عبداللّه بن حازم الكبريّ، من الأزد، من بني كبير»، (تأريخ ‌الطبري، ٣: ٢٨٨).

١٢١

أُنادي في أصحابي وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: نادِ: يا منصور أَمِتْ!(١) فخرجت فناديتُ، وتبادر أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، فعقد لعبدالرحمن بن عزيز الكندي على ربيعة، وقال له: سِرْ أمامي. وقدّمه في الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: إنزل فأنت على الرجّالة. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وهمدان، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، ثمّ أقبل نحو القصر.».(٢)

وفي رواية الإرشاد عن لسان عبداللّه بن حازم قال: «أنا واللّه رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانيء فلما ضُرب وحُبس ركبتُ فرسي فكنت أوّل الداخلين الدار على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عبرتاه! ياثكلاه! فدخلتُ على مسلم فأخبرته الخبر، فأمرني أن أُنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله، فكانوا فيها أربعة آلاف رجل فناديت: يا منصور أمت! فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا عليه، فعقد مسلمرحمه‌الله لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا، فما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوق، ومازالوا يثوبون حتّى المساء ...».(٣)

ويُدهشنا في خبر يرويه الطبري- عن عبّاس الجدلي أحد قيادي جيش مسلمعليه‌السلام - أنّ عدد أصحاب مسلمعليه‌السلام كان قد تناقص في تحرّكهم من الدور إلى القصر!! غير أنّ الناس قد تداعوا إلى مسلمعليه‌السلام من جديد واجتمعوا إليه بعد أن

____________________

(١) كان هذا شعار المسلمين يوم بدر، وفيه تفاؤل بالنصر، وتحريض على إبادة الأعداء.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٦٦.

(٣) الإرشاد: ١٩٢؛ تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٦.

١٢٢

أقبل في المراديين وأحاط بالقصر: «.. عن عباس الجدلي قال: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلثمائة!! وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر، ثُمَّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، ومازالوا يتوبثّون حتى المساء ...».(١)

وكان عبيداللّه بن زياد بعد أن ضرب هانياًرضي‌الله‌عنه وحبسه، وبعد أن نجح في مؤامرته مع شريح القاضي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي في صرف قبيلة مذحج عن القصر وتفريق جموعها، قد بادر الى المسجد- «خشية أن يثب الناس به»(٢) - فصعد المنبر، ومعه أشراف الناس وشُرَطُه وحشمه، «فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ أيها الناس، فاعتصموا بطاعة اللّه وطاعة أئمتكم، ولاتختلفوا ولاتفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتُقتلوا وتُجفَوا وتُحرموا، إنّ أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر.».(٣)

وتواصل الرواية التأريخية الخبر فتقول:

«ثمّ ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قِبَل التمّارين يشتّدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل!

فدخل عبيد اللّه القصر مسرعاً، وأغلق أبوابه».(٤)

وفي رواية ابن أعثم: «فما أتمّ عبيداللّه بن زياد تلك الخطبة حتّى سمع الصيحة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: أيها الأمير، الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه!

____________________

(١) و (٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٦؛ وانظر: مقاتل الطالبين: ٦٦؛ والفتوح، ٥: ٨٥ - ٨٦.

(٤) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٦.

١٢٣

فنزل عبيد اللّه عن المنبر مسرعاً، وبادر فدخل القصر وأغلق الأبواب».(١)

وفي رواية أخرى: «فلما بلغ عبيداللّه إقباله تحرّز في القصر، وغلّق الأبواب، وأقبل مسلم حتى أحاط بالقصر، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوقة، ومازالوا يتوثّبون حتّى المساء، فضاق بعبيداللّه أمره.».(٢)

«وأقبل مسلم بن عقيلرحمه‌الله في وقته ذلك عليه، وبين يديه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون، وبين يديه الأعلام وشاكو السلاح، وهم في ذلك يشتمون عبيداللّه بن زياد ويلعنون أباه.».(٣)

«وأقام النّاس مع ابن عقيل يكبّرون ويتوثّبون حتى المساء وأمرهم شديد.».(٤)

«فضاق بعبيداللّه ذرعه، وكان كبر أمره أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه إلّا ثلاثون رجلًا من الشُرط، وعشرون رجلًا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه.».(٥)

ماذا صنع الأشراف الموالون لابن زياد!؟

فلما سمع وجهاء الكوفة وأشرافها الموالون لابن زياد- الطامعون في دنياه والخائفون من بطشته!- بما يجري عند القصر وحواليه بادروا الى التسلل والإلتحاق بابن زياد في القصر ليثبتوا لأنفسهم حضوراً عنده، تقول الرواية التأريخية: «وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٨٦.

(٢) مقاتل الطالبين: ٦٧.

(٣) الفتوح، ٥: ٨٦.

(٤) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

(٥) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٢٤

الروميين».(١)

وفي البدء كانت الحجارة والشتائم!

ولم يكن باستطاعة من كان في القصر مع ابن زياد من أشراف الكوفة الموالين له ومن الشُرَطِ والحشم والخدم أن يصنعوا شيئاً إلّا أن يُشرفوا على الناس من أعلى القصر لينظروا إليهم، ولم يكن جواب الجماهير الثائرة إلّا الحجارة والشتائم وسبّ ابن زياد وأبيه «وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم، فيتّقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم، وهم لايفترون على عبيداللّه وعلى أبيه.».(٢)

ثمّ كان المدَرِ والنُشّاب!

يقول الدينوري: «وتحصّن عبيداللّه بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من أشراف أهل الكوفة والأعوان والشُّرَط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدرِ(٣) والنُشّاب، ويمنعونهم من الدنوّ من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا!».(٤)

ثمّ بدأت حملات التخذيل ورايات الأمان الكاذب!

تقول رواية الطبري: «ودعا عبيداللّه كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج! فيسير بالكوفة ويخذّل الناس عن ابن

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) المدر: قطع الطين اليابس، وقيل: الطين العلك الذي لارمل فيه، واحدته مَدَرَة، والمدَريّة: رماح كانت تركّب فيها القرون المحدّدة مكان الأسنّة (لسان العرب، ٥: ١٦٢).

(٤) الأخبار الطوال: ٢٣٨.

١٢٥

عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي، وحجّار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس.».(١)

إعتقال المجاهدَين عبدالأعلى بن يزيد وعمارة بن صلخب!

ويواصل الطبري روايته قائلًا: «وخرج كثير بن شهاب(٢) يخذّل النّاس عن ابن عقيل، قال أبومخنف: فحدّثني ابن جناب الكلبي: أنّ كثيراً ألفى رجلًا من كلب يُقال له عبدالأعلى بن يزيد، قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان،(٣) فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره.

فقال لابن زياد: إنّما أردتك!

قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك!؟ فأمر به فحبُس.

وخرج محمّد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاء عمارة بن صلخب الأزدي، وهو يريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد، فحبسه.».(٤)

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

(٢) خرج كثير بن شهاب الحارثٍّ المذحجي في مجموعة كبيرة ممّن أطاعه من مذحج كما أمره ابن زياد، والظاهر أنه كان يقطع بعض ضواحي الكوفة عن مركزها كما يُشعر بذلك متن الرواية، وكذلك فعل محمّد بن الأشعث الكندي.

(٣) المراد: في حيّ بني فتيان.

(٤) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٢٦

مسلمعليه‌السلام يبعث بقوّة عسكرية تدحر ابن الأشعث!

ويبدو أنّ مسلماًعليه‌السلام علم أنّ مجموعات ابن زياد التي أخذت تخذّل الناس عنه، بقيادة كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقعقاع، وشمر، وشبث، وحجّار، أخذت تقطع عليه المدد من المجاهدين المقبلين إليه من ضواحي الكوفة وتعتقلهم، فبعث بقوّة عسكرية من المسجد بقيادة المجاهد عبدالرحمن بن شريح الشبامي ليدحر ابن الأشعث ويردّه الى القصر، تقول رواية الطبري: «فبعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبدالرحمن بن شريح الشبامي، فمّا رأى محمّد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحّى- وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمّد بن الأشعث: قد حُلْتُ على ابن عقيل من العرار- فتأخّر عن موقفه فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قِبل دار الروميين».(١)

والظاهر أنّ قوات مسلمعليه‌السلام لم تدحر مجموعة محمد بن الأشعث فحسب بل دحرت كلّ المجاميع التي أخرجها ابن زياد لرفع رايات الأمان ولتخذيل الناس واعتقال من يمكن اعتقاله من الثوّار، والدليل على هذا أنّ قادة هذه المجاميع مع مجاميعهم عادوا الى القصر مرّة أخرى، والأظهر أنهم عادوا منهزمين مقهورين، وعبيداللّه بن زياد أكثر منهم انكساراً وخوفاً، تقول رواية الطبري: «فلما اجتمع عند عبيداللّه كثير بن شهاب، ومحمّد، والقعقاع، فيمن اطاعهم من قومهم، فقال له كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد- أصلح اللّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شُرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم! فأبى عبيداللّه، وعقد لشبث بن ربعي لواءً فأخرجه!».(٢)

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٢٧

فكان قتال وقتال!

ثُمَّ لايذكر التأريخ ماذا صنع لواء شبث بن ربعي! لكنّ بعض المتون التأريخية تشير إلى وقوع قتال شديد، فرواية ابن أعثم الكوفي تقول: «وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديداً، وعبيداللّه بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة النّاس!».(١)

وأمّا ابن نما (ره) فيروي خبراً خاصاً في محتواه، حيث ذكر أنّ أكثر الأشراف الذين كانوا قد بايعوا مسلماًعليه‌السلام قد نقضوا البيعة وتخلّوا عنه قبل أن يتوجّه إلى محاربة عبيداللّه بن زياد، ويُستفاد من روايته أنّ القتال الشديد بين الطرفين قد استمرّ إلى الليل!، يقول (ره): «ولما بلغ مسلم بن عقيل خبره(٢) خرج بجماعة ممّن بايعه إلى حرب عبيداللّه بعد أن رأى أكثر من بايعه من الأشراف نقضوا البيعة، وهم مع عبيداللّه، فتحصّن بدار الإمارة، واقتتلوا قتالًا شديداً إلى أن جاء الليل.».(٣)

لماذا لم يقتحم الثوّار القصر!؟

لعلّ هذا التساول قد انقدح في ذهن كلّ من فكّر وتأمّل في قصة حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وهو سؤالٌ وجيه، يبقى السائل عنده في حيرة واستغراب مالم يُلم بكل المتون التأريخية الواردة في قصة تلكم الأيّام، ويُحيط بشوارد الدلالات الظاهرة والخفيّة فيها، أو يتلقّى الإجابة المقنعة عن ذي علم قد أحاط بها.

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٨٦ - ٨٧.

(٢) أي خبر ضرب هانيرضي‌الله‌عنه وحبسه من قبل ابن زياد.

(٣) مثير الأحزان: ٣٤؛ كما ذكر السيد ابن طاووس (ره) في (اللهوف: ٢٢) هذا القتال حيث قال: «واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم».

١٢٨

ومن مجموع تلكم المتون يمكننا أن نذكّر بمجموعة من الملاحظات التي تتضح وتتحدّد بمعرفتها واستذكارها الإجابة عن هذا التساؤل:

١)- ذكرنا من قبلُ أن قرار المواجهة مع الحكومة المحليّة في الكوفة كان قراراً إستثنائياً فرضته الضرورة التي اضطرّت مسلماًعليه‌السلام إلى الخروج عن أصل خط السير في إتمام إعداد وتحضير جموع المبايعين روحياً وعملياً لتحمّل أعباء النهضة مع الإمامعليه‌السلام ، والمدّة التي قضاها مسلمعليه‌السلام منذ دخوله الكوفة حتى محاصرته القصر وهي حوالي شهرين تعتبر قصيرة إزاء المدّة المطلوبة لإتمام الإعداد والتحضير.

إذن فقد حاصر مسلمعليه‌السلام القصر بجموع أكثريتها لم تستكمل الإعداد الكافي، فهي من حيث الناحية الروحيّة لم يزل الشلل النفسي والوهن الروحي يحبّب لهم الدنيّا والعافية والسلامة وكراهية الموت- إنهم يتمنّون لو انتصر مسلم أو الإمامعليهما‌السلام ولكن بلا مؤنة على أنفسهم في ذلك!-، ولم يزل إسم (جيش الشام) يثير فيهم أقصى درجات الرعب والإحساس بالهوان والمذلّة!، ومن الناحية العملية فإنّ ارتباطهم القبلي لم يزل- عند الأكثرية منهم- أقوى من الإرتباط الديني، وهذا أخطر ما يمكن أن يضرَّ بالحركة الدينية الثورية آنذاك، وربّما إلى اليوم في بعض بلدان العالم الإسلامي! هذا فضلًا عن عدم استكمال تحضير العدّة الكافية من أسلحة وأموال، وتدريب ووسائل وأساليب الإرتباط والإمداد وما إلى ذلك!

يرى المتتبع ماقلناه في هذه النقطة واضحاً جليّاً في دلالات بعض المتون التأريخية، فهذا عبّاس بن جعدة الجدلي وهو أحد قادة الألويّة في جيش مسلمعليه‌السلام يقول: «خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن

١٢٩

ثلثمائة!»،(١) وهذا ابن نما (ره) يروي أنّ مسلماًعليه‌السلام أحسَّ بالخذلان قبل مهاجمته القصر حيث «رأى أكثر من بايعه من الأشراف نقضوا البيعة وهم مع عبيداللّه!»،(٢) وخذ مثلًا على تفضيل الإنتماء القبلي على الرابطة الدينية رواية الطبري أنّ ابن زياد دعا كثير بن شهاب «فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ..»،(٣) وفيهذا النصّ بالذات إشعار كافٍ أيضاً بالحالة المعنوية المتدنيّة عند الناس يومذاك، والتي كان ابن زياد لعنه اللّه يعرفها جيداً فيهم وفي وجهائهم!

٢)- كان لتفرّق قبيلة مذحج وإنصرافها عن القصر، وبقاء هانيرضي‌الله‌عنه رهن الإعتقال وخطر القتل- بعد أن اجتمعت مذحج قاطبة بكلّ فروعها لاستنقاذه أو للثأر له- أثرٌ سيء كبير فيما بعد على المواجهة التي قام بها مسلمعليه‌السلام لاستنقاذ هانيرضي‌الله‌عنه ، إذ ألقت هذه النهاية الخائبة في روع النّاس- وهذا ما كان يهدف إليه أيضاً ابن زياد وعمرو بن الحجّاج وأمثالهم- أنّه إذا كانت مذحج قبيلة هانيرضي‌الله‌عنه نفسه وهي أكبر وأقوى قبيلة في الكوفة لم تستطع إنقاذه، أو رضيت ببقائه معتقلًا عند ابن زياد، فما بال مسلمعليه‌السلام يصرُّ على إطلاق سراحه!؟ وهل يقوى بمن معه من هذا الخليط المنوّع من قبائل شتّى أن يحقّق مالم تحققه مذحج نفسها!؟

لقد كان هذا سبباً من اسباب انبعاث الشك في قلوب ضعاف الإيمان من أهل

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٢٧٥.

(٢) مثير الأحزان: ٣٤.

(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٣٠

الكوفة- وما أكثرهم!- حول قدرة مسلمعليه‌السلام على تحقيق مايريد، ممّا أدّى إلى تراخي الهمّة والعزم فيهم وتفرّقهم عنه.

وإذا تذكّرنا أنّ حادثة اجتماع مذحج وإحاطتها بالقصر ثمّ تفرّقها وإنصرافها عنه قد تزامنت مع قيام مسلمعليه‌السلام وإقباله بمن معه لمحاصرة القصر- مع تفاوت زمني قليل جدّاً- علمنا أنه لم يكن هناك متسع من الوقت أمام قيادة الثورة لمعالجة هذا الأثر النفسي السيء الذي سببته النهاية الخائبة لاجتماع مذحج ثمَّ انصرافها.

ولعلّ هذا الأثر النفسيّ السّيء هو الذي يفسّر لنا تناقص عدد جيش مسلمعليه‌السلام في بداية الأمر كما حدّثنا بذلك القائد عبّاس الجدلي: «خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلثمائة!».

٣)- الظاهر مما توحيه بعض المتون التأرخية أنّ مسلماًعليه‌السلام حاصر القصر بعدد من مبايعيه (أربعة آلاف) يشكّل أقل من ثلث العدد الشهير لمجموع مبايعيه (ثمانية عشر ألفاً)، ويبدو أنّ بقيّة هذا المجموع- الذين لم يشتركوا في بدء محاصرة القصر- كانوا مبثوثين في داخل مدينة الكوفة وفي أطرافها وضواحيها، والظاهر أنّ مسلماًعليه‌السلام قد أرسل إليهم من يخبرهم بقراره الإستثنائي ويستنفرهم للإلتحاق به، ويبدو أنّ من كان منهم في داخل الكوفة قد استطاع الإلتحاق بمسلمعليه‌السلام قبل المساء، بدليل قول القائد عبّاس الجدلي أيضاً: «.. ثمّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوق ومازالوا يثوبون حتّى المساء ..»،(١) كما أرسل مسلمعليه‌السلام إلى قواته الموجودة في أطراف الكوفة، لكنها في الظاهر لم تستطع الوصول الى داخل

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٣١

الكوفة إلّا بعد تفرّق النّاس وانتهاء الحصار وانقلاب الوضع، مثل اللواء الذي جاء به المختار، واللواء الذي جاء به عبداللّه بن الحارث بن نوفل، حيث وصلا إلى داخل الكوفة بعد فوات الأمر، فاضطّر المختار إلى أن يدّعي أنه جاء لحماية عمرو بن حُريث! بعد أن وضح لهما قتل مسلمعليه‌السلام وهانيرضي‌الله‌عنه ، ففي رواية تأريخية:

«وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تُدعى (خطوانيّة) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء، ويحمل عبداللّه بن الحارث راية حمراء، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً! ووضح لهما قتل مسلمعليه‌السلام وهانيرضي‌الله‌عنه ، وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حُريث ففعلا، وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما ابن عقيل، فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسينعليه‌السلام .».(١)

من هنا، يُفهم أنّ مسلماًعليه‌السلام بقي مدّة طويلة من ذلك النهار يستجمع قوّاته وينتظر وصول مالم يصل منها للقيام بعمل عسكري حاسم يؤدي إلى فتح القصر أمام الثّوار والسيطرة عليه وعلى من فيه.

٤)- لايشكُّ المتأمّل العارف بأخلاقية أهل البيتعليهم‌السلام السامية وأخلاقية من تربّى في أحضانهم وكنفهم، والمدرك للضرورات السياسية والإجتماعيّة، أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام كان يحرص كلّ الحرص على سلامة هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام ، للمقرّم: ١٥٧ - ١٥٨؛ وفي رواية للطبري «أنّ المختار بن أبي عبيد، وعبداللّه بن الحارث بن نوفل، كانا قد خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضرأ، وخرج عبداللّه براية حمراء وعليه ثياب حمر! وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنّما خرجت لامنع عمراً!»، (تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤).

١٣٢

وعلى انقاذه وإطلاق سراحه محفوظ العزّة والجاه والكرامة، وبرغم أنف ابن زياد ومن شايعه من وجهاء وأشراف الكوفة.

وذلك: لإيمان هانيرضي‌الله‌عنه ومظلوميّته وأهميّته، فنصرته واستنقاذه وإعزازه أمرٌ واجب مع القدرة على ذلك، وتتجلّى أهميّة هانيرضي‌الله‌عنه - فضلًا عن كونه قياديّاً بارزاً جداً في التكتل الثوري- في كونه القطب الذي يمكن أن تجتمع عند كلمته قبيلة مذحج قاطبة، ففي إطلاق سراحه عزيزاً منتصراً على يد قوّات الثورة- برغم ابن زياد- تعزيز وتقوية لموقعه الرفيع في أهل الكوفة عامة، وفي قبيلة مذحج خاصة التي قد تستشعر فضل الثورة عليها بإطلاق سراح زعيمها معزّزاً مُكرّماً، الأمر الذي قد يدفع جميع مذحج بعد ذلك إلى إطاعة هانيرضي‌الله‌عنه في مناصرة الثورة والإنضمام إليها إلى آخر الأمر، ولايخفى ما في جميع ذلك من إذلالٍ للسلطة الأمويّة وكسر لشوكتها وإضعافها، هذا على فرض أنّ المواجهة بين الثوّار والسلطة كانت ستنتهي عند إطلاق سراح هانيرضي‌الله‌عنه .

من هنا، يمكن للمتأمّل المتتبع أن يجزم بأنّ الثوّار كانوا قد عزموا على اقتحام القصر، ووضعوا لذلك الخطّة التي تضمن سلامة هانيرضي‌الله‌عنه أيضاً.

٥)- هناك إشارات تأريخية تفيد أنّ عبيداللّه كانت قد تزايدت قواته القتالية طيلة نهار ذلك اليوم- يوم حصار القصر- حتّى صار بإمكانها أن تؤخّر عملية اقتحام الثوار للقصر حتّى المساء.

نعم، لعلّ من الصحيح ما ورد أنه لم يكن معه في البدء لما أقبلت قوات مسلمعليه‌السلام نحو القصر غير ثلاثين رجلًا من الشُرَط وعشرين رجلًا من اشراف الناس وأهل بيته ومواليه،(١) لكنّ الأشراف والوجهاء الذين كان ميلهممعابنزياد أو

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٣٣

كانوا يخشون أن تصيبهم دائرته تسللّوا إلى داخل القصر مع مواليهم ومن أطاعهم من قبائلهم بخفاء وتدريج: «وأقبل أشراف النّاس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ..»،(١) حتى بلغ عددهم على مافي رواية الدينوري: «وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشّاب، ويمنعونهم من الدنّو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا»،(٢) ثمّ ازداد عددهم حتّى عبّر عنه كثير بن شهاب ب (الكثير) حين قال لابن زياد: «أصلح اللّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف النّاس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك فاخرج بنا إليهم!».(٣)

إذن فإنّ قوّة ابن زياد الحربية تزايدت حتّى صار بمقدورها مقاومة الثوّار ومنعهم من الدنوّ من القصر وتأخير اقتحامه حتّى حلول المساء.

هذا فضلًا عن أنّ «من المعلوم أنّ إخضاع القصر بمن فيه لايتمّ خلال ساعة من الحصار، كما أنّ وقت النهار يكاد ينتهي، والهجوم على القصر الضخم البناء الذي أوصد ابن زياد أبوابه الكبيرة بشكل محكم لايسفر عن نتيجة نافعة، إنّه كالهجوم على الصخر- كان القصر مشيّداً بمتانة بالغة، تحكي ذلك أنقاضه الموجودة لحدّ الآن، رغم مرور ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً على تشييده، ويكفي أن نتصوّر كون جدار القصر من القوة والسعة بحيث تتمكن الشاحنات من السير فوقه- فلابُدَّ إذن والحالة هذه من المحاصرة المستمرة التي قد تطول أيّاماً

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٣٨.

(٣) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٣٤

حتّى يستسلم من فيه مثلًا، أو يسلّموا هانيء على أقلّ تقدير.».(١)

٦)- لايتردد المتأمّل في المتون التاريخية التي تتحدّث عن نشوب القتال بين الطرفين في القطع بأنّ الثوّار بقيادة مسلمعليه‌السلام كانوا قد نفّذوا خطّتهم لاقتحام القصر، وأنّهم قاتلوا قتالًا شديداً لتحقيق النصر، كما أنّ قوّات ابن زياد قد دافعت عن القصر دفاعاً مستميتاً حتّى المساء، ومن هذه المتون التي تشير إلى ذلك قول ابن أعثم الكوفي: «وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديداً ..»،(٢) وقول ابن طاووس (ره): «وأقتتل أصحابه وأصحاب مسلم»،(٣) وقول ابن نما (ره): «واقتتلوا قتالًا شديداً إلى أن جاء الليل.».(٤)

وأقبل المساء يحمل النهاية الموسفة!

يقول الطبري: «.. وأقام النّاس مع ابن عقيل يُكبّرون ويثوبون حتّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيداللّه إلى الأشراف فجمعهم إليه ثمّ قال: أشرفوا على النّاس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوِّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، واعلموهم فصول الجنود من الشأم إليهم»،(٥) وفي رواية الدينوري:

«لِيُشرفْ كلُّ رجل منكم في ناحية من السور فخوِّفوا القوم! فأشرف كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: يا أهل الكوفة! اتقوا اللّه ولاتستعجلوا

____________________

(١) مبعوث الحسينعليه‌السلام : ١٨١.

(٢) الفتوح، ٥: ٨٦.

(٣) اللهوف: ٢٢.

(٤) مثير الأحزان: ٣٤.

(٥) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٣٥

الفتنة! ولاتشقّوا عصا هذه الأمّة! ولاتوردوا على أنفسكم خيول الشام! فقد ذقتموهم، وجرّبتم شوكتهم!.

فلما سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور!!».(١)

ويواصل الطبري رواية النهاية المؤسفة عن لسان عبداللّه بن حازم: «قال:

أشرف علينا الأشراف، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس حتّى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيّها النّاس، إلحقوا بأهاليكم ولاتعجلوا الشرّ، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت! وقد أعطى اللّه الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لايبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها!

وتكلّم الأشراف بنحوٍ من كلام هذا!

فلما سمع مقالتهم النّاس أخذوا يتفرّقون، وأخذوا ينصرفون!».(٢)

ثمّ كان الإنهيار من الداخل!

يقول الدينوري: «وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي إبنه وأخاه وابن عمّه فيقول: انصرف فإنّ الناس يكفونك! وتجيء المرأة الى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلّق به حتّى يرجع!».(٣)

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٣٩.

(٢) تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٧؛ وانظر: الفتوح، ٥: ٨٧.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٣٩.

١٣٦

ويروي الطبري: «أنّ المرأة كانت تأتي إبنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك! ويجيء الرجل إلى إبنه أو أخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر!؟ إنصرف! فيذهب به، فما زالوا يتفرقون ويتصدّعون ..».(١)

وقال ابن أعثم: «فلما سمع النّاس ذلك تفرّقوا وتحادوا عن مسلم بن عقيلرحمه‌الله ، ويقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام!؟، ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يُصلح اللّه ذات بينهم ثمّ جعل القوم يتسلّلون والنهار يمضي ..».(٢)

علّة الإنهيار المذهل والتداعي السريع!

هذا الإنهيار والتداعي السريع الذي هدم كيان التكتل الكبير الذي كان قد التفّ حول مسلم بن عقيلعليه‌السلام كاشف تماماً عن أنّ جماهير هذا التكتل لم تستكمل الإعداد الروحي لمثل هذه المواجهة ولما بعدها من مسؤوليات وتبعات، الإعداد الروحي الذي يستنقذها من مرض الوهن: وهو حبّ الدنيا وكراهية الموت! وحبّ السلامة والعافية! والرضا بالذلّة، والشلل النفسي الذي يتجلّى في السكوت عن الباطل! بل وفي إطاعة الباطل مع المعرفة بأنه باطل ومقارعة الحقّ مع المعرفة بأنه الحقّ!

هذان المرضان اللذان تسرّبا إلى شخصية الإنسان المسلم بعد السقيفة واشتدّا في حياة الأمّة المسلمة بعد كلّ منعطف إنحرافي تلا السقيفة، واشتدّ هذان المرضان بدرجة كبيرة في الشخصية الكوفية خاصة واستحكما فيها في فترة ما

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٤: ٢٧٧.

(٢) الفتوح، ٥: ٨٧.

١٣٧

بعد صفّين، وخصوصاً في الأيام التي صار فيها معاوية بلامنازع ينازعه،(١) حتّى صار لكلمة (خيل الشام) أو (جند الشام) أو (جيش الشام) يومذاك أثر رهيب في روع جُلِّ أهل الكوفة خاصة، لما ذاقوه من ويلات ومرارات على يد ذلك الجيش، ولما عانوه في عهد معاوية من سياسات تعمّدت قهرهم خاصة وإذلالهم في جميع جوانب حياتهم، وكانت المواجهة مع (جيش الشام) في أذهان وقلوب جلّ الكوفيين تعني يومذاك المواجهة مع عدوّ لايرقب فيهم إلّا ولاذمّة، ولايتورّع عن انتهاك أعراضهم وحرماتهم وقتل العزّل والأبرياء منهم، وقطع أرزاقهم ومنع العطاء عنهم.

وهذا لايعني أنّ الكوفة قد عُدمت الأخيار الأبرار من أهاليها، بل إنّ في الكوفة، من رجالات المبدأ والعقيدة والجهاد جماعة مثّلوا المستوى الرفيع في الشخصية الإسلامية التي جسّدت النهج القرآنيّ في سيرتها وسلوكها.

لكنّ هؤلاء كانوا القلّة العزيزة النادرة في مجموع أهل الكوفة، ويكفي دليلًا على ذلك قياس مجموع من نصر الإمام الحسينعليه‌السلام منهم إلى مجموع من نكل عنه ونقض بيعته وأطاع أعداءه في قتاله وقتله!

فلو كان التكتل الكبير الذي بايع مسلماًعليه‌السلام قد نال حظّاً وافراً من الإعداد التربوي والإصلاح الروحي لما تفرّق هذا التفرّق السريع المذهل عن مسلمعليه‌السلام ، ولكان فيه بقيّة وافية كافية لإنجاح خطّة مسلمعليه‌السلام وقهر ابن زياد، من الرجال القرآنيين الذين لم يُضعف عزائمهم الوهن، ولم يعتورهم الشلل النفسي، الذين أحبّوا الموت والقتل في اللّه من أجل لقاء اللّه، وكرهوا الدنيا بلا عزّة وما أثّاقلوا

____________________

(١) راجع تفاصيل هذه الحقيقة في الجزء الأوّل من هذه الدراسة ؛ المقالة الأولى (حركة النفاق.. قراءة في الهوية والنتائج): ص ٣٦ - ١٣٧.

١٣٨

إلى الأرض، فكان هيهات منهم الذلّة:( الذين قال لهم النّاس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم ) .(١)

وأطبق الليل مرّة أخرى على الكوفة ومسلمعليه‌السلام وحده!

يقول ابن أعثم الكوفي: «فما غابت الشمس حتى بقي مسلم بن عقيل في عشرة أفراس من أصحابه، لا أقلّ ولا أكثر! واختلط الظلام، فدخل مسلم بن عقيل المسجد الأعظم ليصيلّي المغرب، وتفرّق عنه العشرة!

فلما رأى ذلك استوى على فرسه، ومضى في أزقّة الكوفة، وقد أُثخن بالجراحات، حتى صار إلى دار امرأة يُقال لها طوعة ..».(٢)

وقال المفيد (ره): «.. أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب ومامعه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد، فلما رأى أنه قد أمسى ومامعه إلّا أولئك النفر خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه!، فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً يدلّه على الطريق! ولايدلّه على منزله! ولايواسيه بنفسه إنْ عرض له عدوٌّ! فمضى على وجهه متلدداً في أزقّة الكوفة لايدري أين يذهب! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ..».(٣)

وقال الدينوري: «فصلّى مسلم العشاء في المسجد، ومامعه إلّا زهاء ثلاثين رجلًا، فلما رأى ذلك مضى منصرفاً ماشياً، ومشوا معه، فأخذ نحو كندة، فلما

____________________

(١) سورة آل عمران، ١٧٣، ١٧٤.

(٢) الفتوح، ٥: ٨٧ - ٨٨.

(٣) الإرشاد: ١٩٤؛ وانظر: تأريخ الطبري، ٣: ٢٨٨؛ ومقاتل الطالبين: ٦٧.

١٣٩

مضى قليلًا التفت فلم يرَ منهم أحداً، ولم يُصب إنساناً يدلُّه على الطريق، فمضى هائماً على وجهه في ظلمة الليل حتى دخل على كندة، فإذا امرأة قائمة على باب دارها تنتظر ابنها، وكانت ممّن خفَّ مع مسلم! ..».(١)

إشارة وتأمّل

هذه أهمّ المتون التأريخية التي روت لنا كيف أمسى مسلم بن عقيل ومامعه إلّا قليل ممّن كان معه- عشرة فرسان على رواية الفتوح، وثلاثون رجلًا ثمّ قلّوا إلى عشرة على رواية المفيد والطبري- ثمّ كيف مضى وحده حتّى وقف على باب المرأة الصالحة طوعة.

وقد أشارت رواية الفتوح إلى أنّ مسلماًعليه‌السلام كان قد أُثخن بالجراحات، الأمر الذي يدلُّ على أنهعليه‌السلام خاض المعارك التي دارت حول القصر بنفسه، ولم يكن قائداً موجِّهاً مرشداً فحسب، وهذا فضلًا عن كونه دليلًا على شجاعتهعليه‌السلام ، فهو دليل أيضاً على نشوب القتال حول القصر، وعلى أنّ الثوّار كانوا قد حاولوا اقتحامه بالفعل!

لكنَّ الذي يُثير التأمّل في هذه المتون هو طريقتها في عرض كيفية تفرّق هؤلاء الرجال القلّة الذين كانوا آخر الناس معه! ففي نصّ الفتوح: «وتفرّق عنه العشرة، فلما رأى ذلك استوى على فرسه ومضى ..»، وفي نصّ المفيد والطبري:

«فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه، فالتفت فإذا هو لايُحسّ أحداً ..».

هذه الطريقة في عرض الحدث تُلقي في روع المطالع أنّ هؤلاء ليس بينهم

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٣٩.

١٤٠