دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة0%

دراسة عامة في الامامة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 282

دراسة عامة في الامامة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ إبراهيم الأميني
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الصفحات: 282
المشاهدات: 78555
تحميل: 5066

توضيحات:

دراسة عامة في الامامة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78555 / تحميل: 5066
الحجم الحجم الحجم
دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الآخرين، تُحرِّكه في ذلك غريزة (الأنا) ، وهو بهذا يتحرّك من أجل تحقيق أكبر قدر من مصالحه الشخصيّة، ومن هنا فهو يحاول دائماً تسخير الآخرين واستغلال جهودهم واستثمار نشاطهم لصالحه. وهكذا تصطدم الرغبات وتتزاحم الإرادات.

وفي هذا المأزق اكتشف العقل البشري - ولكي يجتاز هذه المحنة - اكتشف القانون الاجتماعي الذي يحدّد حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه بعضهم البعض، منعاً للظلم والعدوان أو سيادة قانون الغابة. ولعلّ الإنسان اكتشف أوّل ما اكتشف في حياته الاجتماعيّة ضرورةَ القانون والشريعة في تنظيم الحياة المشتركة في بداياتها الأُولى.

القانون الذي يكفل سعادة الإنسان:

* من نافلة القول إنّه لا شكّ في ضرورة القانون في الحياة الاجتماعيّة، ولكنّ السؤال هنا:

- ما هو القانون الذي يكفل سعادة الإنسان الحقيقية؟

- ما هو القانون الذي مِن شأنه أنْ يدير المجتمعات بصورة سليمة؟

- ما هو القانون الذي يمنع حدوث العدوان وانتهاك حقوق الإنسان؟

* إنّه من الطبيعي أنّ كلّ قانون لا يمكنه أنْ يرقى إلى هذا المستوى من الطموح، وإنّ هذا القانون المنشود ينبغي أنْ يشتمل على مقوّمات عديدة؛ منها:

- انسجامه مع ناموس الخلق الإنساني وإحاطته التامّة بالفطرة البشريّة، وما ينطوي عليه الإنسان من غرائز وميول وقِيَم ونزعات.

- أنْ يقود الإنسانيّة نحو الكمال والسعادة الحقيقيّة، لا سعادة الأوهام والخيال.

١٠١

- أنْ يأخذ بنظر الاعتبار مصلحة البشريّة جمعاء وسعادتها بعين الاعتبار، لا سعادة طائفة أو مجتمع معيّن على حساب سائر المجتمعات.

- أنْ يبني الصرح الاجتماعي للبشريّة على أساس من الفضائل الإنسانيّة ويقودها نحو غاياتها السامية؛ من أجل أنْ تكون الدنيا مجرّد ممر وطريق للوصول.

- أنْ يستوعب بشكل شامل كلّ صور الحياة؛ لِيَحُوْل دون تغلغل صور الاستعمار، والاستغلال، والعبوديّة، وقهر الإنسان لأخيه الإنسان.

- أنْ لا يغفل بأيّ شكل من الأشكال الجانب الروحي والمعنوي للحياة، ولا يكتفي بهذا فحسب، بل يوفّر الجوّ والمناخ المناسب لنموّ القِيَم الأخلاقيّة والفضائل النفسيّة؛ ليكون كلّ ذلك ضماناً يحمي الإنسان ويحول دون انحرافه فرداً ومجتمعاً عن جادّة الصواب.

وإذا أدركنا شكل القانون العام الذي يلبّي طموحات البشريّة، فَمَنْ هو يا ترى يمتلك مقوّمات المشرِّع؟

فهل يوجد مَن ينطوي على هذه القابليّات التي تؤهّله أنْ يكون مشرِّعاً لقانونٍ ما، يمتلك كلّ تلك المواصفات التي مرّ ذكرها؟

ستكون الإجابة بالطبع: كلاّ. فأين كلّ هذه المُثل، وأين كلّ هذه الإحاطة والشموليّة والعمق من التفكير البشري في مَدَيَاتِهِ المحدودة. لننظر أوّلاً مزايا المشرِّع لتتوضّح الصورة أكثر.

مقوّمات المشرِّع:

أنْ يكون محيطاً إحاطة تامّة بعِلْم (الاناسة) أو الانثربولوجي ، خبيراً بكلّ

١٠٢

تفاصيل الإنسان - جسماً وروحاً - وبكلّ ما يزخر به من غرائز وما يموج به من عواطف وميول، فهل هناك مَن يعلم خفايا الإنسان ويعرف ما يضرّه وما ينفعه ويدرك آماله وآلامه وما يَكْتَنِفُهُ مِن أوهام وحقائق؟

* لو سلّمنا جدلاً أنّ الإنسان يمكنه الإحاطة بتفاصيل الحياة مادِّيَّاً، فما مدى تعمّقه في الجانب الآخر من الحياة.. في روحه التي يشقّ بل يستحيل على الإنسان أنْ يحيط بطبيعتها، وستبقى تأثيرات الروح وتقلّبات النفس مسألة عسيرة الفَهْم، صعبة الإدراك. وإذا عرفنا أنّ هذا الجانب عميق التأثير في حياة البشريّة، أدركنا النتائج التي تترتّب على إهماله أو الغفلة عنه.

* إنّ غاية ما يمكن للقانون الوضعي أنْ يفعله هو السيطرة على ظاهر الحياة ونشاط الإنسان المنظور، ولكنّه سيبقى عاجزاً عن الإشراف وضبط غرائزه وتحديد مساره الأخلاقي.

وإذا استوعبنا بأنّ القانون هو نتاج جهد بشري، وأنّ الإنسان ينطلق في مواقفه من قاعدة أخلاقيّة في أعماقه ومِن وَحْي غرائزه المتجذِّرة في نفسه، أدركنا مدى التصادمات التي قد تنجم عن محاولة فرض القانون الوضعي في حياة الإنسان.

* وعلى أساس ما ذكرنا آنفاً مِن تجذّر غريزة (الأنا)، وأنّها المحور الذي يفسّر السلوك الإنساني بشكل عام، حيث تكون المصلحة الشخصيّة هي الغاية الأساس في تحرّك الإنسان، سوف نتوقّع شكل القانون الذي يضعه بنفسه عندما يأخذ بنظر الاعتبار مصالحه الذاتيّة، بعيداً عن هموم الآخرين وطموحاتهم.

وربّما سيتّهمني القارئ الكريم بالتعصّب وضيق الأُفق، ولكنّ التأمّل فيما تخطّط له الدول الكبرى لاصطياد الدول النامية والصغيرة، وما تصنعه من أفخاخ

١٠٣

جميلة للإيقاع، سوف يدفعه لمشاطرة المؤلّف ذات الرؤية ويقف معه نفس موقفه.

ربّما يتمكّن الإنسان من تعديل القانون بين حين وآخر، فيحذف شيئاً ويضيف شيئاً آخر، ولكنّ ذلك سيبقى في نطاق محدود، وستبقى الأنانيّة والمصالح الشخصيّة - وفي أفضل الظروف - والمصالح القوميّة هي الأساس في كلّ المحاسبات القانونيّة؛ ولكلّ بلد تجربته المريرة في هذا الميدان، فهناك شرائح من المجتمع ستجد القانون إلى جانبها وأُخرى ضدّها، ويكاد يسحقها سحقاً، فأين هي البلاد التي ازدهرتْ في ظلّ قانونٍ ما، وما أكثر البلدان التي جرّت عليها الشرائع البشريّة سوء العذاب.

وها هو التاريخ البشري يقيم شواهده في مئات القوانين المشرَّعة وآلاف التعديلات والإلغاءات.

ولتكن العبوديّة مثالاً، فما أكثر القوانين واللوائح التي ندّدتْ بها ودعتْ إلى إلغائها، وأنّ الإنسان كائن يتمتّع بحقّه في الحرِّيَّة، وبالرغم من حجم الدعاية والتهويل الإعلامي فهل يتمتّع إنسان اليوم بالحرِّيَّة؟! إنّني أترك الإجابة لضمير القارئ.

فحتّى الإنسان الذي يعيش اليوم في ما يسمّى بالبلدان المتحضّرة ينظر إلى مواطنه ربّما كإنسان، ولكنّه وبمجرّد أنْ يعبر حدود بلاده سوف يتصرّف بطريقة أُخرى، خاصّة في البلدان النامية، وسيقفز لذهنه فوراً إصطلاح (الأهلي) الذي يعبّر عن روح استعماريّة، تجعل إنسان تلك البلدان يأتي بالدرجة الثانية التي قد تقترب من مستوى الحيوانات، ولنقل العبيد - في أحسن الأحوال - وهذا ما نراه اليوم من غارات منظَّمة وَجَشِعَة لنهب مقدّرات البلدان الضعيفة لحساب البلدان

١٠٤

(المتقدّمة) و (المتحضِّرة) .

وإذا كانت القوانين الوضعيّة قادرة على كَبْح جِمَاح غريزة (الأنا) في الذات البشريّة.

- فلماذا نرى تكدّس ثروات الشعوب الفقيرة في قبضة الدول القويّة؟

- ولماذا هذا التهالك على التسلّح وتكديس أسلحة الدمار؟!

وعلى حدّ تعبير هويز:

(إذا لم يكن البشر في حالة حرب، فلماذا يسلّحون أنفسهم، ولماذا يقفلون أبواب منازلهم) (1) .

* إنّ المشرّع البشري أو المشرِّعون إنّما يبدعون أو يقنّنون وِفْقَاً لعاداتهم وتقاليدهم ومصالحهم القوميّة في أفضل الأحوال، وهي - إذنْ - أُطر ضيّقة لا تنسجم مع طموحات البشريّة؛ وستبقى أسيرة لمصالح طائفة محدودة أو عرق معيّن، وإذا أصبحتْ الطبقة المرفّهة الغنيّة في موقع يمكنها من التشريع، فسوف تعمل على سَحْق سائر الطبقات والشرائح الاجتماعيّة الأُخرى.

ومن هنا ستبقى القوانين كحالة البحر، هادئة يوماً وهائجة يوماً آخر!

* إذا تمكّن القانون من التغلغل في وجدان المسؤولين عند تنفيذه، حتّى أنّهم يشعرون بالذنب إذا ما تخلّفوا عنه، فإنّ النجاح سيحالفه، وبالطبع فإنّ هذا من خصائص القانون الإلهي.

استنتاج:

والمحصّلة مِن كلّ ما تقدّم، أنّ القانون البشري مهما بلغ مستواه فإنّه سيبقى عاجزاً عن الأخذ بيد الإنسانيّة نحو شاطئ السعادة والكمال الحقيقي؛ لأنّه عاجز عن ضبط غريزة (الأنا) المتجذِّرة في الذات البشريّة.

____________________

(1) المصدر السابق، ص88.

١٠٥

إنّ الإنسان بطبيعته التكوينيّة عاجزٌ عن إبداع هكذا قانون، وإنّ الله خالق الإنسان هو وحده القادر على ذلك.

ولأنّ الله محيط بما خلق، مُدرِك ما يموج في أعمال خَلْقه من غرائز وميول، عارِف بمواطن سعادتهم وأسباب شقائهم، خبير بما يلزم الجسم وما تحتاجه الروح، وفوق كلّ هذا وذاك هو صانع المستقبل الحقيقي للإنسان في عالم الآخرة، وهو الله الذي فطر البشر ومنحهم نعمة الحياة، فهو يحبّهم جميعاً، لا يفرّق بين أحد منهم، ولا يتعصّب لطائفة دون أُخرى، يشملهم جميعاً برحمته، ولا تطرأ عليه انفعالات البشر ومحدوديّة أُفُقِهِم في التفكير والرؤية.

أجل، إنّ الله وحده هو مصدر القانون المثالي والشريعة الكاملة، وهو وحده مصدر الكمال.

ولقد اقتضتْ حكمته سبحانه أنْ يبعث رسلاً ويرسل أنبياء يحملون وَحْيَه ويبلِّغون رسالاته، ولقد انتخبهم مِن بين خَلْقه واصطفاهم؛ ليكونوا أمثلةً لعباده يدعونهم إلى جادّة الصواب وسبل الهداية والرشاد، وهم نماذج خالصة منزّهة عن الخطأ، بعيدة عن كلّ ما يشين الإنسان ويحطّ من منزلته وكرامته؛ كلّ هذا ليقتدي بهم الناس فيكونوا لهم معالم في طريق الكمال.

سرّ التفوّق في الشرائع الإلهية:

إنّ سرّ تفوّق القانون الإلهي ينطوي في ذات الأنبياء، فهم يبدأون عملهم في صياغة الإنسان نفسه حيث السعي في تجذير قانون أخلاقي في أعماق الذات البشريّة، وضبط الغرائز والميول والرغبات والحدّ من طُغْيانها، ثمّ تأتي مرحلة الإعداد لقبول الشريعة الإلهيّة من عبادات وقوانين اجتماعيّة، وسيكون الإيمان كفيلاً بتنفيذ شريعة الله في الحياة الإنسانيّة على أكمل وجه.

١٠٦

* يقول مونتسيكو:

(عندما تكون الأُمّة سامية أخلاقياً فإنّها ستكون في غنىً عن القوانين المعقدة وستكتفي بقوانين بسيطة) (1) .

* وكتب إفلاطون:

(كان (رادامانت) يحكم أُمّة متديِّنة، ولهذا كان يفصل في القضايا بيسر وسهولة؛ لأنّه يكتفي بِقَسَم أحد الطرفين المتخاصِمَين وتنتهي المشكلة) (2) .

* ويقول (هومو):

(إنّ قوّة القوانين الدينيّة تكمن في إيمان الناس واعتقادهم بها، فيما تبقى القوانين الحكوميّة مقترنة بخوف الناس وخشيتهم) (3) .

ويقول أيضاً:

إنّ القوانين الوضعية تنشد الحلّ المناسب، في حين تمثّل القوانين الإلهيّة الحلَّ الأفضل. وقد تتعدَّد الحلول المناسبة، فيما يبقى القانون الإلهي فريداً من نوعه، وهو إذنْ في مَأْمَن عن التغيير.

إنّ الإنسان يمكنه تغيير ما يسنّه من قانون؛ لأنّه يجده صالحاً في ظرف معيّن وغير صالح في ظرف آخر. أمّا الشريعة الدينيّة التي تمثّل القانون الأفضل فإنّها غير قابلة للتغيّر؛ لأنّه لا يوجد أفضل منها (4) .

____________________

(1) المصدر السابق: ص504.

(2) المصدر السابق: ص527.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

١٠٧

* إشكال:

* قد يشكل القارئ قائلاً:

إذا كانت القوانين السماويّة تمتاز بكلّ ما ذُكِرَ من مواصفات، وإنّها صالحة للبشريّة جمعاء، وهي وحدها التي تحول دون هضم الحقّ وبروز العدوان، فـ:

- لماذا أخفق الإسلام وسائر الأديان السماويّة في مهمّتها؟

- لماذا لم ينهض الإسلام بمهمّته في إدارة المجتمع المسلم ولم ينهض برسالته في تقدّم الشعوب الإسلامية؟ أليس في هذا دليل على عجز الإسلام هو الآخر في ضبط الغرائز البشريّة، وأنها أقوى من أنْ يُكبح جِمَاحُهَا؟

* الجواب:

إنّ اختبار قانونٍ ما لنعرف مدى صلاحيّته هو في تطبيقه وتنفيذ موادّه بشكلٍ كامل، وعندها ستكون النتائج هي الأساس في الحكم سلباً وإيجاباً، ومن غير المنطقي الحكم على عدم جدوى قانونٍ ما من دون مَنْحه فرصةَ التطبيق.

فمتى أُتيح للإسلام أنْ يحكم.. أنْ يتدخّل بكلّ شؤون الحياة الإنسانيّة، ثمّ لم يسفر عن نتائج طيِّبة؟! أنْ ننتظر من شريعة الإسلام أنْ تنسل من بين بطون الكتب لتكون ساعة موقوتة تنفجر فجأة وتصلح شأن العالم وتعدّل من مسار الإنسانيّة.

امنحوا الفرصة للإسلام أنْ ينفّذ برامجه في السياسة والاقتصاد والمجتمع وفي الأخلاق ولو مدّة قصيرة، فإذا لم يثمر ولم يعطِ نتائج مُرْضِيَة، عندها يمكنكم الاستفادة من أطروحات الآخرين.

إنّنا وبالرغم من اعترافنا بعدم نجاح الأنبياء في توجيه المسار البشري الوجهة التي أرادتْ السماء، وما يزال العالَم غارِقاً في الظلم والعدوان، وما يزال

١٠٨

البشر حائرين يبحثون عن طريق للسعادة، وبالرغم من كلّ ذلك فإنّنا ينبغي أنْ نكون منصفين ونعترّف أيضاً أنّ ما هو موجود اليوم من ميراث أخلاقي حفظ للبشريّة إنسانيّتها إلى حدٍّ ما هو خلاصة لكفاح الأنبياء عبر التاريخ، ولو افترضنا غياب النبوّات عن مسار البشريّة، لما كانت المجتمعات الإنسانيّة كما هي عليه اليوم والأمس من احترامٍ للقِيَم والفضائل الإنسانيّة.

الدين:

إنّ الدين ما هو إلاّ نظام كامل للحياة، وهو مجموع الشرائع والنُظُم الأخلاقيّة والاجتماعيّة التي تنبثق عن عقائد سليمة هي حقيقة الناموس الطبيعي.. الذي ينهل عن عالَم الغيب فينزل على صدور الأنبياء، لينعكس في قوالب بشريّة لإبلاغ الناس جميعاً.

والدين ما هو إلاّ طريق للتكامل الإنساني والصراط المستقيم الذي يقود الإنسان إلى الله، والسعادة المطلقة في جنّة عرضها عرض السموات والأرض أُعِدَّتْ للذين يعبدون الله لا يشركون به أحداً.

فطريق الدين هو الطريق المستقيم الذي يرقى بالإنسان في مدارج الكمال.

أمّا المنحرفون الضالّون فسوف يسقطون في هوّة الضياع فيخسرون إنسانيّتهم في مطبّات مظلمة، غارقة في الحيوانيّة، حيث تشتعل الغرائز التي تمسخ إنسانيّة الإنسان وتحيله إلى حيوان مفترس عاجز عن الرقي والتكامل، فيبقى يدور في مدار مغلق حائراً ضالاًّ حتّى يتردّى في قَعْر الجحيم.

١٠٩

الأدلّة العقليّة على الإمَامَة

اسْتَمِيْحُ القرّاء عذراً عن البحث المطوّل الذي قد بعث في قلوبهم الملل، غير أنّ المرء يجد نفسه مضطرَّاً لذلك؛ لأنّ إثبات الإمامة يتوقّف على البحث.

الآن وقد أثبتنا ضرورة الوحي وبعْث الأنبياء، نلج معاً بحث الإمامة فنتطرّق أوّلاً إلى ضرورتها عقلاً.

وهنا طريقان للاستدلال:

الدليل الأوّل:

لقد عرفنا خلال البحوث السابقة أنّ أفراد النوع الإنساني يتحرّكون وبالفطرة في طريق التكامل، وأنّ هناك مساراً تكوينيّاً ينبغي أنْ يطوى ليصل الإنسان إلى عالَم النور والفرح والسرور والعودة إلى الله، وأنّ لذلك المسار مراتب ومنازل ودرجات، وكلّ حلقة ترتبط بحلقة أعلى، حتّى تصل إلى الغاية العليا حيث تنتهي قافلة الإنسانيّة، وهذا ما يصطلح عليه بالصراط المستقيم، الذي لا يعدو كونه سوى حقيقة يدلّ عليها استمرار وجود النوع الإنساني. ومن هنا نستدلّ أيضاً على وجود إنسان كامل موجود بين أفراد نوعه يتمتّع بالكمالات الممكنة بشريّاً، يجسّد واقع الشريعة الإلهيّة، وينطوي على مجموع الكمالات التي

١١٠

جاء بها النبي من عند ربّه، وهذا الفرد المجتبى يتحرّك في جادّة الصراط المستقيم، لا ينحرف عن خطّّ الكمال، وهذا ما يُدْعَى بالإمام في لغة الشريعة. فالإمام فرد كامل يؤمن بكلّ العقائد الإلهيّة ويجسّد كلّ القِيَم الأخلاقيّة الرفيعة، ويمثّل الشريعة بكلّ أحكامها.

والإمام محلّ الفيض الإلهي وانعكاسه عن عالَم الغيب إلى عالم الشهادة، والإمام قائد القافلة البشريّة الذي يرمز إلى إمكانيّة تحقّق الكمال في الذات الإنسانيّة وقيادتها في مسيرة التكامل. ومن هنا نكتشف ضرورة وجود الإمام كفرد كامل يعيش بين ظَهْرَانِي البشر، مثالاً وقدوةً لهم يهديهم إلى الصراط المستقيم.

والإمام فرد يرتبط بعالم الربوبيّة الأقدس وقد فُتحت عليه أبواب الكمالات الغيبيّة، ويتحرّك بتسديد الهدى الإلهي المباشر لخالق الإنسان والكون والحياة.

وهو يجسّد الغاية الإلهيّة مِن خلق النوع البشري الذي يتحرّك باتّجاه هدف منشود، وإلاّ كان المسار الإنساني بلا غاية، لا علاقة له بالله عزّ وجل، ومعنى هذا انقراضه وفناؤه.

وختاماً اعترف بأنّ الدليل المذكور عسير الفَهْم إلى حدٍّ ما، وللقرّاء عذرهم في ذلك؛ لأنّ إثبات المطلق يحتاج إلى سلسلة من البحوث العقليّة الدقيقة البعيدة الغور. على أنّ القارئ الكريم إذا راجع موضوع النبوّة العامّة فسيجد عوناً له في سبْر غور الدليل المذكور وفهمه بشكل أوضح.

الدليل الثاني:

أثبتنا من خلال بحوث آنفة أنّ الله الحكيم قد أودع في الذات الإنسانيّة

١١١

قابليّة التكامل، وأنّه ليس من الحكمة أنْ يطوي الإنسان طريقاً يفتقد القدرة على سلوكه.

ولقد اقتضى اللطف اللانهائي لله عزّ وجل أنْ يُهيِّئ للإنسان برنامجاً كاملاً وقانوناً شاملاً يكفل للبشريّة - عند تنفيذه وتطبيقه - الحياة الأفضل في الدنيا والسعادة الأكمل في الآخرة.

ولقد جاء التشريع الإلهي بشكل يكفل نموّ الفضائل الأخلاقيّة، ويربِّي الروح الإنسانيّة ويُهيِّئ للإنسان أسباب الرُقيّ في مدارج الكمال، ومن هنا اقتضتْ حكمة الله أنْ يبعث رسله وأنبياءه.

ولكي تبقى حجّة الله قائمة بوجود الشريعة، وقوانين الدين دون حذف أو إضافة وفي متناول البشر جميعاً، ولأنّ الدين والدنيا وجودان لا ينفكّان عن بعضهما وأنّهما يتكاملان معاً, ولأنّ الحياة الدنيويّة لا تنفصل عن السعادة الروحيّة وأنّها على طريق واحد، ولكي تُطبّق أحكام الله، فإنّ من الواجب هنا وجود فرد بين ظَهرانيّ البشر ينهض بمسؤوليّة حفظ الشريعة، ويسعى إلى تطبيق شرع السماء في الأرض.

ولقد كان سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ينهض بالمهمَّتَين معاً:

1 - إبلاغ الرسالة.

2 - والسعي إلى تطبيقها في حياة المسلمين والناس جميعاً.

ولأنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كسائر البشر محكوم بالموت، توجّب أنْ يخلفه - في مهامّه - فردٌ يقوم مقامه في حفظ الشريعة وتنفيذ أحكام الله، وأنّ وجود مثل هكذا فرد ضرورة إلهيّة، حتّى يبقى الصراط المستقيم قائماً بين الناس يدعوهم إلى سلوك طريق التكامل.

ولأنّه معصوم عن الخطأ، منزّه عن الذنوب، فهو يجسّد ذات الصراط ويمثّل

١١٢

حقيقة الأحكام، وهو مثال الكمال الإنساني. وعلى هذا يكون إماماً للناس، فهم يقتدون به ويأتمّون بأفعاله وأقواله وسيرته، وعليه تقع مسؤوليّة حفظ الشريعة والسعي لتنفيذها في إقامة المجتمع الأفضل والتأسيس لحياة إنسانيّة تنهض على شريعة الله، ومسؤوليّته أمام الخالق تبارك وتعالى، وبالتالي قيادة البشريّة نحو مستقبلها الحقيقي في الآخرة حيث السعادة الخالدة والنعيم الدائم.

إنّ الله - الذي خلق الناس وجعل دينهم في دنياهم - أنزل شريعة لتكون شاملة للحياة الدنيا والآخرة، فلا حاجز بين الحياتين حتّى يعيّن لكلّ حياة مَن يقودها، فاقتضتْ حكمته سبحانه أنْ يجعل للناس إماماً واحداً يتحمّل المسؤوليَّتَين معاً، فهو إمام للدنيا وإمام للآخرة، يحفظ الشريعة ويخطّط لتطبيقها في الحياة، وهذا الشخص المثال والمعصوم هو الإمام.

* إشكال:

* ربّما يقول أحدهم:

مِن الممكن أنْ نتصوّر وجود الشريعة واستمرارها بين الناس دون الحاجة إلى وجود الإمام المعصوم، فَمِن الممكن أنْ تتوزّع أحكام الشريعة عِلْمَاً وفِقْهَاً على أفراد الأُمّة فيكون كلّ فريق حافظاً لقسم منها، فتستمرّ الشريعة علماً وعملاً لدى أفراد النوع الإنساني، وبالتالي وجود الصراط المستقيم الذي يربط عالم الغيب بعالم الشهادة.

* الجواب:

كما ذكرنا سابقاً إنّ أحكام السماء إنّما أُنزلتْ لهداية الناس، ولذا ينبغي استمرارها في مأمن عن التحريف حذفاً وإضافةً، فلا يأتيها الباطل مِن بين يديها ولا مِن خَلْفها حتّى تكون - وعلى الدوام - في متناول البشريّة، يرجعون إليها

١١٣

ويصدرون عنها.

وببركة هذه القوانين يبقى طريق التكامل الإنساني مفتوحاً لمَن يريد التدرج في سُلّم الكمال ونَيْل السعادة، وهذا لا يتحقّق إلاّ بوجود فرد معصوم من الخطأ منزّه عن الذنب والخطيئة والنسيان.

وعلى هذا يتهاوى الافتراض السابق؛ لأن كلّ فرد من أفراد الأُمّة قابل للخطأ غير معصوم عن الذنب وليس في مأمن عن الغفلة والسهو، وبالتالي فهم عمليّاً ليسوا بمنأى عن الوقوع في الخطأ، وهذا ما يؤدّي إلى جرّ الأحكام الإلهيّة إلى هاوية التحريف والضلال، وهم في كلّ الأحوال سيكونون معذورين؛ لأنّهم ليسوا معصومين في تَحَرِّي الحقّ والكشف عن الواقع ينسجم مع الشريعة الإلهيّة.

ويترتّب على هذا انحراف خطير عن الصراط المستقيم الذي لا يعدو كونه طريقاً وحيداً، وهو بذاته الذي يمكّن الإنسان من نيل الكمالات الإنسانيّة الممكنة وينقل ذلك من دائرة القوّة إلى دائرة الفعل. وستكون حركة النوع الإنساني بلا غاية لانعدام الطريق الذي يربط بين عالَم الغيب وعالم الشهود.

* إشكال آخر:

إنّكم تنادون بأنّ وجود الإمام ضرورة إلهيّة، وأنّ الله عَيَّن معصومين مِن أجل تطبيق الشريعة والمحافظة على استمرارها، وأنّ ذلك سيجسّد بالتالي طريق التكامل المرسوم للبشريّة.

ومِن هنا فإنّ الله سبحانه عيّن عليّاً ابن أبي طالب وأحد عشر فرداً من ذرِّيَّته أئمّة للمسلمين، وهذا يعني أنّ الله عزّ وجل قد فعل شيئاً لا فائدة من ورائه، ذلك

١١٤

أنّ هؤلاء الأئمّة جميعاً - وباستثناء الإمام علي الذي حكم فترة وجيزة - ظلّوا بمنأى عن سِدّة الحكم وقيادة المسلمين.

فهل من المقبول عقلاً أنْ ننسب عملاً كهذا إلى الله وتعالى؟!

* الجواب:

لقد أثبتْنا خلال البحوث السابقة أنّ الحكمة الإلهيّة تقضي - ومن أجل استمرار مسيرة التكامل الإنساني - وجود فرد اجتباه اللهُ ليكون هادياً للبشريّة، وحتّى لا يكون للناس حجّة ولا عذر. فالأئمّة أفراد اجتباهم الله ليكونوا هداة للبشريّة ومعالم في الطريق إلى الله عزّ وجل.

وإذن، فبوسع البشريّة السعي لتهيئة الظروف المناسبة والأرضيّة الصالحة لتأسيس جهاز حكومي يكون الإمام في قمّته الهَرَمِيَّة، ولو حدث تقصير في ذلك وبقي الإمام مُسْتَبْعَدَاً عن ذلك، فليس هناك مَن يتحمّل مسؤوليّة التقصير سوى الناس أنفسهم؛ لأنّ الله عزّ وجل قد اختار للناس أئمّتهم وحدّد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أسماءَهم، إنّه ليس هنا مَن يتحجّج بخرق القانون الطبيعي الذي ينهض على الأسباب والمسبّبات وفرض حكومة المعصوم على الناس بالقوّة.

* وإضافة إلى كلّ ما ذكر، فإنّ الإمام يتمتّع بمزايا عديدة:

- إنّه مثال كامل للإنسانيّة في كلّ شؤون الدين، حيث يتجلّى فيه الفيض الإلهي بنحو كامل.

- إنّه أمين على الشريعة الإلهيّة كما نزلتْ على قلب سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو مبلِّغ للرسالة.

١١٥

- إنّه منتخب من قِبل الله لخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في قيادة الأُمّة الإسلاميّة، وإذا أخفق المسلمون بالاستفادة من مزيّة الإمامة الثالثة، فإنّ هذا يعود إلى سوء حظّهم وعدم أهليّتهم للاحتفاظ بالإمام كخليفة للنبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

* ولكنّهم لنْ يحرموا المزيَّتَين الأُولى والثانية :

- فالأُولى تكوينيّة: أدرك المسلمون ذلك أَمْ لا، نهض الإمام بمسؤوليّته في الحكم أَمْ أُقصي عنها.

- وفي الثانية: فلقد أثبت التاريخ أنّ أهل البيت كانوا حبل النجاة، وكانوا مرجعاً للمسلمين في كثير من المعضلات التي أَلَمَّتْ بهم، فلقد سعى أئمّة أهل البيت - وبالرغم من كلّ المضايقات - في نشر الإسلام وتعزيز الرسالة المحمّدية، وأحبطوا مؤامرات الأعداء بتضحياتهم.

وببركة وجود الأئمّة (عليهم السلام) أصبح للمسلمين ميراث ضخم من الأحاديث الشريفة في كلّ شؤون الدنيا والدين، فهناك آلاف الأحاديث في التفسير، وفي الأخلاق، وفي الفقه، وقليل من التأمّل يكشف للمرء الخدمات العلميّة الكبرى التي قدّمها أهل البيت (عليهم السلام)، وليكن نهج البلاغة مثالاً واحداً وشاهداً على الميراث الضخم الذي خلّفه الأئمّة (عليهم السلام).

* يقول ابن أبي الحديد:

ما أقول في رجل تُعْزَى إليه كلّ فضيلة، وتنتهي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومجلّي حلبتها، كلّ مَن بَزَغَ فيها بعده فَمِنْهُ أَخَذَ، وله اقتفى، وعلى مثاله احْتَذَى، ومِن كلامه اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ،

- فإنّ المعتزلة: - الذين هم أهل

١١٦

التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلّم الناس هذا الفن - تلامذتُه وأصحابه؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه (عليه السلام)،

- وأمّا الأشعريّة: فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعريّة ينتهون بآخرة إلى أُستاذ المعتزلة ومعلّمهم وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

- وأمّا الإماميّة والزيدية: فانتماؤهم إليه ظاهر.

ومن العلوم: علم الفقه وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه:

- أمّا أصحاب أبي حنيفة: كأبي يوسف ومحمّد وغيرهما، فأخذوا عن أبي حنيفة.

- وأمّا الشافعي: فقرأ على محمّد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة.

- وأمّا أحمد بن حنبل: فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّد (عليه السلام)، وقرأ جعفر على أبيه (عليه السلام)، وينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).

- وأمّا مالك بن أنس: فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عبّاس، وقرأ عبد الله بن عبّاس على علي بن أبي طالب.

وأيضاً فإنّ فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن عبّاس وكلاهما أخذ عن علي (عليه السلام):

- أمّا ابن عبّاس فظاهر.

- وأمّا عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة،

وقوله غير

١١٧

مرّة: لولا علي لهلك عمر .

وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن .

وقوله: لا يَفْتِيَنّ أحدٌ في المسجد وعليّ حاضر .

وقد روت العامّة والخاصّة قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (أقضاكم علي)، والقضاء هو الفقه.

ومن العلوم علم تفسير القرآن:

وعنه أُخذ ومنه فُرِّع، وإذا رجعتَ إلى كتب التفسير علمتَ صحّة ذلك؛ لأنّ أكثره عنه وعن عبد الله بن عبّاس، وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنّه تلميذه وخرّيجه.

وقد قيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟

فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط .

ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة، وأحوال التصوّف:

وقد عرفتَ أنّ أرباب هذا الفن - في جميع بلاد الإسلام - إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد صرّح بذلك:

الشبلي والجنيد وسريّ وأبو يزيد البسطامي، ويكفيك على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متّصل إليه (عليه السلام).

ومن العلوم: علم النحو والعربية:

وقد علّم الناس كافّة أنّه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، ومن جملتها:

(الكلام كلّه ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف) (1) .

ونظرة في حياة الإمام الصادق تكفي للدلالة على سعة وشمول مدرسته في الحواضر الإسلاميّة، وعدد العلماء الذين تتلمذوا على يديه، فلم يُنقل عن غيره كما نُقل عنه من أحاديث، حتّى روى عنه أكثر من أربعة

____________________

(1) شرح ابن أبي الحديد: ج1 ص18.

١١٨

آلاف راوٍ، كلّهم يقول (حدّثني جعفر بن محمّد) وفيهم أئمّة المذاهب وعلماء كبار كـ: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وابن جريج، وعبد الله بن عمرو، وروح بن قاسم، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، وعبد العزيز المختار، ووهب بن خالد، وإبراهيم بن الطحان.

كما أخذ عنه:

الشافعي، والحسن بن صالح، وأبو أيوب السجستاني، وعمر بن دينار، وأحمد بن حنبل (1) .

وانتشرتْ علوم الصادق (عليه السلام) بين المسلمين، ورُوِيَتْ عنه أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وأخذ عنه علماء الإسلام مثل:

- يحيى بن سعيد، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري وأبو حنيفة (2) .

وبلغ الإمام الصادق في علومه شأواً بعيداً، حتّى قال الجاحظ بأنّه ملأ الدنيا علماً (3) . وانتشرت علومه في المدن الإسلاميّة (4) وتتلمذ على يديه الكثير من علماء الإسلام.

* إشكال ثالث:

إنّ على الخليفة الحقِّ أنْ سعى في تعريف نفسه إلى الناس والمطالبة بالحكم، كما فعل ذلك رسول الله الذي ما فتئ يدعو الناس إلى نفسه.

____________________

(1) مناقب بن شهر أشوب: ج4 ص247.

(2) الفصول المهمّة: ص204.

(3) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: ج1 ص55.

(4) المصدر السابق: ص56.

١١٩

أليس من العجيب أنْ يُخفي الخليفة نفسه، وفي هذه الحالة ما يكون ذنب الناس وتقصيرهم في عدم القناعة به، فمِن بين الأئمّة الاثني عشر لا نجد غير علي بن أبي طالب حاكماً ولا نجد غير الحسين (عليه السلام) يطالب بالخلافة كحقّ طبيعي له، فيما نجد الحسن يستلم منصب الخلافة فلا يحتفظ بها، بل إنّنا نرى عليّ بن الحسين منزوياً منصرفاً عن الدنيا مفضّلاً حياة الدَعَة، حتّى عندما انتفض سكّان المدينة المنوّرة ثائرين على حكومة يزيد سنة 63هـ، نراه يُغادر المدينة في تلك الظروف العصيبة (1) .

* الجواب:

صحيح أنّ على الخليفة أنْ يسعى لتسنّم مكانه الطبيعي في الحكم والقيادة، على أنّ ذلك ينبغي أنْ يتم بوسائل خاضعة لموازين العقل، تكون مصلحة الإسلام العليا هي الأساس في المحاسبات جميعاً.

فدراسة الظروف العامّة والمناسبة لأيّ تحرّك نحو الهدف المنشود هي الإطار لموقف الإمام وأسلوبه في حفظ الشريعة.

ليس من الإنصاف ولا من المنطقي أنْ نتوقّع من الأئمّة ومن أجل استلام سِدّة الحكم أنْ يقدموا على ارتكاب أيّ عمل عنيف يرفضه العقل لعدم جدواه.

لقد كان علي بن أبي طالب هو الخليفة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقد اغتُصِب حقّه، ولكنّه لم يتوسّل بكلّ شيء من أجل استرداد حقّه، وغضَّ النظر عن ذلك من أجل مصلحة الإسلام، بل وقف إزاء الخلفاء - وبالرغم من كلّ مواقفهم - موقفاً ايجابياً، ولم يكن ليبخل في تقديم العون لهم وقت

____________________

(1) داوري - باللغة الفارسيّة - أحمد كسروي، ص28.

١٢٠