دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة20%

دراسة عامة في الامامة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 282

دراسة عامة في الامامة
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83083 / تحميل: 5893
الحجم الحجم الحجم
دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

معصومون) (١) .

- وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (لا يُقاس بآل محمّد صلَّى الله عليه وآله من هذه الأُمّة أحد... هم أساس الدين وعماد اليقين... ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة) (٢) .

- وعنه (عليه السلام) أيضاً: (وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم، وهم أزمّة الحقّ وأعلام الدين وأَلْسِنَةُ الصِدْق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردّوهم وُرُود الهِيْم العطاش) (٣) .

وفي قوله (عليه السلام): (فأنزلوهم منازل القرآن) ما يدلّ على عصمتهم. أي اتّبعوهم كما تتّبعون القرآن. (٤)

- وعن الباقر (عليه السلام) في جواب على عن سؤال سأله جابر: لأيّ شيء يُحتاج إلى النبي والإمام؟

فقال: (لبقاء العالَم على صلاحه، وذلك أنّ الله عزّ وجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أو إمام. قال الله عزّ وجل: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) ، وقال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبتْ النجوم أتى أهلَ السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهلَ الأرض ما يكرهون، يعني بأهل بيته الأئمّة الذين قرن الله عزّ وجل طاعتهم بطاعته فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، وهم المعصومون المطهّرون الذين لا

____________________

(١) المصدر السابق: ص١٩٩.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٢.

(٣) المصدر السابق: الخطبة ٨٣.

(٤) شرح ابن أبي الحديد: ج٦ ص٣٧٦.

١٨١

يذنبون ولا يعصون، وهم المؤيَّدون الموفّقون المسدَّدون) (١) .

- وروى سليم بن قيس عن علي (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعَصَمَنَا وجَعَلَنَا شهداء على خَلْقِهِ وَحُجَّته في أرضه، وجَعَلَنَا مَعَ القرآن، وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا) (٢) .

ويبقى حديث الثقلَين في طليعة الأحاديث التي تؤكِّد عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو من الأحاديث المتواترة والمشهورة في كتب المسلمين جميعاً، ولا يمكن لأحد أنْ يُشكّك في صدوره عن سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) (٣) .

- وعلى سبيل المثال ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعتُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: (أيُّها النّاس إنّي تركتُ فيكم الثقلين إنْ أخذتُم بهما لن تضلّوا، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) (٤) .

* والتأمّل في الحديث يقود إلى الإيمان بما يلي:

- إنّ عترة النبي منزّهةٌ عن الخطأ والذنب؛ لأنّ سيّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: (إنْ أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي)، ولمّا كان اتّباعهم أماناً من الضلال والانحراف، فمعنى هذا عصمتهم عن الخطأ، وأنّهم قدوة للمسلمين

____________________

(١) بحار الأنوار: ج٢٣ ص١٩.

(٢) أصول الكافي: ج١ ص١٩١.

(٣) يتجاوز عدد الصحابة الذين رووا الحديث أكثر من ثلاثين صحابيّاً، وقد رُوي بعبارات مختلفة وأسانيد متعدِّدة ضبطتْها كتبُ الفريقَين، فهناك ما يربو على التسعة والثلاثين حديثاً في صحاح أهل السُنّة، واثنان وثمانين حديثاً ضبطتْها كتبُ الشيعة، وقد أفرد مير حامد حسين الهندي في كتابه (العبقات) جزءاً مستقلاًّ لهذا الحديث.

(٤) ينابيع المودّة: ص٣٦.

١٨٢

في عملهم وقولهم.

- إنّهم المرجع العلمي للمسلمين، وإنّ على المسلمين - حتى من الذين لا يعتقدون إمامتهم - الرجوع إليهم في شؤون دينهم.

- إنّ اقترانهم بالقرآن يعني بقاءهم إلى يوم القيامة، وإذنْ فجميع العصور لا تخلو من وجود إمام.

* إشكال:

لقد ورد في أدعية الأئمّة الأطهار ما يدلّ على اقترافهم الذنوب وطلبهم الغفران من الله عزّ وجل بل كانوا يبكون خوفاً من عذاب الله وجحيم الآخرة، ومع هذه الاعترافات الصريحة كيف ننسبهم إلى العصمة، وهم ينوحون خشيةً من عذاب الله يوم القيامة؟!

* الجواب:

لا يبقى بعد إثبات عصمة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في ضوء (الأدلّة العقليّة والقرآن الكريم والأحاديث الشريفة) سوى تأويل هذه الأدعية وفهمها في أُطر معيَّنة على افتراض صحّة أسانيدها، حيث يمكن تفسير ذلك من خلال ما يلي:

- إنّ الأئمّة (عليهم السلام) يعيشون حالة من الشهود الكامل، فهم قد وقفوا على قدرة الله وعظمته المطلقة، كما أنّهم يشعرون بفقرهم الذاتي في كلّ شيء، وأنّهم لا شيء أمام الله عزّ وجل، فكلّ شيء منه سبحانه، فَمَهْمَا عبدوا الله سبحانه ومهما تضرّعوا إليه فإنّهم لنْ يؤدّوا حقّه.

١٨٣

- إنّ الأئمّة (عليهم السلام) يسيرون في طريق الكمال ومدارج التكامل، فكلّما ارتقَوا درجة اشتدّتْ نصاعة نفوسهم، فيشعرون بتقصيرهم ويندمون على عباداتهم وطاعاتهم فيما مضى؛ لأنّها في نظرهم لا تليق بشأنه تعالى، فهم في حياء من الله وشعور بالذنب يدفعهم إلى طلب المغفرة.

- إنّ الأئمّة جعلوا من الدعاء وسيلة لإرشاد الأمّة، خاصّةً في الفترات الحرجة، حيث سيوف الجلاّدين تكاد تهوي على أعناقهم، فكانوا بدعائهم ينشرون معارف الإسلام ويرشدون المسلمين إلى جادّة الصواب، وهذا ما نراه جليّاً في تراث السجّاد (عليه السلام).

والأئمّة المعصومون هم مُعَلِّمُو الإنسانيّة، فربّما كانوا يهدفون من دعائهم تعليم الناس أدب الدعاء ولغة التضرّع إلى بارئ الإنسان وواهب الحياة. ومَن يقرأ أدعية المعصومين (عليهم السلام) يجدها قريبة إلى النفس، مؤثِّرة في القلب؛ لأنّها تنبع من طبيعة الإنسان المحتاج الفقير الغافل الذي يخاف سوء العاقبة ويرجو رحمةَ ربّه.

وأخيراً يمكن تفسير ظاهرة الدعاء لدى الأئمّة بأنّها نابعة من كلّ ما ذكرنا جميعاً.

١٨٤

الفصل الرابع

العِلْم

١٨٥

١٨٦

معرفة الأحكام

تعتقد الإماميّة بأنّ الإمام يجب أنْ يكون عالماً بالأحكام، محيطاً بالشريعة، عارفاً بأسباب السعادة وعلل الشقاء، خبيراً بطرائق الأخلاق، هادياً إلى سبيل الرشاد.

* وهي تسوق - من أجل إثبات ذلك أدلّتها - عبر طريقَين:

الأوّل:

وهو ذات الأدلّة التي ذُكرتْ في إثبات ضرورة الإمام، كصفة من صفاته، وبشكل سريع يمكن القول إنّ وجود فرد كامل يعكس بشكل فعلي قابليّة النوع الإنساني على التكامل والسير في طريق الكمال، وهو بهذا يجسّد غائيّة الوجود البشري. فكيف يمكن تصوّر فرد كهذا أنْ يكون جاهلاً بأحكام الشريعة، في حين يعيش حالة من الشهود الكامل لحقيقة الدين، وهو في ذات الوقت محلّ لتلقّي الفيض الإلهي الذي ينعكس عنه إلى سائر البشر.

الثاني:

إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وأودع فيه قابليّة التكامل والكمال، لم يتْركه سدى ليهوي في مطبّات الضلال، بل أعدّ له طريقاً تكامليّاً يكفل له السعادة في الدنيا وفي الآخرة، ومِن هنا بعث له أنبياء يدلّونه الطريق، ولأنّ وجود النبي محدود زمنيّاً فقد اقتضتْ حكمة الله ولطفه أنْ يبقى طريقه قائماً وصراطه دائماً وبابه مفتوحاً لداعيه، فكان وجود فرد معصوم يخلف النبي في تبليغ الرسالة وإقامة الدين وإرشاد الناس من لطف الله عزّ وجل. وحتّى لا

١٨٧

يبقى البشر بلا هداة والدين بلا دعاة وهو ما اصطُلح عليه بالإمام.

وإذا كانتْ مهمّة الإمام هي في حفظ الشريعة والأحكام، لزم أنْ يكون عالماً بها، محيطاً بأسرارها، حافظاً لمعارفها؛ فكيف يكون الإمام وهو مرجع الأنام عاجزاً عن حلّ مسائل الإسلام؟!

عِلْم الإمام في ضَوء الأَحاديث:

* في هذا المضمار أحاديث وروايات منها ما روي:

- عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: (فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، إنْ نطقوا صدقوا، وإنْ صمتوا لم يسبقوا) (١) .

- وعنه (عليه السلام) قال: (هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه) (٢) .

- وعنه أيضاً قال: (بهم عاد الحق في نصابه، وانْزَاحَ الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه من منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثير، ورعاته قليل) (٣) .

- وعن عبد الله بن سليمان العامري عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما زالتْ الأرض إلاّ ولله فيها الحجة يَعرِفُ الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله) (٤) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٥٠.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٤٣.

(٣) المصدر السابق: الخطبة ٢٣٤.

(٤) أصول الكافي: ج١ ص١٧٨.

١٨٨

- وعن زرارة وفضيل عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ العلم الذي نزل مع آدم لم يُرفع، والعلم يتوارث، وكان علي (عليه السلام) عالم هذه الأُمّة، وأنّه لم يُهلك منّا عالم قط إلاّ خَلَفَه مِن أهله مَن عَلِم مثل عِلْمِهِ أو ما شاء الله) (١) .

- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّ الله عزّ وجل أوضح بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيّنا عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فَمَن عَرِف مِن أُمّة محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واجب حقّ إمامه، وجد طعمَ حلاوة إيمانه، وعَلِمَ فَضْل طلاوة إسلامه؛ لأنّ الله تبارك وتعالى نصب الإمام عَلَمَاً لِخَلْقِهِ، وجعله حجّة على أهل موادّه وعالمه، وأَلْبَسَهُ الله تاجَ الوقار وغشّاه من نور الجبّار، يمدّ بسبب إلى السماء لا ينقطع عنه موادّه، ولا ينال ما عند الله إلاّ بجهة أسبابه، ولا يقبل الله أعمال العباد إلاّ بمعرفته، فهو عالم بما يَرِدُ عليه من ملتبسات الدُجَى، ومعميات السنن، ومشتبهات الفتن، فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من وُلد الحسين من عقب كلّ إمام) (٢) .

- وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً، لِئَلاّ تبطل حجج الله وبَيِّنَاته، كم ذا وأين أولئك، أولئك والله الأقلّون عدداً الأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتّى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المُتْرَفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى. أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه (٣) .

____________________

(١) المصدر السابق: ص٢٢٢.

(٢) ينابيع المودّة: ص٢٦ و٥٧٤ / أصول الكافي: ج١ ص٢٠٣.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٤٧ / ينابيع المودّة ص٦٢٤ / مناقب الخوارزمي: ص٢٦٤.

١٨٩

وأحاديث أُخرى:

- وعن الحسن بن علي (عليه السلام) قال: (إنّ الأئمّة منّا، وإنّ الخلافة لا تصلح إلاّ فينا، وإنّ الله جعلنا أَهْلَهَا في كتابه وسُنّة نبيّه، وإنّ العلم فينا ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، وإنّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة - حتّى أرش الخدش - إلاّ وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله وبخط علي بيده) (١) .

- وعن محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ العلم يتوارث، ولا يموت عالم إلاّ وترك مَن يَعْلم مِثْل عِلْمه أو ما شاء الله) (٢) .

- وعن الحارث بن المغيرة قال: سمعتُ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (إنّ العلم الذي نزل مع آدم عليه السلام لم يُرفع، وما مات عالم إلاّ وقد ورث علمه، إنّ الأرض لا تبقى بغير عالم) (٣) .

- وعن الصادق(عليه السلام) أيضاً قال: (نحن شجرة النبوّة، وبيت الرحمة، ومفاتيح الحكمة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وموضع سرّ الله، ونحن وديعة الله في عباده، ونحن حرم الله الأكبر، ونحن ذمّة الله، ونحن عهد الله، فَمَن وَفَى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومَنْ خفرها فقد خفر ذمّة الله) (٤) .

- وعنه أيضاً قال: إن لله عزّ وجل علمين: (عِلْمَاً عنده لم يُطلِع عليه أحداً مِن خلقه، وعِلْمَاً نَبَذَهُ إلى ملائكته ورسله، فما نَبَذَهُ إلى ملائكته ورسله فقد

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي: ج٢ ص٦.

(٢) أصول الكافي: ج١ ص٢٢٢.

(٣) أصول الكافي: ج١ ص٢٢٣.

(٤) المصدر السابق: ص٢٢١.

١٩٠

انتهى إلينا) (١) .

- وعنه أيضاً قال: (والله إنّا لخزّان علم الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا فضة إلاّ على علمه)(٢).

- وعن أيضاً قال: (إنّ الله خَلَقَنَا وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا خُزّانه في سمائه وأرضه، ولنا نطقتْ الشجرة، وبعبادتنا عُبِد الله ولولانا ما عُبد الله) (٣) .

- وعن عبد الملك بن عطا عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (نحن أولو الذكر، ونحن أولو العلم، وعندنا الحلال والحرام) (٤) .

- وعن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يا أبا بصير نحن شجرة العلم ونحن أهل بيت النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفي دارنا مهبط جبرئيل، ونحن خزّان علم الله، ونحن معادن وحي الله، مَن تَبِعَنَا نَجَا ومَنْ تَخَلّف عنّا هَلَكَ، حَقّاً على الله عزّ وجل) (٥) .

- وعن علي (عليه السلام) قال: (نحن أنوار السموات والأرض، وسفن النجاة، وفينا مكنون العلم، وإلينا المصير) (٦) .

- وعن الصادق (عليه السلام) قال: (نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن حجّة الله البالغة على مَن دون السماء وفوق الأرض) (٧) .

____________________

(١) المصدر السابق: ص٢٥٥.

(٢) غاية المرام: ص٥١٤.

(٣) غاية المرام: ص٥١٤.

(٤) المصدر السابق: ص٥١٧.

(٥) المصدر السابق: ٥١٥.

(٦) تذكرة الخواص: ص١٣٠.

(٧) أصول الكافي: ج١ ص٢٦٩.

١٩١

١٩٢

مصادر علوم الإمام

الكتب المصدر الأوّل:

هناك مصادر متعدِّدة تشكّل بمجموعها شخصيّة الإمام العلميّة، فالمصدر الأوّل: الكتب، والصحف، التي ورثها الأئمّة عن رسول الله(صلَّى الله عليه وآله).

ولقد مرّت الدعوة الإسلاميّة بفصول ومنعطفات تاريخيّة مثيرة وخطيرة، منذ أنْ أشرق النور في مكّة وحتّى تشكيل الدولة الإسلاميّة بعد هجرة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى المدينة.

فالأوضاع المتأزّمة في مكّة، والحرب المعلنة، والتعذيب والحصار والمطاردات لم تَسمح للنبي ولا للذين آمنوا به سوى الدفاع عن النفس، والصمود بوجه أذى قريش ومحاولاتهم القضاء على الرسالة الجديدة.

والتأمّل في تلك الحقبة المريرة من الحصار والتعذيب والهجرة، واللجوء إلى بعض الدول، لم تترك فرصة في التفكير لتدوين الأحكام الدينيّة.

كما أنّ تشكيل الدولة الإسلاميّة بعد الهجرة إلى المدينة، والمسؤوليّات الكبرى في إقامة مجتمع جديد، والدفاع عن الكيان الإسلامي، جعل من المدينة قاعدة عسكريّة كبيرة على أهبة الاستعداد وفي حالة من الاستنفار الدائم، ويكفي أيضاً تصفّح تلك الفترة من التاريخ وإحصاء المواجهات والصِدامات الحربيّة ليُلقى الضوء على مدى استيعاب الهم الدفاعي في حياة المسلمين إلى أنْ

١٩٣

استتبَّ الوضع بانتصار الإسلام نهائيّاً في شبه الجزيرة.

وبالرغم من الجوّ العام الذي لم يكن يسمح بنشاط ثقافي واسع، فإنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يغفل هذا الجانب الحيوي، خاصّةً بعد شعوره باقتراب أَجَلِهِ.

علي في مدرسة الوحي:

كان سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يفكّر في المدى البعيد.. عندما يرحل عن الدنيا فيستيقظ المسلمون مِن غَفْلتهم.. يبحثون عمّن يُجيب عن أسئلتهم، ويعلّمهم أحكام دينهم فلا يجدونه، ومن هنا - وامتثالاً لأمر الله - كان الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يعدّ عليّاً خليفة له، فيودع لديه علوم الرسالة.

إنّ شخصيّة علي إنّما هي نتاج التربية المحمّديّة قبل الرسالة وبعدها، فمنذ أنْ أطلّ عليّ على الدنيا وجد نفسَه في أحضان محمّد(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومنذ ذلك الوقت لم يُفارق عليٌّ أخاه وابنَ عمّه إلى أنْ أغمض عينَيه.

- قال رسول الله(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (يا علي إنّ الله أَمَرَنِي أنْ أُدنيك وأُعلّمك لتعي، فأنزل الله هذه الآية: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) ) (١) .

- وعن ابن عبّاس عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: (سألتُ ربِّي أنْ يجعلها أُذُنَ علي) ، وقال علي كرّم الله وجهه: (ما سمعتُ من رسول الله شيئاً إلاّ وحفظته ووعيتُه ولم أَنْسَهُ مدى الدهر) (٢) .

- وعن علي (عليه السلام) قال في خطبة له: (وقد عَلِمْتُم موضعي مِن

____________________

(١) غاية المرام: ص٣٦٧.

(٢) مناقب الخوارزمي: ص٢٠٠ / غاية المرام: ص٣٦٧.

١٩٤

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضع الشيء ثمّ يُلْقِمْنِيْهِ، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله تعالى به (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طرق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنتُ اتبعه اتّباع الفصيل إثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سَنَة بحراء فأراه ولا يراه غيري وغير خديجة، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة) (١) .

- وعن ابن عباس عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: (لمّا صِرْتُ بين يدي ربّي كلّمني وناجاني، فما علمتُ شيئاً إلاّ علّمتُه عليّاً، فهو باب علمي) (٢) .

منزلته العلميّة:

لقد حبا الله عليّاً (عليه السلام) باستعدادات ذاتيّة ليكون مستودعاً لعلوم الرسالة وأسرار الوحي، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يشرف على تربيته منذ نعومة أظفاره، ولقد واكب مسيرة الإسلام وهو ما يزال صبيّاً، وعاش جميع الظروف، ووقف إلى جانب صاحب الرسالة لم يفارقه لحظة واحدة.

- يقول (عليه السلام): (والله ما نزلتْ آية إلاّ وقد علمتُ فيما نزلتْ وأين

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٨٧ / ينابيع المودة: ص٧٦.

(٢) ينابيع المودة: ص٧٩.

١٩٥

نزلت وعلى مَن نزلتْ، وإنّ ربّي وَهَبَ لي لساناً طلقاً وقلباً عقولاً) (١) .

- وعنه (عليه السلام) قال: (سلوني عن كتاب الله فإنّه ليس من آية إلاّ وقد عرفتُ بليل نزلتْ أَمْ نهار، أَمْ في سَهْل أَمْ في جَبَل) (٢) .

- وعن سبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: (لمّا نزلتْ هذه الآية: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) ، قالوا: يا رسول الله هو التوراة أو الإنجيل أو القرآن قال: لا. فأقبل إليه أبي عليٌّ (عليه السلام) فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): هو هذا الإمام الذي أحصى فيه علم كلّ شيء) (٣) .

- وعن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (ما بين لوحي المصحف من آية إلاّ وقد علمتُ فيمَن نزلتْ وأين نزلتْ، وإنّ بين جوانحي لَعِلْمَاً جمّاً، فسلوني قبل أنْ تفقدوني. وقال: إذا كنتُ غائباً عن نزول الآية كان يحفظ عليّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ما كان ينزل عليه من القرآن، وإذا قدِمتُ عليه أَقْرَأنِيْه ويقول: يا علي أنزل الله بعدك كذا وكذا وتأويله كذا وكذا ويعلّمني تأويله وتنزيله) (٤) .

- وعنه (عليه السلام) قال: (بل اندمجت على مكنون علم لو بحتُ به لاضطربتُم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة) (٥) .

- وعن أيضاً قال: (إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) علّمني أَلْفَ باب،

____________________

(١) ينابيع المودة: ص٧٩ / نظم درر السمطين: ص١٢٦ / مناقب الخوارزمي: ص٤٦ / طبقات ابن سعد:ج٢ ص١٠١.

(٢) مناقب الخوارزمي: ص٤٦.

(٣) ينابيع المودّة: ص٨٧.

(٤) المصدر السابق: ص٨٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة ٤.

١٩٦

وكلّ باب يفتح أَلْفَ باب، فذلك ألف ألف باب، حتّى علمتُ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعلمتُ علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب) (١) .

- وعنه أيضاً قال: (إنّ في ههنا لَعِلْمَاً جَمّاً عَلَّمْنِيْه رسولُ الله، لو أجدُ له حفظةً يَرْعَوْنَه حقّ رِعَايته، وَيَرْوُونَه عَنِّي كما يسمعونه مِنِّي، إذاً أودعتُهم بعضَه، ليعلم به كثيراً من العلم مفتاح كلّ باب، وكلّ باب يَفتح له ألف باب) (٢) .

أكثر الصحابة روايةً:

قيل لعلي (عليه السلام): مالك أكثر أصحاب رسول الله حديثاً؟ فقال: (إنّي كنتُ إذا سألتُه أنبأني، وإذا سكتُّ ابتدأني) (٣) .

ولم يكن الصحابة كما ورد في كتب التاريخ ليجرأون على سؤال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إمّا تهيُّباً منه، أو عجزاً عن إدراك الجواب، بل كان بعضهم يتمنّى حضور إعرابي قد يسأل النبي فيصغون إليه ليتعلّموا شيئاً.

- عن سعيد بن المسيب قال: لم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني إلاّ علي بن أبي طالب.

- وعن سعيد البحتري قال: رأيتُ عليّاً على منبر الكوفة وعليه مدرعة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو متقلّد بسيفه ومعتمّ بعمامته (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فجلس على المنبر فكشف عن صدره وقال: (سلوني قبل أنْ تفقدوني، فإنّما بين الجوانح مِنِّي علم جمّ هذا، سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هذا ما زقّني رسول الله زقّاً زقّاً) (٤) .

____________________

(١) ينابيع المودّة: ص٨٨.

(٢) غاية المرام: ص٥١٨.

(٣) طبقات ابن سعد، ج٢، ق٢، ص١٠١.

(٤) ينابيع المودّة: ص٨٤.

١٩٧

شهادة الرسول:

ولقد بلغ الإمام علي درجة رفيعة، حتّى شهد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعلوّ شأنها في قوله (صلوات الله عليه وآله): (ليهنئك العلم أبا الحسن، لقد شربتَ العلم شرباً ونهلته نهلاً) (١) .

- وعنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا دار الحكمة وعلي بابها) (٢) .

- وعن أيضاً قال: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فَمَنْ أراد العلم فليأت الباب) (٣) .

- وعنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: (يا علي، أنا مدينة العلم وأنت بابها، كذب مَن زعم أنّه يصل إلى المدينة إلاّ من قِبل الباب) (٤) .

ويدوّن علوم النبوّة:

دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعليّ ليكون الأذن الواعية، فلا يَنسى شيئاً ولا يُخطئ في شيء، فهو مستودع سرّه وأمين على علمه، فلم ينسَ شيئاً ممّا سمعه عن النبي، ولم يكن محتاجاً لأنْ يدوِّن ذلك إلاّ امتثالاً لأمر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي أمره بتدوين علوم الوحي وأسرار الرسالة.

- عن علي (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: يا علي اكتب ما أُملي عليك قلت يا رسول الله أتخاف عليَّ النسيان؟ قال: لا وقد دعوتُ الله عزّ وجل أنْ يجعلك حافظاً ولكن اكتب لشركائك الأئمّة مِن وُلدك) (٥) .

____________________

(١) ذخائر العقبى: ص٧٨ / مناقب الخوارزمي ص٤١.

(٢) ينابيع المودّة: ص٨١ / ذخائر العقبى: ص٧٧.

(٣) ينابيع المودّة: ص٨٢ / مناقب الخوارزمي: ص٤٠.

(٤) ينابيع المودّة: ص٨٢.

(٥) ينابيع المودة: ص٢٢.

١٩٨

كتابُ علي:

وبناءً على أمر الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإملائه، راح عليّ (عليه السلام) يدوّن العلوم في كتاب؛ ليكون ميراثاً للأئمّة من بعده، وهناك أيضاً (الجامعة) ، و (صحيفة فاطمة) ، وهي كلّها من علوم النبوّة وأسرار الوحي والرسالة.

- عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّ عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً من إملاء رسول الله وخط علي بيده، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتّى الأرش في الخدش) (١) .

- عن محمّد بن مسلم قال: سألتُه عن ميراث العلم، أَجَوَامِع هو من العلم، أَمْ فيه تفسير كلّ شيء من هذه الأُمور التي يتكلّم فيها الناس من الطلاق والفرايض؟ فقال: (إنّ عليّاً (عليه السلام) كتب العلم كلّه: القضاء والفرايض، فلو ظهر أمرنا فلم يكن شيئاً إلاّ وفيه سُنّة نمضيها) (٢) .

الجفر والجامعة:

- عن أبي عبيدة قال: سأل أبا عبد الله بعضُ أصحابنا عن الجفر فقال: (هو جلد ثور مملوء عِلْمَاً) قال فالجامعة؟ قال: (تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج (الجمل العظيم ذو السنامين) فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه، وليس مِن قضيّة إلاّ وهي فيها حتّى أرش الخدش) (٣) .

- وعن بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (إنّ عندنا ما لا

____________________

(١) جامع أحاديث الشيعة: ج١ ص١٣٣.

(٢) جامع أحاديث الشيعة: ج١ ص١٣٨.

(٣) أصول الكافي: ج١ ص٢٤١.

١٩٩

نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وخط علي، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام، وإنّكم لتأتون بالأمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه) (١) .

- وعن أبي مريم قال: قال لي أبو جعفر: (عندنا الجامعة، وهي سبعون ذراعاً، فيها كلّ شيء حتّى أرش الخدش، إملاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وخط علي وعندنا الجفر وهو أديم عكاظي قد كتب فيه حتّى ملئت أكارعه، فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة) (٢) .

جامع للأحكام:

- عن عذافر الصيرفي قال: (كنت مع الحكم بن عيينة عند أبي جعفر (عليه السلام) فجعل يسأله، وكان أبو جعفر له مكرماً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر (عليه السلام): (يا بني قم فاخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه وجعل ينظر حتّى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر هذا خط علي وإملاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمّد اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل) (٣) .

- عن المعلى بن خنيس قال: عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (إنّ الكتب كانت عند علي (عليه السلام) فلمّا سار إلى العراق استودع الكتب أُمّ سَلَمَة فلمّا مضى عليّ كانت عند الحسن، فلمّا مضى الحسن كانت عند الحسين،

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) جامع أحاديث الشيعة: ج١ ص١٣٢.

(٣) جامع أحاديث الشيعة: ج١ ص٨.

٢٠٠

فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين، ثمّ كانت عند أبي) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة من رسول الله ومن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال: أو ذاك) (2) .

ويُستفاد من مجموع الأحاديث أنّ سيّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد عمل على تدوين كتاب يضمّ مسائل الحلال والحرام ليكون ميراثاً للمسلمين، وأنّه أودعه لدى أوصيائه من بعده؛ لأنّهم ورثة علمه ومراجع المسلمين في قابل الأيّام، وأنّه قام بتربية علي وإعداده لتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة؛ امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، ومن هنا فإنّ هذه الكتب هي ميراث الأئمّة الأطهار عن جدّهم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فكلّ ما يحدّثون به هو في الواقع لا يمثّل آراءهم الخاصّة، بل هو من العلم الذي ورثوه عن صاحب الرسالة صلوات الله عليه.

عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين, وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجل) (3) .

____________________

(1) المصدر السابق: 141.

(2) إثبات الهداة: ج1 ص248.

(3) أصول الكافي: ج1 ص53.

٢٠١

القرآن المصدر الثاني

اقترن ذِكْر أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم، فلا غرو أنْ نرى القرآن في حجورهم يدورون معه حيث دار، فهو نبعهم الصافي ينهلون منه أخلاقهم وعلومهم.

وقد حبا الله الأئمّة بالأُذُن الواعية، فسمعوه ووعَوه، وغاصوا في لُجَجِ بَحْرِهِ، واستخرجوا لآلئ علمه ومكنونات سِرِّه.

- عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ما من أمر يَختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجل، ولكن لا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرجال) (1) .

- وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إذا حدّثْتُكم بشيء فسلوني من كتاب الله.

ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.

فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟

قال: إنّ الله عزّ وجل يقول: ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (2) .

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص60.

(2) المصدر السابق.

٢٠٢

- وعن سماعة قال عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: قلت له: أَكُلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ أَوَ تقولون فيه؟ قال: (بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه) (1) .

- وعن علي أمير المؤمنين قال: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولنْ ينطق لكم، أُخْبِرُكُم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحُكْم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتُمُوني عنه لعلّمْتُكم) (2) .

- وعن سلمة بن محرز قال: سمعتُ الباقر (عليه السلام) يقول: (إنّ مِن عِلْم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه، وعلم تغيير الزمان وحدثانه، إذا أراد الله بقوم خيراً أسمعهم، ولو أسمع مَن لم يسمع لولّى مُعْرِضَاً كأنْ لم يسمع، ثمّ أمسك هُنَيْئَة ثم قال: ولو وجدنا أوعية لقلنا والله المستعان) (3) .

- وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله إنّي لأَعْلَمُ كتاب الله من أوّله إلى آخره، كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزّ وجل: فيه تبيان كلّ شيء) (4) .

- وعن بريد بن معاوية قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ قال: (إيّانا عنى، وعلي أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلَّى الله عليه وآله) (5) .

____________________

(1) المصدر السابق: ص62.

(2) المصدر السابق: ص61.

(3) أصول الكافي: ج1 ص229.

(4) المصدر السابق: ص229 / ينابيع المودّة: ص26.

(5) أصول الكافي: ج1 ص229 / ينابيع المودّة: ص119.

٢٠٣

- وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخَبَر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه) (1) .

- وعن جابر قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (ما ادّعى أحدٌ مِن الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة من بعده) (2) .

وفي النتيجة:

فإنّ الأخبار والروايات التي ذكرنا أمثلة منها تشير إلى أنّ الأئمّة الطاهرين كانوا ينهلون علومهم من القرآن الكريم (3) ؛ لأنّه نزل ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) . وهم أعلم الناس بعلوم القرآن:

- ناسخه ومنسوخه.

- محكمه ومتشابهه.

- الخاص منه والعام المطلق والمقيّد، ومن أجل هذا تواتر الحديث عن سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمعروف بحديث الثقلين: (إنّي تارك فيكم ما إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لَنْ تَضِلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقَا).

لقد كان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يرمي من وراء ذلك إلى جعل الأئمّة مِن بعده مراجع للمسلمين؛ لأنّهم الامتداد الطبيعي له، وقد اصطفاهم الله لذلك وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وأخيراً نؤكّد مرّة أُخرى - ومن خلال ما ورد من النصوص النبويّة الشريفة - أنّ طاعة الأئمّة واجبةٌ على كلّ المسلمين، وهي تشمل حتّى أولئك الذين لا يعتقدون بإمامتهم؛ لأنّ أقوالهم حجّة على الجميع.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص61.

(2) المصدر السابق: ص228.

(3) وفي ضوء ذلك نفهم المعنى المنشود من الآية الكريمة حول القرآن الكريم ( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) ، خاصّةً إذا أَخَذْنا بنظر الاعتبار المعنى الحقيقي لكلمة (المسّ). المترجم.

٢٠٤

عالم الغيب المصدر الثالث

ولا تنحصر علوم الأئمّة بالمصدرَين السابقين فهناك مصدر ثالث يتمثّل بالارتباط بعالم الغيب، فالإلهام والفيض الإلهي لطف من الله سبحانه خصّ به عباده المطهّرين، فالعلم جذوة تتوقّد في أعماق الإمام، تنير له رؤيته وتطلّعه على حقائق العالم، وفي هذا جاءتْ الروايات.

* ومنها:

- عن الإمام موسى بن جعفر قال: (مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمفسّر، وأمّا الغابر فمزبور (مكتوب) وأمّا الحادث فقذْف في القلوب ونقْر في الأسماع) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة مِن رسول الله ومِن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم؟ قال: أو ذاك) (2) .

- وعن المفضل بن عمر قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ علمنا غابر، ومزبور، ونكْت في القلوب، ونقْر في الأسماع، فقال: أمّا الغابر فما تقدّم مِن عِلْمِنَا، وأمّا المزبور فما يأتينا،

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص264.

(2) المصدر السابق.

٢٠٥

وأمّا النكْت في القلوب فإلهام، وأمّا النقْر في الأسماع فأمر الملك) (1) .

- عن صفوان بن يحيى قال: سمعتُ أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (كان جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (2) .

- وعن ذريح المحاربي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا ذريح لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (3) .

- عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لولا أنّا نزداد لأنفذنا.

قال: قلتُ: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول الله؟

قال: أمّا أنّه إذا كان ذلك عُرض على رسول الله ثمّ على الأئمّة، ثمّ انتهى الأمر إلينا) (4) .

- وعن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس يخرج شيء من عند الله حتّى يبدأ برسول الله، ثمّ بأمير المؤمنين، ثمّ بواحد بعد واحد؛ لكيلا يكون آخرنا أعلم مِن أوّلنا) (5) .

- وعن أبي يحيى الصنعائي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: (يا أبا يحيى، إنّ لنا في ليالي الجمعة لشأناً من الشأن.

قال: قلتُ: جُعلتُ فداك وما ذاك الشأن؟

قال: يُؤذَنْ لأرواح الأنبياء الموتى، وأرواح الأوصياء الموتى، وروح الوصيّ الذي بين ظهرانيكم يعرج بها إلى السماء حتّى توافي عرش ربّها، فتطوف به أُسبوعاً وتصلّي عند كلّ قائمة من قوائم العرش ركعتَين، ثمّ تُرَدُّ إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سروراً، ويُصبح الوصي

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) المصدر السابق.

(4) أصول الكافي: ج1 ص255.

(5) المصدر السابق.

٢٠٦

الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جَمّ القفير) (1) .

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ذات يوم وكان لا يُكنِّيني قبل ذلك: (يا أبا عبد الله .

قال: قلتُ لبَّيك.

قال: إنّ لنا في كلّ ليلة جمعة سروراً .

قلتُ: زادك الله وما ذاك؟

قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلَّى الله عليه وآله العرش، ووافى الأئمّة معه ووافينا معهم، فلا تُرَدُّ أرواحنا إلى أبداننا إلاّ بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا) (2) .

- وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث له قال: (وإنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجل لأمور عباده شرح صدرَه لذلك، وأودع قلبَه ينابيعَ الحكمة، وأَلْهَمَهُ العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيَّد، موفَّق مُسَدَّد، قد أَمِنَ من الخطايا والزَلَل والعثار، يخصّه الله بذلك؛ ليكون حجّته على عباده وشاهده على خَلْقه، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (3) .

وأحاديث أُخرى:

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله: (إنّ سليمان وَرِثَ داود، وإنّ محمّداً وَرِثَ سليمان، وإنّا وَرِثْنَا محمّداً، وإنّ عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور، وتبيان ما في الألواح.

قال: قلتُ: إنّ هذا لهو العلم؟

قال: ليس هذا هو العلم، إنّ العلم الذي يحدث يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة) (4) .

- عن ضريس الكناسي قال: كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده أبو

____________________

(1) المصدر السابق: ص253.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) أصول الكافي: ج1 ص202.

(4) المصدر السابق: ص224.

٢٠٧

بصير، فقال أبو عبد الله: (إنّ داود وَرِثَ علم الأنبياء، وإنّ سليمان ورث داود وإنّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً(صلَّى الله عليه وآله) وإنّ عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إنّ هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمّد ليس هذا هو العلم، إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يوماً بيوم وساعة بساعة) (1) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكر المحدّث عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى الشخص.

فقلتُ له: جُعلتُ فداك كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطي السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه كلام الملك) (2) .

- وعن حمران بن أعين عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر: (إنّ عليّاً عليه السلام كان محدَّثاً.

فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتُكم بعجيبة.

فقالوا: وما هي؟

فقلتُ: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان عليٌّ محدَّثاً.

فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سَأَلْتَهُ مَن كان يُحَدِّثُهُ؟

فرجعتُ إليه فقلتُ: إنّي حدّثتُ أصحابي بما حدّثْتَنِي، فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سألتَهُ مَنْ كان يُحَدِّثُهُ؟

فقال لي: يُحدِّثه مَلَك.

قلتُ: تقول: إنّه نبي؟

قال: فَحَرَّكَ يَدَهُ - هكذا (أي نافياً) - أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كَذِي القرنين، أَوَ مَا بَلَغَكُم أنّه قال: وَفِْيُكم مِثْلُه) (3) .

- وكتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (عليه السلام) قال: جعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟

قال: فكتب أو قال: (الفرق بين الرسول والنبي والإمام: إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع

____________________

(1) المصدر السابق: ص225.

(2) المصدر السابق: ص271.

(3) المصدر السابق.

٢٠٨

كلامه، وتنَزَّل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم. والنبي: ربّما سمع الكلام، وربّما رأى الشخص ولم يسمع. والإمام: هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص) (1) .

- وعن الأحول قال: سألتُ أبا جعفر(عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدّث قال: (الرسول: الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلّمه فهذا الرسول، وأمّا النبي: فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان من عند الله بالرسالة، وكان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حين جمع له النبوّة وجاءتْهُ الرسالة من عند الله يجيئه بها جبريل ويكلّمه بها قبلاً، ومن الأنبياء مَن جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أنْ يكون يرى في اليقظة، وأمّا المحدَّث فهو الذي يُحدَّث، ولا يُعايِن ولا يرى في منامه) (2) .

- وعن جماعة بن سعد قال: كان المفضّل عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له المفضّل: جُعلتُ فداك، يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟

قال: (لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده مِن أنْ يفرض طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً) (3) .

وأحاديث أُخرى أيضاً:

- عن أبي حمزة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لا والله لا يكون عالم جاهلاً أبداً، عالماً بشيء جاهلاً بشيء.

ثمّ قال: الله أجلّ وأعزّ وأكرم مِن أَنْ يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه.

ثمّ قال: لا يُحجب

____________________

(1) أصول الكافي: ج1، ص176.

(2) المصدر السابق.

(3) أصول الكافي: ج1 ص261.

٢٠٩

ذلك عنه) (1) .

- وفي خطبة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) جاء فيها: ولقد كان (سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلّم) يجاور في كلّ سنة بحراء، فأَرَاهُ ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلَّى الله عليه وآله وخديجة وأَنَا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ رِيْح النبوّة، ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فقلتُ يا رسول الله ما هذه الرنّة؟

فقال: (هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنّك تَسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بِنَبِي ولكنّك لَوَزِيْرٌ، وإنّك لعلى خير) (2) .

- عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنّا نُزَادُ في الليل والنهار ولولا أنّا نُزَادُ لنفد ما عندنا.

فقال أبو بصير: جُعلتُ فداك مَن يأتيكم؟

قال: إنّ منّا لَمَنْ يُعَايِن معاينة، ومنّا مَن يُنقر في قلبه كيت وكيت، ومنّا مَن يَسمع بإذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطست.

قال: قلتُ: جَعلني الله فداك مَن يأتيكم؟

قال: هو خلق أكبر من جبرائيل وميكائيل) (3) .

- عن الباقر (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) يعمل بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فإذا ورد عليه الشيء الحادث الذي ليس في الكتاب ولا في السُنّة أَلْهَمَهُ الله الحقّ فيه إلهاماً، وذلك والله من المعضلات) (4) .

- وعن عيسى بن حمزة الثقفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا

____________________

(1) المصدر السابق: ص262.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 187.

(3) بحار الأنوار: ج26 ص54.

(4) المصدر السابق: ص55.

٢١٠

نسألك أحياناً تتسرّع في الجواب وأحياناً تطرق ثمّ تجيبنا؟

قال: (نعم، إنّه ينكت في آذاننا وقلوبنا، فإذا نكت نطقنا، وإذا أمسك أمسكنا) (1) .

- عن الحسن بن يحيى المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ له: أخبرني عن الإمام إذا سُئل كيف يُجيب؟

فقال: (إلهام وسماع وربّما كان جميعاً) (2) .

- وعن الحارث بن المغيرة قال: قلتُ لأبي عبد الله: هذا العلم الذي يعلمه عالِمكم أَشَيء يُلقَى في قلبه أو ينكت في أُذُنِهِ؟

فسكت حتّى غفل القوم، ثمّ قال: (ذاك وذاك) (3) .

- عن سليمان الديلمي قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نزاد لأنفدنا).

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله على نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بكماله، وما يزاد الامام في حلال ولا حرام) (4) .

وهذا غيض من فيض الروايات والأحاديث التي تُشير إلى أنّ الأئمّة من أهل البيت - وبما حَبَاهُم الله من الطهر، وجبلهم عليه من عصمة - كانوا محلاًّ لفيوضات الغيب، يستلهمون الحقائق وتتدفّق في قلوبهم ينابيع الحكمة والكمال والحقيقة.

____________________

(1) المصدر السابق: ص57.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص58.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص92.

٢١١

الفرق بين الإمام والنبي

* إشكال:

قد يُثار إشكال مفاده: أنّه لا فرق إذن بين الإمام والنبي مادام كلاهما على ارتباط بعالم الغيب، وإذا كان هناك مِن فرق فما هو؟

وما هو موقفنا إزاء الروايات التي تؤكِّد انقطاع الوحي بوفاة سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله)؟

فعن علي (عليه السلام) قال: (أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقضى به الرسل وختم به الوحي) (1) .

وقال في مناسبة أُخرى: (بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء) (2) .

* الجواب:

هناك من الروايات ما يؤكِّد ظاهرة الإلهام، وأنّه من أشكال الارتباط بالغيب، خصّ الله الأئمّة المعصومين المطهّرين، وهي تؤكّد أيضاً الفوارق بين الإمام والنبي.

____________________

(1) نهج البلاغة: ج2 ص22.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 230.

٢١٢

الفارق الأوّل:

إنّ الروايات والأخبار تؤكّد على أنّ الإمام ليس مشرِّعاً، ومعنى هذا أنّه أخذ الشريعة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلقد أولى سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً اهتماماً خاصّاً، وراح يعدّه خَلَفَاً من بعده، فعلّمه التنزيل والتأويل وفتح له آفاق المعرفة وفجّر له ينابيع العلم والحكمة.

وإذن، فقد أخذ عليٌّ علومَه عن رسول الله، ثمّ أورثها الأئمّة من بعده، فالأئمّة تابعون لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ ما جاء به من الحلال والحرام؛ ولذا كانوا يقولون: إنّا خزّان علم الرسالة وورثة علوم الوحي، ولقد كان رسول الله يُمْلِي وكان علي يخطّ بيده؛ ليكون ذلك ميراثاً للأئمّة عن صاحب الرسالة (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولذا كانوا أعلم الناس بـ:

- الناسخ والمنسوخ.

- والمحكم والمتشابه.

- والتأويل والتنزيل من آي الذكر الحكيم.

وكانوا يؤكّدون أنّ أحاديثهم إنّما هي أحاديث الآباء والأجداد عن علي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

الفارق الثاني:

بالرغم من أنّ الأحاديث تؤكّد حالة الوحي والإلهام للأئمّة (عليهم السلام)، ولكنّ هذه الحالة تختلف تماماً مع وحي الأنبياء:

فالنبي: مرتبط بالغيب بشكلٍ مباشر وهو يُشاهد الملك ويسمع صوته.

أمّا الإمام: فلا يرى الملك ولكن ما يحدث هو قذف في القلب، وإلقاء في النفس، أو وقع في الأُذُن.

وبتعبير الأئمّة نقر في الأذن ، وبهذه الوسيلة كانوا يطّلعون على عالم الحقائق، ومن هنا فوحي الأئمّة يشبه الوحي لـ (أُم موسى) و (ذي القرنين) وجليس سليمان (عليه السلام).

الفارق الثالث:

إنّ الأنبياء - وكما قلنا - على ارتباط مباشر بعالم الغيب ولم

٢١٣

يكونوا يحتاجون في ذلك إلى أحد، غير أنّ الأئمّة يستندون إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فَعَنْهُ أخذوا علوم الرسالة وأسرار الوحي والنبوّة، وهو الذي فجّر لهم ينابيع العلم والحكمة والمعرفة، فكل ما يفيض عن الإمام هو من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل وكلّ ما يُلقى في روعه ويقذف في قلبه وفؤاده يُعرض على النبي أوّلاً ثمّ الإمام.

شواهد:

وهذا ما تؤكّده الأحاديث المرويّة، وهذه أمثلة:

- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأمّا النبوّة فلا) (1) .

- وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ عليّاً كان محدَّثاً . فقلتُ [الرواي]: فتقول إنّه نبي؟ قال: فحرّك بيده هكذا (نافياً) ثمّ قال: أو كصاحب موسى أو كذي القرنين. أَوَمَا بَلَغَكُم أنّه قال وفيكم مِثْلُه؟) (2) .

- وعن بريد بن معاوية عن أبي جعفر أو أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قلتُ له: ما منزلتكم ومَن تشبهون مِمَّن مضى؟

قال: (صاحب موسى وذو القرنين. كانا عالمين ولم يكونا نبيّين) (3) .

- عن محمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (الأئمّة بمنزلة رسول الله إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء، ولا يحلّ لهم مِن النساء ما يحلّ للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأمّا ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله صلَّى الله

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص268.

(2) المصدر السابق: 269.

(3) المصدر السابق.

٢١٤

عليه وآله) (1) .

- عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جُعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نُزاد لأنفدنا.

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد - والله - أنزله الله على نبيّه بكماله، وما يُزاد الإمام في الحلال والحرام) (2) .

- عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

قال: (هي في علي، والأئمّة جعلهم الله مواضع الأنبياء، غير أنّهم لا يحلّون شيئاً ولا يحرّمونه) (3) .

- عن سدير الصيرفي قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة، يتلون علينا قرآناً: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبَرِئَ الله منهم، ما هو على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: وعندنا قوم يزعمون أنّكم رسل يقرؤون علينا بذلك قرآناً: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وَبَرِئَ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: فما أنتم؟

قال: نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على مَنْ دون

____________________

(1) المصدر السابق: ص270.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) إثبات الهداة: ج3 ص48.

٢١٥

السماء وفوق الأرض) (1) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس شيء يخرج من الله حتّى يبدأ برسول الله صلَّى الله عليه وآله، ثمّ بأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ واحداً بعد واحد؛ لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا) (2) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكرتُ المحدَّث عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى.

فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك) (3) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (علّم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً ألف باب يُفتح من كلّ باب ألف باب) (4) .

ومن خلال هذه الأحاديث ينبغي أنْ نفهم أنّ كيفية التعليم تختلف في طريقتها عمّا هو متعارف بين الناس في أخذ العلوم واكتساب المعرفة، وإلاّ كيف يمكن أنْ نتصوّر أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - وخلال زمن ربّما لم يستغرق ساعة - قد علّم عليّاً ألفَ باب من العلم، ينفتح عن كلّ بابٍ ألفُ باب؟

وإذن، فهناك طرق أخرى ربّما كانت تكوينيّة وهداية باطنيّة، ولعلّها طاقة النبوّة وفيض من الوحي انعكس عن قلب الرسول فأضاء قلب علي خليفته ووصيّه.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص269.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) المصدر السابق: ص68.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص28.

٢١٦

عالم الغيب

عالم الشهادة:

* الغيب:

هو عكس الشهود، وعالم ما وراء الحواس الخمس، فكلّ ما تدركه الحواس يُعَدّ شهوداً، فالمادّة وخواصّها وكلّ ما هو قابل للإدراك من الموادّ ذاتها أو خواصّها وصفاتها تنطوي تحت عالم الشهادة، وهي:

- إمّا مرئيّة تُدرَك بالأبصار.

- أو سمعيّة تُدرَك من خلال الأسماع.

- أو رائحة تُدرَك بحاسّة الشمّ.

- أو لها طعم تُدرَك من خلال حاسّة الذوق.

- أو لَمِْسيّة تُدرَك باللمس، حتّى الطاقة الكهربائيّة والذرّة والجراثيم وغيرها هي الأُخرى تُعَدّ من عالم الشهادة، حتّى وإنْ تعذّرتْ الحواس من الإحاطة بها؛ لأنّها قابلة للرؤية وإنْ تعذّرتْ بسبب صغرها المتناهي، فلو أمكننا صُنْع أجهزة تكبير فائقة لأمكن رؤيتها، وإذن فهي قابلة للرؤية.

ومن هنا فإنّ بعض الموادّ وإنْ تعذّرتْ رؤيتها أو الإحاطة بها من خلال إحدى الحواس، إلاّ أنّها لا تُعَدّ جزءاً من عالم الغيب؛ لأنّ الإنسان مركّب بطريقة محدودة، أي إنّ لحواسّه قابليّات محدودة، ومن المحتمل جدّاً وجود حيوانات تفوق الإنسان في قابليّتها للسمع والرؤية والشمّ.

كما أنّ إدراك آثار تلك الأشياء وصفاتها يجعلها بالتالي ضمن عالم الشهود.

٢١٧

عالم الغيب:

وتنطوي فيه كلّ ما لا تدركه الحواس بذاته أو صفاته من قبيل يوم المعاد والقيامة، الجنّة، الجحيم، الثواب، والجزاء في الآخرة، صفات الله، والملائكة، فكلّ هذه الأشياء وغيرها ممّا لا تُدركه الحواس هو جزء من الغيب.

إنّنا لا يمكننا رؤية الملائكة؛ لأنّها خارجة عن حواسنا، لا لأنّها صغيرة متناهية الصغر، ولا لأنّها شفّافة بَالِغَة الشفافية، بل لأنّها موجودات أسمى من الحواس، وهي خارج إدراكاتنا المحدودة؛ لأنّنا موجودات زمانيّة وهي موجودات خارج الزمان، وإذن، فكلّ الموجودات التي لا يمكن للحواس البشريّة إدراكها هي جزء من عالم الغيب، ولا طريق لإدراكها إلاّ بالعقل وإرشاد من اطّلع على عالم الغيب ومن خلال الإيمان والعقيدة الدينيّة، وما نحصل عليه من معارف وعلوم هو ليس علم حضوري ولا شهودي، وهو من قبيل الإيمان بالجنّة والاعتقاد بالجحيم.

فنحن لا نملك عن عالم الغيب سوى سلسلة من المفاهيم والصور العلميّة التي لا يمكن تصوّرها والإحاطة بها، لا لقصور ذاتي فيها، بل لعجز حواسّنا عن إدراكها، وإذن يمكن القول إنّنا نحن الذين نعيش حالة الغياب عن حقائق العالم وحقيقته.

على أنّ إدراكنا للأجسام وخواصّها يأتي بسبب التناسب بينها وبين حواسنا، وبتعبير آخر بسبب توحّد سنخيَّتها.

فمثلاً:

إنّنا لا ندرك ظاهرة مادّية ما إلاّ في ذات الزمن الذي توجد فيه، فحادثة وقعتْ قبل ألفَي سنة أو بعد ألفَي سنة لا يمكن لحواسّنا إدراكها، كما إنّنا لا ندرك بصريّاً الأشياء التي تقع خارج مدياتالرؤية.

٢١٨

وقد نرى أشياء بعيدة جدّاً باستخدام النواظير المقرِّبة: وهي آلات تعزّز من قدرة الرؤية لدينا؛ أو إنّنا لا نُدرِك وجود الأشياء مع قربها؛ لوجود حواجز بيننا وبينها، وقد يمكننا اختراع آلات معيَّنة من شأنها رفع هذا الحاجز وتجعله عديم التأثير.

والخلاصة: فإنّ مديات الحواس وطبيعة إدراكاتها هي الأُخرى محدودة ومشروطة وخاضعة لدائرة معيَّنة، لا يمكنها أنْ تتجاوزها إلى نطاق مطلق أو بلا قيد أو شرط.

الغيب والشهود:

إنّ الحوادث التي تعدّ غيباً بالنسبة لحواسّنا، هي بالنسبة لخالق العالَم شهادة وحضور؛ ذلك أنّ وجوده لا تحدّه حدود بل هو محيط بما خَلَقَ، خارج عن إطار الزمان؛ لأنّه خالق الزمان والمكان، ولا معنى عنده للماضي والحاضر والمستقبل.

وإذن، فالطوفان الذي أغرق العالم زمن نوح هو بالنسبة لدينا من عالم الغيب، ولكنّه بالنسبة لله حضور وشهود، والحوادث التي ستقع بعد مئة ألف سنة هي غيب بالنسبة لنا وحضور بالنسبة لله، وكذا الجنّة والجحيم.

والخلاصة: فإنّ العلوم التي نكتسبها من خلال الحواس الخمس لا تُعدّ جزءاً من العلم بالغيب، أمّا المعارف التي نحصل عليها خارج إطار الحواس فهي من عالم الغيب.

وبتعبير آخر: إنّ البراهين العقليّة أثبتتْ في محلّها أنّ كل الحوادث والظواهر

٢١٩

في عالم المادّة لا تُفْنَى، وأنّها تحقّق بشكل أكمل في عالم آخر، عالم غير مرئي، عالم هو أسمى من العالم الذي نحيا فيه، وإذنْ، فالإنسان الذي يستخدم حواسّه حتّى يمكنه إدراك ظواهر الأشياء ويجد طريقه إلى عالم الواقع، فإنّ هذا العِلْم لا يُعدّ عِلْمَاً للغيب، أمّا إذا أعمل بصيرته وشاهد الملكوت وحقائق الأشياء، وطوى طريق الباطن ومرحلة الكمال ولم يكن لحواسّه في ذلك من دور، فإنّ عِلْمَاً كهذا هو علم للغيب.

الغيب والشهادة في القرآن:

* استخدم القرآن مصطلح الغيب في مقابل الشهادة كما في قوله تعالى:

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (1) .

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (2) .

- ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .

- ( عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) (4) .

* كما أشار إلى مرتبتَين وجوديَّتَين، حيث مرحلة الباطن هي الغيب، وهو من مختصّات الله سبحانه:

- ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (5) .

- ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (6) .

____________________

(1) الأنعام: الآية 73.

(2) الرعد: الآية 9.

(3) الجمعة: الآية 8.

(4) الزمر: الآية 46.

(5) هود: الآية 123.

(6) الحجرات: الآية 18.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282