دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة0%

دراسة عامة في الامامة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 282

دراسة عامة في الامامة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ إبراهيم الأميني
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الصفحات: 282
المشاهدات: 78606
تحميل: 5066

توضيحات:

دراسة عامة في الامامة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78606 / تحميل: 5066
الحجم الحجم الحجم
دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الثالث

العصمة

١٤١

١٤٢

عِصْمَة الإمَام

تعتبر عصمة الإمام وخلافته لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إحدى أهمّ المسائل التي ما تزال حتى اليوم تثير جدلاً واسعاً بين المسلمين، فالشيعة الإماميّة يعدّون العصمة شرطاً أساسيّاً للإمامة، وبدونها لا يكون الإمام إماماً حقّاً، فيما يعتقد أهل السُنّة بخلاف ذلك فلا يرونها شرطاً لخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فَمِن الممكن أنْ يكون الخليفة فاسقاً لجواز ذلك.

وللعصمة أكثر من تعريف، على أنّ أبرزها وأصحّها هو:

(إنّها عبارة عن ملكة وقوّة نفسية تنشأ عن مشاهدة حقائق الوجود ورؤية الملكوت، وبها يمتنع المعصوم عن ارتكاب المعاصي والذنوب أو الوقوع في الأخطاء) .

* فالعصمة تعني:

- تلقّي الحقائق وإدراك الواقع دون خطأ.

- حفظ الشريعة وانعدام الغفلة في شيء منها.

- تبليغ الشريعة وإظهار الأحكام كما أنزلها الله.

- سَداد في العمل واحتراز من كلّ خطأ.

١٤٣

ولا ننسى هنا أنْ نشير إلى أنّ انتفاء الذنوب والمعاصي في حياة المعصوم لا يعني انعدام قدرته على ارتكابها، كأنْ يجبره الله على الطاعة. فالمعصوم كسائر عباد الله مخيّر في عمله وسيرته فلا جبر ولا إلزام في طاعته، غير أنّ بصيرته قد بلغتْ أعلى درجات الإدراك حتّى أصبح في مأمن مِن إغواء الشيطان أو تأثير النفس الأمّارة بالسوء.

* إشكال:

لعلّ هناك مَن يُورد إشكالاً حول أصل العصمة، فيشكك قائلاً: كيف يمكن لإنسان عادي - تموج في أعماقه مثل سائر الناس الغرائزُ الحيوانيّة والميول والرغبات النفسيّة - أنْ يكون في مأمن من الوقوع في الذنب وارتكاب المعصية، حتّى لا يمكن احتمالها فيه أبداً؟!

* الجواب:

إنّ الإنسان مجبول على طلب الكمال، فهو ينشد تكامله وسعادته في كلّ حركاته ويسعى من أجل نيل ذلك ليل نهار، فكلّ ما يقوم به إنّما ينطلق من اعتقاده أو توهّمه بأنّ مصلحته وسعادته إنّما تكمن في ذلك، حتّى في ما يرتكبه من أخطاء، ويفعله من قبائح، بل:

- حتّى الذي يَقْدم على الانتحار؛ إنّما يفعل ذلك لأنّه يعتقد أنّ انتحاره سيضع حدّاً لآلامِهِ وحياته المريرة، ولو كان يدرك أنّ ما يفعله هو قبيح مستهجَن، لما فعل ذلك أبداً.

- واللص عندما يسرق لا يفعل ذلك وهو يستهجن عمله، بل إنّه يظن عمله مفيداً وضروريّاً في أنْ يعيش حياة هانئة.

- والمقامر يلعب لكي يربح مثلاً.

- والقاتل عندما يبرر فعله الشنيع.

وبشكل عام يبقى تفسير جميع أعمال الإنسان في ضوء هذه النظريّة تابعاً لاعتقاد

١٤٤

المصلحة أو توهّمها. فعلى ضوء ما يُدرك الإنسان من المضارّ والمنافع ومدى أهمِّيَّتها له، يَقدم الإنسان على عمل ما.

وربّما كانت درجة الرؤية لديه ضعيفة إنْ لم تكن مقلوبة، فقد يتصوّر القبيح قبيحاً ولكنّه لا يلمّ بكلّ صورته فيجعل من تلك الرؤية الناقصة مبرّراً لكبح رغباته وشهواته، إذ انّه لم يصل بعد الدرجة النهائية في الرؤية لكي يحصل عنده اليقين الكامل الذي يرتقي إلى مرحلة الشهود.

لقد أشرنا في بحوث سابقة وبشكل إجمالي إلى أنّ الإمام ينطوي على حالة من الرؤية الباطنيّة العميقة، وأنّه يشتمل على حقيقة الدين، ويدرك في حالة من الشهود الكامل المعاصيَ والقبائحَ ويراها كما هي لا كما تُصوِّرها الأوهام، وبالتالي فهو على بصيرة عالية وإيمان عميق يحجزه عن ارتكابها أو الوقوع في حبائلها، وهو في حصن حصين عن كلّ الآثام والذنوب بإرادة منه واختيار.

* إشكال آخر:

إنّ طبيعة الخلق الإنساني تنطوي على قابليّة الخطأ والنسيان، وبما أنّ الأئمّة والأنبياء بشر عاديّون فهم بالتالي لا يشكّلون استثناء لهذه القاعدة، فكيف يمكن أنْ نتصوّر إنساناً ما يتمتّع بإدراكات علميّة وجهاز عصبي وحدس كسائر البشر، وهو في مأمن عن الوقوع في الخطأ واحتمال الانحراف والنسيان.

* الجواب:

صحيح أنّ الأنبياء والأئمّة هم بشر عاديّون، ولكنْ سيتبيّن من خلال الأدلّة في بحوث قادمة أنّهم على مستويات علميّة عالية، وأنّهم في هذه الناحية يفوقون

١٤٥

سائر البشر بشكل ملحوظ.

إنّ علومنا التي نعرفها هي عبارة عن سلسلة من المفاهيم والتصوّرات التي نكتسبها عن طريق الحواس ووسائل المعرفة العقليّة؛ لذا فهي معرّضة للخطأ والنسيان.

أمّا النبي والإمام فهو على علاقة بعالَم الغيب وهو يطلّ على عالم الملكوت من خلال بصيرته النفّاذة، فهو يعيش عالم الحقائق الكبرى، فعلوم الأئمّة لا تتحصّل عن طريق الحواس بل إنّها تفور في ذواتهم كالينابيع المتدفّقة. إنّهم ينطوون على كنوز من المعرفة الحقيقيّة، ومثل هؤلاء الأفراد لا يحتمل النسيان والخطأ في حياتهم.

ثمّ إنّ النسيان والخطأ لا يشكّل ضرورة في أصل الخلقة البشريّة، فما هو المانع إذن في أنْ يَهَبَ الله الحكيم رُسُلَهُ وأوصياءهم مَلَكَةً تَعْصِمُهُم مِن آفة الخطأ والنسيان؟

إنّنا أمام حشد من الأدلّة العقليّة تؤيّدها الرواياتُ، بحيث لا يبقى مجال للشكّ في هذه المسألة الحسّاسة.

استدلال هشام:

لنتأمّل في هذه الرواية قليلاً، فقد تساعد على فَهْم جانب مضيء في حياة الأئمّة (عليهم السلام).

عن محمّد بن أبي عمير قال: ما سمعتُ ولا استفدتُ من هشام بن الحكم في طول صحبتي إيّاه شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فإنّي سألتُه يوماً عن الإمام: أهو معصوم؟

قال: نعم.

قلت له: فما صفة العصمة فيه؟

١٤٦

وبأيّ شيء تُعرف؟

قال: (إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة فهذه منتفية عنه:

- لا يجوز أنْ يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه؛ لأنّه خازن المسلمين، فعلى ماذا يحرص؟

- ولا يجوز أنْ يكون حسوداً؛ لأنّ الإنسان إنّما يحسد مَن هو فوقه، وليس فوقه أحد، فكيف يحسد مَن هو دونه؟

- ولا يجوز أنْ يغضب لشيء مِن أُمور الدنيا إلاّ أنْ يكون غضبه لله عزّ وجل، فإنّ الله قد فرض عليه إقامة الحدود، وأنْ لا تأخذه في الله لومة لائم ولا رأفة في دينه حتّى يُقيم حدودَ الله عزّ وجل.

- ولا يجوز أنْ يتّبع الشهوات ويُؤْثِر الدنيا على الآخرة؛ لأنّ الله عزّ وجل حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيتَ أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح؟ وطعاماً طيباً لطعام مرّ؟ وثوباً ليِّناً لثوب خشن؟ ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج25 ص192.

١٤٧

العصمة في ضوء العقل

تنسحب أدلّة الإمامة كضرورة دينيّة في ضوء العقل على مسألة العصمة أيضاً؛ للتلازم الوثيق بين الإمام والعصمة كصفة جوهريّة في دور الإمامة دينيّاً واجتماعيّاً.

* ولأهمِّيَّة الموضوع نستعرض بشكل مختصر الأدلّة العقليّة مرّة أُخرى:

* ففي الدليل الأوّل تمّ إثبات:

- أنّ النوع الإنساني يتحرّك نحو تكامله.

- وأنّ الصراط المستقيم ما هو إلاّ روح الشرائع الإلهيّة التي حملها الأنبياء إلى البشر، وهي بذلك تمثّل الطريق الحقيقي الذي لا يقبل التفكيك بين درجاته وحلقاته.

- وأنّ غاية الحركة التكامليّة الممكنة بشريّاً تتجسّد في روح الشريعة ومنزلة الولاية والإمامة.

- وأنّ وجود فرد كامل بين ظهراني البشر ضرورة حياتيّة، لاستمرار وديمومة الوجود الإنساني بأسره؛ لأنّه المحل الذي ينعكس عنه الفيض الإلهي للحقّ تعالى، وهو يمثّل العلاقة بين عالمَي الغيب والشهادة.

وعلى هذا فإنّ العصمة ضرورة من ضرورات الإمامة؛ لأنّها التجسيد الحي لتكامل الإمام وكماله، واعتباره المثال الحي لإمكانيّة البشر في سلوك الطريق

١٤٨

القويم من خلال حركة تكامليّة يجسّد مسيرتها الإمامُ.

وما دام الصراط المستقيم يرتبط ارتباطاً وثيقاً لا يقبل الانفكاك مع أحكام الدين، فإنّ كلّ مَن يحيد عن حكم واحد سيكون خارجاً عن الصراط، وبالتالي فلنْ يمثّل هذا الفرد بأيّ حال من الأحوال تكامل الإنسان وغاية النوع الإنساني.

وهذا أيضاً ينسحب على الخطأ والنسيان وعدم احتمالهما في ذات الإمام؛ لأنّهما يقودان إلى ذات النتيجة الآنفة الذكر.

ولأجل استيعاب الدليل أكثر، أنصح القارئ بمراجعة الدليل الأوّل حول ضرورة الإمامة؛ لأنّه سيسلّط الضوء أكثر على جوانب الموضوع.

* الدليل الثاني:

قلنا في الدليل الثاني إنّ الهدف الإلهي لا ينحصر بمجرّد بعث الأنبياء وإبلاغ الرسل للشرائع؛ لأن ذلك لا يؤمّن المسيرة التكامليّة للنوع الإنساني، باعتبار أنّ فترة وجود النبي محدودة تنتهي بوفاته، بينما تبقى مسؤوليّته تطبيق الشريعة في حياة البشر بلا مسؤول. لقد اقتضى اللطف الإلهي أنْ يجتبي الله عزّ وجل أفراداً؛ من أجل تداوم غاية الأنبياء في حفظ الشريعة، ومسؤوليّة تنفيذها، وإقامة حكم الله.

ومن هنا يتوجّب أنْ يكون المسؤولون عن إقامة دين الله معصومين عن الخطأ منزّهين عن الذنب والعصيان والإثم؛ ليجسّدوا من خلال سيرتهم طريق الأنبياء وأهداف الشريعة، وهؤلاء الأفراد يتمّ اختيارهم من قِبل الله عزّ وجل، فهم واجبو الطاعة بناءً على ذلك.

١٤٩

* إشكال:

قد يورد البعض إشكالاً حول نظرية العصمة بلزوم القضاة والحكام لارتباطهم بالمعصوم في تنفيذ أحكام الدين، وإذا انتفى شرط عصمتهم في ذلك، فلماذا لا تنتفي ضرورة عصمة الإمام أيضاً؟

* الجواب:

إنّ الدليل نهض على ضرورة وجود إمام معصوم في رأس الهَرَم القيادي كمرجع يمثّل حقيقة الدين؛ ليكون بذلك ملاذاً للمسلمين إذا ما تشابهتْ عليهم الطرق، لأنّه يمثّل الصراط المستقيم، وبالتالي المَعْلَم المضيء الذي يحدّد طريق التكامل للإنسانيّة، ومدار بحثنا أنّ هناك مخاطر كبرى تترتّب على وجود إنسان غير معصوم في رأس الهرم القيادي لاحتمال انحرافه عن الطريق، وبالتالي الجنوح بالأُمة إلى هاوية الشقاء.

فوجود إمام معصوم سوف يكفل للأُمّة تشكيل حكومي صالح لقيادة المجتمع الإسلامي؛ لأنّه يُنصِّب مَن يشاء ويعزل مَن يريد، وغايته في كلّ ذلك تنفيذ وإقامة حكومة العدل الإلهي، بعيداً عن مطبّات الهوى ومزالق الأوهام.

* الدليل الثالث:

قلنا فيما سبق إنّ الأحكام والقوانين الإلهيّة إنّما جاءتْ لتكامل البشريّة وتأمين السعادة للإنسان في حياته الدنيا وفي الآخرة، ومِن هنا ينبغي بقاؤها سليمة من كلّ تحريف حذفاً أو إضافةً، وبشكلٍ تكون في متناول البشر، حتّى لا يبقى هناك عُذْر لِمُعْتَذِر، ومن هنا جعل الله للشريعة حَفَظة لا يتطرّق إليهم الخطأ

١٥٠

والنسيان، ولو كانوا كسائر البشر فإنّ الشريعة ستكون في معرض للتغيّر والتبدّل والانحراف.

والقرآن وحده لا يكفي لبيان الطريق؛ لأنّ في أحكامه تعميماً يصعب فهمه على سائر الناس، وفيه ما يحتاج إلى تفسير وتوضيح.

* الدليل الرابع:

الإمام معلّم للإنسانيّة، وقدوة لها، تتمثّل خطاه وتُنْتَهَل مِن سيرته وهداه، ولا يكفي للمرء أنْ يكون إمامه بليغاً في الحديث جميلاً في العرض والأسلوب، بل لا بدّ أنْ يكون ثقة معتمداً، له منزلة في القلوب.

والإمام لا يحتل قلوب الناس ولا يجتذب حبّهم إلاّ إذا أصبح قولُه فعلاً، وكانت سيرته مثالاً منسجماً مع كلماته؛ ليكون له في ذلك مصداق وشاهد على أَحَقِّيَّته. وفي هذا فقد يمكنه أنْ ينفذ إلى القلوب فيفجّر فيها كوامن العاطفة وينابيع الحبّ الصادق؛ لأنّ الناس لا يسحرهم الكلام فقط بل يتطلّعون إلى صاحب الكلام الجميل أنْ يكون جميلاً في عمله أيضاً، فالعمل والسلوك هو المعيار الوحيد للإنسان، وسيبقى الكلام الجذّاب وحده إذا لم يجسّده عمل، أسلوباً دعائيّاً عقيم التأثير، إنْ لم يكن سلبيّاً في أثره.

وجماهير الأُمّة حسّاسة تماماً في هذا المضمار تبحث في شخصيّة الإمام وسيرته لا أقواله ومواعظه، وإلاّ فما قيمة المواعظ مهما بلغتْ إذا كانت صادرة عن ظالم، يحذِّر الناس عواقب أعمالهم في الآخرة وهو غارق في الآثام، مستغرق في دنياه، يظلم وينهب ويغتصب؟!

ومن هنا تعيّن على الإمام أنْ يكون معصوماً عن الخطأ والغفلة والنسيان،

١٥١

فإنْ جازتْ عليه هذه الصفات لم يبقَ من اعتبار لحديثه؛ لاحتمال الخطأ فيه، فتسقط الثقة عنه، بينما الهدف الإلهي هو إرشاد الإنسانيّة إلى جادّة الطريق.

حدود العصمة:

* يُستفاد من الأدلّة السابقة أنّ الإمام:

- معصوم عن المعاصي ومخالفة أحكام الله، فلا يرتكب ذنباً، وهو في طاعة مستمرّة لا يحيد عن أمر ولا يخرج عن نهي.

- في مأمن عن ارتكاب الصغائر من الذنوب أيضاً.

- في حرز حريز عن الخطأ والنسيان والغفلة في تعلّم أُمور الدين وإبلاغها، وفي حفظ الشريعة وأحكامها، وفي تطبيقها في حياة الأُمّة.

ومن خلال الأدلّة الأربعة هذه يتوضّح لنا - وبشكل قاطع - أنّ الإمام، وفي فترة تصدّيه لمسؤوليّته في قيادة البشريّة، لا بدّ أنْ يكون مصوناً عن كلّ خطأ، مسدّداً من لدن الله عزّ وجل في ذلك.

العصمة قبل فترة الإمامة:

هناك جدل قائم حول عصمة الإمام قبل فترة تصدّيه لهذه المسؤوليّة، فهل إنّ الإمام مصون عن الخطأ، معصوم عن الذنب حتّى قبل أنْ يصبح إماماً، أَمْ أنّه كسائر البشر في فترة ما قبل الإمامة؟

* يقول البعض:

إنّ الضرورة تقتضي عصمة الإمام في فترة إمامته فقط، وإنّه لا ضرورة لعصمته قبل الإمامة، ومن الممكن أنْ يكون الإمام معرّضاً للخطأ والمعصية في زمن ما قبل الإمامة، فإذا أصبح إماماً عصمه الله عن الذنب وحصّنه

١٥٢

عن المعصية، فالضرورة لا تقتضي ذلك إلاّ في فترة الإمامة فقط.

* وفي مقابل هذا الفريق يقول فريق آخر: إنّ العصمة لازمة في النبي مدى الحياة، منذ الولادة وحتّى الوفاة.

وأمام هذَين الرأيَين ينبغي استعراض أدلّة العصمة والاستفادة من مداليلها في هذه القضيّة.

* فمعطيات الدليل الأوّل هي:

وجود فرد كامل تتجسّد فيه كمالات الإنسانيّة الممكنة بشكل فعلي؛ ليكون مثالاً حيّاً على إمكانيّة الكمال لدى البشر، وهذا يؤكّد على وجود الإمام في متن الصراط المستقيم، كما قلنا، وهو يؤكّد تماماً عصمته حتّى قبل إمامته.

فالإمام مثال إنساني كامل ونموذج حيّ، ولو افترضنا إمكانيّة عدم عصمته واحتمال المعصية فيه وإنْ كان في مطلع عمره، فسوف يخلّ بهذا الجانب الهامّ في إمامته مستقبلاً. هذا بالنسبة للدليل الأول.

* أمّا الدليل الثاني والثالث:

فليست لهما معطيات ما في هذه المسألة؛ لأنّ الإمام قبل تصدّيه للإمامة ليس في مقام التبليغ للرسالة، ولا مسؤولاً عن تطبيقها وإقامة دين الله.

* وحول الدليل الرابع:

فإنّ استلاب عصمة الإمام قبل إمامته والطعن في تاريخ الإمام قبل تصدّيه لمسؤوليّته سوف يخدش الثقة المطلوبة التي يحتل بها قلوب الناس، والتأثير في نفوسهم، وستبقى صورته مقترنة بأعماله السابقة التي ستلقي ظلالها السوداء على كلّ كلمة يقولها وكلّ عمل يقوم به، وربّما يتهامس البعض أنّ هذا الذي يعظنا ويرشدنا اليوم قد فعل وفعل بالأمس، وهذا الذي ينهانا عن المعاصي قد ارتكب ما ارتكب منها في السابق.

١٥٣

وعلى كلّ حال فإنّ الإمامة أمر حسّاس، وإنّ العصمة جانب جوهري فيها على امتداد عمر الإمام الذي ينبغي أنْ يكون مثالاً، من المهد إلى اللحد. ومن الناحية الاستدلالية لا يمكن التعويل كثيراً على هذا الدليل؛ لأنّه لا يعدو أنْ يكون كلاميّاً ويبقى الدليل الأوّل هو الأساس في الدلالة على عصمة الإمام، حتّى قبل فترة الإمامة.

١٥٤

العصمة في ضوء العقل

( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) .

سبق وأنْ بحثنا في هذه الآية بعض المسائل التي لا داعي لتكرارها هنا، وفيما يلي نبحث المقطع الذي يتساءل فيه إبراهيم عن نصيب ذرِّيَّته من الإمامة، فجاء الجواب الإلهي قائلاً: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) .

وإذا ما أردنا أنْ نبحث في مفهوم الظلم ومصاديق الظالم نجد أنّ هذا الإصطلاح هو نقيض العدل، ويساوي وضع الشيء في غير موضعه، فما هو معنى العدل تحديداً؟

إنّ هذا الوجود ينهض على نظام خاص، حيث تنعم الأشياء فيه بقدر محدّد من الوجود، فالقوانين والشرائع الإلهيّة إنّما جاءتْ متناغمة مع الفطرة وناموس الطبيعة، فكلّ مَن يسير وِفق هذا الناموس كما خلقه الله عزّ وجل، وكانت أعماله وِفق ذلك، عُدّ عادلاً. فإذا انحرف عن مسار الفطرة وارتكب معصيةً ما، كان ظالماً.

____________________

(1) البقرة: الآية 124.

١٥٥

* وفي ضوء الرؤية القرآنيّة يمكن تقسيم الظلم إلى ثلاثة أنواع:

1 - ظلم العبد لربّه:

فمن أكبر الظلم الكفر والشرك والنفاق، قال تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (1) ، وقال عزّ وجل: ( فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) .

إنّ الله هو منشأ الوجود، والعبادة لله وحده، فمَن عَبَدَ غيرَه ظَلَم.

2 - ظلم الإنسان لأخيه الإنسان:

قال سبحانه: ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3) .

فالعدوان شكل من أشكال الظلم؛ لأنّه هضم لحقوق الآخرين، واعتداء على ناموس الطبيعة والفطرة.

3 - ظلم الإنسان لنفسه:

- قال سبحانه وتعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) (4) . وقال عزّ وجل: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (5) .

لقد أودع الله في الحياة الإنسانيّة طريقاً مستقيماً يتناغم مع فطرة الإنسان كأصل في قابليّته للتكامل، فَمَن ينحرف عن هذا المسير فهو يظلم نفسه.

____________________

(1) لقمان: الآية 13.

(2) آل عمران: الآية94.

(3) الشورى: الآية 42.

(4) فاطر: الآية 32.

(5) الصافات: الآية 113.

١٥٦

- قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (1) .

- وقال سبحانه: ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) .

وبالرغم من التقسيم السابق، فإنّ النوع الأوّل والثاني من الظلم هو شكل من أشكال ظلم الإنسان لنفسه أيضاً، فهو في جميع الأحوال يضرّ بنفسه، لا غير.

* وإذا أردنا أنْ نقسّم الناس على أساس ارتكاب المعاصي، فهم طوائف أربع:

- طائفة مستغرقة في المعاصي طوال الحياة.

- طائفة ارتكبتْ المعاصي في أوّل العمر، ثمّ أقلعتْ عن ذلك وتابت.

- طائفة لم تذنب في أوّل العمر، ثمّ انحرفتْ فاستغرقتْ في الذنوب في آخر عمرها.

- وطائفة طاهرة الثوب مِن أوّل العمر إلى آخره.

وعلى أساس إطلاق الآية الكريمة التي تصدّرت البحث، فإنّ الطوائف الثلاث الأُولى تنضوي جميعاً في إطار (الظالمين) الذين لا ينالهم عهد الله، وإذن لا يبقى هناك سوى الطائفة الرابعة، تلك التي لم ترتكب ذنباً في حياتها أبداً.

آية التطهير:

قال سبحانه في محكم كتابه الكريم: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) .

____________________

(1) الطلاق: الآية 1.

(2) البقرة: الآية 229.

(3) الأحزاب: الآية 33.

١٥٧

احتلّتْ هذه الآية الكريمة موقعاً حسّاساً في المباحث الإسلاميّة، وأضحتْ محوراً لجدل واسع حول مدلولها ومصداقها، واستند إليها علماء الإماميّة في استدلالهم على عصمة الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، فيما يقف أهل السنّة مواقف متحفّظة إزاء بعض تفاسيرها وما ترمي إليه من معاني ودلالات.

ولكي نسلّط الضوء أكثر فسنعرض باختصار البحث التالي:

أسباب النزول:

تضافرتْ الروايات والأحاديث بشكل لا يدع مجالاً للتشكيك في أنّ الآية نزلتْ في سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلي وفاطمة والسبطين الحسن والحسين (عليهم السلام)، وقد بلغتْ الأحاديث المرويّة عن طريق أهل السُنّة حدّاً يصل بها إلى القَطع واليقين الكامِلَين.

* وهذه أمثلة:

- عن عائشة قالت: (خرج النبي (صلَّى الله عليه وآله) غداة فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ جاءتْ فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله، ثمّ قال: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) .

- وعن أُمّ سَلَمَة: أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساءً، ثمّ قال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي أَذْهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فقالت أُمّ سَلَمَة: وأنا معهم يا رسول الله؟

قال: قفي في مكانك إنّك إلى خير) (2) .

____________________

(1) ينابيع المودّة: ص124 / الدرّ المنثور: ج5 ص198 / جامع الأُصول: ج10 ص101.

(2) ينابيع المودّة: ص125 / الدر المنثور: ج5 ص198.

١٥٨

- وعن عمر بن أبي سَلَمَة ربيب النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: نزلتْ: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) في بيت أُمّ سَلَمَة فدعا النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وعلي خلف ظهره فجلّلهم بكساء ثمّ قال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأَذْهِب عنه الرجسَ وطهّرهم تطهيراً.

قالتْ أُمّ سَلَمَة: وأنا معهم يا نبي الله؟

قال: أنتِ على مكانك وأنت إلى الخير) (1) .

- وعن زينب: أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لَمّا رأى الرحمة هابطة من السماء قال: (مَن يدعو لي عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً؟)

قالت زينب: أنا يا رسول الله، فدعتْهم، فجعلهم في كسائه، فنزل جبرئيل بهذه الآية ودخل معهم في الكساء (2) .

- عن شداد أبي عمّار قال: دخلتُ على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّاً (رضي الله عنه)، فلمّا قاموا قال: أَلاَ أخبرك بما رأيتُ من رسول الله؟

قلتُ: بلى.

قال: أتيتُ فاطمة (رضي الله عنها) أسألها عن علي، قالتْ: توجّه إلى رسول الله ومعه حسن وحسين، فجلست أنتظره حتّى جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومعه حسن وحسين آخذ كلّ واحد منهما على فخذ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه أو كساءه ثمّ تلا هذه الآية: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) وقال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ) (3) .

- عن أبي سعيد الخدري قال: (نزلتْ هذه الآية في خمسة: النبي (صلَّى الله

____________________

(1) ينابيع المودّة: ص125 / جامع الأُصول: ج10 ص101.

(2) ينابيع المودّة: ص126 / مجمع الزوائد: ج9 ص167.

(3) مجمع الزوائد: ج1 ص167.

١٥٩

عليه وآله وسلَّم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) (1) .

- وعن الحسن بن علي(عليه السلام) قال في خطبته: (نحنُ أهل البيت الذين قال الله سبحانه فينا ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ) (2) .

- وعن وائلة بن الأسقع: (وأجلس النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حَسَنَاً على فخذه اليمنى وقبّله، وحُسَيْنَاً على فخذه اليسرى وقبّله، وفاطمة بين يديه، ثمّ دعا عليّاً فجاء، ثمّ أَغْدَفَ عليهم كساءً خيبريّاً ثمّ قال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي أَذْهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً).

فقيل لوائلة: ما الرجس؟

قال: الشكّ في الله عزّ وجلّ (3) .

- وعن أيضاً قال: كنتُ في البيت يوم الشورى فسمعتُ عليّاً وهو يقول: (استخلفَ الناسُ أبا بكر وأنا والله أحقّ بالأمر وأولى به منه، واستُخلف عمر وأنا والله أحقّ بالأمر وأولى منه إلاّ أنّ عمر جعلني مع خمسة وأنا سادسهم لا يعرف عليّ لهم فضلاً ولو شاء لاحتججتُ عليهم.

ثمّ قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير على رسول ال له ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) فأخذ رسولُ الله كساءً خيبريّاً فضمّني فيه وفاطمة والحسن والحسين، ثمّ قال: يا ربّ إنّ هؤلاء أهل بيتي فأَذْهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قالوا: اللّهم لا) (4) .

ولقد كان علي أحبّ الناس إلى رسول الله باعتراف عائشة.

____________________

(1) ينابيع المودّة: ص126.

(2) ينابيع المودّة: ص126 / مجمع الزوائد: ج9 ص172.

(3) غاية المرام: ص287.

(4) المصدر السابق: ص294.

١٦٠