مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 307
المشاهدات: 124979
تحميل: 4970

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124979 / تحميل: 4970
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 3

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

____________________

= رشيد البلايا، وكان قد ألقى إليه علم البلايا والمنايا، وكان حياتَه إذا لقي الرجل قال له: فلان، أنت تموت بميتة كذا، وتُقتل أنت يا فلان بقتلة كذا وكذا، فيكون كما قال رشيد. وكان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: أنت رشيد البلايا! أي تقتل بهذه القتلة، فكان كما قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام .» (اختيار معرفة الرجال، ١: ٢٩١، رقم ١٣١). وفي (أمالي الطوسي: ١٦٥ - ١٦٦، رقم ٢٧٦/٢٨): «وكان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يسمّيه: رشيد المبتلى.».

وكانرضي‌الله‌عنه شديد الإجتهاد في العبادة والطاعة، حتى روي عن ابنته قنوا أنها قالت: «قلتُ لأبي: ما أشدّ اجتهادك! فقال: يا بُنيّة، سيجيء قوم بعدنا بصائرهم في دينهم أفضل من اجتهاد أولّيهم!» (البحار: ٤٢: ١٢٣، باب ١٢٢، رقم ٦).

ملاحظة مهمّة: قد يخطر في ذهن القاريء الكريم هذا السؤال وهو: إذا كان رشيد الهجري قد قُتل على يد عبيداللّه بن زياد لعنه الله، فهل قتله قبل مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام أم بعده؟

وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال نقول: إننا لم نعثر على إشارة تأريخية - حسب متابعتنا - تحدّد بالضبط اليوم الذي قُتل فيه أو أنّه قُتل قبل مقتل الإمامعليه‌السلام أم بعده، ولكنّ الأرجح - استنتاجاً - هو أنّه قُتل في الأيام الأولى من ولاية ابن زياد على الكوفة، لانّه ابتداء أيّامه الأولى فيها بقتل وجوه الشيعة وحواريّ عليّ والحسن والحسين صلوات اللّه عليهم، بل لعلّه قُتل في اليوم الأوّل من ولاية ابن زياد على الكوفة، ذلك لأنّ بعض المؤرّخين يقول: «لما أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صال وجال، وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة، وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب وصرف الناس عن الثورة.» (حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٣٦٠، عن الفصول المهمّة: ١٩٧ ووسيلة المآل: ١٨٦)، هذا أولاً، وثانياً: لو أنّ رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه كان حيّاً إلى وقت قيام مسلمعليه‌السلام أو إلى وقت خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة الى العراق أو إلى ما بعد مقتل الإمامعليه‌السلام ، فإنَّ المتوقَّع بدرجة كبيرة أن يكون لهذا الشيعي الحواريّ تحرّك محسوس، يناسب كلَّ فترة من تلك الفترات، ودور مهم ملموس لايمكن أن يغفل عنه التأريخ ولو بإشارة موجزة!

وهنا ربّما انقدح في ذهن القاريء الكريم سؤال آخر: وهو إذا كان رشيدرضي‌الله‌عنه قد قُتل في الأيام =

٨١

____________________

= الأولى من ولاية ابن زياد على الكوفة، فذلك من مختصات الجزء الثاني من هذه الدراسة، فلماذا لم يأتِ ذكره في ذلك الجزء كما ذُكر ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه مثلاً؟

وفي الإجابة نقول: كان رأي مؤلّف الجزء الثاني أنّ رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه قد قُتل على يد زياد لاعلى يد عبيد اللّه بن زياد، وكان قد اعتمد في تبنّي هذا الرأي على الأدلّة التالية:

أولاً: في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد: عن ابن عبّاس، عن مجاهد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي قال: «كنت عند زياد إذ اُتي برشيد الهجري فقال له زياد: ما قال لك صاحبك - يعني علياًعليه‌السلام - إنّا فاعلون بك!؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني. فقال زياد: أمَ والله لأكذبنّ حديثه، خلّو سبيله. فلما أراد أن يخرج قال زياد: والله ما نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال له صاحبه، إقطعوا يديه ورجليه واصلبوه. فقال رشيد: هيهات، قد بقي لي عندكم شيء أخبرني به أميرالمؤمنينعليه‌السلام ! فقال زياد: إقطعوا لسانه. فقال رشيد: الآن والله جاء تصديق خبر أميرالمؤمنينعليه‌السلام .».

وقال المفيد (ره): «وهذا الخبر أيضاً قد نقله المؤالف والمخالف عن ثقاتهم عمّن سمّيناه، واشتهر أمره عند علماء الجميع، وهو من جملة ما تقدّم ذكره من المعجزات والأخبار عن الغيوب.». (الإرشاد: ١٥٤).

ونقله الطبرسي في (إعلام الورى: ٣٤٣)، وابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة، ٢: ٢٩٤)، وقال السمعاني في (الأنساب، ٥: ٦٢٧): «كان يؤمن بالرجعة. قال الشعبي: دخلتُ عليه يوماً فقال: خرجتُ حاجّاً فقلتُ لأعهدن بأمير المؤمنين عهداً، فأتيتُ بيت عليّ فقلت لإنسان: إستأذن لي على عليّعليه‌السلام ! قال: أو ليسَ قد مات عليّرضي‌الله‌عنه !؟ قلت: قد مات فيكم، والله إنه ليتنفّس الآن تنفّس الحيّ! فقال: أما إذا قد عرفت سرَّ آل محمّد فادخل! قال: فدخلتُ على أميرالمؤمنين وأنّبأني بأشياء تكون! فقال له الشعبي: إنْ كُنت كاذباً فلعنك اللّه! وبلغ الخبر زياداً فبعث الى رشيد فقطع لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث.»، وقد نقل العسقلاني هذه القصة بطولها وتفاصيلها في (لسان الميزان، ٣: ٢) وأشار إليها الذهبي في (ميزان الإعتدال، ٢: ٥٢). =

٨٢

____________________

= ثانياً: الروايات التي تقول إنّ عبيداللّه بن زياد هو القاتل ثلاثة:

أ - رواية ابي حيّان البجلي عن قنوا بنت رشيد (الرواية الأولى في المتن).

ب - رواية فضيل بن الزبير (وهي الرواية الثانية في المتن).

ج - رواية كتاب (الإختصاص: ٧٧) عن أبي حسّان العجلي عن قنوا بنت رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه وهي شبيهة بالرواية الأولى.

وهذه الروايات كلّها ضعيفة، أمّا الأولى والثانية فباعتراف السيّد الخوئي بأنهما ضعيفتان (راجع: معجم رجال الحديث، ٧: ١٩٣)، وأمّا الثالثة فهي من روايات كتاب الإختصاص التي شكّك السيّد الخوئي (ره) في انتسابه إلى الشيخ المفيد (ره) (راجع: معجم رجال الحديث، ٧: ١٩١)، هذا فضلاً عن أنّ الرواية الأولى في سندها محمد بن عبداللّه بن مهران وهو غالٍ كذّاب فاسد المذهب والحديث، ضعيف (معجم رجال الحديث، ١٦: ٢٤٧)، والرواية الثانية أيضاً فيها هذا الرجل، إضافة الى فضيل بن الزبير وهو من أصحاب الباقر والصادقعليهما‌السلام فكيف يمكنه الرواية عن عليّعليه‌السلام ، فالرواية إذن مرسلة (راجع: معجم رجال الحديث، ١٦: ٣٢٦).

والرواية الثالثة - رواية الإختصاص - مروية عن أبي حسّان العجلي وهو رجل مجهول (راجع: تنقيح المقال، ٣: ١٠، الكنى).

ثالثاً: إنّ الدعيّ لقب أُطلق على زياد بن أبيه الذي ادّعى معاوية بن أبي سفيان أنه أخوه لأبيه من الزنا بأمّه، وأمّا عبيداللّه بن زياد فهو ابن دعيّهم وليس الدعيّ نفسه.

ويمكن أنّ يُردّ على ما ذهب إليه مؤلّف الجزء الثاني بما يلي:

١) - أنّ رواية الإرشاد - التي تقول إنّ زياداً هو القاتل - ضعيفة لاأقلّ بالشعبي وهو عامر بن شراحيل «قال الشيخ المفيد (ره): وبلغ من نصب الشعبي وكذبه أنه كان يحلف باللّه أنّ عليّاً دخل اللحد وما حفظ القرآن. وبلغ من كذبه أنه قال: لم يشهد الجمل من الصحابة إلاّ أربعة فإن جاؤا بخامس فأنا كذّاب... كان الشعبي سكّيراً خمّيراً مقامراً، روي عن أبي حنيفة أنّه خرق ما سمع منه لما رأى خمره وقمره؛ راجع: الفصول المختارة: ١٧١ وقاموس الرجال، ٥: ٦١٢» (الجزء الثاني من هذه الدراسة: ٢٣٩). =

٨٣

رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه : قال أبوحيّان: «قلتُ لها: أخبريني ما سمعت من أبيك.

____________________

= ومن هنا يسري الحكم على ما ورد في إعلام الورى والأنساب وشرح النهج وميزان الإعتدال ولسان الميزان بشأن هذه الرواية لأنّ الجميع عن الشعبي!

٢) - إنّ رواية كتاب الإختصاص لها طريق آخر - غير كتاب الإختصاص - وهو كتاب (أمالي الطوسي: ١٦٥، رقم ٢٧٦/٢٨، ففيه يروي الطوسي (ره) مباشرة عن أستاذه المفيد (ره)، بسند آخر عن أبي حسّان العجلي، وبهذا ينتفي اثر عدم قبول هذه الرواية بسبب التشكيك في كون كتاب الإختصاص من تأليف الشيخ المفيد (ره)!

٣) - صحيح أنّ لقب الدعيّ أطلق على زياد بسبب ادّعاء معاوية بأنه أخوه لأبيه من الزنا، ولكنّ هذا لايمنع من إطلاق هذا اللقب على ابنه عبيداللّه أيضاً، ألم تسمع قول الإمام الحسينعليه‌السلام : «الا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة» (مقتل الحسينعليه‌السلام ، للمقرّم: ٢٣٤) وقول عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه : «ايها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ بن الدعيّ» (إبصار العين: ٩٣).

٤) - الرسالة الإحتجاجية الكبيرة التي بعث بها الإمام الحسينعليه‌السلام إلى معاوية، والتي احتجّ فيها عليه - في جملة ما احتجّعليه‌السلام به - بقتله مجموعة من أعلام شيعة عليعليه‌السلام ، كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والحضرميين، هذه الرسالة كتبها الإمامعليه‌السلام بعد أن أخذ معاوية الناس بالبيعة لابنه يزيد بولاية العهد «وأخذك الناس ببيعة إبنك، غلام حدث يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب...» (اختيار معرفة الرجال، ١: ٢٥٢، رقم ٩٩)، فهذه الرسالة إذن كان الإمامعليه‌السلام قد بعثها إلى معاوية بعد موت زياد بن أبيه، لأنّ معاوية إنّما أخذ الناس بهذه البيعة ليزيد بعد موت زياد لمعارضته الشديدة لذلك.

فلوكان زياد هو قاتل رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه لكان الإمامعليه‌السلام - على احتمالٍ قويّ - قد احتجّ على معاوية أيضاً بقتل رشيدرضي‌الله‌عنه لمنزلته الخاصة عند عليّعليه‌السلام والتي قد لاتقلّ عن منزلة حجر بن عديرضي‌الله‌عنه وعمرو بن الحمق الخزاعيرضي‌الله‌عنه والحضرميينرضي‌الله‌عنه ، وفي هذا مؤيّد قويّ على أنّ زياداً ليس هو قاتل رشيدرضي‌الله‌عنه بل إبنه عبيدالله!

٨٤

قالت: سمعتُ أبي يقول: أخبرني أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه، فقال: يا رشيد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟

قلت: يا أميرالمؤمنين، آخر ذلك إلى الجنّة؟

فقال: يا رشيد، أنت معي في الدنيا والآخرة!

قالت: فواللّه ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه عبيداللّه بن زياد الدعيّ، فدعاه إلى البراءة من أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فأبى أن يبرأ منه!

فقال له الدعيّ: فبأيّ ميتة قال لك تموت!؟

فقال له: أخبرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ منه، فتقدّمني فتقطع يديّ ورجليَّ ولساني!

فقال: واللّه لأكذبنّ قوله فيك.

قالت: فقدّموه فقطعوا يديه ورجليه وتركوا لسانه، فحملتُ أطراف يديه ورجليه، فقلت: يا أبتِ، هل تجد ألماً لما أصابك!؟(١)

فقال: لا يا بُنيّة إلّا كالزحام بين الناس!

فلما احتملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله.

فقال: إئتوني بصحيفة ودواة أكتبْ لكم ما يكون إلى قيام الساعة! فأُرسل إليه

____________________

(١) لو كان هذا السؤال موجّهٌ إلى إنسان وخزته شوكة أو جرحت يده سكين جرحاً بسيطاً لكان سؤالاً في محلّه، أمّا أنْ يوجّه هذا السؤال إلى رجل قطعت يداه ورجلاه فهذا كاشف عن أنَّ السائل يعلم أنَّ هذا الرجل على مستوىً عال جداً من الناحية المعنوية والرياضة الروحية إلى درجة أنّه يتسامى على الآلام العظيمة فهي عنده طفيفة جداً أو لايشعر بها، ولقد صدّق رشيدرضي‌الله‌عنه ظنّ ابنته إذ أجابها: لايا بنيّة إلاّ كالزحام بين الناس!

٨٥

الحجّام حتى يقطع لسانه، فمات رحمة اللّه عليه في ليلته.».(١)

وروى الكشّي أيضاً بسند عن فضيل بن الزبير قال: «خرج أميرالمؤمنينعليه‌السلام يوماً إلى بستان البرني، ومعه أصحابه، فجلس تحت نخلة، ثمّ أمر بنخلة فلُقطت فأُنزل منها رطب فوضع بين ايديهم، قالوا: فقال رشيد الهجري: يا أميرالمؤمنين، ما أطيب هذا الرطب!

فقال: يا رشيد، أما إنّك تُصلب على جذعها!

فقال رشيد فكنتُ أختلف إليها طرفي النهار أسقيها!

ومضى أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، قال فجئتها يوماً وقد قُطع سعفها، قلتُ اقترب أجلي، ثمّ جئت يوماً فجاء العريف فقال: أجب الأمير.

فأتيته، فلما دخلت القصر فإذا الخشب مُلقى، ثمّ جئت يوماً آخر فإذا النصف الإخر قد جُعل زرنوقاً(٢) يُستقى عليه الماء، فقلت ما كذبني خليلي! فأتاني العريف فقال: أجب الأمير. فأتيته، فلما دخلت القصر إذا الخشب مُلقى، فإذا فيه الزرنوق! فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي ثمّ قلتُ: لك غُذيتُ ولي أنبتَّ! ثمّ أُدخلت

____________________

(١) اختيار معرفة الرجال، ١: ٢٩٠ - ٢٩١، رقم ١٣١، وروى الشيخ الطوسي (ره) هذه الرواية بتفاوت، عن الشيخ المفيد (ره) بسند إلى أبي حسّان العجلي، عن بنت رشيد الهجريرضي‌الله‌عنه ، وفيها: «ثمّ دخل عليه جيرانه ومعارفه يتوجّعون له، فقال: إيتوني بصحيفة ودواة أذكر لكم ما يكون ممّا علّمنيه مولاي أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فأتوه بصحيفة ودواة، فجعل يذكر ويُملي عليهم أخبار الملاحم والكائنات، ويسندها إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إليه الحجّام حتى قطع لسانه، فمات من ليلته تلك رحمه الله.» (أمالي الطوسي: ١٦٥،رقم ٢٧٦/٢٨).

(٢) الزرنوق: تثنيته الزرنوقان، وهما منارتان تبنيان على جانبي رأس البئر.

٨٦

على عبيداللّه بن زياد.

فقال: هات من كذب صاحبك!

فقلت: واللّه ما أنا بكذّاب ولاهو، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني.

قال: إذاً واللّه نكذّبه، إقطعوا يده ورجله، وأخرجوه!

فلما حُمل إلى أهله أقبل يحدّث الناس بالعظائم، وهو يقول: أيها الناس، سلوني فإنّ للقوم عندي طلبة لم يقضوها. فدخل رجل على ابن زياد فقال له: ما صنعتَ؟ قطعتَ يده ورجله وهو يحدّث الناس بالعظايم!

قال: ردّوه. وقد انتهى إلى بابه، فردّوه فأمر بقطع يديه ورجليه ولسانه، وأمر بصلبه.».(١)

إضطهاد مجاميع من رجال المعارضة وحبسهم

قال المامقاني (ره): «إنّ ابن زياد لما أطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسينعليه‌السلام حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التّوابين من أصحاب أميرالمؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صُرد وإبراهيم بن مالك الأشتر و فيهم أبطال وشجعان.».(٢)

ونقل القرشي أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة إثنا عشر ألفاً،(٣) وأنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صُرد الخزاعي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي

____________________

(١) اختيار معرفة الرجال، ١: ٢٩١ - ٢٩٢، رقم ١٣٢.

(٢) تنقيح المقال، ٢: ٦٣؛ وانظر: قاموس الرجال، ٥: ٢٨٠.

(٣) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٤١٦، نقلاً عن «المختار مرآة العصر الأموي».

٨٧

واربعمائة من الوجوه والأعيان.(١)

و «حبس جماعة من الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نباتة، والحارث الأعور الهمداني».(٢)

وذكر الطبري أنّ ابن زياد: «أمر أن يُطلب المختار وعبداللّه بن الحارث وجعل فيهما جعلًا، فأُتي بهما فحُبسا».(٣)

قتل عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه (٤)

إنّ المشهور عند أهل السير(٥) هو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام سرّح عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه إلى مسلم بن عقيلعليه‌السلام بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم إلى الإمامعليهما‌السلام الذي أخبره فيه باجتماع الناس وسأله فيه القدوم إلى الكوفة، فقبض عليه الحصين بن نمير(٦) (أو بن تميم)(٧) بالقادسية، لكنّ هناك روايتين

____________________

(١) نفس المصدر السابق نقلاً عن الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام ، للمقرّم: ١٥٧.

(٣) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٤، وقال البلاذري، في أنساب الأشراف، ٥: ٢١٥: «أمر زياد بحبسهما - المختار والحارث - بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين.».

ويبدو أنّ المختار (ره) - من مجموع روايات حبسه - قد حُبس مرتين، الأولى مع ميثم التمّار ثمّ أُخرج بشفاعة ابن عمر له عند يزيد، ثمّ حُبس المرّة الثانية إلى أن قُتل الإمامعليه‌السلام ، والله العالم.

(٤) عبداللّه بن يقطر الحميريرضي‌الله‌عنه : مضت ترجمته في الجزء الثاني من هذه الدراسة ص ١٦٧ - ١٧٢.

(٥) راجع: إبصار العين: ٩٣.

(٦) راجع: الإرشاد: ٢٠٣.

(٧) راجع: إبصار العين: ٩٣.

٨٨

تفيدان أنهرضي‌الله‌عنه كان رسولاً من مسلمعليه‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام ، وقبض عليه مالك بن يربوع التميمي أحد مأموري الحصين بن نمير خارج الكوفة.

وتفصيل القصة - على أساس رواية كتاب تسلية المجالس- هكذا: أنه بينما كان عبيداللّه بن زياد يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هانيء:(١) «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح اللّه الأمير، إني كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً إلى البادية، فأنكرته، ثمّ إني لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتّشته فأصبت معه هذا الكتاب. فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ: فإني أخبرك أنه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل، فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى ...

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب.

فقال: إئتوني به.

فلما وقف بين يديه، قال: ما اسمك؟

قال: عبداللّه بن يقطين.(٢)

____________________

(١) وفي رواية مناقب آل أبي طالب، ٤: ٩٤، أنّ ابن زياد بعد أن زار شريكاً في مرضه في بيت هانيء، وجرى ماجرى من خطة اغتياله، فخرج، فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يد عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه ... وفي الرسالة: «.. أمّا بعد، فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي...».

(٢) لاريب أنّ إسم يقطين هنا تصحيف لإسم يقطر (والتصحيف في مثل هذه الحالات كثير =

٨٩

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ أمرأة لا أعرفها!

فضحك ابن زياد وقال: إختر أحد إثنين، إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب أو القتل!

فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أُخبرك، وأمّا القتل فإني لا أكرهه لأنّي لا أعلم قتيلًا عند اللّه أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال: فأمر به فضربت عنقه(١) .».(٢)

وقال المحقّق الشيخ محمّد السماوي (ره): «وقال ابن قتيبة وابن مسكويه: إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر وإنَّ عبداللّه بن يقطر بعثه الحسينعليه‌السلام مع مسلم، فلما أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين

____________________

= خصوصاً في المخطوطات)، ذلك لأنّ إسم يقطين لم يرد إلاّ في كتاب تسلية المجالس، كما أن إسم الأب في رواية ابن شهرآشوب في المناقب، ٤: ٩٤ المشابهة لهذه الرواية هو يقطر وليس يقطين، هذا فضلاً عن أنّ رواية كتاب تسلية المجالس نفسها تذكر أنّ عبداللّه هذا رجل من اهل المدينة، والتأريخ لم يذكر لنا رجلاً من شهداء النهضة الحسينية من اهل المدينة بهذا الإسم (من غير بني هاشم) سوى عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه .

(١) وفي رواية الإرشاد:٢٠٣؛ وتأريخ الطبري، ٣: ٣٠٣، أنّ ابن يقطررضي‌الله‌عنه كان رسولاً من الإمامعليه‌السلام الى مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وأنّ ابن زياد قال له: «إصعد القصر والعن الكذّاب بن الكذّاب! ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي. فصعد القصر، فلما اشرف على الناس قال: أيّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ ابن الدعيّ، فأمر به عبيداللّه فألقي من فوق القصر إلى الأرض، فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فأتاه عبدالملك بن عمير اللخمي (قاضي الكوفة وفقيهها!!) فذبحه بمدية، فلمّا عيب عليه قال: إني أردت أن أُريحه!» (انظر: إبصار العين: ٩٣).

(٢) تسلية المجالس، ٢: ١٨٢.

٩٠

يخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين وصار ما صار عليه من الأمر الذي ذكرناه.».(١)

وهذا يؤيّد انّ عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه كان رسولًا من مسلمعليه‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام ، ولكنّة يخالف ما في رواية المناقب ورواية تسلية المجالس في أنهرضي‌الله‌عنه كان قد حمل إلى الإمامعليه‌السلام خبر الخذلان لاخبر البشرى بالعدد الكبير من المبايعين!

والظاهر أنّ عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه - على المشهور- قُتل بنفس الطريقة التي قُتل بها قيس بن مسهّر الصيداويرضي‌الله‌عنه ، حيث أُلقي كلُّ منهما من فوق القصر، لكنّ الأوّل قُتل قبل الثاني رضوان اللّه تعالى عليهما، بدليل أنّ خبر مقتل ابن يقطررضي‌الله‌عنه ورد إلى الإمامعليه‌السلام بزبالة في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلمعليه‌السلام وهانيءرضي‌الله‌عنه ، فنعاهم الإمامعليه‌السلام قائلًا: «أمّا بعدُ، فقد أتانا خبرٌ فظيع، قُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا ...»،(٢)

وبذلك يكون عبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه ثاني رسل النهضة الحسينية الذين استشهدوا أثناء أداء مهمّة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأول سليمان بن رزينرضي‌الله‌عنه رسول الإمامعليه‌السلام إلى البصرة.

البحث لمعرفة مكان مسلم بن عقيلعليه‌السلام

كان الهمُّ الأكبر لعبيداللّه بن زياد منذ بدء وصوله الكوفة هو معرفة مكان مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، فهو طلبته الكبرى ومبتغاه الأساس تنفيذاً لرسالة يزيد التي طلب منه فيها أن يطلب مسلماًعليه‌السلام طلب الخرزة.

____________________

(١) إبصار العين: ٩٤.

(٢) المصدر السابق.

٩١

وكان مسلمعليه‌السلام نتيجة الإجراءات الإرهابية المتسارعة التي اتخذها ابن زياد وما أخذ به العرفاء والناس قد خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هانيءرضي‌الله‌عنه فاتخذها مقرّاً له، وأخذت الشيعة تختلف إليه فيها على تستر واستخفاء وتواصٍ بالكتمان.

قال الدينوري: «وخفي على عبيداللّه بن زياد موضع مسلم بن عقيل، فقال لمولى له من أهل الشام يسمّى معقلًا- وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس(١) - وقال:

خذ هذا المال وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتَّ له بغاية التأتّي!

فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، وجعل لايدري كيف يتأتّى الأمر، ثمّ إنّه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فقال في نفسه:

إنّ هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة! وأحسب هذا منهم! فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام، فدنا منه، وجلس فقال: جُعلت فداك، إني رجل من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، وقد أنعم اللّه عليّ بحبّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وحبّ من أحبّهم، ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم، أحبّ إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن عليّعليه‌السلام ، فهل تدلّني عليه لأوصل هذا المال إليه، ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحبَّ من شيعته؟

قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممّن هو في المسجد!؟

قال: لأنّي رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممّن يتولّى أهل بيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) وفي مثير الأحزان: ٣٢: «فأعطاه أربعة آلاف درهم».

٩٢

قال له الرجل: ويحك، قد وقعتَ عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك وإسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُررتُ بك، وساءني ما كان من حسّي قِبلك، فإنّي رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمّة اللّه وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس.

فأعطاه من ذلك ما أراد!

فقال له مسلم بن عوسجة: إنصرف يومك هذا، فإنْ كان غدٌ فائتني في منزلي حتى انطلق معك إلى صاحبنا- يعني مسلم بن عقيل- فأوصلك إليه.

فمضى الشاميُّ، فبات ليلته، فلما أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله، فانطلق به حتّى أدخله إلى مسلم بن عقيل، فأخبره بأمره، ودفع إليه الشاميّ ذلك المال، وبايعه!

فكان الشاميّ يغدو إلى مسلم بن عقيل، فلا يحجبُ عنه، فيكون نهاره كلّه عنده، فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيداللّه ابن زياد فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وفعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم في دار هانيء بن عروة.».(١)

إشارة:

قد يأسف المتتبّع باديء ذي بدء للسهولة التي تمّت بها عملية اختراق حركة مسلم بن عقيلعليه‌السلام من داخلها على يد الجاسوس معقل مولى عبيداللّه بن زياد،

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٣٥ - ٢٣٦؛ وانظر: الإرشاد: ١٨٩؛ وتاريخ الطبري، ٣: ٢٨٢ والكامل في التاريخ، ٣: ٣٩٠؛ ومقاتل الطالبين: ٦٤؛ وروضة الواعظين: ١٧٤ وتجارب الأمم، ٢: ٤٣؛ وتذكرة الخواص: ٢١٨.

٩٣

من طريق مسلم بن عوسجة الأسديّرضي‌الله‌عنه ، وهو علم من أعلام الشيعة في الكوفة، وأحد شهداء الطفّ، وهو الشريف السَرِيُّ في قومه،(١) والفارس الشجاع الذي له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية، وقد شهد له الأعداء بشجاعته وخبرته وبصيرته وإقدامه.(٢)

وفي ظنّ المتتبع أنّ على مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه أن يحذر أكثر ويحتاط حتّى يطمئنّ تماماً إلى حقيقة هويّة معقل الجاسوس قبل أن يدلّه على مكان مسلم بن عقيلعليه‌السلام أو يستأذن له في الدخول عليه! ليخترق بذلك الحركة من داخلها!

لكنّ ما وقع فعلًا هو أنّ ابن عوسجةرضي‌الله‌عنه لم يكن قد قصّر في حذره وحيطته، غير أنّ معقلًا كان فعلًا «ماهراً في صناعته وخبيراً فيما انتُدب إليه»(٣) لاختراق حركة مسلمعليه‌السلام من داخلها.

أمّا سهولة تعرّفه على ابن عوسجةرضي‌الله‌عنه فلا تحتاج الى كثير جهد ومشقّة إذا كانرضي‌الله‌عنه وجهاً شيعياً معروفاً في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه حين قال له: «سمعت نفراً يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدلّني على صاحبك فأبايعه، وإنْ شئتَ أخذتَ البيعة

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ١٠٧.

(٢) لما قُتل مسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه في كربلاء صاحت جارية له: «واسيّداه يا ابن عوسجتاه! فتباشر أصحاب عمر بذلك، فقال لهم شبث بن ربعي: ثكلتكم أمّهاتكم! إنمّا تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّون أنفسكم لغيركم، أتفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن عوسجة!؟ أما والذي أسلمتُ له، لرُبَّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سَلَق آذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تتامّ خيول المسلمين، أفيقُتل منكم مثله وتفرحون!؟» (تاريخ الطبري، ٣: ٣٢٥؛ والكامل في التاريخ،٣: ٢٩٠).

(٣) حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، ٢: ٣٢٩.

٩٤

له قبل لقائه!»،(١) ولقد عبّر له ابن عوسجةرضي‌الله‌عنه عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه بقوله: «.. ولقد سائتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته ..».(٢)

ثمّ إن ابن عوسجةرضي‌الله‌عنه أخّر معقلًا أيّاماً قبل أن يطلب الأذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الأيّام «إختلفْ إليَّ أيّاماً في منزلي فإني طالب لك الأذن على صاحبك ..»،(٣) ثمّ لم يدخله على مسلم بن عقيلعليه‌السلام حتى طلب له الأذن فأُذن له، ولاشك أنّ أخذ الأُذن يتمّ بعد شرح ظاهر الحال الذي تظاهر به معقل، ومن الدلائل على مهارة ابن زياد ومعقل في فنّ التجسس أنّ ابن زياد أوصى معقلًا أن يتظاهر بأنّه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص بالذات،(٤) ذلك حتّى لايكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة، كما أنّ أهل حمص آنذاك على ما يبدو قد عُرف عنهم حبّهم لأهل البيتعليهم‌السلام ، أو عُرف أنّ فيهم من يحبّ أهل البيتعليه‌السلام ، فيكون ذلك مدعاة لاطمئنان من يتخذه معقل منفذاً لاختراق حركة مسلمعليه‌السلام من داخلها، كما أنّ معقلًا قد ادّعى أمام ابن عوسجةرضي‌الله‌عنه أنه مولىً لذي الكلاع الحميري هناك في الشام، والمعروف عن جلّ الموالي حبّهم لأهل البيتعليهم‌السلام !

الخلاصة أنّ معقلًا كان قد أحكم خطّته واتقن تمثيل دوره المرسوم وبرع في

____________________

(١) و (٢) إبصار العين: ١٠٨ - ١٠٩؛ وانظر: الإرشاد: ١٨٩؛ وتأريخ الطبري، ٣: ٢٨٢.

(٣) راجع: الإرشاد: ١٨٩.

(٤) قال ابن نما (ره): «ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد حيث خفي عليه حديث مسلم دعا مولى له يقال له معقل، فأعطاه أربعة آلاف درهم.. وأمره بحسن التوصّل إلى من يتولّى البيعة وقال: أعلمه أنّك من أهل حمص جئت لهذا الأمر، فلم يزل يتلطّف حتى وصل الى مسلم بن عوسجة الأسدي..» (مثير الأحزان: ٣٢).

٩٥

ذلك، لكنّ في حضوره يومياً عند مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ودخوله عليه في أوّل الناس، وخروجه عنه آخرهم، فيكون نهاره كلّه عنده، ما يدعو إلى الريبة والشك فيه، فلماذا لم يرتب ولم يشكّ فيه مسلمعليه‌السلام وأصحابه!؟ إنّ في هذا ما يدعو إلى الإستغراب والحيرة فعلًا!

لكننا حيث لانملك معرفة تفاصيل جريان حركة أحداث تلك الأيّام بشكلٍ كافٍ، وحيث لم يأتنا التأريخ إلّا بنزرٍ قليل منها لاينفعنا إلّا في رسم صورة عامة عن مجرى حركة تلك الأحداث، وحيث نعلم أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام ومسلم بن عوسجةرضي‌الله‌عنه وأصحابهما هم من أهل الخبرة الإجتماعية والسياسية والعسكرية، فلا يسعنا أن نتعرض باللوم عليهم أو أن نتهمهم بالسذاجة! بل علينا أن نتأدّب بين يدي تلك الشخصيات الإسلامية الفذّة، وأن ننزّه ساحاتهم المقدّسة عن كلّ مالايليق بها، وأن نقف عند حدود معرفتنا التأريخية القاصرة لانتعدّاها إلى استنتاجات واتهامات غير صائبة ولا لائقة، خصوصاً إذا تذكّرنا حقيقة أنَّ عمليات الإختراق من الداخل من خلال دسّ الجواسيس المتظاهرين بغير حقيقتهم كانت أمراً مألوفاً منذ قديم الأيام ولم تزل حتّى يومنا الحاضر وتبقى إلى ما شاء اللّه، وشذّ وندر أن يجد الإنسان حركة سياسية تغييرية تعمل لقلب الأوضاع سلمت من الإختراق من داخلها من قبل أعدائها، بل قد لايجد الإنسان حركة سياسية تغييرية غير مخترقة، وهذ لايعني أنّ قيادتها ساذجة ولاتتمتع بالحكمة!

اعتقال هانيء بن عروةرضي‌الله‌عنه

كان هانيء بن عروة المراديرضي‌الله‌عنه بفطنته السياسية والإجتماعية يتوقع مايحذره من عبيداللّه بن زياد برغم التستر والخفاء الذي كانت تتمّ في ظلّهما اجتماعات مسلمعليه‌السلام مع مريديه وأتباعه في بيته، وبرغم التواصي بالكتمان، ذلك لأنّ هانئاًرضي‌الله‌عنه كان يعلم أنّ الهمّ الأكبر لابن زياد هو معرفة مكان ومقرّ

٩٦

مسلمعليه‌السلام ، فلابدّ له من أن يتجسس ويحتال الحيلة لمعرفة ذلك، وكان هانيءرضي‌الله‌عنه يعرف مكر ابن زياد وغدره، فانقطع عن زيارة القصر خشية أن يمشي الى المحذور برجليه فيواجه الخطر بمعزلٍ عن قوّة قبيلته التي يحُسب لها ألف حساب في مجتمع الكوفة، تقول الرواية التأريخية «وخاف هانيء بن عروة على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض.

فقال ابن زياد لجلسائه: مالي لا أرى هانياً!؟

فقالوا: هو شاكٍ.

فقال: لو علمتُ بمرضه لعدتُه!!

ودعى محمّد بن الأشعث،(١) وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي- وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانيء بن عروة، وهي أمّ يحيى بن هانيء-

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا!؟

فقالوا: ما ندري، وقد قيل إنه يشتكي.

قال: قد بلغني أنه قد بريء، وهو يجلس على باب داره!، فالقوه ومروه ألّا يدع ما عليه من حقّنا، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب!

فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة وهو جالس على بابه.

وقالوا له: مايمنعك من لقاء الأمير!؟ فإنّه قد ذكرك وقال لو أعلم أنّه شاكٍ لَعدتُه.

فقال لهم: الشكوى تمنعني!

____________________

(١) محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وأمّه أخت أبي بكر (راجع: تهذيب التهذيب، ٩: ٥٥).

٩٧

فقالوا له: قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشية على باب دارك! وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لايحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبتَ معنا!

فدعى بثيابه فلبسها، ثمّ دعى ببغلة فركبها، حتّى إذا دنى من القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ، إنّي واللّه لهذا الرجل لخايف! فما ترى؟

فقال: يا عمّ، واللّه ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلًا.

ولم يكن حسّان يعلم في أيّ شيء بعث إليه عبيداللّه.

فجاء هانيء حتى دخل على عبيداللّه بن زياد وعنده القوم، فلما طلع قال عبيداللّه: أتتك بخاين رجلاه!(١)

فلما دنى من ابن زياد، وعنده شريح القاضي،(٢) إلتفت نحوه فقال:

أُريدُ حياته ويُريد قتلي

عذيرك من خليلك من مُراد

وقد كان أوّل ما قدم مكرماً له ملطفاً ...

فقال له هاني: وما ذاك أيّها الأمير!؟

قال: إيه يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنَّ ذلك يخفى عليَّ!؟

قال: ما فعلتُ ذلك، وما مسلم عندي.

____________________

(١) هذا مثل معروف، وقد ضبطه المحقّق السماوي هكذا: «أتتك بحائن رجلاه تسعى»: والحائن: الميّت، مِنَ الحَيْن بفتح الحاء وهو الموت. (إبصار العين: ١٤٣).

(٢) مرّت بنا ترجمة مفصلة وافية لشريح القاضي في الجزء الثاني، ص ١٨٣ - ١٨٥.

٩٨

قال: بلى، قد فعلتَ!

فلما كثر ذلك بينهما وأبى هاني إلّا مجاحدته ومناكرته، دعى ابن زياد معقلًا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه.

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

وعلم هاني عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثُمَّ راجعته نفسه.

فقال: إسمع منّي وصدّق مقالتي، فواللّه لاكذبت، واللّه ما دعوته إلى منزلي، ولاعلمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإنْ شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلّظاً ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذمامه وجواره.

فقال له ابن زياد: واللّه لاتفارقني أبداً حتى تأتيني به!

قال: لاواللّه، لاأجيئك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله!؟

قال: واللّه لتأتينّي به.

قال: لا واللّه لاآتيك به.

«فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- وليس بالكوفة شاميٌّ ولابصريٌّ غيره- فقال: أصلح اللّه الأمير، خلّني وإيّاه حتّى أكلمه.

فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما

٩٩

سمع ما يقولان.

فقال له مسلم: يا هاني، أُنشدك اللّه أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فواللّه إنّي لأنفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل إبن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولاضائريه، فادفعه إليهم فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولامنقصة، إنما تدفعه إلى السلطان!

فقال هاني: واللّه إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!

فأخذ يناشده وهو يقول: واللّه لا أدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه منّي.

فأدنوه منه، فقال: واللّه لتأتينيّ به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذن لكثر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: والهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني!؟- وهو يظنّ أنَّ عشيرته سيمنعونه- ثمّ قال: أدنوه منّي!

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته حتى كُسر القضيب!

وضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه! فقال عبيداللّه: أحروريٌّ(١) ساير اليوم!؟ قد حلّ لنا دمك! جرّوه.

____________________

(١) الحروري: لقب يُطلق على كلّ خارجي (من الخوارج) آنذاك، نسبة إلى حرورأ، إسم موضع =

١٠٠