سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)0%

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف: علي موسى الكعبي
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف:

ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245
المشاهدات: 54464
تحميل: 8353

توضيحات:

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 245 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54464 / تحميل: 8353
الحجم الحجم الحجم
سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: 964-319-218-0
العربية

عليهم بأنه مثل القرآن ثلاث مرات ، وأنّه مافيه آية من كتاب الله ، بل هو كتاب غير القرآن الكريم يتضمّن خبر ما كان وخبر ما يكون إلى يوم القيامة ، وأنّه ممّا حدثتها به الملائكة ، وهو بخطّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفي بعض الأخبار : أنّه إملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ عليعليه‌السلام (١) .

وكان عندها لوح أو صحيفة فيها أسماء الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام بروايتها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد رآها جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه ، وهذا اللوح هو بشارة لهاعليها‌السلام من السماء ، وقد روي بطرق عديدة ومعتبرة(٢) .

ولقد أُوتيت الزهراءعليها‌السلام كسائر أهل البيتعليهم‌السلام حظاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة ، قال توفيق أبو علم : كلامها متناسب الفقر ، متشاكل الأطراف ، تملك القلوب بمعانيه ، وتجذب النفوس بمحكم أدائه ومبانيه ، فهي في البيان من أغزر القوم مادة ، وأطولهم باعاً ، وأمضاهم سليقة ، وأسرعهم خاطراً(٣) .

وقد رويت لها خطبتان تعدّان من أهم خطب الصدر الأول ، لاَنّها ضمّنتهما أخطر التحولات التي شهدها تاريخ الإسلام بعد رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفضلاً عن ذلك فقد نسبت للزهراءعليها‌السلام بعض القصائد الشعرية البليغة ، ممّا يدل على تمكّنها من ناصية اللغة ومعرفتها لهذا الفن.

قال ابن رشيق القيرواني : وكانت فاطمةعليها‌السلام تقول الشعر ، ورويت لها

__________________

١) راجع الكافي / الكليني ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٢. وبصائر الدرجات / الصفار : ١٧٣ ـ ١٧٩ الأعلمي ـ طهران. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٠٤ / ٣٤.

٢) راجع طرقه في عوالم الزهراءعليها‌السلام / البحراني ٢ : ٨٤٣ ـ ٨٥٢.

٣) أهل البيت : ١٥٧.

١٢١

أشياء كثيرة(١) .

وقد جمع الشعر المنسوب إليها في ديوان ، فبلغ(١٨) بين مقطوعة وقصيدة ، وأغلبه في رثاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

٣ ـ العفّة والحجاب :

لقد أعطى الإسلام للمرأة حقوقها ، وشرّع القوانين لحمايتها ورعاية مصالحها ، ومنحها الحرية ضمن تعاليمه السامية في طلب العلم والحصول على الملكية والارث والعمل ، ولكن بشرط أن لا تكون على نمط الحرية الإباحية التي تعرض فيها المرأة نفسها بالمجان ، وتكون سبباً في إفساد بنية الاُسرة وانحراف المجتمع ، كما هو الحال في المجتمعات الغربية.

ولقد ضربت الزهراءعليها‌السلام أروع الأمثلة في ما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة من حصانة وعفّة مع أدائها لدورها في داخل المنزل وخارجه على أتمّ وجه ، فهي النموذج الأمثل الذي قدّمه الإسلام للمرأة ، فمن الحقّ أن يقتدى بها في كل ما أُثر عنها من مبادئ العفّة والحجاب ، فقد روي عنهاعليها‌السلام أنّها قالت : «خير للمرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل »(٣) .

فمن حيث خمار رأسها فقد وصف أنّه يصل إلى نصف عضدها ، كما جاء بالاسناد عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنه قال : «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وما كان خمارها إلاّ هكذا » وأومأ بيده إلى وسط عضده(٤) .

ومن عجائب أمرهاعليها‌السلام أنّها كانت تتحرج من رؤية الرجل الأعمى ،

__________________

١) العمدة / ابن رشيق ١ : ١٠٣ ، دار المعرفة ، وروى لها قصيدة في رثاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ٢ : ٨١٦ من العمدة.

٢) جمع في أول كتاب (فاطمة في ديوان الشعر العربي : ١٥ ـ ٢٤) مؤسسة البعثة ـ بيروت.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١.

٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٩٣ ، منشورات الرضي ـ قم.

١٢٢

فكيف بالبصير حينئذ؟!

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استأذن عليها أعمى فحجبته ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لِمَ حجبتيه وهو لا يراك ، فقالت : يارسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه ، وهو يشمّ الريح. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أشهد أنك بضعة مني »(١) .

وروى الشيخ الكليني بالاسناد عن أبي جعفرعليه‌السلام ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد فاطمةعليها‌السلام وأنا معه ، فلمّا انتهيت إلى الباب وضع يده عليه ، ثم قال : «السلام عليكم ». فقالت فاطمةعليها‌السلام : «عليك السلام يا رسول الله » قال : «أدخل؟ » قالت : «ادخل يا رسول الله ». قال : «أدخل أنا ومن معي؟ » فقالت : «يارسول الله ليس عليَّ قناع ». فقال : «يافاطمة ، خذي فضل ملحفتك ، فقنّعي به رأسك » ففعلت ، ثم قال : «السلام عليكم ». فقالت فاطمة : «وعليك السلام يا رسول الله » ، قال : «أدخل » قالت : «نعم يا رسول الله » قال : «أنا ومن معي؟ » قالت : «أنت ومن معك » الحديث(٢) .

وروى أبو نعيم بالاسناد عن جابر بن سمرة ، قال : جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فجلس فقال : «إنّ فاطمة وجعة » فقال القوم : لو عدناها. فقام فمشى حتى انتهى إلى الباب ، والباب عليها مصفق ، قال : فنادى : «شدّي عليك ثيابك ، فإنّ القوم جاءوا يعودونك » فقالت : «يا نبي الله ، ما عليَّ إلاّ عباءة » قال : فأخذ رداءً فرمى به إليها من وراء الباب ، فقال : «شدّي بهذا رأسك » فدخل ودخل

__________________

١) المناقب / ابن المغازلي : ٣٨٠ / ٤٢٨. والنوادر / الراوندي : ١٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩١ـ٩٢ / ١٦.

٢) الكافي ٥ : ٥٢٨ / ٥.

١٢٣

القوم ، فقعد ساعة فخرجوا ، فقال القوم : تالله بنت نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا الحال! قال : فالتفت فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أما إنّها سيدة النساء يوم القيامة »(١) .

والتزام الزهراءعليها‌السلام بالحجاب الإسلامي لم يمنعها من أداء دورها الرسالي في الدفاع عن عقائد الإسلام وسُنّة أبيها المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله واسترجاع حقّها السليب ، فقد وصفها الرواة حينما جاءت إلى مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقولهم : لمّا بلغ فاطمةعليها‌السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك ، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، فدخلت عليه وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها مُلاءة(٢) .

ومن مظاهر العفة والحشمة التي سجلتها الزهراءعليها‌السلام سُنّة تُقتدى إلى اليوم ، هي أنّها عندما اشتكت شكوتها التي قبضت فيها ، قالت لاَسماء بنت عميس : «ألا تجعلي لي شيئاً يسترني ، فإنّي استقبح ما يصنع بالنساء ، يطرح على المرأة الثوب فيصفها » ، فقالت أسماء : إني رأيت شيئاً يصنع بالحبشة ، فصنعت لها هيئة النعش ، فقالتعليها‌السلام : «اصنعي لي مثله ، استريني سترك الله من النار ».

فكان نعشها أول نعش أُحدث في الإسلام ، واتخذ بعد ذلك سُنّة(٣) .

٤ ـ الكرم والسخاء :

وسجّلت الزهراءعليها‌السلام دوراً بارزاً في الانفاق في سبيل الله وعتق الرقاب

__________________

١) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤٢ ، دار الكتب العلمية ، وروى نحوه ابن شاهين في فضائل فاطمةعليها‌السلام : ٣٤ ـ ٣٥ بالاسناد عن عمران بن حصين.

٢) ستأتي الخطبة مع تخريجها في الفصل الثالث.

٣) راجع : التهذيب / الطوسي ١ : ٤٦٩ / ١٥٤٠. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٣. وتاريخ المدينة / ابن شبّة ١ : ١٠٨. وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٢ : ١٢٨.

١٢٤

وإعانة الضعفاء والمعوزين من أبناء المجتمع الإسلامي على الرغم من شظف العيش وشدّة الزمان.

ولقد عرضنا في أواخر الفصل المتقدم بعض النماذج الناطقة بتحلّيها بهذا الخلق النبوي الكريم ، من ذلك تصدّقها بقوتها ثلاثة أيام على المسكين واليتيم والأسير في جملة زوجها علي وولديها الحسن والحسينعليهم‌السلام ، فأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى وهو سورة الدهر ، وتصدّقت بسواريها وقرطيها وقلادتها في سبيل الله(١) .

ونضيف هنا ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى :( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (٢) قال : نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام (٣) .

وعن أبي هريرة : أنّ رجلاً جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه الجوع ، فبعث إلى بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلاّ الماء ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من لهذه الليلة؟ » فقال عليعليه‌السلام : «أنا يا رسول الله » فأتى فاطمةعليها‌السلام فأعلمها ، فقالت : «ما عندنا إلاّ قوت الصبية ، ولكنّا نؤثر به ضيفنا ». فقال عليعليه‌السلام : «نوّمي الصبية ، وأنا أُطفىء للضيف السراج » ففعلت وعشّى الضيف ، فلما أصبح نزل الله عليهم هذه الآية :( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (٤) .

ومن نماذج الإيثار والسخاء الاُخرى ما ذكره الصفوري عن ابن الجوزي أنّهاعليها‌السلام أهدت قميصها في ليلة زفافها إلى سائل بالباب(٥) .

__________________

١) أمالي الصدوق : ٣٠٥ / ٣٤٨.

٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٩.

٣) شواهد التنزيل / الحسكاني ٢ : ٢٤٧ / ٩٧١.

٤) شواهد التنزيل / الحسكاني ٢ : ٢٤٦ / ٩٧٠. وأمالي الطوسي : ١٨٥ / ٣٠٩.

٥) إحقاق الحق ١٠ : ٤٠١ عن نزهة المجالس / الصفوري ٢ : ٢٢٦ ـ طبع القاهرة.

١٢٥

وجاء في (بحار الأنوار ) أنهاعليها‌السلام أهدت عقدها وجلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى شيخ مسكين من مهاجرة العرب(١) .

وليس ذلك ببعيد عن آل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين طبعوا على السخاء والكرم اقتداءً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد روي عن فاطمةعليها‌السلام أنها قالت : «قال لي أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إياك والبخل فإنّه عاهة لا تكون في كريم ، إياك والبخل فإنّه شجرة في النار ، وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها أدخله النار ، والسخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها أدخله الجنة »(٢) .

٥ ـ صبرها على المعاناة :

ونختم هذا الفصل ببيان بعض الصور من معاناة الزهراءعليها‌السلام وصبرها على الشدائد بقوة الايمان وعزيمة الاخلاص احتساباً لاَجر الآخرة.

لقد تعرّضت الزهراءعليها‌السلام إلى مزيد من الصعاب والأزمات في جميع مراحل حياتها؛ ذلك لاَنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون فاطمةعليها‌السلام رمزاً لفضيلة المرأة وقدوةً لكمالها الإنساني في مجتمع يسوم المرأة أنواع الظلم والكبت والقهر ، فالقدوة التي خلقها الله تعالى للآخرة لا للدنيا ، لابد أن تكون محطة للمصائب والمحن والمعاناة ، وإلاّ فكيف تعلّم غيرها درس المقاومة والصبر وتجاوز المصاعب والعقبات؟ ومن هنا نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والأئمة المعصومين ، كانوا أشدّ الناس محنةً وبلاءً ، لا امتحاناً وابتلاءً كما يفهمه البعض ، فإنّهم خارج دائرة التجربة والاختبار؛ لاَنّ الله

__________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ٥٦ ـ ٥٧.

٢) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٠ / ٩.

١٢٦

تعالى اصطفاهم وفضلهم على العالمين.

ولقد أخبرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها أكثر نساء المسلمين معاناة ورزية حيث روي عن عائشة : أنه قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة : «إنّ جبرئيل أخبرني أنّه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك ، فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبراً »(١) .

وعانت الزهراءعليها‌السلام منذ صباها حيث فقدت أُمّها ، وما تلا ذلك من الأحداث القاسية والمصاعب الجمّة التي أشرنا إلى بعضها في الفصل الأول ، وكان من أفدح المصائب التي منيت بها حبيبة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله هي فقدها لاَبيها ، فهي البنت الوحيدة التي بقيت بعده ، وتحملت مرارة فراقه مع صنوف الاضطهاد والبلوى ، فواجهت ذلك بعزم لا يلين صابرة محتسبة ، ثم كانت أول أهله لحوقاً به.

أمّا على صعيد حياتها الشخصية ، فقد عانت فاطمةعليها‌السلام صنوف المشاق والأذى وقلّة ذات اليد وجشوبة العيش ، على الرغم من أنّها كانت على مرأى ومسمع من أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بامكانه أن يجعل لها بيتاً مرموقاً وحياة مرفّهة وعيشاً رغيداً ، لكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبى إلاّ أن يكون القائد الرسالي الذي يفضّل سدّ حاجات أهل الصفّة وفقراء المسلمين على أن يعطي ابنته الوحيدة جارية تخدمها أو شيئاً من الحطام الزائل ، وذلك لكي تكون مثالاً كاملاً لشخصه العظيم في الزهد عن الدنيا وتحمل المشاق ورفض الملاذ ، وتكون المرأة النموذج في الإسلام ، تعاني ما يعانين من ألم التنور ومشقة الطحن بالرحى وقمّ البيت وتربية الأولاد وغيرها ، فضلاً عن قيامها بمسؤولياتها العبادية وأدائها لدورها الرسالي في داخل البيت وخارجه باعتبارها سيدة نساء

__________________

١) فتح الباري / ابن حجر ٨ : ١١١.

١٢٧

العالمين وقدوتهنّ.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «إنّ فاطمة كانت حاملاً ، فكانت إذا خبزت أصاب حرف التنور بطنها ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تسأله خادماً فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أعطيك وأدع أهل الصفّة تطوى بطونهم من الجوع. وعلّمها التسبيحات »(١) .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يحتسب لها في ذلك مزيداً من الفضل والزلفى في الآخرة ، فهو القائلصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما لآل محمد وللدنيا فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم »(٢) . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أُحبُّ أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا »(٣) .

ولذلك روي أنّهاعليها‌السلام لما مضت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذكرت حالها ، وسألت الجارية ، بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « يا فاطمة ، والذي بعثني بالحق ، إنّ في المسجد أربعمائة رجل مالهم طعام ولا ثياب ، ولولا خشيتي خصلة لاَعطيتك ما سألت.

يا فاطمة ، إنّي لا أُريد أن ينفكّ عنك أجرك إلى الجارية ، وإنّي أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله إذا طلب حقّه منك » ثم علّمها التسبيح. فقال عليعليه‌السلام : «مضيت تريدين من رسول الله الدنيا ، فأعطانا الله ثواب الآخرة »(٤) .

وكلّما ازدادت معاناة الزهراءعليها‌السلام فإنّها تحمد الله على نعمائه وتقيم الشكر على آلائه ، عن جابر الأنصاري رضي الله عنه أنّه قال : رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة

__________________

١) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤١. ومسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٠٥.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣.

٣) مسند أحمد ٥ : ٢٧٥. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٥١. وذخائر العقبى : ٥٢. ومسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ٦.

٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١.

١٢٨

وعليها كساء من أوبار الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «يا بنتاه ، تعجّلي ـ أو تجرّعي ـ مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة » ـ وفي حديث : «اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً » ـ فقالت : «يا رسول الله ، الحمد لله على نعمائه ، والشكر لله على آلائه » ، فأنزل الله تعالى :( وسوف يعطيك ربك فترضى ) (١) .

وعندما تكون الزهراءعليها‌السلام في موقع الخيار بين الدنيا والآخرة ، فإنّها لاتتوانى في اختيار ما عند الله سبحانه على حطام الدنيا الفانية على الرغم من الخصاصة وشدة الحاجة ، وضيق العيش.

عن سويد بن غفلة ، قال : أصابت عليّاًعليه‌السلام خصاصة ، فقال لفاطمةعليها‌السلام : «لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألتيه؟ فأتته فقالت : يا رسول الله ، هذه الملائكة طعامها التهليل والتسبيح والتحميد ، فما طعامنا؟ » قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي بعثني بالحقّ ، ما اقتبس في بيت آل محمد نار منذ ثلاثين يوماً ، ولقد أتتنا أعنز ، فإن شئت أمرنا لك بخمسة أعنز ، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبرئيل » فقالت : «بل علمني الخمس كلمات التي علمكهنّ جبرئيل ». قال : «قولي : يا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين » فانصرفت فدخلت على عليّعليه‌السلام فقال : «ماوراءك؟ » فقالت : «ذهبت من عندك للدنيا ، وأتيتك بالآخرة » فقال : «خير أيامك »(٢) .

__________________

١) سورة الضحى : ٥. والحديث في الدر المنثور / السيوطي ٨ : ٥٤٣. ومسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ٥٨ عن ابن النجار وابن مردويه والديلمي. ومقتل الحسينعليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٢. وكنز العمال ١٢ : ٤٢٢ / ٣٥٤٧٥. ومجموعة ورّام ٢ : ٢٣٠ ، مكتبة الفقيه ـ قم.

٢) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ٤ و ٢٤. ودعوات الراوندي : ٤٧ / ١١٦.

١٢٩

قال الحرّ العامليرحمه‌الله في منظومته :

طلّقـت الـدنيا كفعـل بعلها

واشتغلت عنهـا بـحسن فعلها

لا تعـرف اللذات والتنعّمـا

والحلي واللبس عُلاً وكرما(١)

ولقوة صبر الزهراءعليها‌السلام المستمدّ من قوة إيمانها وتعلّقها العجيب بالله عزّوجلّ ، لم يشكّل بيتها الطاهر بأثاثه البسيط جداً جزءاً من المعاناة النفسية التي تترك آثارها السيئة في نفوس النساء عادة ، بل كانت تفيض حبّاً وحناناً وبشاشةً تغمر فيها عليّاً والسبطينعليهم‌السلام بما يجعل من فراشهم وهو جلد كبش أرقّ من الحرير ، وأما المعاناة الجسدية فهي معاناة طبيعية كانت تبثها الزهراءعليها‌السلام إلى أبيها العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحيلها إلى الصبر زاداً ووقاءً.

عن أنس ، قال : جاءت فاطمةعليها‌السلام إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : «يا رسول الله ، إنّي وابن عمي مالنا فراش إلاّ جلد كبش ننام عليه ، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ». فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا بنية اصبري ، فإنّ موسى بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين مالها فراش إلاّ عباءة قطوانية »(٢) .

وعن عليعليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : «وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولاً خرجت منها جنوبنا ، وإذا لبسناها عرضاً خرجت رؤوسنا وأقدامنا »(٣) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام : «أنّهما كانا يتغطيان في قطيفة ، إذا غطيا رؤوسهما انكشفت أقدامهما ، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما »(٤) .

وجاء في كتاب ( زهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ) لابن بابويه أنّ سلمان رضي الله عنه بكى حينما

__________________

١) تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٣١٣ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

٢) إحقاق الحقّ ١٠ : ٤٠٠ عن السيرة النبوية / دحلان ٢ : ١٠ ـ القاهرة.

٣) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٠٢.

٤) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ١٠٨.

١٣٠

رأى فاطمةعليها‌السلام قد خرجت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بشملة لها خلقة ، قد خيطت في عدّة مواضع ، فلما دخلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قالت : «يا رسول الله ، إنّ سلمان تعجب من لباسي ، فو الذي بعثك بالحق مالي ولعليّ منذ خمس سنين إلاّ مسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا ، فإذا كان الليل افترشناه ، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف ». فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا سلمان ، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق »(١) .

وصبرت الزهراءعليها‌السلام على الجوع الذي نال منها حتى غارت عيناها وغلبت الصفرة على وجهها ، ولصق بطنها بظهرها ، فحظيت بعناية الله سبحانه حيث كثّر الطعام في بيتها ، وأنزل عليها رزقاً من السماء كما قدّمنا ، وحظيت بعناية أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث دعا لها بإذهاب الجوع عنها.

عن عمران بن حصين ، قال : كنت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً إذ أقبلت فاطمةعليها‌السلام فوقفت بين يديه ، فنظر إليها وقد غلبت الصفرة على وجهها ، وذهب الدم من شدة الجوع ، فقال : «ادني يا فاطمة » فدنت ، ثم قال : «ادني يا فاطمة » فدنت حتى وقفت بين يديه ، فوضع يده على صدرها في موضع القلادة ، وفرّج بين أصابعه ، ثم قال : «اللهمّ مشبع الجاعة ورافع الوضعة ، لاتجع فاطمة بنت محمد » فغلب الدم على وجهها ، وذهبت تلك الصفرة(٢) .

وجاء في (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي أنّه حينما تصدّقتعليها‌السلام على المسكين واليتيم والأسير ، دخل عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قائمة في محرابها ، ولقد لصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها من شدة الجوع. فقال

__________________

١) الدروع الواقية / ابن طاووس : ٢٧٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٨ / ٩.

٢) نظم درر السمطين / الزرندي : ١٩١ مطبعة القضاء ـ النجف. وأخرج الشيخ الكليني عن جابر بن عبدالله الأنصاري نحوه في الكافي ٥ : ٥٢٨ ـ ٥٢٩ / ٥.

١٣١

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «واغوثاه بالله ، آل محمد يموتون جوعاً! » فهبط جبرئيلعليه‌السلام وهو يقرأ( يوفون بالنذر ) الآية(١) .

وعن عمران بن حصين ، قال : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عاد فاطمةعليها‌السلام وهي مريضة ، فقال : «كيف تجدينك يا بنية؟ » قالت : «إنّي لوجعة ، وإنّه ليزيدني وجعاً ، أنه ليس لي طعام آكله »فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا بنية ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟ »(٢) .

ولم تجزع الزهراءعليها‌السلام يوماً قطّ مما تعانيه من أُمور الدنيا ، ولم تتذمّر يوماً قط بوجه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، ولم تكلّفه فوق طاقته حياءً من الله سبحانه ، بل كانت تؤثره على نفسها وعلى ابنيها ، وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يبادلها المثل ، وربما أرسلها ـ رأفةً بحالها ـ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطعمه.

عن أبي سعيد ، قال : أصبح عليعليه‌السلام ذات يوم فقال : «يا فاطمة ، هل عندك شيء تغدّينيه؟ » قالت : «لا والذي أكرم أبي بالنبوة ما عندي شيء أغدّيكم ، ولا كان لنا بعدك شيء منذ يومين نطعمه ، إلاّ شيء أُوثرك به على بطني وعلى ابني هذين ».

قال : «يا فاطمة ، ألا أعلمتني حتى أبغيك شيئاً! » قالت : «إنّي استحي من الله أن أُكلفك ما لا تقدر عليه » فخرج من عندها واثقاً بالله وحسن الظنّ به واستقرض ديناراً الحديث(٣) ، وفيه تكثير الطعام لأهل البيتعليهم‌السلام في بيت الزهراءعليها‌السلام بفضل من الله تعالى ورحمته.

__________________

١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٥.

٢) الاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٧٥. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٩٨ / ٤٥٢. وحلية الأولياء ٢ : ٤٢. ونظم درر السمطين / الزرندي : ١٧٩. وإتحاف السائل / المناوي : ٧٧.

٣) فضائل فاطمةعليها‌السلام / ابن شاهين : ٣٦. وتفسير فرات الكوفي : ٨٣ ـ طهران. وكشف الغمة ١ : ٤٦٩. وأمالي الطوسي : ٦١٥ / ١٢٧٢. وذخائر العقبى : ٤٥ ـ ٤٦. وكفاية الطالب : ٣٦٧.

١٣٢

وعن محمد بن كعب القرظي ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ـ في خطبةٍ له بأهل العراق ـ قال : «قد رأيتني مكثت ثلاثة أيام من الدهر ما أجد شيئاً آكله حتى خشيت أن يقتلني الجوع ، فأرسلت فاطمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تستطعمه لي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بنية ، والله ما في البيت طعام يأكله ذو كبد إلاّ ماترين ـ لشيء قليل بين يديه ـ ولكن ارجعي فسيرزقكم الله ، فلمّا جاءتني فأخبرتني انفلتّ وذهبت حتى آتي بني قريظة ، فإذا يهودي على شقّة بئر ، فقال : يا عربي هل لك أن تستقي لي نخلي كلّ دلو بتمرة ، فجعلت أنزع ، فكلّما نزعت دلواً أعطاني تمرةً ، حتى إذا امتلأَت يدي من التمر قعدت فأكلت وشربت من الماء ، ثم قلت : يالك بطناً ، لقد لقيت اليوم ضراً! ثمّ نزعت مثله لابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ انفلتّ راجعاً... »(١) الحديث.

وعن أسماء بنت عميس ، عن فاطمةعليها‌السلام : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاها يوماً فقال : أين ابناي ـ يعني حسناً وحسيناً ـ. قالت :أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق ، فقال علي عليه‌السلام : أذهب بهما ، فإني أتخوف أن يبكيا عليك ، وليس عندك شيء »(٢) .

__________________

١) مسند فاطمةعليها‌السلام / السيوطي : ٩٦.

٢) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٢٢ / ١٠٤٠. وذخائر العقبى : ٤٩ / ٥١٠٤.

١٣٣

الفصل الثالث

الزهراءعليها‌السلام بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ ما تعرّضت له وحيدة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وحبيبته وأعزّ الناس عليه بعد رحيله إلى رضوان ربه ورحمته ، يعتبر الحلقة الاُولى من مسلسل التآمر على عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المتمثل في اغتصاب حقّهم ـ الذي سطّرته السماء لهم ، باعتبارهم ورثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياءه وولاة الأمر من بعده ـ والاستغناء عنهم في المشورة ، مع شدّة الوطأة عليهم في أمر البيعة ، واهتضام حقوقهم سواءً كانت نحلةً أو إرثاً أو فيئاً أو خمساً ، وسوقهم مع سائر الرعايا بعصا واحدة ، هذا والجرح لمّا يندمل والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا يجفّ تراب رمسه الشريف المطهّر.

ولم تنته تلك المؤامرة بقتل الحسن والحسينعليهما‌السلام سيدي شباب أهل الجنة ، وقتل أولادهم وسبي ذراريهم ، وتتبّع شيعتهم ومحبيهم وأتباعهم تحت كل حجر ومدر ، بل لازالت متواصلة الفصول تفعل فعلتها في استهداف الخطّ الرسالي الأصيل وعزله عن أداء دوره في بناء الإنسان والمجتمع.

ولقد أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحصول كلّ هذا من بعده فقال : «إن أهل بيتي

١٣٤

سيلقون من بعدي من أُمّتي قتلاً وتشريداً »(١) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّكم المقهورون والمستضعفون من بعدي »(٢) وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لابنته الزهراءعليها‌السلام وهو في مرض الموت «إنّ جبرئيل أخبرني أنّه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك »(٣) .

فليته يرى بضعته الصديقة الطاهرة وسيدة عترته ، كيف تعرضت لموت بطيء وهي مكلومة الفؤاد قريحة العين منهدّة القوى ، قد أغار أصحابه على منزلها يحشّون الحطب ويذكون النار في بابها ، وهي تبكي وتستغيث : «يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة »(٤) .

ولم يقف الأمر إلى هذا الحدّ ، بل إنّهم سلبوها نحلتها ومنعوها إرثها وإرث عميد بيتها أمير المؤمنينعليه‌السلام وارث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيه وولي المؤمنين من بعده ، حتى ودّعت الحياة وهي غضبى على أُمّة تكالبت على تراث محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المحتضر ، متجاهلة كلّ نصّ ووصية ، متنكرةً لتعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيها. وهكذا انقلبت على عقبيها كما يرشدنا إلى ذلك قول الله العظيم :( وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ) (٥) .

ولاريب أنّ موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس موتاً لمبادئه ووصاياه ، فمن ينقلب

__________________

١) كنز العمال ١١ : ١٦٩ / ٣١٠٧٤ عن أبي سعيد الخدري.

٢) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٨ : ٢٧٨. ومسند أحمد ٦ : ٣٣٩.

٣) فتح الباري / ابن حجر ٨ : ١١١. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢٣.

٤) الإمامة والسياسة : ١٣. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٥.

٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

١٣٥

على تلك المبادىء والوصايا بمجرد موته ، فهو بمثابة من أنكر نبوته وكذّب وحيه.

ولقد سجّل بعض الصحابة أرقاماً فاقت حدّ التصور في الإحداث والانقلاب بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا مصاديق لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليردنّ عليّ الحوض رجالٌ ممّن صحبني ورآني ، حتى إذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلاَقولنّ : ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انهم ارتدوا على أعقابهم القهقري » ، وفي لفظ آخر : «فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم »(١) .

ويؤكد انقلابهم على أعقابهم ما أخرجه الواقدي ومالك من حديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين صلّى على شهداء أُحد فقال : «أنا على هؤلاء شهيد ». فقال أبو بكر : ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «بلى ، ولكن لا أدري ما تُحدِثون بعدي »(٢) .

وهكذا كان عميد البيت النبوي وسيدته سيدة نساء العالمينعليهما‌السلام الضحية الاُولى لاُولئك المُحدِثين والمنقلبين ، لاَنّهما القطب الذي تدور عليه المعارضة والوجه الذي يحاكي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خُلقاً وأخلاقاً ومنطقاً وهدياً ، ويذكّر الاُمّة بسنته وكتاب ربّه ، فضلاً عن أنّ الزهراءعليها‌السلام تمثل أحد الجناحين اللذين يطير بهما وصي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام وأحد

__________________

١) مسند أحمد ٣ : ١٤٠ و ٢٨١ و٥ : ٤٨ و ٥٠ و ٣٣٣ و ٣٨٨ و ٤٠٠. وراجع صحيح البخاري ٦ : ١٠٨ / ١٤٧ و ١٧٩ / ٢٦١ ـ كتاب التفسير و٨ : ١٩٦ / ١١٣ و ٢١٤ / ١٥٧ و ٢١٦ / ١٦٣ ـ ١٦٦ ـ كتاب الرقاق و ٩ : ٨٣ / ٢ ـ كتاب الفتن. وصحيح مسلم ٤ : ١٧٩٤ / ٢٨ و ١٧٩٥ / ٢٩ و١٧٩٦ / ٣٢ و ١٨٠٠ / ٤٠ ـ كتاب الفضائل.

٢) المغازي / الواقدي ١ : ٣١٠. والموطأ / مالك ٢ : ٤٦٢ / ٣٢ ـ كتاب الجهاد.

١٣٦

الركنين اللذين يستند إليهما ، فركن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وركن فاطمة الصديقة الطاهرةعليها‌السلام .

عن جابر ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعليعليه‌السلام قبل موته بثلاث : «سلام الله عليك يا أبا الريحانتين ، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيراً ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك ».

قال : فلمّا قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال عليعليه‌السلامعليه‌السلام : «هذا أحد ركني الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » فلمّا ماتت فاطمةعليها‌السلام قال عليعليه‌السلام : «هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

ومن هنا نجد في الروايات أنّه ما بايع أمير المؤمنينعليه‌السلام حتى ماتت فاطمةعليها‌السلام ، وكان له وجه في الناس طيلة حياتها ، روى الزهري عن عائشة ، أنها قالت : كان لعليعليه‌السلام من الناس وجه في حياة فاطمةعليها‌السلام ، فلمّا توفيت فاطمةعليها‌السلام انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك.

وقيل للزهري : فلم يبايعه عليّ حتى ماتت فاطمةعليها‌السلام ؟ قال : ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه عليعليه‌السلام (٢) .

ولقد شاءت الارادة الالهية أن تكون مظلومية الزهراءعليها‌السلام مصداقاً حيّاً وناطقاً إلى الأبد لذلك الانقلاب الخطير الذي تغشّى الاُمّة بعد وفاة

__________________

١) فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٦٢٣ / ١٠٦٧. وحلية الأولياء / أبو نعيم ٣ : ٢٠١. والمناقب / الخوارزمي : ٨٥. ومقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ٦٣. وذخائر العقبى : ٥٦. وكنز العمال ١١ : ٦٢٥ / ٣٣٠٤٤.

٢) سنن البيهقي ٦ : ٣٠٠. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٦. وراجع صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي ـ باب غزوة خيبر. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ـ كتاب الجهاد والسير.

١٣٧

نبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة ، فكلّما قرأت الأجيال المتعاقبة عن المصائب التي جرت على بضعة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحبّ الناس إليه بعين الانصاف تتجلّى لها كثير من الحقائق المؤلمة التي تعتصر لها القلوب أسىً وحزناً ، وتفيض لها العيون دماً!!

قالتعليها‌السلام وهي تندب أباهاصلى‌الله‌عليه‌وآله :

قل للمغيب تـحت أطباق الثرى

إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صُبّت عـليّ مصـائب لو أنّها

صُبّت علـى الأيام صِرن لياليا

قد كنت ذات حمـىً بظلِّ محمدٍ

لا أختشأي ضيماً وكان جماليا

فـاليـوم أخشـع للذليل وأتقي

ضيمي وأدفع ظالمي بـردائيا

فلأجعلنّ الحزن بعـدك مؤنسي

ولأجعلنّ الدمع فيك وشاحيا(١)

وفي ما يلي ثلاثة مباحث تعكس لنا صوراً من حياة الزهراءعليها‌السلام ومواقفها منذ وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى وفاتها سلام الله عليها :

المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراء عليها‌السلام .

المبحث الثاني : مواقف الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله .

المبحث الثالث : وفاتها عليها‌السلام ومدّة بقائها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

١) المناقب / ابن شهر آشوب ١ : ٢٤٢. ومقتل الحسينعليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٠. ونور الأبصار / الشبلنجي : ٥٣. والسيرة النبوية / دحلان ٣ : ٣٦٥. واتحاف السائل : ١٠٣. وأعيان الشيعة ١ : ٣٢٣. والغدير ٥ : ١٤٧ و ٦ : ١٦٥. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٣.

١٣٨

المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراءعليها‌السلام :

أول بوادر الانقلاب :

لقد سجّل بعض الصحابة أول بادرة للانقلاب في حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يوم الخميس ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجّىً قد اشتدّ به الوجع ، فكانت الرزية ، قال ابن عباس رضي الله عنه : لمّا اشتد بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ائتوني بدواةٍ وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي ». فقال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ـ وفي لفظ آخر : ما شأنه أهجر ، استفهموه! ـ فاختلف القوم واختصموا ، فمنهم من يقول : القول ما قال رسول الله ، ومنهم من يقول : القول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم : «قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع ».

قال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم(١) .

فقدموا بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال تعالى :( يا أيُّها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) (٢) وأكثروا اللغط في حضرته وقد قال

__________________

١) صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ و١٢٥٩ / ٢٢ ـ كتاب الوصية. وصحيح البخاري ١ : ٦٥ / ٥٥ ـ كتاب العلم ، و٦ : ٢٩ / ٤٢٢ و٤٢٣ ـ كتاب المغازي ، و٧ : ٢١٩ / ٣٠ ـ كتاب المرض ، و٩ : ٢٠٠ / ١٣٤ ـ كتاب التوحيد. ومسند أحمد ١ : ٢٢٢ و ٣٢٤ و ٣ : ٣٤٦. ومسند أبي يعلى ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩. والبداية والنهاية ٥ : ٢٠٠. وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٣. وتاريخ ابن خلدون ٢ : ٤٨٥. والملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٤ ـ المقدمة الرابعة. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٥ و٦ : ٥١ ، وقال : اتفق المحدثون كافة على روايته.

٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١.

١٣٩

تعالى :( يا أيُّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم ) (١) .

وعصوا الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله جهرة ، والله تعالى يقول :( ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينا ) (٢) .

وهكذا انشغلت الاُمّة عن نبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله بمجرد إحساسها بفقده ، لتدخل في صراعات كان بامكانهم تجنبها لو استمعوا لما يكتب لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المحتضر ، وكان ذلك الانقلاب يمثل حجر الزاوية لكلِّ مظلمة حدثت على طول التاريخ.

الابتسامة الأخيرة :

في محتضر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أحنت الزهراءعليها‌السلام على أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ارتسمت على شفتيها ابتسامة عقيب بكاءٍ هزّ كيانها ، ممّا أثار الدهشة والتساؤل عند البعض حتى فسّرت لهم سرّ ذلك بعد وفاة أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله .

روي عن ابن عباس وعائشة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا فاطمةعليها‌السلام في شكواه التي قُبض فيها ، فسارّها بشيءٍ فبكت ، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت ، فسئلت عن ذلك ، فقالت بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «سارّني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرني أنّه يُقبض في وجعه الذي تُوفّي فيه فبكيت ، ثم سارّني فأخبرني أنّي أول من يتبعه من أهل بيته فضحكت »(٣) .

__________ ________

١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٢.

٢) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٣٦.

٣) صحيح البخاري ٥ : ٩٢ ـ كتاب المناقب. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٤ / ٩٧ ـ كتاب فضائل

١٤٠