مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 124952
تحميل: 4970

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124952 / تحميل: 4970
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٦)- الخُزَيْميَّةُ

«بضم أوّله وفتح ثانيه، تصغير خزيمة، منسوبة إلى خزيمة بن خازم فيما أحسب، وهو منزل من منازل الحجّ بعد الثعلبية من الكوفة وقبل الأجفر، وقال قوم: بينه وبين الثعلبية إثنان وثلاثون ميلًا، وقيل: إنه الحزيمية بالحاء المهملة.».(١)

وقيل: «الخزيميّة: نسبة الى خزيمة بن حازم، وهي قبل زرود»(٢) .

قال ابن أعثم الكوفي: «وسار الحسين حتى نزل الخزيميّة، وأقام بها يوماً وليلة، فلما أصبح أقبلت إليه أخته زينب بنت عليّ فقالت: يا أخي ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة!؟

فقال الحسينعليه‌السلام : وما ذاك؟

فقالت: خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً بهتف وهو يقول:

أَلا ياعَيْنُ فاحتفلي بجهدِ

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على قومٍ تسوقهمُ المنايا

بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ

فقال لها الحسينعليه‌السلام : يا أُختاه! المقضيُّ هو كائن!».(٣)

____________________

(١) معجم البلدان، ٢: ٣٧٠.

(٢) خطب الإمام الحسينعليه‌السلام ، ١: ١٣٢.

(٣) الفتوح، ٥: ١٢٢؛ وعنه الخوارزمي في المقتل، ١: ٣٢٣ - ٣٢٤ وفيه: «يا أختاه كلُّ ما قُضي فهو كائن».

٢٠١

٧)- زَرُود

«الزَرْدُ: البَلْعُ، ولعلّها سُميّت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة وتسمّى زرود العتيقة، وهي دون الخزيميّة بميل، وفي زرود بركة وقصر وحوض!».(١)

إنضمام زهير بن القينرضي‌الله‌عنه إلى الركب الحسيني!

قال الدينوري: «ثُمَّ سار حتّى انتهى إلى زَرود، فنظر إلى فسطاط مضروب، فسأل عنه، فقيل له: هو لزهير بن القين. وكان حاجّاً أقبل من مكّة يريد الكوفة، فأرسل إليه الحسين: أَنْ الْقَني أُكَلِّمْكَ.

فأبى أن يلقاهُ! وكانت مع زهير زوجته، فقالت له: سبحان اللّه! يبعث إليك ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تجيبه!؟

فقام يمشي إلى الحسينعليه‌السلام ، فلم يلبثْ أن انصرف وقد أشرق وجهه! فأمر بفسطاطه فقُلِعَ، وضُرب إلى لزِق فسطاط الحسين!

ثُمّ قال لامرأته: أنتِ طالق! فتقدّمي مع أخيكِ حتّى تصلي إلى منزلك، فإنّي قد وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسينعليه‌السلام !

ثم قال لمن كان معه من أصحابه: من أحبَّ منكم الشهادة فَلْيُقِمْ، ومن كرهها فليتقدّم.

فلم يُقم معه منهم أحد! وخرجوا مع المرأة وأخيها حتّى لحقوا بالكوفة».(٢)

وروى الطبري في تأريخه عن رجل من بني فزارة قال: «كُنّا مع زهير بن القين

____________________

(١) معجم البلدان، ٣: ١٣٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٤٦ - ٢٤٧.

٢٠٢

البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل! فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير! حتّى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذا أقبل رسول الحسين حتّى سلّم ثُمَّ دخل، فقال: يا زهير بن القين، إنّ أبا عبداللّه الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيه.

قال فطرح كلُّ إنسان ما في يده حتّى كأننا على رؤوسنا الطير!».(١)

ثم يواصل الطبري قصة هذا الحدث قائلًا: «قال أبومخنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو إمرأة زهير بن القين قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول اللّه ثمّ لاتأتيه!؟ سبحان اللّه، لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ!

قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه! قالت:

فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقُدِّم وحُمل الى الحسين! ثُمّ قال لامرأته: أنت طالقٌ، إلحقي بأهلك فإنّي لا أُحبُّ أن يُصيبك من سببي إلّا خير!

ثمّ قال لأصحابه: من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنّه آخر العهد!

إنّي سأحدّثكم حديثاً: غزونا بَلَنْجَر(٢) ففتح اللّه علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهليّ:(٣) أفرحتم بما فتح اللّه عليكم وأصبتم من المغانم؟

فقلنا: نعم.

فقال لنا: إذا أدركتم شباب(٤) آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٣.

(٢) مدينة ببلاد الخزر.. قالوا: فتحها عبدالرحمن بن ربيعة، وقال البلاذري: سلامان بن ربيعة الباهلي (راجع: معجم البلدان، ١: ٤٨٩).

(٣) و (٤) في الإرشاد: سلمان الفارسي بدلاً من سلمان الباهلي، وسيّد شباب آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلاً =

٢٠٣

أصبتم من الغنائم. فأمّا أنا فإنّي استودعكم اللّه! ..».(١)

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره) أنّ زهير بن القينرضي‌الله‌عنه كان قد قال لزوجه فيما قال لها: «وقد عزمتُ على صحبة الحسينعليه‌السلام لأفديه بنفسي، وأقيه بروحي. ثمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: كان اللّه عوناً ومعيناً، خار اللّه لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسينعليه‌السلام ! ...».(٢)

زهير بن القينرضي‌الله‌عنه

هو زهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي، كان رجلًا شريفاً في قومه، نازلًا فيهم بالكوفة، شجاعاً، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة حجّ سنة ستين في أهله، ثمّ عاد فوافق الحسينعليه‌السلام في الطريق(٣) فلحق به ولازمه حتّى استشهد بين يديه في كربلاء.

____________________

= من شباب آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وينبغي التنبيه أنّ الشيخ المفيد (ره) - على ظنّ قويّ - ينقل هذه الرواية عن تأريخ الطبري نفسه، للمطابقة التي تكاد تكون تامة بين النصّين، فلعلّ ما نراه في نسخ تأريخ الطبري الحديثة من تبديل سلمان الفارسي بسلمان الباهلي، وشباب مكان سيّد شباب من التحريفات المتعمّدة التي تجري على قدم وساق في السنين الأخيرة خاصة!؛ وفي مثير الأحزان: ٤٧ «فقال لنا سلمان رضي الله عنه!» وهي ظاهرة في أن المقصود هو سلمان الفارسي، كما نصّ عليه الفتّال النيسابوري أيضاً في روضة الواعظين: ١٥٣، والخوارزمي في المقتل، ١: ٣٢٣ عن ابن أعثم الكوفي، وفيه: «إني كنت غزوت بلنجر مع سلمان الفارسي..»، ونصّ عليه ايضاً ابن الأثير في الكامل، ٣: ٢٧٧ وفيه أيضاً «إذا أدركتم سيّد شباب أهل محمّد».

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٣؛ والإرشاد: ٢٠٣.

(٢) اللهوف: ٣١.

(٣) راجع: إبصار العين: ١٦١.

٢٠٤

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية: «السلام على زهير بن القين البجلي القائل للحسينعليه‌السلام وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه، لا يكون ذلك أبداً! أأترك ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا!؟ لا أراني اللّه ذلك اليوم.».(١)

وكانت لزهيررضي‌الله‌عنه مواقف جليلة فذّة مع الإمامعليه‌السلام منذ أن انضمّ إلى ركبه حتى استشهد بين يديه، يذكرها التأريخ وتقرأها الأجيال فتخشع إكباراً وتعظيماً لهذه الشخصية الإسلامية السامية، ومن هذه المواقف:

لما بلغ الركب الحسينيّ (ذا حسم) خطب الإمامعليه‌السلام أصحابه خطبته التي يقول فيها: «أمّا بعدُ، فإنّه نزل بنا من الأمر ما قد ترون ..» إلخ، قام زهير وقال لأصحابه: أتتكلّمون أم أتكلّم؟

قالوا: بل تكلّم.

فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية، وكُنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها! فدعا له الحسين وقال له خيراً.».(٢)

وروى أبومخنف: عن الضحّاك بن عبداللّه المشرقي قال: لما كانت الليلة العاشرة خطب الحسين أصحابه وأهل بيته فقال في كلامه: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فإنّ القوم إنّما يطلبوني»، فأجابه العبّاسعليه‌السلام وبقيّة أهله ثمّ أجابه مسلم بن عوسجة وأجابه سعيد ثم قام زهير فقال: واللّه لوددتُ أنّي قُتلت ثُمَّ نُشرتُ، ثمَّ قتلتُ حتّى أُقتل

____________________

(١) معجم رجال الحديث، ٧: ٢٩٥، رقم ٤٧٥٠.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٧؛ وإبصار العين: ١٦٢.

٢٠٥

كذا ألف قتلة! وأنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!(١)

وروى أبو مخنف عن عليّ بن حنظلة بن أسعد الشبامي، عن كثير بن عبداللّه الشعبي البجلي قال: لما زحفنا قِبَل الحسينعليه‌السلام خرج إلينا زهير بن القين على فرسٍ له ذَنوب، وهو شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب اللّه نذارِ! إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة وعلى دين واحدٍ وملّة واحدة مالم يقع بيننا وبينكم السيف! فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وكنتم أمّة! إنّ اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون! إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد، فإنّكم لاتُدركون منهما إلّا السوء عُمَر سلطانهما كلّه، إنهما يسمّلان أعينكم، ويقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل! ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حُجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه!

قال: فسبّوه وأثنوا على عبيداللّه وأبيه! وقالوا: واللّه لانبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه! أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير!

فقال لهم زهير: عبادَ اللّه! إنّ ولد فاطمةعليها‌السلام أحقُّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإنْ لم تنصروهم فأُعيذكم باللّه أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسينعليه‌السلام !

قال فرماه شمر بسهم وقال له: أُسكتْ أَسَكتَ اللّه نامتك! فقد أبرمتنا بكثرة كلامك!

____________________

(١) راجع: تأريخ الطبري، ٣: ٣١٦؛ والإرشاد:٢١٥ وإبصار العين: ١٦٤.

٢٠٦

فقال زهير: يا ابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، واللّه ما أظنّك تُحكم من كتاب اللّه آيتين! فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إنّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة!

قال زهير: أفبالموت تخوّفني!؟ واللّه للموت معه أحبّ إليَّ من الخُلد معكم! قال: ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته، وصاح بهم: عبادَ اللّه! لايُغرنّكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فواللّه لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته! وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!

قال فناداه رجل من خلفه: يا زهير، إنّ أبا عبداللّه يقول لك:

أَقْبِلْ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لونفع النصح والإبلاغ!(١)

وبعد عدّة حملات وصولات لهرضي‌الله‌عنه في يوم عاشوراء، رجع فوقف أمام الإمام الحسينعليه‌السلام وأنشد مودّعاً إيّاه:

فدتك نفسي هادياً مهديّاً

أليوم ألقى جدّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحين الشهيد الحيّا(٢)

هل كان زهير بن القين عثمانياً!؟

الشائع في سيرة زهير بن القينرضي‌الله‌عنه أنه كان عثمانياً قبل التحاقه بالإمام الحسينعليه‌السلام ، والعثماني أو عثمانيُّ الميل والهوى يومذاك مصطلح سياسي يعني- على الأقل- التأييد الكامل لبني أميّة في دعوى مظلومية عثمان بن عفان، ومعاداة

____________________

(١) راجع: تأريخ الطبري، ٣: ٣١٩؛ وإبصار العين: ١٦٥ - ١٦٦.

(٢) راجع: إبصار العين: ١٦٧.

٢٠٧

عليّعليه‌السلام بسبب ذلك، ويعني- على الأكثر- الإشتراك في حرب أو أكثر ضدّ عليّعليه‌السلام تحت راية المطالبة بالثأر لدم عثمان كما في الجمل وصفّين.

والظاهر أنّ أقدم مصدر تأريخي وردت فيه الإشارة بصراحة إلى عثمانية زهير بن القينرضي‌الله‌عنه هو تأريخ الطبري وأنساب الأشراف للبلاذري، فقد روى الطبري عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبداللّه بن شريك العامري، بعض وقائع عصر تاسوعاء: كيف جاء شمر بأمانٍ من عبيداللّه بن زياد لأبي الفضل العباس وأخوته من أمّهعليهم‌السلام ، وكيف رفض العباس وإخوتهعليهم‌السلام هذا الأمان ولعنوا شمراً، ثم كيف أمر عمر بن سعد جيوشه بالزحف نحو معسكر أبي عبداللّهعليه‌السلام بعد صلاة العصر ذلك اليوم، ثمّ كيف أمر الإمام الحسينعليه‌السلام أخاه العبّاسعليه‌السلام أن يأتي القوم فيسألهم عمّا جاء بهم، «فأتاهم العبّاس فاستقبلهم في نحوٍ من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم وما تريدون!؟

قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم!

قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبداللّه فأعرض عليه ماذكرتم.

قال فوقفوا، ثمّ قالوا: إلْقَهْ فأَعلِمْهُ ذلك ثمّ الْقَنا بما يقول.

فانصرف العبّاس راجعاً يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلّم القومَ إنْ شئتَ، وإنْ شئت كلّمتهم. فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكُنْ أنت تكلّمهم.

فقال له حبيب بن مظاهر: أما واللّه لبئس القوم عند اللّه غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّهعليه‌السلام وعترته وأهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين اللّه كثيراً!

٢٠٨

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتُزكّي نفسك ما استطعت!

فقال له زهير: يا عزرة، إنّ اللّه قد زكّاها وهداها، فاتّقِ اللّه يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك اللّه يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضُلّالَ على قتل النفوس الزكيّة!

قال: يا زهير، ماكنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كُنتَ عثمانياً!

قال: أفلستَ تستدلُّ بموقفي هذا أنّي منهم؟ أما واللّه ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلتُ إليه رسولًا قطّ، ولاوعدته نصرتي قطّ،(١) ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرتُ به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه، وعرفتُ مايقدم عليه من عدّوه وحزبكم، فرأيت أنْ أنصره وأنْ أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيعتم من حقّ اللّه وحقّ رسولهعليه‌السلام ...».(٢)

وأما البلاذري فقد قال: «قالوا: وكان زهير بن القين البجلي بمكّة، وكان عثمانياً، فانصرف من مكّة متعجّلًا، فضمّه الطريق وحسيناً فكان يسايره ولاينازله، ينزل الحسين في ناحية وزهير في ناحية، فأرسل الحسين إليه في إتيانه، فأمرته إمرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى! فقالت: سبحان اللّه! أيبعث إليك ابن بنت رسول اللّه فلاتأتيه؟ فلما صار إليه ثمّ انصرف إلى رحله قال لامرأته: أنت طالق! فالحقي بأهلك فإنّي لا أحبّ أن يُصيبك بسببي إلّا خيراً. ثمّ قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتّبعني وإلّا فإنه آخر العهد! وصار مع الحسين.».(٣)

____________________

(١) ولايخفى ما في هذه العبائر من تعيير زهيررضي‌الله‌عنه لعزرة بن قيس، لأنّ هذا الأخير كان من جملة الذين كتبوا للإمامعليه‌السلام وراسلوه في مكّة واعدين إيّاه بالنصرة! (راجع: تاريخ الطبري: ٣: ٢٧٨ / دار الكتب العلمية - بيروت).

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣١٤.

(٣) أنساب الأشراف: ٣: ٣٧٨ - ٣٧٩.

٢٠٩

كما أنّ الطبري أيضاً حدّثنا كذلك عن كراهيّة زهيررضي‌الله‌عنه أن ينزل مع الإمامعليه‌السلام نفس منازله في الطريق، فيما رواه عن أبي مخنف، عن السدّي، عن رجل من بني فزارة: «كنّا مع زهير بن القين البجليّ حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتّى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه ...».(١)

وساعد على ذلك أيضاً ما في رواية الدينوري أنّ زهيراً أبى أن يذهب إلى لقاء الإمامعليه‌السلام حين استدعاه في زرود: «فأبى أن يلقاه».(٢)

ولنا في كلّ هذا كلام:

١)- رواية منازل الطريق التي رواها الطبري عن (رجل من بني فزارة!) فضلًا عن ضعف سندها- بمجهولية الفزاري- لايستقيم محتوى متنها مع الحقيقة التأريخية والجغرافية، ذلك لأنّ زهير بن القينرضي‌الله‌عنه كان عائداً من مكّة إلى الكوفة بعد الإنتهاء من أداء الحجّ، فلو فرضنا أنّه قد خرج من مكّة بعد انتهاء مراسم الحجّ مباشرة فإنه يكون قد خرج منها في اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة على الأقوى، وبهذا يكون الفرق الزمني بين يوم خروجه ويوم خروج الإمامعليه‌السلام منها خمسة أيّام على الأقلّ، وإذا كان هذا فكيف يصحّ ما في متن الرواية: «كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! ...»(٣) الدّال- حسب

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٣.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٤٦.

(٣) ويؤيد هذا ما رواه الطبري في تأريخه، ٣: ٣٠٢ - ٣٠٣ عن الرجلين الأسديين: «قالا: لما قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين في الطريق لننظر مايكون من أمره وشأنه، فأقبلنا =

٢١٠

الظاهر- أنّهم سايروا الإمامعليه‌السلام من مكّة!؟

أمّا رواية البلاذري فيكفي في عدم الإعتماد عليها أنها مأخوذة عن وكالة أنباء (قالوا)!

ولو أننّا افترضنا أنّ زهير بن القينرضي‌الله‌عنه بادر بعد الفراغ من أداء مناسك الحجّ «فانصرف من مكّة متعجّلًا»- على ما في رواية البلاذري- وجدَّ السير لايلوي على شيء، فإنّ الفارق الزمني في أثره على الفارق المكاني قد لايتغيّر، ويبقى كما هو على الأقوى، لأنّ الإمامعليه‌السلام - حسب متون تأريخية عديدة- كان قد خرج من مكّة يجدّ السير أيضاً نحو العراق ولايلوي على شيء!

من هنا، فإننا نحتمل احتمالًا قويّاً أنّ أوّل المنازل التي اشترك فيها الإمامعليه‌السلام مع زهيررضي‌الله‌عنه هو منزل زرود نفسه، لابسبب أنّ زهيراً كان يتحاشى الإشتراك مع الإمامعليه‌السلام في المنازل قبل زرود، بل لأنّ هذا المنزل هو المنزل الأوّل الذي يمكن أن يكونا فيه معاً! يعني أوّل المنازل التي يمكن لزهيررضي‌الله‌عنه - بسبب تعجّله!- أن يُدرك الإمامعليه‌السلام عنده.

٢)- من المؤرّخين من روى قصة لقاء الإمامعليه‌السلام مع زهيررضي‌الله‌عنه دون أن يرد في روايته أي ذكر لامتناع زهيررضي‌الله‌عنه من الذهاب إليهعليه‌السلام كما ذكر الدينوري: «فأبى أن يلقاه!» والبلاذري: «فأمرته إمرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى!»، هذا الإمتناع المفسَّر على أساس عثمانية زهيررضي‌الله‌عنه !

فهاهو ابن أعثم الكوفيّ- المعاصر لكلّ من الطبري والدينوري والبلاذري- يروي قصة هذا اللقاء- بدون أي ذكر للعثمانية أو للإمتناع- قائلًا: «ثُمَّ مضى الحسين فلقيه زهير بن القين، فدعاه الحسين إلى نصرته فأجابه لذلك، وحمل إليه

____________________

= تُرقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود...).

٢١١

فسطاطه، وطلّق امرأته، وصرفها إلى أهلها، وقال لأصحابه: إنّي كنتُ غزوتُ بلنجر مع سلمان الفارسي، فلما فتح علينا اشتدّ سرورنا بالفتح، فقال لنا سلمان: لقد فرحتم بما أفاء اللّه عليكم! قلنا: نعم.

قال: فإذا أدركتم شباب آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه منكم بما أصبتم اليوم. فأنا أستودعكم اللّه تعالى! ثمّ مازال مع الحسين حتّى قُتِلَ.».(١)

٣)- لم يحدّثنا التأريخ في إطار سيرة زهير بن القينرضي‌الله‌عنه عن أيّ واقعة أو حدث أو محاورة أو تصريح من زهير نفسه تتجلّى فيه هذه العثمانية التي أُلْصقت فيه! مع أنّ الآخرين ممّن عُرفوا بعثمانيتهم كانوا قد عُرفوا بها من خلال آرائهم ومواقفهم واشتراكهم في حرب أو أكثر ضدّ عليّعليه‌السلام !

٤)- وإذا تأمّلنا جيّداً في ماقاله عزرة بن قيس لزهيررضي‌الله‌عنه وما ردّ به زهيررضي‌الله‌عنه - على ما في رواية الطبري- يتجلّى لنا أنّ زهير بن القينرضي‌الله‌عنه لم يكن عثمانيّاً في يوم من الأيّام! ذلك لأنّ زهيررضي‌الله‌عنه أجاب عزرة الذي اتهمه بالعثمانية فيما مضى قائلًا: «أفلستَ تستدلُّ بموقفي هذا أنّي منهم!؟» أي من أهل هذا البيتعليهم‌السلام رأياً وميلًا وانتماءً.

ولم يقل له مثلًا: نعم كنتُ عثمانياً كما تقول، ثمّ هداني اللّه فصرت من أتباع أهل هذا البيتعليهم‌السلام وأنصارهم، أو ما يشبه ذلك.

بل كان في قوله: «أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم» نفيٌ ضمنيٌّ لعثمانيته مطلقاً في الماضي والحاضر، ثمّ إنّ سكوت عزرة بعد ذلك عن الردّ كاشف عن تراجعه عن تهمة العثمانيّة، فتأمّل.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٢٣، الفصل ١١، رقم ٦.

٢١٢

٥)- إنّ التأمّل يسيراً في أقوال زهير بن القينرضي‌الله‌عنه وفي قول زوجه وموقفها، يكشف عن أنّ زهيراًرضي‌الله‌عنه وزوجه كانا يعرفان حقّ أهل البيتعليهم‌السلام وتعمر قلبيهما مودّتهم، تأمّلْ في قوله لزوجه- على ما في رواية السيّد ابن طاووس-: «وقد عزمت على صحبة الحسينعليه‌السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي»، وفي قولها له: «كان اللّه عوناً ومعينا، خار اللّه لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسينعليه‌السلام !»، أو قوله لها- على ما في رواية الدينوري-: «فإنّي قد وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسينعليه‌السلام »، وقوله لأصحابه: «من أحبّ منكم الشهادة فَلْيُقِمْ ..»، وإخباره إيّاهم بحديث سلمان الفارسيرضي‌الله‌عنه - على ما في رواية الإرشاد-: «اذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ..»!

وتأمّل بتعمق أكثر في قوله: «وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسينعليه‌السلام ، وقوله: «من أحبّ منكم الشهادة فليقم ..»، وقوله زوجه: «أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسينعليه‌السلام ، وقوله لأصحابه: «من أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنه آخر العهد!»، تجد أنّ هذه العائلة الكريمة كانت على علمٍ بأنّ الإمامعليه‌السلام سيستشهد في سفره هذا مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه، وذلك قبل أن تظهر في الأفق معالم الإنكسار الظاهري، وخذلان أهل الكوفة، وقبل أن يصل إلى الإمامعليه‌السلام نبأ مقتل مسلم بن عقيلعليه‌السلام وهاني بن عروةرضي‌الله‌عنه وعبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه ، وهذا كاشف عن أنّ زهيراًرضي‌الله‌عنه كان ذا عناية واهتمام بأخبار الإمام الحسينعليه‌السلام ومتابعاً لأنباء مستقبل حركته وقيامه، حتى لو فرضنا أنَّ زهيراً كغيره من الناس كان قد سمع بأخبار الملاحم المتعلقة بنهضة الحسينعليه‌السلام واستشهاده، أو سمع من نفس الإمامعليه‌السلام بعض خطبه في مكّة التي كان قد أشار فيهاعليه‌السلام إلى استشهاده.

٢١٣

أضف الى ذلك: أنّ صاحب كتاب (أسرار الشهادة) نقل هذه الواقعة قائلًا:

«قيل: أتى زهير إلى عبداللّه بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل فقال له: يا أخي ناولني الراية!

فقال له عبداللّه: أَوَ فيَّ قصورٌ عن حملها!؟

قال: لا، ولكن لي بها حاجة!

قال فدفعها إليه وأخذها زهير، وأتى تجاه العبّاس بن أميرالمؤمنينعليهما‌السلام .

وقال: يا ابن أميرالمؤمنين، أُريد أن أحدّثك بحديث وعيته!

فقال: حدّث فقد حلا وقت الحديث! حدّث ولاحرج عليك فإنّما تروي لنا متواتر الإسناد!

فقال له: إعلم يا أبا الفضل أنّ أباك أميرالمؤمنينعليه‌السلام لما أراد أن يتزوّج بأُمّك أمّ البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب، فقال له: يا أخي، أُريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنّسب والشجاعة لكي أُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا- وأشار اإلى الحسينعليه‌السلام - ليواسيه في طفّ كربلاء! وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلاتقصّر عن حلائل أخيك وعن أخواتك ...».(١)

فإذا صحّت هذه الرواية، فإنّ هذا الحديث الذي (وعاه) زهيررضي‌الله‌عنه ورواه للعبّاسعليه‌السلام ، كاشف عن أنّ زهيراًرضي‌الله‌عنه على اطّلاع منذ سنين بأخبار ووقائع البيت العلوي، وقد وعى أنباءَهم وعياً! وأنّهرضي‌الله‌عنه كان على قرب من أهل هذا البيت المقدّس غير متباعد عنهم!

____________________

(١) أسرار الشهادة: ٣٣٤؛ وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام ؛ للمقرّم: ٢٠٩.

٢١٤

أفيمكن أن يكون مثل هذا الرجل عثمانياً!؟

إننا نستبعد ذلك بقوّة! وهذا مبلغ علمنا الآن! ولعلّ مِن أهل البحث والتحقيق مَن يأتي بعدنا، ويتتبّع الإشارات التي قدّمناها بتوسع أكبر وتعمّق أكثر، ويصل الى مصادر لم نصل إليها، وينتبه إلى مالم ننتبه إليه، فيجلّي أبعاد هذه القضيّة التأريخية بوضوح أتم، فيزيد من كمال الصورة، وكم ترك الأوّل للآخر!

وسلام على زهير بن القين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً.

٨)- الثَّعلبية

«من منازل طريق مكّة من الكوفة، بعد الشقوق وقبل الخزيمية، وهي ثُلُثا الطريق ..».(١)

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن أبي جناب الكلبي، عن عديّ بن حرملة الأسدي، عن عبداللّه بن سليم، والمذري بن المشمعلّ الأسديين: «قالا: لما قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلّا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه!، فأقبلنا تُرقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين.

قالا: فوقف الحسين كأنّه يريده، ثمّ تركه ومضى، ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: إذهب بنا إلى هذا فلنسأله، فإن كان عنده خبر بالكوفة علمناه. فمضينا حتّى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك.

قال: وعليكم السلام ورحمة اللّه. ثمّ قلنا: فَمَن الرجل؟

____________________

(١) معجم البلدان، ٢: ٧٨.

٢١٥

قال: أسديٌّ.

فقلنا: نحن أسديّان، فمن أنت؟

قال: أنا بكير بن المثعبة.(١)

فانتسبنا له، ثمّ قلنا: أخبرنا عن النّاس وراءك! قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق!

قالا: فأقبلنا حتّى لحقنا بالحسين فسايرناه حتّى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه فسلّمنا عليه فردّ علينا.

فقلنا له: يرحمك اللّه، إنّ عندنا خبراً، فإنْ شئت حدّثنا علانية وإنْ شئت سرّاً.

قال فنظر إلى أصحابه وقال: مادون هؤلاء سرّ!

فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمسِ؟

قال: نعم، وقد أردتُ مسألته!

فقلنا: قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو ابن امرىء من أسدٍ منّا، ذو رأي وصدق وفضل وعقل، وإنّه حدّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة، وحتّى رآهما يجرّان في السوق بأرجلهما!

____________________

(١) ذكره البلاذري في أنساب الأشراف، ٣: ٣٧٩ باسم بكر بن المعنقة بن رود، وذكر القصة هكذا: «ولقي الحسين ومن معه رجل يقال له بكر بن المعنقة بن رود، فأخبرهم بمقتل مسلم بن عقيل وهانيء، وقال رأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق، فطلب إلى الحسين في الإنصراف، فوثب بنوعقيل فقالوا: والله لاننصرف حتّى نُدرك ثأرنا أو نذوق ماذاق أخونا.

فقال حسين: ما خير في العيش بعد هؤلأ!. فعلم أنّه قد عزم رأيه على المسير، فقال له عبدالله بن سُليم، والمدري بن الشمعل الأسديان: خار الله لك. فقال: رحمكما الله.».

٢١٦

فقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، رحمة اللّه عليهما. فردّد ذلك مراراً!

فقلنا: ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولاشيعة! بل نتخوف أن تكون عليك!

فوثب عندذلك بنوعقيل بن أبي طالب!».(١)

وروى الطبري، عن أبي مخنف، عن عمر بن خالد، عن زيد بن عليّ بن الحسين، وعن داود بن عليّ بن عبداللّه بن عبّاس: «أنّ بني عقيل قالوا: لاواللّه، لانبرح حتّى نُدرك ثأرنا أو نذوق ماذاق أخونا!».(٢)

ثمّ يعود إلى رواية الأسديين، «قالا: فنظر إلينا الحسين فقال: لاخير في العيش بعد هؤلاء! قالا: فعلمنا أنّه قد عزم له رأيه على المسير، قالا: فقلنا: خار اللّه لك! فقال: رحمكما اللّه.

قالا: فقال له بعض أصحابه: إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.

قال الأسديان: ثمّ انتظر حتّى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء! فاستقوا وأكثروا، ثمّ ارتحلوا وساروا حتّى انتهوا إلى زُبالة.».(٣)

تأمّلٌ وملاحظات:

١)- الملفتُ للإنتباه والمثير للعجب في متن هذه الرواية- رواية الطبري- هو أنّ هذين الرجلين الأسديين مع حسن أدبهما مع الإمامعليه‌السلام وعاطفتهما نحوه لم يكونا ممّن عزم على نصرة الإمامعليه‌السلام والإلتحاق بركبه! كلُّ مافي أمرهما هو أنّ الفضول دفعهما إلى معرفة مايكون من أمر الإمامعليه‌السلام فقط!- هذا باعترافهما كما

____________________

(١) و(٢) و(٣) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٢ - ٣٠٣.

٢١٧

في الرواية- وقد تخلّيا عنه أخيراً بالفعل وفارقاه!.

٢)- والمتأمّل في نصوص محاورات الإمام الحسينعليه‌السلام منذ أن أعلن عن قيامه المقدّس يجد أنّ الإمام كان لايخاطب هذا النوع من الرجال- نوع هذين الأسديين- بمُرِّ الحقّ وصريح القضية، بل كان يسلك إلى عقولهم في الحديث عن مراميه سُبلًا غير مباشرة، يعرض فيها سبباً أو أكثر من الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس بما يُناسب المقام والحال!

فقولهعليه‌السلام صدق وحقّ: «لاخير في العيش بعد هؤلاء» أي بني عقيل، بعد أن وثبوا- لنبأ مقتل مسلمعليه‌السلام - وقالوا: واللّه لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاق!، لكنّ هذا لايعني أنّ مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار الإمام على التوجّه إلى الكوفة، فالإمامعليه‌السلام لم يعلّل في أي موقع أو نصّ إصراره على التوجّه إلى الكوفة بطلب الثأر لمسلمعليه‌السلام ، بل كان يعلّل ذلك في أكثر من موقع ونصّ بحجّة رسائل أهل الكوفة وببيعتهم، بل حتّى رسائل أهل الكوفة كانت سبباً في مجموعة أسباب وقعت في طول السبب الرئيس لقيامهعليه‌السلام وهو إنقاذ الإسلام المحمّديّ الخالص من يد النفاق الأموية وتحريفاتها!

ها هو الإمامعليه‌السلام يوجّه مسلم بن عقيل الى الكوفة ويبشّره بالشهادة! فيقول:

«إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وهذه كتبهم إليَّ، وسيقضي اللّه من أمرك مايحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء! ...».(١)

ويقولعليه‌السلام للفرزدق: «رحمَ اللّه مسلماً، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ...».(٢)

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٥٣.

(٢) اللهوف: ٣٢.

٢١٨

إذن فالقضية عند الإمامعليه‌السلام هي قضية نجاة الإسلام التي هي أكبر من دم مسلمعليه‌السلام ومن كلّ دم! وهذه القضيّة هي السبب الرئيس في إصرار الإمامعليه‌السلام على مواصلة السير نحو الكوفة، لاطلب الثأر لمقتل مسلمعليه‌السلام ! ولا لأنّه لاخير عنده في العيش بعد شباب بني عقيل وإن كان ذلك حقّاً!

٣)- ولايُعبأ بما روي أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد همّ بالرجوع بعد أن علم بمقتل مسلمعليه‌السلام وهانيرضي‌الله‌عنه وعلم بعدم وجود من ينصره في الكوفة!، ذلك ما ذكره ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» حيث قال: «وذكروا أنّ عبيداللّه بن زياد بعث جيشاً عليهم عمرو بن سعيد، وقد جاء الحسين الخبر فهمَّ أن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل فقالوا له: أترجع وقد قُتل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به!؟

فقال لبعض أصحابه: واللّه مالي عن هؤلاء من صبر! ...»،(١)

وذكره ابن عبدربّه في «العقد الفريد» حيث قال: «فبعث معه- أي مع عمر بن سعد- جيشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشراف،(٢) فهمَّ بأن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل ...».(٣)

____________________

(١) الإمامة والسياسة، ٢: ٥ / وهي رواية (مرسلة: ذكروا) فضلاً عن اضطراب متنها، إذ إنّ عمرو بن سعيد هو والي مكّة آنذاك ولاسلطة لابن زياد عليه، والذي بعثه ابن زياد هو عمر بن سعد وليس ذاك، كما أنها لاتحدّد مكان الحدث!، ثمّ إنّ عمر بن سعد لم يُبعث بالفعل إلاّ بعد وصول الإمامعليه‌السلام الى كربلاء وقد جُعجع به ومُنع من التوجّه حيث يشاء، فتأمّل!

(٢) شراف: ماء بنجد، بين واقصة والقرعاء، على ثمانية أميال من الإحساء (راجع: معجم البلدان، ٣: ٣٣١).

(٣) العقد الفريد، ٤: ٣٣٥ / وهذه الرواية أشدّ اضطراباً ومخالفة للمشهور عند أهل السير من خبر ابن قتيبة، إذ إنّ الذي التقاه الإمامعليه‌السلام بشراف هو الحرّ بن يزيد الرياحيرضي‌الله‌عنه مبعوثاً من قبل ابن زياد بألف فارس لاستقدام الإمامعليه‌السلام إلى الكوفة مأسوراً هو ومن معه! ولم يكن عمر بن سعد يومذاك قد بُعث بالفعل قائداً من قبل ابن زياد على جميع جيوشه لمواجة الإمامعليه‌السلام .

٢١٩

أمّا الطبري فله رواية أيضاً بهذا الصدد، هي: «فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر! قال له: إرجع فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه!، فهمَّ أن يرجع! وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا:

واللّه لانرجع حتى نصيب بثأرنا أو نُقتل! فقال: لاخير في الحياة بعدكم، فسار فلقيته أوائل خيل عبيداللّه، فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء ..».(١)

وهذه الرواية معارضة لرواية الطبري نفسه- الموافقة لماهو مشهور- من أنّ الحرّرضي‌الله‌عنه التقى الإمامعليه‌السلام ما بعد شراف في ألف فارس، مأموراً من قبل ابن زياد ألّا يفارق الإمامعليه‌السلام حتى يُقدمه الكوفة! وقد قال للإمامعليه‌السلام في (ذي حسم) وهو يسايره: ياحسين إنّي أذكّرك اللّه في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتَلَنّ، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى! فقال له الحسين:

أفبالموت تخوّفني!؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني!؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، ولقيه وهو يريد نصرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: اين تذهب، فإنّك مقتول!؟ فقال:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى

إذا مانوى حقّاً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما.».(٢)

هذه هي الهمّة الحسينية العالية القاطعة!(٣) فأين هي من «فهمَّ أن يرجع»!؟

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧؛ وانظر: تذكرة الخواص: ٢٢١ - ٢٢٢.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٧.

(٣) يقول ابن طباطبا (المعروف بابن الطقطقا) في تأريخه: «ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام خرج من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة، وهو لا يعلم بحال مسلم! فلما قرب من الكوفة علم بالحال، ولقيه ناسٌ =

٢٢٠