مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 125064
تحميل: 4981

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125064 / تحميل: 4981
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نعم، ربّما استفاد بعضُ المؤرّخين أنّ الإمامعليه‌السلام «همَّ بالرجوع» من أنّهعليه‌السلام - على بعض الروايات- نظر إلى بني عقيل فقال لهم: «ماترون، فقد قُتل مسلم؟ فبادر بنو عقيل وقالوا: واللّه لانرجع، أَيُقتل صاحبنا وننصرف!؟ لا واللّه، لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاق صاحبنا ...».(١)

والأرجح أنّ الإمامعليه‌السلام أراد أن يختبر عزم وتصميم بني عقيل على مواصلة المسير معه- بعد نبأ مقتل مسلمعليه‌السلام - فسألهم «ماترون ..؟»، فكانوا عند حسن معرفته بهم.

إغفاءةٌ ورؤيا حقّة!

قال السيّد ابن طاووس (ره): «.. ثمّ سار حتى نزل الثعلبيّة وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال:

قد رأيت هاتفاً يقول: أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة!

فقال له ابنه عليٌّ: يا أبه! فلسنا على الحق!؟

فقال: بلى يا بنيّ واللّه الذي إليه مرجع العباد!

فقال: يا أبه! إذن لانُبالي بالموت!

فقال الحسينعليه‌السلام : جزاك اللّه يا بُنيّ خير ما جزى ولداً عن والده.».(٢) ونقلها الخوارزمي في المقتل عن ابن أعثم الكوفي بتفاوت.(٣)

____________________

= فأخبروه الخبر وحذّروه فلم يرجع وصمّم على الوصول الى الكوفة لامرٍ هو أعلم به من الناس..»، (الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية: ١١٥ / دار صادر).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٢٨.

(٢) اللهوف: ٣٠.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٢٤، رقم7 وفيه: «فأغفى، ثمّ انتبه باكياً من نومه! فقال له =

٢٢١

وقد ذكر الشيخ الصدوق (ره) هذه الرؤيا في عذيب الهجانات،(١) وذكرها الذهبيفي قصر بني مقاتل»

.. ولابأس بذلك على فرض احتمال تعدّد الرؤيا.

وذكرها ابن شهرآشوب أيضاً دون أن يذكر أنّها كانت رؤيا منام، بل قال: «فلما وصل الثعلبية جعل يقول: باتوا نياماً والمنايا تسري! فقال عليّ بن الحسين الأكبر:

ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: إذن واللّه لانبالي!».(٣)

مع أبي هرّة الأزدي

قال ابن أعثم الكوفي: «فلما أصبح الحسين وإذا برجلٍ من الكوفة يُكنّى أباهرّة الأزدي، أتا فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول اللّه، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فقال الحسينعليه‌السلام : يا أباهرّة، إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت! وأيمُ اللّه يا أباهرّة، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم اللّه ذُلًّا شاملًا وسيفاً قاطعاً، وليسلطّن اللّه عليهم من يُذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم!».(٤)

____________________

= ابنه عليّ بن الحسين: ما يبكيك يا أبة؟ لا أبكى الله عينيك! فقال له: يا بنيّ هذه ساعة لاتكذب فيها الرؤيا، فأعلمك أنّي خفقت برأسي خفقة، فرأيت فارساً على فرس، وقف عليَّ وقال: يا حسين! إنكم تسرعون والمنايا تسرع بكم الى الجنّة! فعلمتُ أنّ أنفسنا نُعيت إلينا...» وانظر: الفتوح، ٥: ١٢٣.

(١) الأمالي، ١٣١، المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

(٢) سير أعلام النبلاء، ٢: ٢٩٨، وكذلك تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٩ والإرشاد: ٢٠٩.

(٣) مناقب آل أبي طالب، ٤: ٩٥.

(٤) الفتوح، ٥: ١٢٣ - ١٢٤؛ وعنه: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٢٤؛ وانظر: مثيرالأحزان: ٤٦.

٢٢٢

إشارة:

إنّ ظاهر جواب الإمامعليه‌السلام لأبي هرّة الأزدي هنا، وكذلك جوابهعليه‌السلام للفرزدق حينما سأله: «ما أعجلك عن الحجّ؟» حيث قالعليه‌السلام : «لو لم أعجل لأُخذتُ!» يوحي بأنّ الإمامعليه‌السلام كان همّه الأكبر النجاة بنفسه!! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه- على ما في جوابهعليه‌السلام لأبي هرّة الأزدي- وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه! هذه هي حدود مظلوميته لا أكثر! وكأنّه ليس هناك رفض بيعة ليزيد! ولا طلب إصلاح في أمّة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر! ولاقيام ونهضة!

إنّ الإقتصار على مثل هذه النصوص يؤدّي إلى هذا الإستنتاج الخاطيء الذي وقع فيه بعض من كتب في تأريخ النهضة الحسينية، وهو: أنّ علّة خروج الإمامعليه‌السلام من المدينة المنوّرة ومن مكّة المكرّمة هو خوفه على نفسه من الإختطاف أو القتل، وأنّ هذا هو سرّ أسرار النهضة الحسينية!!

كذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث مثلًا على النصوص المتعلّقة برسائل أهل الكوفة إلى الإمامعليه‌السلام ، خصوصاً النصوص الواردة عنهعليه‌السلام في ذلك، لأنّ نتيجة مثل هذا النظر ستكون اعتبار رسائل أهل الكوفة هي سبب قيام الإمامعليه‌السلام ! وهذا من أشهر الإشتباهات الحاصلة في مجرى النظر إلى قيام الإمام الحسينعليه‌السلام .

وكذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث على النصوص التي تحدّث فيها الإمامعليه‌السلام عن «الإستخارة»،(١) ذلك لأنّ ظاهر هذه النصوص يوحي بأنّ الإمامعليه‌السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار النهضة منذ البدء! ولاعلم له بما هو قادم عليه في مستقبل أيّامه من مصير! بل كانت توجّه حركته بوصلة الإستخارة! الأمر الذي يعارض وينافي كثيراً من النصوص الأخرى الورادة عنهعليه‌السلام ، فضلًا عن

____________________

(١) راجع: بعض هذه النصوص في الجزء الأول: ١٥١.

٢٢٣

منافاته للإعتقاد الصحيح بعلم الإمامعليه‌السلام !

وهكذا الحال، إذا اقتصر نظر الباحث على النصوص المتعلّقة بالرؤيا التي رأى فيها الإمامعليه‌السلام جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو النصوص التي توحي بأنّهعليه‌السلام كان يأمل النصر والنجاح وتسلّم زمام الأمور ...

كلّ تلك النتائج القاصرة أو الخاطئة إنّما تنشأ نتيجة الأخذ الجزئي المفكّك، أمّا أخذ جميع النصوص المتعلّقة بهذه النهضة المقدّسة كمجموعة واحدة أخذاً كليّاً موحّداً فهو أحد عناصر عصمة الإستنتاج من القصور والخطأ، كذلك فإنّ معرفة نوع المخاطَب الذي يكلّمه الإمامعليه‌السلام ، وردّ متشابه قولهعليه‌السلام إلى محكمه، هما العنصران الآخران لهذه العصمة في التدبر الإستنتاج.

وبشر بن غالب الأسدي مرّة أخرى

كُنّا في «ذات عرق» قد تعرّضنا للقاء الإمامعليه‌السلام مع بشر بن غالب الأسدي، وعلّقنا على هذا اللقاء، وعرضنا ترجمة موجزة لهذا الرجل.

لكنّ الشيخ الصدوق (ره) في الأمالي روى أنّ هذا اللقاء كان في الثعلبية، قال (ره): «فسار الحسينعليه‌السلام وأصحابه، فلما نزلوا ثعلبية ورد عليه رجل يُقال له بشر بن غالب، فقال: يا ابن رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه عز وجلّ (يوم ندعوا كُلَّ أُناسٍ بإمامهم)؟(١)

قال: إمامٌ دعا إلى هدىً فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار، وهو قوله عزّ وجلّ (فريقٌ في الجنّة وفريق في السعير)(٢)

.».(٣)

____________________

(١) سورة الإسراء: ٧١.

(٢) سورة الشورى: ٧.

(٣) أمالي الصدوق: ١٣١، المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

٢٢٤

ولعلّ الإمامعليه‌السلام أراد- من خلال هذه الإجابة الحقّة- تنبيه بشر بن غالب الأسدي إلى وجوب إجابته في قيامه والإلتحاق به!

ولعلّ هذا اللقاء كان لقاء ثانياً لبشر بن غالب مع الإمامعليه‌السلام بعد لقاء (ذات عرق)، إذا كان بشر قد عاد باتجاه الكوفة مرّة أخرى وبسرعة!

ومع زهير الأسدي من أهل الثعلبية

روى ابن عساكر بسند إلى سفيان قال: «حدّثني رجل من بني أسد يُقال له:

بحير- بعد الخمسين والمائة- وكان من أهل الثعلبية، ولم يكن في الطريق رجل أكبر منه، فقلت له: مثلُ مَنْ كنتَ حين مرَّ بكم حسين بن عليّ؟ قال: غلامٌ قد يفعتُ، قال: فقام إليه أخٌ لي أكبر منّي يُقال له زهير وقال: أي ابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّي أراك في قلّة من الناس!

فأشار الحسينعليه‌السلام بسوط في يده هكذا، فضرب حقيبة وراءه فقال: ها إنّ هذه مملوءة كُتباً! ...».(١)

ومع آخر من أهل الكوفة

روى صاحب بصائر الدرجات (ره) بسند عن الحكم بن عتيبة قال: «لقي رجلٌ الحسين بن عليّعليهما‌السلام بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسينعليه‌السلام : من أي البلدان أنت؟

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، المحمودي: ٣٠٤، رقم ٢٦٢، روىْ مثله بسند آخر، رقم ٢٦٣، وروى تحت رقم ٢٦٥ بسند عن بحير بن شدّاد الأسديّ قال: مرَّ بنا الحسين بالثعلبية، فخرجت إليه مع أخي، فإذا عليه جُبّة صفراء لها جيب في صدرها، فقال له أخي: إنّي أخاف عليك من قلّة أنصارك! فضرب بالسوط على عيبة قد حقبها خلفه وقال: هذه كتب وجوه أهل المصر!

٢٢٥

فقال: من أهل الكوفة.

قال: يا أخا أهل الكوفة، أما واللّه لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا ونزوله على جدّي بالوحي! يا أخا أهل الكوفة، مُستقى العلم من عندنا، أفعلموا وجهلنا!؟ هذا ما لايكون!».(١)

لقاء ربّما كان في الثعلبية أيضاً!(٢)

وروى ابن عساكر بسند عن يزيد الرّشك قال: «حدّثني من شافه الحسين قال:

رأيتُ أبنية مضروبة بفلاة من الإرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين.

قال: فأتيته، فإذا شيخ يقرأ القرآن- قال- والدموع تسيل على خدّيه ولحيته! قال: قلتُ: بأبي وأمّي يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟

فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلّا قاتليّ! فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا للّه حرمة إلّا انتهكوها، فيسلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمة.(٣)

».(٤)

____________________

(١) بصائر الدرجات: ١١ - ١٢ ج ١، باب ٧، رقم ١، والكافي، ١: ٣٩٨، رقم ٢.

(٢) ليس في المتون التي تحدثت في هذا اللقاء إشارة - صريحة أو مستفادة - الى مكانه لكننا احتملنا وقوعه في الثعلبية لمشابهة جوابهعليه‌السلام فيه لجوابهعليه‌السلام لأبي هرّة الأزدي، والله العالم.

(٣) فرم الأمة: هو ما تعالج به المرأة فرجها ليضيق، وقيل: هي خرقة الحيض (راجع: لسان العرب، ١٢: ٤٥١ مادة فرم).

(٤) تاريخ ابن عساكر/ ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / المحمودي: ٣٠٧ - ٣٠٨، رقم ٢٦٦، وقال المحمودي في الحاشية: ورواه أيضاً ابن العديم في الحديث ١٢٦ من مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام من كتابه بغية الطلب في تأريخ حلب ص ٧٤، ط١، ثمّ أورد الشيخ المحمودي سند ابن =

٢٢٦

٩)- الشقوق

«جمع: شَقّ او شِقّ، وهو الناحية، منزل بطريق مكّة بعد واقصة من الكوفة، وبعدها تلقاء مكّة بطان ..».(١)

والفرزدق في الشقوق أيضاً!!

روى ابن أعثم الكوفي قائلًا: «وسار الحسين حتى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه، فسلّم ثمّ دنى منه فقبّل يده، فقال الحسين: مِن أين أقبلت يا أبافراس؟

فقال: من الكوفة يا ابن بنت رسول اللّه!

فقال: كيف خلّفت أهل الكوفة؟

فقال: خلّفت النّاس معك وسيوفهم مع بني أميّة، واللّه يفعل في خلقه ما يشاء.

فقال: صدقت وبررت، إنّ الأمر للّه يفعل ما يشاء، وربّنا تعالى كلّ يوم هو في شان،

____________________

= العديم إلى يزيد بن الرّشك قال: «حدّثني من شافه الحسين بهذا الكلام قال: حججتُ فأخذت ناحية الطريق أتعّسف الطريق، فدُفعت الى أبنية وأخبية، فأتيت أدناها فسطاطاً، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: للحسين بن عليّ رضي الله عنه. فقلت: ابن فاطمة بنت رسول الله؟ قالوا: نعم. قلت: في أيّها هو؟ فأشاروا إلى فسطاط، فأتيت الفسطاط فإذا هو قاعد عند عمود الفسطاط، وإذا بين يديه كتب كثيرة يقرؤها، فقلت: بأبي أنت وأمّي! ما أجلسك في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولامنفعة؟ قال: إنّ هؤلاء - يعني السلطان - أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة إليَّ وهم قاتليَّ! فاذا فعلوا ذلك لم يتركوا لله حرمة إلاّ انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يتركهم أذلّ من فرم الأمة!» وانظر أيضاً كتاب العوالم، ١٧: ٢١٨.

(١) معجم البلدان، ٣: ٣٥٦.

٢٢٧

فإن نزل القضاء بما نحبّ فالحمد للّه على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقّ نيّته.

فقال الفرزدق: يا ابن بنت رسول اللّه! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم قد قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟

قال: فاستعبر الحسين بالبكاء، ثم قال:

رحم اللّه مسلماً! فلقد صار إلى رَوْح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا.

قال: ثمّ أنشأ الحسين يقول:

فإنْ تكن الدنيا تُعدُّ نفيسة

فدار ثواب اللّه أعلى وأنبلُ

وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت

فقتل امرىءٍ بالسيف في اللّه أفضلُ

وإنْ تكن الأرزاق قِسماً مقدّراً

فقلّة حرص المرء في الكسب أجملُ

وإنْ تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخلُ

قال: ثمّ ودّعه الفرزدق في نفر من أصحابه، ومضى يريد مكّة، فأقبل عليه ابن عمّ له من بني مجاشع فقال: أبا فراس، هذا الحسين بن عليّ!

فقال الفرزدق: هذا الحسين بن فاطمة الزهراء بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا واللّه (خيرة اللّه) ابن خيرة اللّه، وأفضل من مشى على وجه الأرض بعد محمد (من خلق اللّه)، وقد كُنت قلتُ فيه أبياتاً قبل اليوم، فلا عليك أن تسمعها.

فقال له ابن عمّه: ما أكره ذلك يا أبا فراس! فإنْ رأيت أن تنشدني ما قلتَ فيه!

فقال الفرزدق: نعم، أنا القائل فيه وفي أبيه وأخيه وجدّه صلوات اللّه عليهم هذه الأبيات:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحِلُّ والحرمُ

٢٢٨

هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم

هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم

هذا حسين رسول اللّه والده

أمست بنور هُداه تهتدي الأُمم

إلى آخر قصيدته العصماء المشهورة ...

قال: ثمّ أقبل الفرزدق على ابن عمّه فقال: واللّه، لقد قلت فيه هذه الأبيات غير متعرّض إلى معروفه، غير أنّي أردتُ اللّه والدار الآخرة.».(١)

إشارتان

١)- في متن هذه الرواية تصريح بأنّ الفرزدق كان على علم بمقتل مسلمعليه‌السلام (وقد قُتل في الثامن أو التاسع من ذي الحجّة) وهو في الشقوق، ومعنى هذا أنّ الفرزدق كان- على أقل تقدير- في الشقوق في ما بعد الثامن أو التاسع من ذي الحجّة، وعلى هذا فهو لن يُدرك الوصول إلى مكّة أيّام الحجّ قطعاً لبعد المسافة كثيراً عن مكّة، من هنا لابدّ من عدم القبول بمكان وزمان هذه الرواية وهي تصرح بهذا، وبأنّ الفرزدق ودّع الإمامعليه‌السلام ومضى يريد مكّة! لإداء الحج!

٢)- المشهور أنّ هذه القصيدة ارتجلها الفرزدق في مدح الإمام السجّاد عليّ ابن الحسينعليهما‌السلام في مكّة متحدياً بذلك الطاغوت هشام بن عبدالملك، ولامانع من أن يكون الفرزدق قد نظمها من قبل في الحسينعليه‌السلام كما صرّح هو في هذه الرواية- وأبياتها تصلح لمدح جميع أئمة أهل البيتعليه‌السلام - فلما أراد أن يمدح الإمام السجّادعليه‌السلام بنفس هذه الأبيات أمام هشام أضاف إليها بيت المناسبة مخاطباً هشام بن عبدالملك:

وليس قولك من هذا بضائره

العربُ تعرف من أنكرتَ والعجمُ

واللّه العالم بحقيقة الحال.

____________________

(١) الفتوح، ٥: ١٢٤ - ١٢٩؛ ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٢١، رقم ٥.

٢٢٩

١٠)- زُبالة

«منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة، وهي قرية عامرة بها أسواق، بين واقصة والثعلبية، وقال أبوعبيدة السكوني: زبالة بعد القاع من الكوفة قبل الشقوق فيها حصن وجامع لبني غاضرة من بني أسد، قالوا: سمّيت زُبالة بزبلها الماء أي بضبطها له وأخذها منه ..».(١)

وقد سجّل التأريخ لنا وقائع مهمة في هذا المنزل، منها:

قال الدينوري: «فلما وافى زُبالة وافاه بها رسول محمّد بن الأشعث وعمر بن سعد، بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه في أمره، وخذلان أهل الكوفة إيّاه بعد أن بايعوه، وقد كان مسلم سأل محمّد بن الأشعث ذلك.

فلما قرأ الكتاب استيقن بصحة الخبر، وأفظعه قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي رسوله الذي وجّهه من بطن الرمّة.

وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق، فلما سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا ظنّوا أنه يقدم على أنصار وعضُد تفرّقوا عنه، ولم يبق معه إلّا خاصّته.».(٢)

وقال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمّ سار الحسينعليه‌السلام حتّى بلغ زُبالة فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل، فعرف بذلك جماعة ممّن تبعه، فتفرّق عنه أهل الأطماع والإرتياب، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب.

قال الراوي: وارتجّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل، وسالت

____________________

(١) معجم البلدان، ٣: ١٢٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٤٧ - ٢٤٨.

٢٣٠

الدموع كلّ مسيل!».(١)

وكان الطبري قد روى قصة مبعوث محمّد بن الأشعث إلى الإمامعليه‌السلام هكذا:

«دعا محمّد بن الأشعث إياسَ بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعراً وكان لمحمّد زوّاراً، فقال له: إلْقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادك وجهازك ومُتعة لعيالك. فقال: مِن أينَ لي براحلة؟ فإنّ راحلتي قد أنضيتها! قال: هذه راحلة فاركبها برحلها.

ثمّ خرج فاستقبله بزُبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر وبلّغه الرسالة، فقال له حسين: كُلُّ ما حُمَّ نازل، وعند اللّه نحتسب أنفسنا وفساد أمّتنا!».(٢)

تأمّل وملاحظات:

١)- لم يبعث عمر بن سعد لعنه اللّه إلى الإمامصلى‌الله‌عليه‌وآله أحداً كما أوصاه مسلمعليه‌السلام ، وماتفرّد به الدينوري في أنّ هذا المبعوث كان من قِبل محمّد بن الأشعث وعمر ابن سعد تعارضه رواية الطبري حيث ذكر أنّ إياسَ بن العثل الطائي كان مبعوثاً من قبل ابن الأشعث ولم يذكر عمر بن سعد معه، كما أنّ مسلماًعليه‌السلام أوصى ابن الأشعث بإرسال من يخبر الإمامعليه‌السلام بمعزل عن ابن سعد وقبل أن يطلب من هذا الأخير ذلك أيضاً، ثمّ إنّ عمر بن سعد كان قد خان الوصيّة في نفس مجلس ابن زياد وتنكّر لها، فقد مضى في رواية أخرى للطبري- وهو المشهور أيضاً- أنّ مسلماًعليه‌السلام قبل أن يُقتل حين سارّ عمر بن سعد بوصاياه، والتي كانت الأخيرة منها: «وابعث إلى حسين من يردّه فإنّي قد كتبت إليه أُعلمه أنّ النّاس معه، ولا أراه إلّا مقبلًا! فقال عمر لابن زياد أتدري ما قال لي!؟ إنّه ذكر كذا وكذا! قال له ابن زياد:

____________________

(١) اللهوف: ٣٢.

(٢) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٠.

٢٣١

إنّه لايخونك الأمين ولكنْ قد يؤتمن الخائن!!».(١)

٢)- مرَّ بنا قبل هذا أنّ خبر مقتل مسلم بن عقيلعليه‌السلام وهاني بن عروةرضي‌الله‌عنه قد بلغ الإمامعليه‌السلام في الثعلبية، ولامانع أن يتكرر ورود هذا الخبر المفجع على الإمامعليه‌السلام في أكثر من منزل، وبواسطة أكثر من مُخبر، فيتجدّد اتقاد حزن الإمامعليه‌السلام ومن معه على هؤلاء الشهداء الأبرار كلّما حدّثه قادمٌ عليه بخبرهم! فيرتجّ الموضع بالإسترجاع وبالبكاء والعويل، وتسيل الدموع لأجلهم كلَّ مسيل، كما هو الوصف في رواية السيد ابن طاووس (ره)

٣)- خبر مقتل عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه : أمّا قول الدينوري: ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي رسوله الذي وجّهه من بطن الرمّة، فهو مخالف للمشهور الذي عليه جلُّ علماء السِير من أنّ الذي وصل إلى الإمامعليه‌السلام في زُبالة هو خبر مقتل عبداللّه بن يقطر أخيه من الرضاعة، يقول الطبري: «كان الحسين لا يمرُّ بأهل ماءٍ إلّا اتبعوه! حتّى انتهى إلى زُبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عبداللّه بن يقطر،(٢) وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لايدري أنّه قد أصيب، فتلقّاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية، فسرّح به إلى عبيداللّه بن زياد، فقال: إصعد فوق القصر فالعن الكذّاب ابن الكذّاب ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي! قال: فصعد، فلما أشرف على النّاس قال: أيها النّاس، إنّي رسول الحسين بن فاطمة، بن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة، ابن سميّة الدعيّ! فأمر به عبيداللّه فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض، فكُسرت عظامه وبقي

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٠؛ وانظر: الإرشاد: ١٩٨؛ ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٠٥.

(٢) مرّت بنا في الفصل السابق تفاصيل قصة مقتل عبدالله بن يقطررضي‌الله‌عنه ، وفي هذا الفصل ايضاً، فراجع.

٢٣٢

به رمق، فأتاه رجل يُقال له: عبدالملك بن عمير اللخمي فذبحه! فلما عيب ذلك عليه قال: إنّما أردتُ أن أُريحه!- قال هشام: حدّثنا أبوبكر بن عيّاش عمّن أخبره قال: واللّه ماهو عبدالملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جَعْدٌ طُوال يشبه عبدالملك بن عمير- قال: فأتى ذلك الخبر حسيناً وهو بزُبالة، فأخرج للناس كتاباً فقرأه عليهم:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع! قُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبداللّه بن يقطر! وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام!

قال: فتفرّق الناس عنه تفرّقاً فأخذوا يميناً وشمالًا! حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة!(١) وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ أنّما اتبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله! فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علامَ يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! ..».(٢)

٤)- تؤكّد مجموعة من المتون التأريخية على أنّ أهل الأطماع والإرتياب تفرّقوا عن الإمامعليه‌السلام في زُبالة، بعدما شاع فيهم خبر مقتل مسلمعليه‌السلام وهاني بن عروةرضي‌الله‌عنه وعبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه ، وبعدما خطب فيهم الإمامعليه‌السلام - أو قرأ كتاباً عليهم- فأعلمهم بانقلاب الأمر وخذلان الشيعة في الكوفة، ثمَّ إذن لهم بالإنصراف بلاذمام!- كما مرَّ بنا في رواية الطبري- أو كما نقل الخوارزميّ في المقتل حيث قال: «وكان قد تبع الحسين خلقٌ كثير من المياه التي يمرُّ بها لأنهم

____________________

(١) لعل مراد الراوي مدينة مكّة، لأنّ من المسلّم به أنّ هناك من التحق بالإمامعليه‌السلام في مكة ثم لازمه حتى استشهد بين يديه في كربلاء.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٣؛ وانظر: الإرشاد: ٢٠٥.

٢٣٣

كانوا يظنّون استقامة الأمور لهعليه‌السلام ، فلما صار بزُبالة قام فيهم خطيباً فقال:

ألا إنّ أهل الكوفة وثبوا على مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، فقتلوهما وقتلوا أخي من الرضاعة، فمن أحبّ منكم أن ينصرف فلينصرف من غير حرج، وليس عليه منّا ذمام!

فتفرّق الناس وأخذوا يميناً وشمالًا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكّة، وإنّما أراد أن لايصحبه إنسان إلّا على بصيرة!»،(١) أو «فكَرِهَ أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علامَ يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! ..».(٢)

ونقول: تلك هي سُنّة القادة الربانييّن في قيامهم، إنهم يريدون العدّة وكثرة الأنصار، ولكنْ ليس أيّ ناصر وكيفما كان!، بل الناصر «الرِبيُّ»:(٣) الشديد التمسّك بإطاعة الأمر الإلهي، الذي يُقدم على تنفيذ الأمر الإلهي ناظراً إلى التكليف لا إلى النتيجة!، قد نزع قلبه من كلّ عوالق الدنيا وما فيها وأخلصه لطاعة اللّه تبارك وتعالى، فكانت مرضاة «الربّ» عزّ وجلَّ هي الهمُّ الشاغل قلبه لاسواها.

هذه العدّة من «الربيّين»(٤) هي العدّة التي يطلبها ويسعى إلى تكثيرها القائد الربّانيّ في قيامه ونهضته!

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٢٨.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٠.

(٣) الربيُّ: وهو كالربّاني: من اختصّ بربّه تعالى فلم يشتغل بغيره. (تفسير الميزان، ٤: ٤١).

(٤) وقد أشار إليهم القرآن الكريم في قوله تعالى:( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . ) ، (سورة آل عمران: ١٤٦).

٢٣٤

ومن سُنّة القادة الربّانيين أيضاً أنهم يستثمرون كُلَّ مناسبة لامتحان (المجموع) الذي يصحبهم، وذلك لتخليص عدّتهم الربّانية من كلّ ما يعلق بها من أهل الطمع والإرتياب، حتّى تصفو هذه العدّة من الإضافات الكاذبة! فتبقى الصفوة الخالصة (القوة الحقيقية) التي يخطّط القائد الربانيّ على أساسها نوع المواجهة وأسلوب القتال يوم الملحمة!

وهذه مسألة مهمّة وأساسية في التخطيط الحربي، بل حتّى في التخطيط لكل مواجهة سياسية، ذلك لأنّ التخطيط في كلّ مواجهة على أساس (القوة الظاهرية) لا على أساس (القوّة الحقيقية) سيضع القوّة العسكرية أو الحركة السياسية أمام حدث هو أكبر من حجمها الحقيقي، فإذا تعرّضت هذه القوّة أو الحركة لضربة قاصمة أو إنكسار كبير مثلًا فإنّ هذه الضربة أو هذا الإنكسار سيقعان على رأس (القوّة الحقيقة) فقط! لأنّ الإضافات غير الحقيقية التي أحاطت بالقوّة الحقيقية وشكّلت معها القوّة الظاهرية ستتفرّق وتتلاشى عنها ساعة الشدّة كما هي عادة وطبيعة الأشياء، تاركة القوّة الحقيقية وحدها عرضة لضربة أو انكسار هما أكبر من استطاعتها وتحمّلها!! ولذا قد تتحطّم القوّة الحقيقية أو تزول تماماً قبل تحقيق الهدف المنشود من وراء وجودها!

هذا في إطار الأثر على الأرض! أمّا في إطار الأثر في السماء، فإنّ اختبار العدّة الظاهرية بالإمتحان بعد الإمتحان، وتمحيصها حتّى لايبقى منها إلّا أهل البصائر والعزائم الراسخة، سوف يزيد من علوّ درجاتهم ومنازلهم الأخروية عند اللّه تبارك وتعالى، لأنّ لهم أجراً وفوزاً وارتقاءً لنجاحهم بعد كلّ امتحان وتمحيص! واللّه يختص برحمته من يشاء، واللّه واسع عليم!

٢٣٥

١١)- بطن العقبة

«العَقَبة: منزل في طريق مكّة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكّة، وهو ماء لبني عكرمة من بكر بن وائل.».(١)

لقاء الإمامعليه‌السلام مع عمرو بن لوذان

قال الطبري: «.. ثمَّ سار حتّى مرّ ببطن العقبة فنزل بها، قال أبومخنف: فحدّثني لوذان أحد بني عكرمة أنّ أحد عمومته سأل الحسينعليه‌السلام : أين تريد؟ فحدّثه، فقال له: إنّي أُنشدك اللّه لما انصرفتَ، فواللّه لاتقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف! فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمّتَ عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإنّي لا أرى لك أن تفعل!

قال: فقال له:

يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليَّ الرأيُ ما رأيتَ! ولكنّ اللّه لايُغلب على أمره!

ثمّ ارتحل منها.».(٢)

وفي رواية الإرشاد أنّ هذا الشيخ من بني عكرمة يقال له: عمرو بن لوذان، وفيها أيضاً أنّ الإمامعليه‌السلام قال له: يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي! وإنّ اللّه لايُغلب على أمره!

ثم قالعليه‌السلام : واللّه لايدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي! فإذا فعلوا سلّط اللّه عليهم من يُذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم!(٣)

____________________

(١) معجم البلدان، ٤: ١٣٤.

(٢) تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٣.

(٣) راجع: الإرشاد: ٢٠٥.

٢٣٦

أمّا الدينوري فروى هذا اللقاء هكذا: «فسار حتّى انتهى إلى بطن العقيق،(١) فلقيه رجل من بني عكرمة، فسلّم عليه وأخبره بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العُذَيْب(٢) رصداً له! ثمّ قال له: إنصرف بنفسي أنت! فواللّه ماتسير إلّا الى الأسنّة والسيوف! ولاتتكلنّ على الذين كتبوا إليك، فإنّ أولئك أوّل الناس مبادرة إلى حربك!

فقال له الحسين: قد ناصحت وبالغت، فجُزيت خيراً!

ثمّ سلّم عليه ومضى ..».(٣)

إشارة:

إنّ المشورة أو الرأي الذي عرضه عمرو بن لوذان للإمامعليه‌السلام هنا شبيه بالرأي الذي كان قد عرضه كلُّ من عبداللّه بن عبّاسرضي‌الله‌عنه »

وعمر بن عبدالرحمن المخزومي في مكّة،(٥) ولاحظنا أنّ الإمامعليه‌السلام لم يُخطّيء هذه الآراء والمشورات والإقتراحات، بل أجاب أصحابها بما يؤكّد صحتها وصوابها وأنها كانت من

____________________

(١) الظاهر أنّ بطن العقيق جاءت بدلاً من بطن العقبة اشتباهاً من النّساخ، وإلاّ فيكون الإمامعليه‌السلام - حسب سياق متابعة الدينوري لمسيره - قد رجع باتجاه مكّة بعد منطقة زبالة، ذلك لأنّ وادي العقيق أقرب إلى مكّة، وفيه ثلاثة مواضع هي: ذات عرق، وغمرة، والمسلخ، وذات عرق هي المنزل الرابع الذي مرَّ به الإمام - حسب متابعتنا لأهم منازل الطريق - وهي تبعد عن مكّة مرحلتين أي حوالي (٩٢ كم).

(٢) وهو ماء بين القادسية والمغيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال، وقيل: هو وادٍ لبني تميم، وهو من منازل حاج الكوفة (راجع: معجم البلدان، ٤: ٩٢).

(٣) الأخبار الطوال: ٢٤٨.

(٤) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٥.

(٥) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤.

٢٣٧

النصح والعقل والرأي.

لكنّ الإمامعليه‌السلام مع إقراره بصحة وصواب تكلم النصائح والمشورات كان يؤكّد لكلّ من أصحابها بطريقة تتناسب ونوع المخاطَب أنّه لابدّ له من عدم الأخذ بتلكم النصائح والإقتراحات! وذلك لأنّ منطق هؤلاء وان كان صحيحاً بمقياس حدود الظواهر إلّا أنه لايتعدّى التفكير بالسلامة والمنفعة الذاتية والنصر الظاهري، في حين كان الإسلام آنئذٍ يمرُّ بمنعطف حاسم النتيجة في أن يبقى أولايبقى، وقد عبّر الإمامعليه‌السلام عن حال الإسلام الحرجة هذه أمام مروان بن الحكم بقوله:

«وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد!».(١)

كان الإسلام المحمّدي الخالص قد اشتبهت حقيقته على أكثر هذه الامة حين اختلط عليهم- بفعل جهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة- اختلاطاً عجيباً مع أباطيل وتحريفات كثيرة وكبيرة افتريت عليه ودُسَّت فيه، حتى صار من غير الممكن فصل الإسلام المحمّدي الخالص عن (الإسلام الأموي!) إلّا إذا ارتكب الأمويون الجريمة الكبرى، جريمة سفك الدّم المقدّس، دم ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا لاستمرّت عملية التحريف والمزج، حتى تصل الأمّة إلى حدٍّ لا تعرف عنده إلّا الإسلام الأمويّ! فلا يبقى من الإسلام المحمّدي إلّا إسمه!

إذن فحال الإسلام يومذاك كحال المريض الذي لاينفع في علاجه إلّا الكيّ، وقديماً قيل في المثل (آخر الدواء الكيّ!) لما يترتّب عليه من علاج حاسم!

حال الإسلام يومذاك لم يكن ينفع في علاجها منطق السياسة والمعاملة السياسية والدهاء السياسي، ورعاية المصالح الذاتية، والتفكير بالسلامة،

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٢٤.

٢٣٨

وحسابات الإستفادة والمنفعة والربح والخسارة الشخصيّة، وضوابط التخطيط للسيطرة على الحكم! حال الإسلام يومذاك ماكانت لتصل إلى علاجها الحاسم وتبلغ درجة الشفاء التّام إلّا بمنطق الشهادة! ولم يكن لها مرهمٌ إلّا الدّم الأقدس، دم ابن رسول اللّه الذي هو دم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه!! دم الحسينعليه‌السلام ، الشهيد الفاتح الذي جاء من قلب (المدينة) يسعى، يحدو به الشوق إلى المصرع المختار «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف!»،(١)

في ركب من عُشّاق الشهادة لاتثنيهم عن مصارع العشق عقلائية عقلاء الظاهر ولانصائحهم ولاملامة المحجوب عن المحبوب!

رأيتُ كلاباً تنهشني أشدُّها عليَّ كلبٌ أبقع!

روى الشيخ أبوالقاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمّي (ره) بسندٍ عن شهاب بن عبدربّه، عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال: «لما صعد الحسين بن عليّعليهما‌السلام عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلّا مقتولًا!

قالوا: وما ذاك يا أباعبداللّه؟

قال: رؤيا رأيتها في المنام!

قالوا: وما هي؟

قال: رأيت كلاباً تنهشني أشدّها عليّ كلبٌ أبقع!».(٢)

إشارة:

حدّثتنا المتون التأريخية أنّ أهل الطمع والإرتياب كانوا قد تفرّقوا عن

____________________

(١) اللهوف: ٢٦.

(٢) كامل الزيارات: ٧٥، باب ٢٣، حديث رقم ١٤.

٢٣٩

الإمامعليه‌السلام ذات اليمين وذات الشمال في منطقة زبالة- بعد أن علموا بمقتل مسلم بن عقيلعليه‌السلام وهاني بن عروةرضي‌الله‌عنه وعبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه ، وبعد أن خطبهم الإمامعليه‌السلام خطبته التي أعلمهم فيها بمقتل هؤلاء الشهداء الأبراررضي‌الله‌عنه ، ورخّصهم في الإنصراف عنه- فما بقي معه إلّا الصفوة من أصحابه الذين لازموه حتّى استشهدوا بين يديه.

لكننّا هنا نلاحظ أنّ الإمامعليه‌السلام ما برح يواصل إختبار وامتحان تصميم الباقين معه على الشهادة حتّى بعد منطقة زُبالة، من خلال إخبارهم بما رأى من الحقّ في عالم المنام، وما ذاك إلّا لتنقية الركب الحسينيّ تماماً من كلّ متردد مرتاب أو ذي طمع في دنيا أو عافية وسلامة ربّما كان لم يزل حتّى تلك الساعة عالقاً بالركب الحسينيّ، وكذلك ليزداد أهل البصائر والنيّات الصادقة يقيناً على يقينهم وتصميماً على المضيّ إلى القتل فوق تصميمهم، ليزدادوا بذلك عند اللّه مثوبة ويرقون إلى منازل أعلى في علييّن! ولعلّ الإمامعليه‌السلام أراد أيضاً- في ضمن ذلك- أن يكشف لهم عن وحشيّة الأعداء وإصرارهم على قتله، وأشدّهم نهشاً ووحشيّة وإصراراً على قتله ذلك الرجل الأبقع فيهم، وهو شمر بن ذي الجوشن العامري لعنه اللّه!

١٢)- شراف

«شراف بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الأحساء التي لبني وهب، ومن شراف إلى واقصة ميلان (٤ كم تقريباً)، وهناك بركة تُعرف باللوزة، وفي شراف ثلاث آبار كبار، رشاؤها أقلّ من عشرين قامة، وماؤها عذب كثير، وبها قُلُبٌ كثيرة طيّبة الماء يدخلها ماء المطر ..».(١)

____________________

(١) معجم البلدان، ٣: ٣٣١.

٢٤٠