مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 124973
تحميل: 4970

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124973 / تحميل: 4970
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال الشيخ المفيد (ره): «ثمّ سارعليه‌السلام في بطن العقبة حتى نزل شراف فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ..».(١)

هذا ما حدّثنا التأريخ به عمّا حصل في منطقة شراف لاغير، وإنّ لأمرهعليه‌السلام فتيانه بالإستقاء من الماء والإكثار منه أثراً كاشفاً عن علمهعليه‌السلام بالوقائع قبل حصولها، وقد تجلّى هذا الأثر عند لقائهم لأوّل مرّة مع الحرّ بن يزيد الرياحيرضي‌الله‌عنه في قوّة قتالية مؤلّفة من ألف فارس! بعد قليل من شراف.

نعم، ذكر مؤرّخون(٢) أنّ الإمامعليه‌السلام أمر بالإستقاء من الماء والإكثار منه قبل ذلك في أكثر من موضع، بل ربّما كان ذلك من عادة السير والسفر قبيل التحرك من كلّ منزل من المنازل، لكنّ الظاهر أنّ الإستقاء من الماء والإكثار منه في شراف كان أكثر من كلّ مرّة بحيث يزيد هذه المرّة عن حاجة الركب الحسينيّ كثيراً.

١٣) ذو حُسَم:

وهو جبل يقع بين شراف وبين منزل البيضة، كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة يصطاد فيه.(٣)

روى الطبري عن الرجلين الأسديين (عبداللّه بن سُلَيم والمذريّ بن المشمعل) قالا: «ثمَّ ساروا منها- أي شراف- فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار، ثم إنّ رجلًا قال: اللّه اكبر!

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٦؛ وانظر: تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٤.

(٢) ذكر ذلك الشيخ المفيد (ره) في الثعلبية وزبالة أيضاً (الإرشاد: ٢٠٥)، وكذلك فانظر: تاريخ الطبري، ٣: ٣٠٣.

(٣) راجع: إبصار العين: ٤٤.

٢٤١

فقال الحسين: اللّه أكبر! ما كبّرت؟

قال: رأيت النخل!

فقال له الأسديان: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ!

قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟

قلنا: نراه رأى هوادي الخيل!

فقال: وأنا واللّه أرى ذلك! أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟

فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإنْ سبقت القوم إليه فهو كما تريد.

قال فأخذ إليه ذات اليسار، قال ومِلْنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبينّاها وعدلنا، فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنَّ أسنّتهم اليعاسيب! وكأنّ راياتهم أجنحة الطير!

قال فاستبقنا إلى ذي حُسم فسبقناهم إليه، فنزل الحسين فأمر بأبنيته فضُربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم!

فقال الحسين لفتيانه: إسقوا القوم وارووهم من الماء! ورشّفوا الخيلَ ترشيفاً!

فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم! وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثمّ يُدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها.

٢٤٢

قال هشام: حدّثني لقيط، عن عليّ بن الطّعان المحاربي: كنت مع الحرّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلمأ رأى الحسين مابي وبفرسي من العطش قال: أنِخْ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثمّ قال: يا ابن أخي، أنخ الجمل! فأنخته، فقال: إشرب. فجعلتُ كلّما شربتُ سال الماء من السقاء، فقال الحسين:

أخنث السقاء- أي إعطفه قال جعلت لا أدري كيف أفعل! قال فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيتُ فرسي.

قال: وكان مجيء الحرّ بن يزيد ومسيره إلى الحسين من القادسية، وذلك أنّ عبيداللّه بن زياد لما بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمي وكان على شُرطه، فأمره أن ينزل القادسية وأن يضع المسالح، فينظّم ما بين القطقطانة إلى خفّان! وقدّم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حُسيناً!

قال فلم يزل موافقاً حُسيناً حتى حضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجّاجَ بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فأذّن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسين في إزارٍ ورداءٍ ونعلين، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:

أيها النّاس، إنّها معذرة إلى اللّه عزّ وجل وإليكم! إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم: أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام. لعلّ اللّه يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!

قال فسكتوا عنه، وقالوا للمؤذّن: أقم. فأقام الصلاة.

فقال الحسينعليه‌السلام للحرّ: أتريد أنْ تصلّي بأصحابك؟

قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك!

٢٤٣

قال فصلّى بهم الحسين، ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به، فدخل خيمة قد ضُربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤا للرحيل، ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم وانصرف الى القوم بوجهه، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعدُ أيها النّاس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحقَّ لأهله يكنْ أرضى للّه، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجَوْر والعدوان! وإنْ أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا واللّه ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر!

فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجَيْن اللذين فيهما كتبهم إليَّ! فأخرج خرجَيْن مملوئين صحفاً، فنشرها بين أيديهم!

فقال الحرُّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيداللّه بن زياد!

فقال له الحسين: الموتُ أدنى إليك من ذلك!

ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا. فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الإنصراف، فقال الحسين للحرّ: ثكلتك أمّك! ما تُريد!؟

قال: أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت

٢٤٤

عليها ما تركت ذكر أُمِّه بالثكل أن أقوله، كائناًمن كان، ولكن واللّه مالي إلى ذكر أُمِّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه!

فقال له الحسين: فما تُريد!؟

قال الحرّ: أُريد واللّه أن أنطلق بك إلى عبيداللّه بن زياد!

قال له الحسين: إذن واللّه لا أتّبعك!

فقال له الحرّ: إذن واللّه لا أَدَعُك!

فترادّا القول ثلاث مرّات، ولما كثر الكلام بينهما:

قال له الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك وإنّما أُمرت أن لا أُفارقك حتّى أُقدمك الكوفة! فإذا أبيتَ فُخُذْ طريقاً لا تُدخلك الكوفة ولاتردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيداللّه بن زياد إن شئت، فلعلّ اللّه إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك. قال: فخُذ هاهنا فتياسَرْ عن طريق العُذيب والقادسيّة. (وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلًا).

ثُمَّ إنَّ الحسين سار في أصحابه، والحرُّ يسايره ...».(١)

تأمُّلٌ وملاحظات:

١)- تعاملَ الإمامعليه‌السلام - القائد الربّانيّ- مع الظالين والمغرَّر بهم والمشلولين نفسياً من أبناء هذه الأمة

معاملة الأب الرؤوف الحاني- مالم يقع بينه وبينهم السيف- وذلك لأنّ غاية الإمامعليه‌السلام أساساً هي دعوتهم الى الحقّ والهدى، وقد تجسّدت هذه الروح الأبوية الحانية في سقاية هؤلاء القادمين بأمر ابن زياد

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٧ والإرشاد: ٢٠٦ وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٠ - ٣٨١، والفتوح، ٥: ١٣٤ - ١٣٩ بتفاوت.

٢٤٥

للجعجعة بهعليه‌السلام ، وإروائهم في ساعة هم أشدّ ما يكونون فيها حاجة إلى الماء، وكأنّهعليه‌السلام كان قد أحياهم بعد احتضارٍ من شدّة العطش!- بل لقد تجلّت رأفته وحنّوهعليه‌السلام كخليفة للّه على كلّ خلقه أيضاً في إرواء الخيل والدوابّ الأخرى وترشيفها- ولاشكّ أنّ هذه الأخلاقية الربّانية حجّة بالغة على أولئك القوم، تهزّ ضمائرهم هزّاً عنيفاً وتدفعها دفعاً قويّاً إلى التأمّل والتفكير وتستنطق الفطرة فيهم للإجابة عن هذا السؤال: أيُّ الرجلين أحقّ بالإتباع والإطاعة: الإمامعليه‌السلام أم ابن زياد الجلف الجافي!؟

فلعلَّ ضالًّا- بعد هذه الهزّة في الضمير- يستبصر فيهتدي إلى الحقّ ويتّبعه، ومُغرَّراً به تنكشف له حقيقة الأمر فيعرف أهل الحقّ وقادته، ومشلولًا في نفسه يتحرر فينطلق بقوّة وعزم للإنضمام إلى أهل الحقّ وقد كان ولم يزل يعرفهم!!

٢)- كان الإمامعليه‌السلام يريد أن يدخل الكوفة حُرّاً وبالطريقة التي يختارها هو!، وكان الحرُّ يريد أن يأخذه إليها أسيراً!

بأمر ابن زياد! كان هذا أصل الأخذ والردّ بينهما، لكنّ ما يُلفت الإنتباه في هذه النقطة هو أنّ الإمامعليه‌السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه نحو الكوفة حتّى بعد الإختيار الموسّع الذي عرضه عليه الحرّ بن يزيدرضي‌الله‌عنه في أن يتّخذ طريقاً لاتُدخله الكوفة ولاتردّه الى المدينة، فيذهب حيث يشاء بين ذلك! بل كان الإختيار أوسع- على رواية ابن أعثم الكوفيّ- حيث شمل حتّى الرجوع الى المدينة إذا شاء! حين قال له الحرُّرضي‌الله‌عنه : «أبا عبداللّه، إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنّما أُمرت أن لا أفارقك أو أقدم بك على ابن زياد! وأنا واللّه كارهٌ إنْ سلبني اللّه بشيء من أمرك! غير أنّي قد أخذتُ ببيعة القوم وخرجت اليك! وأنا أعلم أنه لايوافي القيامة أحد من هذه الأمّة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ! وأنا خائف إن قاتلتك أن أخسر الدنيا والآخرة! ولكن خذ عنّي هذا الطريق وامضِ حيث شئت! حتى أكتب إلى ابن زياد أنّ هذا خالفني في الطريق

٢٤٦

فلم أقدر عليه! ..».(١)

إنّ إصرار الإمامعليه‌السلام على التوجّه نحو الكوفة حتّى بعد انتفاء حجّة رسائل أهل الكوفة عمليّاً- بعد وصول خبر مقتل مسلمعليه‌السلام وهانيرضي‌الله‌عنه وعبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه إلى الإمامعليه‌السلام - كاشف عن أنّ رسائل أهل الكوفة إليه لم تكن السبب الرئيس في توجّهه نحو العراق! وإنْ كان صحيحاً القول إنّهعليه‌السلام «لم يشأ أن يدع أيّ مجال لإمكان القول بأنّهعليه‌السلام لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه إلى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها! ذلك لأنّ الإمامعليه‌السلام مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل الوجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى ثمّة مجال للطعن في وفائه بالعهد!».(٢)

نعم، هذا سببٌ من جملة الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس في توجّههعليه‌السلام نحو العراق: وهو أنّ الإمامعليه‌السلام - مع علمه بأنّه مالم يبايع يُقتل- كان قد أصرَّ على العراق لأنّه أفضل أرض للمصرع الذي لابُدَّ منه، لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بواقعة المصرع والتغيّر نتيجة لها! وقد فصّلنا القول في هذا تحت عنوان (لماذا اختار الإمام الحسينعليه‌السلام العراق) في الفصل الأوّل، فراجع.

٣)- لم يقصد الإمامعليه‌السلام التخلّي عن نهضته بقوله في خطبته بعد صلاة الظهر:

«.. وإنْ لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!» أو قوله في خطبته بعد صلاة العصر: «وإنْ كرهتمونا وجهلتم

____________________

(١) الفتوح، ٥: ١٣٩.

(٢) الجزء الأوّل من هذه الدراسة: ١٦١؛ مقالة: بين يدي الشهيد الفاتح.

٢٤٧

حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!».

بل كلُّ ما عناه الإمامعليه‌السلام في هذين القولين- وفي نظائرهما- هو التخلّي عن التوجّه إلى الكوفة- مادام لايمكنه أن يدخلها إلّا أسيراً!- وهذا لايعني تخلّيه عن مواصلة القيام والنهضة، بل يعني تغيير مسار حركة الركب الحسينيّ إلى جهة أخرى غير الكوفة، سواء بالعودة الى مكّة المكرّمة أو المدينة المنوّرة أو الذهاب إلى اليمن أو أي مكان آخر! هذه حدود المعنى المفهوم في قولهعليه‌السلام : انصرفت عنكم.

٤) - من هو الحرُّ بن يزيد الرياحي؟

هو الحرُّ بن يزيد بن ناجية بن قَعنَب بن عتّاب [الردف] بن هرميّ بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم، فهو التميميّ اليربوعيّ الرياحيّ.

كان الحرّ شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً، فإنّ جدّه عتّاباً كان رديف النعمان، وولد عتّاب قيساً وقعنباً ومات، فردف قيس للنعمان ونازعه الشيبانيون، فقامت بسبب ذلك حرب يوم الطخفة.

والحرّ هو إبن عمّ الأخوص الصحابيّ الشاعر: زيد بن عمرو بن قيس بن عتّاب. وكان الحرّ في الكوفة رئيساً، ندبه ابن زياد لمعارضة الحسينعليه‌السلام فخرج في ألف فارس!(١)

والظاهر من متون قصة لقاء الإمامعليه‌السلام مع الحرّرضي‌الله‌عنه على رأس ألف فارس

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ٢٠٣.

٢٤٨

قادماً من القادسية لمعارضة الإمامعليه‌السلام في مسيره: أنّ الحرّرضي‌الله‌عنه كان يومذاك عارفاً ومؤمناً بمقام ومنزلة أهل البيتعليهم‌السلام عند اللّه تبارك وتعالى، وكارهاً لمأمورية خروجه لمعارضة الإمامعليه‌السلام !

فها هو يجيب الإمامعليه‌السلام حينما قال له: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قائلًا: أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله، كائناً من كان! ولكن واللّه مالي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه!

ويقول للإمامعليه‌السلام أيضاً: وأنا أعلم أنّه لايوافي القيامة أحدٌ من هذه الأمّة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ! وأنا خائف إنْ قاتلتك أن أخسر الدنيا والآخرة! ...

وروى الشيخ ابن نما (ره) بإسناده أنّ الحرّرضي‌الله‌عنه - بعد أن هداه اللّه ووفّقه للإنضمام إلى الإمامعليه‌السلام - «قال للحسينعليه‌السلام : لما وجّهني عبيداللّه إليك خرجت من القصر فنوديتُ مِن خلفي: أبشر يا حُرّ بخير! فالتفتُّ فلم أر أحداً! فقلتُ: واللّه ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسينعليه‌السلام !! وما أُحدّثُ نفسي باتباعك!

فقالعليه‌السلام : لقد أصبت أجراً وخيراً.».(١)

لكنّ الظاهر من مجموع سياق قصة خروجه إلى الإمامعليه‌السلام وجعجعته به هو

____________________

(١) مثير الأحزان: ٥٩ - ٦٠؛ وعنه البحار، ٤٥: ١٥، ونقلها المرحوم الشيخ السماوي (ره) في إبصار العين: ٢٠٣ - ٢٠٤ وفيه: أبشر يا حُرّ بالجنة!، وقد روى الشيخ الصدوق (ره) في أماليه: ١٣١ المجلس ٣٠، ح ١: «قال الحرّ: فلما خرجت من منزلي متوجهاً نحو الحسينعليه‌السلام نوديتُ ثلاثاً: يا حرّ أبشر بالجنّة! فالتفتُ فلم أر أحداً! فقلت: ثكلت الحرّ أمّه يخرج الى قتال ابن رسول الله ويبشّر بالجنّة؟!..».

٢٤٩

أنّ الحرّرضي‌الله‌عنه لم يكن يتوقّع أنّ القوم سوف ينتهي بهم الأمر إلى مقاتلة الإمامعليه‌السلام ، ولذا نراه حينما رأى في كربلاء جدّية الموقف والحال، وأنَّ كلَّ ما حوله يؤكّد أنَّ فتيل الحرب على وشك الإشتعال، توجّه إلى عمر بن سعد يسائله مستغرباً قائلًا: أي عمر! أمقاتلٌ أنتَ هذا الرجل!؟

فقال عمر لعنه اللّه: إيواللّه قتالًا شديداً، أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي! فردّ عليه الحرّرضي‌الله‌عنه : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟!

قال عمر: أما واللّه، لو كان الأمر إليَّ لفعلتُ، ولكنّ أميرك أبى!

فأقبل الحرّ حتّى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يُقال له قُرَّة بن قيس، فقال له: يا قُرَّة! هل سقيت فرسك اليوم؟

قال: لا!

قال: فما تُريد أن تسقيه؟

قال قرّة: فظننتُ واللّه أنه يُريد أن يتنحّى ولايشهد القتال، فكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فأسقيه.

فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فواللّه لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت معه إلى الحسين! فأخذ يدنو من الحسين قليلًا قليلا، فقال له مهاجر بن أوس: ما تريدُ يا ابن يزيد!؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه، فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة! فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب! واللّه ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا! ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك!؟

فقال له الحرّ: إنّي واللّه أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فواللّه لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعتُ وأحرقتُ!!

ثمّ ضرب فرسه فلحق الحسينعليه‌السلام فقال له: جُعلت فداك يا ابن رسول اللّه!

٢٥٠

أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان! وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم! ولايبلغون منك هذه المنزلة! واللّه لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبتُ مثل الذي ركبت! وأنا تائب إلى اللّه ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟

فقال له الحسينعليه‌السلام : نعم، يتوب اللّه عليك، فانزل.

فقال: أنا لك فارساً خير منّي راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري!

فقال له الحسينعليه‌السلام : فاصنع يرحمك اللّه ما بدا لك.(١)

وبهذا يتجلّى أنّ الحرّرضي‌الله‌عنه لما رأى من القوم مالم يكن يتوقعه منهم ناقش نفسه نقاشاً جادّاً حاسماً- في ظرف زمنّي صعب وعسير وقصير!- ليتّخذ الموقف الصحيح بين صفّ الحقّ وصفّ الباطل، وما هي إلّا لحظة مصيرية حاسمة تحرّر فيها الحرُّ من كلّ شلل نفسي وازدواج في داخله، فانطلق إلى الحقّ وانضمّ إليه متبرئاً من كلّ عوالق الباطل، منيباً إلى اللّه تائباً إليه، في لحظة تأريخية فريدة، وموقف رياديّ لامثيل له، جعل من إسم الحرّ الرياحيّرضي‌الله‌عنه رمزاً لكلّ عشّاق الحقيقة الأحرار على مرّ الدهور وتتابع الأجيال.

وكان الحرّرضي‌الله‌عنه - كما وصفه المهاجر بن أوس- من أشجع أهل الكوفة، وقد روي «أن الحرّ لما لحق بالحسينعليه‌السلام قال رجل من تميم يُقال له يزيد بن سفيان: أما واللّه لو لحقته لأتبعته السِنان!

فبينما هو يقاتل، وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبيه وإنّ الدماء لتسيل، إذ قال الحصين: يا يزيد هذا الحرّ الذي كنت تتمنّاه! قال: نعم.

____________________

(١) الإرشاد:٢١٩؛ وانظر: تأريخ الطبري، ٣: ٣١٩ - ٣٢١.

٢٥١

فخرج إليه، فما لبث الحرُّ أن قتله،(١) وقتل أربعين فارساً وراجلًا، فلم يزل يقاتل حتّى عُرْقِبَ فرسه، وبقي راجلًا وهو يقول:

إنّي أنا الحرُّ ونجلُ الحرّ

أشجع من ذي لبدٍ هِزَبْرِ

ولستُ بالجبان عند الكرّ

لكنّني الوقّاف عند الفَرِّ

كما روي أنّهرضي‌الله‌عنه قال للإمامعليه‌السلام : «يا ابن رسول اللّه، كنتُ أوّل خارج عليك، فائذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك، وأوّل من يصافح جدّك غداً!- وإنّما قال الحرّ: لأكون أوّل قتيل بين يديك، والمعنى يكون أوّل قتيل من المبارزين، وإلّا فإنّ جماعة كانوا قد قُتلوا في الحملة الأولى كما ذُكر- فكان أوّل من تقدّم إلى براز القوم، وجعل ينشد ويقول:

إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف

أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلَّ بأرض الخَيفْ

أضربكم ولا أرى من حَيْفِ(٢)

وروي أنهرضي‌الله‌عنه لما قُتل احتمله أصحاب الحسينعليه‌السلام حتّى وضعوه بين يدي الحسينعليه‌السلام وبه رمق، «فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: أنتَ الحرّ كما سمّتك أُمّك! وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة!

ورثاه رجل من أصحاب الحسينعليه‌السلام ، وقيل: بل رثاه عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :

لنِعمَ الحرُ حرُّ بني رياحِ

صبورٌ عند مختلف الرماحِ

ونعم الحرُّ إذ فادى حسيناً

وجاد بنفسه عند الصباحِ

فيا ربّي أضفه في جنانٍ

وزوّجه مع الحور الملاحِ(٣)

ولهرضي‌الله‌عنه خطبة في القوم يوم عاشوراء قال فيها:

____________________

(١) انظر تفصيل الرواية أيضاً في تأريخ الطبري، ٣: ٣٢٤.

(٢) و (٣) انظر: البحار، ٤٥: ١٣ و ١٤.

٢٥٢

«يا أهل الكوفة! لأمّكم الهبل والعبر! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه! وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد اللّه العريضة، فصار كالأسير في أيديكم! لايملك لنفسه نفعاً ولايدفع عنها ضرّاً! وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري! يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم! فها هم قد صرعهم العطش! بئسما خلفتم محمّداً في ذريّته، لاسقاكم اللّه يوم الضمأ.».(١)

فسلام على رمز التحوّل الواعي السريع الجريء من ظلمات الباطل إلى نور الحقّ، سلام على الحرّ الرياحيّ يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

إنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما!

وروى الطبري عن عقبة بن أبي العيزار قال: «قام حسينعليه‌السلام بذي حسم، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإنَّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت جذاءً فلم يبق منها إلّا صُبابة كصُبابة الإناء! وخسيس عيش كالمرعى الوبيل! ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لايُتناهى عنه!؟

ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما.(٢)

قال: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: أتتكلّمون أم أتكلّم؟

____________________

(١) الإرشاد: ٢١٩.

(٢) في اللهوف: ٣٤ «فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما» ويُفهم من سياق اللهوف أنّ الإمامعليه‌السلام خطب أصحابه بهذا بعد عُذيب الهجانات، لكنّ ذلك غير دقيق كما هو الظاهر.

٢٥٣

قالوا: لا، بل تكلّم.

فحمد اللّه فأثنى عليه، ثمّ قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها!!

قال: فدعا له الحسين، ثمّ قال له خيرا ...».(١)

لكنّ السيّد ابن طاووس (ره) ذكر أنّ الإمامعليه‌السلام خطب هذه الخطبة في أصحابه، ثم ذكرها، وذكر مقالة زهيررضي‌الله‌عنه ، ثمّ أضاف قائلًا: «وقال الراوي: وقام هلال بن نافع البجلي(٢) فقال: واللّه ما كرهنا لقاء ربّنا! وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

قال: وقام بُرير بن خضير فقال: واللّه يا ابن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُّك شفيعنا يوم القيامة!.».(٣)

تأمّل وملاحظات:

١) يُلاحظ المتأمّل في هذه الخطبة القصيرة البليغة الوافية التي خطب الإمامعليه‌السلام أصحابه بها:

أنّ الإمامعليه‌السلام ما فتأ يواصل امتحان عزائم أنصاره من خلال تذكيرهم هذه المرّة بتغيّر الأمور وتنكّر الدنيا وإدبار معروفها! وأنّ ما يستقبلهم من

____________________

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٣٠٧.

(٢) هو نافع بن هلال بن نافع الجملي المذحجيرضي‌الله‌عنه ، وليس هلال بن نافع البجلي قال المحقّق السماوي (ره): «نافع: يجري على بعض الألسن ويمضي في بعض الكتب هلال بن نافع وهو غلط على ضبط القدماء... ويمضي على الألسن وفي الكتب البجلي وهو غلط واضح» (راجع: إبصار العين: ١٥٠)، وسنأتي على ترجمتهرضي‌الله‌عنه .

(٣) اللهوف: ٣٤ - ٣٥.

٢٥٤

مجرى حركة الأحداث لايحمل لهم إلّا المكاره!

لكنّ الملفتَ للإنتباه هنا هو أنّ الإمامعليه‌السلام في هذه الخطبة أيضاً كان يحثّ أصحابه ويحرّضهم على التمسّك بنصرته! فهاهو يذكّرهم بأنّ مابقي من الدنيا ليس إلّا كماءٍ ضئيل في قعر إناء صغير! والأيّام الباقية من هذا العمر في ظلّ حكومة الطاغوت أيّام لاعزّة فيها، عيشها خسيس كالمرعى الوبيل! في عالم لايُعمل فيه بالحقّ، ولايُتناهى فيه عن الباطل! فالأولى للمؤمن أن يرفض هذا العيش الذليل النكد، راغباً في لقاء اللّه تحت راية قائم بالحقّ، فإنّ أفضل الموت القتل في سبيل اللّه، وهو الشهادة والسعادة! وإنّ أسوأ حياةٍ حياةٌ بذُلٍّ تحت قهر الظالمين، إنها التعاسة والبرم!

وهنا كان أنصارهعليه‌السلام قد أدركوا مراده من هذه المقالة، وعلموا أنّه محزون لقلّة ناصريه! وأنّه أراد أن يختبر نيّاتهم وعزائمهم في المضيّ معه حتى الشهادة! فبادر زهير بن القينرضي‌الله‌عنه عن لسان جميع الأنصار- ثمّ تصدّى بالقول نافع بن هلالرضي‌الله‌عنه وبُرير بن خضيررضي‌الله‌عنه كما في رواية ابن طاووس (ره)- لتطمين الإمامعليه‌السلام بأنّهم ثابتون على نيّاتهم وبصائرهم، وعلى عهدهم في موالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وأنهم موقنون بأنّ اللّه قد منّ عليهم بالإمامعليه‌السلام إذ فتح لهم باب الجهاد بين يديه ليفوزوا بالشهادة وهي أقصى أمنيّة المؤمنين الصادقين!

والإنسانية لم تزل إلى اليوم- وتبقى إلى قيام الساعة- تقرأ قصة هذا المشهد الرائع من مشاهد مسيرة الركب الحسيني، فتقف إجلالًا وإكباراً لمقالة كلّ من نافع وبرير رضوان اللّه تعالى عليهما، وتتأمل بخشوع وإعجاب لاينقضي في المعاني السامية لأُنشودة الفداء والمواساة التي تضمّنتها مقالة زهير بن القين رضوان اللّه تعالى عليه: «واللّه، لو كانت الدنيا لنا باقية، وكُنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها!!».

٢٥٥

٢) ويستفاد أيضاً من قولهعليه‌السلام :

«ألا ترون أنّ الحقّ لايعمل به، وأنّ الباطل لايُناهى عنه!؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً! فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما» أنّ المؤمنين جميعاً- في كلّ عصر- في مثل هذه الحال أمام تكليف عام بالقيام للّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على تغيير واقع حياة الامة الإسلامية على أساس ما أمر اللّه تعالى به.

٣) من هو نافع بن هلال الجملي؟

«هو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحج، المذحجي الجملي، كان نافع سيّداً شريفاً سريّاً شجاعاً، وكان قارئاً، كاتباً، من حملة الحديث، ومن أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وحضر معه حروبه الثلاث في العراق.

وخرج إلى الحسينعليه‌السلام فلقيه في الطريق، وكان ذلك قبل مقتل مسلم، وكان أوصى أن يُتبع بفرسه المسمى بالكامل، فأُتبع مع عمرو بن خالد وأصحابه الذين ذكرناهم (مجمع بن عبداللّه العائذيرضي‌الله‌عنه وابنه عائذرضي‌الله‌عنه ، وسعدرضي‌الله‌عنه مولى عمرو، وواضح التركيرضي‌الله‌عنه مولى الحرث السلماني).».(١)

لقد كان نافعرضي‌الله‌عنه من ذوي البصائر، هاهي مقالته بين يدي الإمامعليه‌السلام في ذي حُسم تشهد له بذلك: «واللّه ماكرهنا لقاء ربّنا! وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك!»،(٢) ولما بلغ الإمام الحسينعليه‌السلام قتل قيس بن مسهّر الصيداويرضي‌الله‌عنه استعبر باكياً، ثمّ قال: «اللّهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلًا كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك، إنك على كلّ شيء قدير.

قال: فوثب إلى الحسينعليه‌السلام رجل من شيعته يقال له هلال بن نافع البجلي

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ١٤٧.

(٢) اللهوف: ٣٤.

٢٥٦

(والصحيح هو: نافع بن هلال الجملي كما قدّمنا) فقال: يا ابن رسول اللّه! أنت تعلم أنّ جدّك رسول اللّه لم يقدر أن يُشرب النّاس محبّته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ! وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر! يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل! حتّى قبضه اللّه إليه.

وإنّ أباك عليّاً رحمة اللّه عليه قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة اللّه ورضوانه.

وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة! فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلّا نفسه، واللّه مُغنٍ عنه! فَسِرْ بنا راشداً معافاً، مشرّقاً إن شئت، وإنْ شئت مُغرّباً، فواللّه ما أشفقنا من قدر اللّه، ولاكرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك!».(١)

وكان نافعرضي‌الله‌عنه على مرتبة عالية من الأدب والوفاء ومعرفة حقّ الإمام الحسينعليه‌السلام عليه وعلى جميع المسلمين، روى الطبري أنه لما اشتدَّ على الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه العطش في كربلاء- قبل يوم عاشوراء- «دعا العباس بن عليّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلًا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلًا، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: من الرجل؟ فجيء، ما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه!

قال: فاشرب هنيئاً!

____________________

(١) البحار، ٤٤: ٣٨٢ - ٣٨٣؛ وانظر: الفتوح، ٥: ١٤٧ - ١٤٨.

٢٥٧

قال: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وُضِعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء!

فلما دنا منه أصحابه قال لرجاله: إملؤا قِرَبَكم. فشدَّ الرجّالة فملؤا قربهم. وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم ثمّ انصرفوا إلى رحالهم ..».(١)

وخرج الإمامعليه‌السلام ليلة عاشوراء في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسينعليه‌السلام عمّا أخرجه؟

قال: يا ابن رسول اللّه، أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي!

فقال الحسينعليه‌السلام : إنّي خرجتُ أتفقّد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم

الخيل يوم تحملون ويحملون.

ثمّ رجععليه‌السلام وهو قابضٌ على يد نافع ويقول: هي هي! واللّه وعدٌ لاخُلفَ فيه! ثمّ قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟ فوقع نافع على قدميه يقبّلهما ويقول: ثكلتني أمّي! إنّ سيفي بألف، وفرسي مثله! فواللّه الذي منّ بك عليَّ لافارقتك حتّى يملَّا عن فَرْيٍ وجَرْيٍ!».(٢)

وقد جسّد نافعرضي‌الله‌عنه صوراً رائعة من صور الشجاعة يوم عاشوراء، منها: لما استشهد عمرو بن قرظة الأنصاريرضي‌الله‌عنه ، خرج أخوه عليُّ بن قرظة وكان مع عمر بن سعد، فهتف بالإمام الحسين هتافاً سيئاً ثُمَّ حمل على الإمامعليه‌السلام فاعترضه

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٣١٢.

(٢) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢١٩.

٢٥٨

نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه(١)

وكان نافعرضي‌الله‌عنه يقاتل يومئذٍ وهو يقول: أنا الجَملي أنا على دين عليّ، فخرج إليه رجل يُقال له مزاحم بن حُريث فقال: أنا على دين عثمان!

فقال له: أنتَ على دين الشيطان! ثمّ حمل عليه فقتله، فقال عمرو بن الحجّاج بالنّاس: يا حمقى! أتدرون من تقاتلون!؟ فرسانَ المِصر! قوماً مستميتين! لايبرزنّ لهم منكم أحد، فإنّهم قليلٌ، وقلّ ما يبقون! واللّه لولم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم!

فقال عمر بن سعد: صدقتَ، الرأي ما رأيت. وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألّا يبارز رجلٌ منكم رجلًا منهم!(٢)

وكان نافعرضي‌الله‌عنه قد كتب إسمه على أفواق نبله! فجعل يرمي بها مسمومةً! وهو يقول: أنا الجملي أنا على دين علي.

فقتل إثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح! فضُرب حتى كُسِرت عضداه، وأُخذ أسيراً، أخذه شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه ومعه أصحاب له يسوقون نافعاًرضي‌الله‌عنه حتى أُوتي به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك!؟ قال: إنّ ربّي يعلم ما أردتُ! والدماء تسيل على لحيته وهو يقول: واللّه لقد قتلتُ منكم إثني عشر سوى من جرحتُ، وما ألوم نفسي على الجُهد! ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني!

فقال شمر لعمر: أُقتلْه أصلحك اللّه!

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٣٢٤.

(٢) راجع: تأريخ الطبري: ٣٢٤ - ٣٢٥.

٢٥٩

قال عمر: أنت جئت به، فإنْ شئت فاقتله!

فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أما واللّه، لو كنتَ من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللّهَ بدمائنا، فالحمدُ للّه الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. فقلته!.(١)

فسلام على نافع بن هلال يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

٤)- أمّا بُرَيْرُ بن خُضَير الهمدانيُّ المشرقيّرضي‌الله‌عنه ..

فقد كان شيخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، وكان من شيوخ القرّاء في الكوفة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين.

ونُقل: أنّه لما بلغه خبر الحسينعليه‌السلام سار من الكوفة إلى مكّة ليجتمع بالحسينعليه‌السلام ، فجاء معه حتّى استُشهد.(٢)

ومن مقالاته مع الإمامعليه‌السلام الكاشفة عن قوة بصيرته قولهرضي‌الله‌عنه : «واللّه يا ابن رسول اللّه، لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُك شفيعنا يوم القيامة!».»

ومن المواقف الكاشفة عن قوّة يقينهرضي‌الله‌عنه ما رواه الطبري أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام أمر بفسطاطٍ فضُرب، ثمّ أمر بمسكٍ فميثَ في جفنة عظيمة أو صحفة ثمّ دخل الإمامعليه‌السلام ذلك الفسطاط فتطلّى بالنورة، وعبدالرحمن بن عبد ربّه وبرير بن خضير الهمداني على باب الفسطاط تحتكُّ مناكبهما! فازدحما أيّهما

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٣٢٨.

(٢) راجع: إبصار العين: ١٢١.

(٣) راجع: اللهوف: ٣٥؛ وانظر: البحار، ٤٤: ٣٨٣.

٢٦٠