دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة0%

دراسة عامة في الامامة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 282

دراسة عامة في الامامة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ إبراهيم الأميني
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الصفحات: 282
المشاهدات: 78635
تحميل: 5066

توضيحات:

دراسة عامة في الامامة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78635 / تحميل: 5066
الحجم الحجم الحجم
دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويقول(عليه السلام): (إنّ الإمام زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين) (1) .

بدء الإمامة :

* يُستفاد من بعض الأحاديث أنّ سيّدنا محمّداً نصّب عليّاً للإمامة في حياته منها:

- قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، في علي(عليه السلام): (إنّ عَلِيّاً رَايَةُ الهُدَى وَإِمَامُ أَوْلِيَائِي) (2) .

- وقوله مخاطباً أُمّ سَلَمَة: (عليٌّ سَيِّدُ المسلمين وإمامُ المُتَّقِيْنَ) (3) .

وغيرها من الأحاديث التي تُشير إلى أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يجسّد معاني الإمامة في عصر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان بعض الصحابة يقتدون به ويتّبعون خُطاه، ولا يعني هذا سوى كونه نموذجاً ومثالاً يُحْتَذَى به، ولا خليفة ولا إمام منصّب في إطاره الاصطلاحي.

وفي ضوء هذه الأحاديث الشريفة المرويّة عن سيِّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فإنّ عليّاً كان إماماً وكان يجسّد معاني الإمامة، وإنّ رسول الله خاطبه بهذه الصفة، وهذا الموضوع لا يولّد إشكالاً عقليّاً، وليس هناك ما يدعو أنْ نحمل الأحاديث إلى أنّ إمامته تبدأ بوفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).

بداية التشيّع:

* يختلف العلماء حول بداية وظهور التشيّع:

* فقد قالوا: إنّه بدأ بعد وفاة النبي

____________________

(1) المصدر السابق: ص200.

(2) ينابيع المودّة: ص89.

(3) ينابيع المودّة: ص93.

٤١

(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): وما رافق ذلك من حوادث حول شخص الخليفة الذي سيحلّ محلّ النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في إدارة البلاد.

وتشير الحوادث التاريخية في تلك الفترة إلى وجود ثلاثة فصائل رئيسيّة، كانت لها مواقف مصيريّة حول هذه المسألة الخطيرة.

1 - فهناك الأنصار: الذين اعتبروا الخلافة حقّاً طبيعيّاً لهم؛ لأنّهم نصروا النبيّ وقاتلوا مِن أجله.

2 - وهناك المهاجرون: الذين ادّعوا بأنّهم شجرة النبي وأصله، وأنّهم أَوْلَى بهذا الميراث من غيرهم، وقد سجّل التاريخ وقائع ما احتدم من جدل حول ذلك في السقيفة.

3 - وهناك بنو هاشم: وهم يمثّلون الفصيل الثالث الذي كان له رأيه وحجّته حول خلافة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفي رأيهم أنّ علي بن أبي طالب هو المؤهّل الوحيد لهذا المنصب، ولا يقف بنو هاشم وحدهم بل التفّ حولهم وحول علي بالذات جمعٌ من الصحابة الأجلاّء، كان في طليعتهم:

سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد وعمّار بن ياسر والبراء بن عازب، وآخرون.

وقد امتنع هؤلاء عن بيعة أبي بكر، ووقفوا إلى جانب علي في محنته تلك، ومن هنا كانت بذرة التشيّع وظهور فريق إسلامي يساند عليّاً.

ولقد تخلّف عن بيعة أبي بكر جمعٌ من المهاجرين والأنصار، وكان هواهم مع عليّ بن أبي طالب، منهم:

العبّاس بن عبد المطّلب والفضل بن عبّاس والزبير بن العوّام وخالد بن سعيد والمقداد وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمّار بن

٤٢

ياسر.

- والبراء بن عازب.

- وأُبي بن كعب (1) .

* وقال بعضهم:

إنّ التشيّع إنّما ظهر في أواخر خلافة عثمان ، وبالتحديد في الفترة التي ظهرتْ سياسته في توزيع الثروات، وتقريبه بني أُميّة وتسلّطهم على شؤون البلاد ورقاب العباد، فقد نجم عن سياسته التعسّفيّة تلك تململٌ، وأبدى كثيرون اعتراضهم وغضبهم جرّاء ذلك، ووقفوا في تلك الفترة إلى جانب علي، وبدأوا بحركة دعائيّة واسعة في مختلف المُدُن والحواضر الإسلاميّة، وكان عبد الله بن سبأ أحد الناشطين فيها، وأنّ تلك الحقبة من الزمن قد شهدتْ ميلاد التشيّع.

* ويقول آخرون:

إنّ التشيّع بدأ مع تسنّم علي (عليه السلام) منصب الخلافة.

* وفي رأي ابن النديم:

أنّ التشيع ظهر إبّان حركة طلحة والزبير ، بعد نكثهما البيعة، واشتعال حرب الجَمَل بذريعة الطلب بدم عثمان، حيث أُطلق على الذين وقفوا إلى جانب عليّ (عليه السلام) اسم الشيعة (2) .

* ويرى البعض أنّ ظهور التشيّع ككيان فكري:

كان بعد حرب صفّين وحدوث أخطر انشقاق في جيش الإمام علي (عليه السلام)، والذي حمل اسم الخوارج ، الذين أعلنوا آراءهم قبل مسألة التحكيم وبعدها، وتمادَوا في عصيانهم للشرعيّة بتكفيرهم الإمام، وقالوا بكفر كلّ مَنْ يحكم في أمر الله، متَّخِذِيْنَ من الآية الكريمة غطاءً لحركتهم: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) وأنّه لا ضرورة للخلافة ولا للإمامة، ولا أنْ يكون الخليفة أو الإمام قرشيّاً بالضرورة.

وفي مقابل هذه الآراء المتهوّرة أبدى أنصار الإمام عقائد مناهضة وأعلنوا:

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج2 ص124.

(2) فهرست ابن النديم: ص263.

٤٣

- عصمة الإمام.

- وأنّ الإمامة ضرورة دينيّة.

- وأنّ سيِّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نصّب عليّاً للإمامة والخلافة.

- وقالوا إنّ الإمام لا بدّ وأنْ يكون من قريش ومن بني هاشم، وهذه أُولى بذور التشيّع.

* فيما ينادي آخرون: بأنّ التشيّع ظهر بعد مذبحة كربلاء ومصرع الإمام الحسين وأنصاره وأهل بيته على شواطئ الفرات. فلم يخطر على بال المسلمين قبلها أنْ يصل جهاز الخلافة في انحرافه حدّاً يجنح فيه إلى قتل سبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على ذلك النحو الفجيع، وأَسْر بنات محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واقتيادهنّ سبايا.

وفي تلك اللحظة الدامية أدرك المسلمون أنّ المُلْكَ عقيم، وكان لتلك الحادثة الرهيبة الأثر العميق في انبعاث الضمير الإسلامي في أعماقهم، وتغلغل حبُّ أهل البيت في نفوسهم، وآمنوا أنّ الخلافة والإمامة حقّ مشروع لأهل البيت دون غيرهم.

وخلاصة القول: أنّ الدم الحسيني الطاهر ودماء أهل بيته وأنصاره هو المؤسّس للتشيّع في التاريخ.

* وهناك مَن يقول: إنّ التشيّع ظهر في الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث ظهرتْ فرقة الإماميّة وتبلورتْ عقائدها وآراؤها الفقهيّة، وأصبح لها كيان خاص يميّزها عن سائر المسلمين.

* وفي مقابل كلّ ذلك: هناك من يرى أنّ التشيّع ظهر في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ونشأ على يديه، ويقولون إنّ الشيعة أُولى الفرق الإسلاميّة، وكانت تُشايع عليّاً منذ زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتعتقد بإمامته، وكان من بينهم صحابة أجلاّء كـ:

- المقداد.

- وسلمان.

- وأبي ذر.

- وعمّار.

والشيعة اصطلاح قرآني:

فقد كان لنوح

٤٤

شيعته، ولإبراهيم وموسى وعيسى (1) . وإنّ كلمة (شيعة) ظهرتْ في زمن النبي وأُطْلِقَتْ على أتباع علي بن أبي طالب(عليه السلام) كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار (2) .

هذا استعراض سريع لآراء المؤرّخين والعلماء حول بدء التشيّع، ولا يسعنا هنا تفصيل ذلك في تحليل حوادث التاريخ.

* وما يمكن مناقشته هنا هو ما يرتبط ببحوث الكتاب:

* إنّ مسألة ظهور التشيّع يمكن بحثها في إطارين:

الأوّل:

إنّ الشيعة تعني اقتفاء آثار علي (عليه السلام)، والبحث في بداياته الأُولى، ومتى أصبح عليّ مثالاً يُحْتَذَى به؟

والثاني:

بحث التشيّع ككيان اجتماعي، يؤمِن بخلافة علي إيماناً قاطعاً، وبعبارة أُخرى: إنّ الشيعة اصطلاح يُطلَق على مَن يعتقد بخلافة علي (عليه السلام) وإمامته، ويُعَدّ ذلك جزءاً من عقائده الخاصّة.

وفي بحث المحور الأوّل:

ينبغي القول بأنّ بدء التشيّع وظهور الشيعة كان في عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ ذلك أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين اصطلاحي (الإمامة) و (التشيّع) ، فالإمام يعني (القائد) ، والشيعة يعني ( الاتّباع )، وفي ضوء الأحاديث التي ذُكرتْ آنفاً كان علي يحمل مواصفات الإمامة في عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولمّا كان علي (عليه السلام) إماماً فهذا يعني وجود مأمومين.

وهناك حشد من الأحاديث التي تزخر بها كتب السُنَّة والشيعة تفيد بأنّ لفظ الشيعة إنّما أطلقه النبيّ (صلى الله عليه وآله) على أتباع علي (عليه السلام).

____________________

(1) المقالات والفرق: ص25 / فرق الشيعة: ص39.

(2) حاضر العالم الإسلامي: ج1 ص188.

٤٥

- فعن ابن عباس قال:

لمّا نزلتْ هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) (لعليّ) :

(هم أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين، ويأتي عدوّكم غِضَابَاً مُقْمَحِيْن) (1) .

- وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

كنّا عند النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فأقبل عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: (قد أتاكم أخي)، ثمّ التفتَ إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال:

(والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعتَه هم الفائزون يوم القيامة) (2) .

- وقال عليٌّ (عليه السلام):

(سمعتُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول:( ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) . ثمّ التفتَ إليّ وقال: أنت يا علي وشيعتك، وميعادك وميعادهم الحوض، تأتون غُرّاً مُحَجَّلِيْنَ) ) (3) .

وغير ذلك من الأحاديث التي تُشير إلى وجود طائفة من الصحابة كانوا يحبّون عليّاً (عليه السلام)، ويتولّونه، ويعدّونه إماماً لهم يقتدون به.

إنّ أقلّ مطالعة في كتب التاريخ التي تناولتْ حُقْبَةَ صَدْرِ الإسلام، تكشف بشكل جَلِي عن وجود فريق من الصحابة كانوا يوالون عليّاً (عليه السلام) ويحبّونه، ولم يكن ذلك عن تعصّب فارغ، بل عن رويّة وتعمّق؛ لِمَا رأوه من وفاء علي وإخلاصه وتقواه لله ورسوله، وقد سمّاهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله

____________________

(1) غاية المرام: ص327.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٤٦

وسلَّم) شيعةً لعلي (عليه السلام)، ولا يمكن تأويل الأحاديث التي كانت تبشّر عليّاً وشيعته بأنّها نوع من الإخبار عن المستقبل.

ولا ينبغي أنْ يفسَّر كلامنا هذا عن وجود التشيّع في زمن النبي، بوجود فرقة متميّزة مستقلّة عن سائر المسلمين، فالمسلمون في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كانوا كتلة واحدة، ولم يكن هناك وجود حزبي أو فئوي، وقصارى ما يمكن قوله:

إنّ هناك من بين صحابة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فريقاً كانوا يَكنّون لعليّ (عليه السلام) حبّاً عميقاً، ويعدّونه مثالاً يُقتدى به؛ لأنّه كان يجسّد الدين الذي يعتقدون به، وعليّ هو ربيب صاحب الرسالة ورسول السماء.

أمّا بحث التشيّع في المحور الثاني، فيمكن القول:

إنّ ظهور الشيعة ككيان سياسي ظهر عقب وفاة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وموقف فريق من الصحابة وبني هاشم في تأييدهم لحقّ علي ورفْضهم بيعة أبي بكر.

ومن نافلة القول: إنّ الشيعة كوجود سياسي وإحصائي كان يتراوح قوّة وضعفاً متأثِّراً بالحوادث، فلم يكن عددهم بعد وفاة النبي سوى أفراد يعدّون بالأصابع، ثمّ تنامى عددهم بعد ممارسات الخلفاء وسياستهم، خاصّةً في عهد عثمان الذي انتهج سياسة ماليّة كلّها استئثار لأموال المسلمين وتسليط بني أُميّة على مقدّرات المسلمين، ممّا أوجد ردود فعل عنيفة دفعتْ بالكثير إلى الاتّجاه صوب عليّ، الذي ظلّ يمثّل في رأيهم امتداداً للرسول الكريم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). وقد تصاعدت وتيرة الحوادث حتّى وصلت الذروة بمصرع عثمان واتّجاه الجماهير نحو علي ومبايعته.

٤٧

ويمكن اعتبار فترة خلافة الإمام علي بمثابة فترة تمحيص، كشفتْ عن نوايا الكثير ممّن وقفوا إلى جانب علي لمصالح شخصيّة، ولمّا اكتشفوا أنّ الإمام من النوع الذي لا يُساوم أحداً على دينه تمرّدوا عليه وأثاروا فتناً داخليّة أدّت إلى ثلاثة حروب، هي:

1 - الجَمَل.

2 - وصِفِّيْن.

3 - والنَهْرَوَان.

وتأتي فاجعة كربلاء بكلّ مأساويّتها لتبلور الوجود الشيعي وتجذّره سياسيّاً وفكريّاً وعقائديّاً.

ولقد كشفت (كربلاء) وبشكل سافر مظلوميّة أهل البيت وانحرافات الخلافة الخطيرة، ثمّ ميلاد الضمير الشيعي الذي يمثّل الخطّ الإسلامي الأصيل.

ثمّ يأتي عهد الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث نشهد في عصره ظهور التشيّع بمظهر الفرقة الإماميّة كإحدى الفرق الإسلاميّة، التي تنهض على قاعدة فكريّة وعقائديّة وفقهيّة، لها ملامحها الخاصّة.

وإذاً، يمكن القول: إنّ بذرة التشيّع بدأتْ في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ثمّ نَمَتْ وتَرَعْرَعَتْ خلال الحوادث التاريخيّة المتعاقبة؛ ليكون للتشيّع كيان يحمل ملامحه الخاصّة به.

إثارة:

من اللافت للنظر تاريخيّاً أنّ الجدل الذي احتدم في السقيفة بعد وفاة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حول مَن يتولّى إدارة البلاد لم يتضمّن أيّة استفادة من مصطلح (الإمام) و (الإمامة) ، وإنّما دار الحديث حول شخص الخليفة فقط ووليّ الأمر، فلم يَقُل الأنصارُ مثلاً: إنّ الإمامة فينا، كما لم يقل المهاجرون: إنّ الإمامة ضرورة إسلاميّة ونحن أولى بها من غيرنا.

٤٨

- فهل حدث ذلك مصادفة أو لِعِلَّةٍ ما؟

- هل كانت للإمامة شروطها التي لم تتوفّر فيهم؟ أَمْ أنّ الإمامة كانت تتجسّد في شخص واحد هو عليّ بن أبي طالب، ولم يكن بالإمكان منازعته في ذلك؟

وفي كلّ الأحوال فإنّ ما دار في السقيفة مِن جَدَل، وما أسفر عنها من حوادث ونتائج، كانت حول الرئاسة والحكم ومَن سيخلف النبي في الحكم؟ فيما تمّ إغفال مسألة الإمامة بشكل نهائي.

* ولكنّنا نجد - وبعد أنْ تعاقب الخلفاء على الحكم - نجد موضوع الإمامة يُطرح شيئاً فشيئاً، حتّى وصل الأمر أنْ نجد أفراداً مثل معاوية يتحدّث عن نفسه كإمام:

* ولقد ذكّر الإمامُ عليٌّ - في إحدى رسائله - معاويةَ بأنّه من الطُلَقَاء الذين لا يصلحون للخلافة:

(واعلم يا معاوية أنّك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولا تعقد معهم الإمامة، ولا تعرض فيهم الشورى) (1) .

* ومن اللافت للنظر أيضاً:

أنّنا نجد كتب التاريخ تتحدّث عن الخلافة والخلفاء - سواء الراشدين منهم أو خلفاء بني أُميّة أو بني العبّاس - في الوقت الذي نجد فيه إغفالاً للإمامة والإمام، فلم يُستخدم هذا الاصطلاح إلاّ في نطاق ضيّق، بينما نجد مسألة الإمامة تتصدّر البحوث الكلاميّة، إذ نجد الشيعة يطلقون على عليّ (عليه السلام) وقادتهم من أولاده مصطلح الأئمّة، ولم يكونوا يستخدمون مصطلح الخليفة إلاّ في ما يخصّ عليّ وعلى نطاق ضيّق فقط، وحين يكون الحديث عن الخلفاء الذين سبقوه.

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص93.

٤٩

وفي مقابل هذا نجد اهتمام السُنّة منصبّاً على مسألة الحكم وخلافة النبيّ في الحكم والإدارة، أمّا الإمامة فلم تحظَ باهتمام يُذْكَر.

وبينما نجد الشيعة يتحدّثون عن فضائل وكمالات شخص الإمام ومدى ضرورتها عقائديّاً، وأنّه المؤهّل الوحيد لخلافة النبي في القيادة، نجد صمتاً مطبقاً في الجانب السُنّي عن ذلك، وبذلك سجّل الشيعة تقدّماً في هذا الموضوع.

فقد ذكر ابن النديم:

- أنّ علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار هو أوّل من ألّف وبحث في الإمامة (1) .

- وقال في هشام بن الحكم إنّه من أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وإنّه من متكلِّمي الشيعة، بَحَثَ في الإمامة وفتح الباب في ذلك على مصراعيه، وكتب في المذهب مؤلّفات عديدة، منها: (كتاب في الإمامة) (2) .

وإذاً، فإنّ الإمامة لدى الشيعة تحتلّ منزلة سامية، وهي مقام شامخ رفيع، فيما تبقى الخلافة لديهم مسألة ثانويّة، ويبقى الخلفاء - في رأيهم - أفراداً شغلوا مناصب ليست من شأنهم، ولا هم أهلٌ لها.

وقد ظلّ مصطلح الخليفة فاقداً لقيمته لديهم، فلم يتسنّم أيٌّ مِن أئمّة الشيعة باستثناء علي (عليه السلام) هذا المنصب، وكان ذلك لمدّة قصيرة، فظلّوا محرومين منها طوال القرون المتعاقبة مع التأكيد على أنّ خلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هي من حقّ الإمام، وأنّه الفرد الوحيد المؤهّل لقيادة الأُمّة.

____________________

(1) فهرست ابن النديم: طبعة مصر - ص263.

(2) المصدر السابق.

٥٠

الإمامة في القرآن

ورد ذكر الإمامة والأئمّة في موارد متعدّدة في القرآن الكريم، وكلّها ترجع إلى ذات المعنى اللغوي، وهو أنّه عندما ينجذب فريق من البشر إلى فردٍ ما يتّخذونه مثالاً ونموذجاً وقائداً لهم، فهم يترسّمون خُطاه ويسيرون في خطّه، بغضّ النظر عن حقيقته واتّجاهه.

- قال تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (1) .

- وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) (2) .

فربّما كانوا صالحين، وربّما كانوا أشراراً ظالمين.

- قال تعالى في فرعون ومَلَئِهِ: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ) (3) .

____________________

(1) الأنبياء: الآية 73.

(2) الفرقان: الآية 74.

(3) القصص: الآية 41.

٥١

- وقال سبحانه: ( فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (1) .

- وربّما يصبح الكتاب إماماً هادياً كما نرى ذلك في قوله تعالى: ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً ) (2) .

- وقال تعالى: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (3) .

ويُستفاد من الآيات القرآنيّة أنّ كلّ مجموعة بشريّة - سواء كانت على حقّ أو باطل - تتّبع فرداً وتتّخذه قدوةً تتمثّل سيرته وفكره وَرُؤَاهُ، فإنّه يُعَدّ إماماً لها، وسَتُحشر معه يوم القيامة، فإنْ كان محسناً قادَ قومه إلى الجنّة، وإنْ كان مسيئاً هوى بنفسه وبأتباعه إلى قرار الجحيم.

- قال تعالى: ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (4) .

ولقد كان الأنبياء وعلى امتداد التاريخ أئمّة صالحين، وكان زعماء الكفر ورؤوس الاستكبار أئمّة طالحين، وستستمرُّ هذه الظاهرة إلى يوم الدين، مع التأكيد أنّ إمامة المتّقين والصالحين لنْ تكون نصيب المنحرفين عن التقوى والصلاح وكانوا ظالمين.

- قال تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________________

(1) التوبة: الآية 12.

(2) الأحقاف: الآية 13.

(3) يس: الآية 12.

(4) الإسراء: الآيتان 71 - 72.

٥٢

إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) .

*وتنطوي هذه الآية على دلالات عديدة؛ منها:

* إنّ إحراز مقام الإمامة يتطلّب استعداداً ذاتياً وصفاءً روحيّاً عالياً، إذ لا يمكن أنْ تكون نصيب كلّ مَن هبّ ودبّ، ولم ينلها إبراهيم (عليه السلام) إلاّ بعد أنْ رأى ببصيرته ملكوت السموات والأرض، وسما إلى مرتبة اليقين، ولقد ابتلاه الله بنار النمرود ، ثمّ بذبح ابنه إسماعيل، وامتحانات أُخرى اجتازها الخليلُ بنجاح، حتّى أصبح أهلاً للإمامة فنصّبه الله لها.

* إنّ الآية تشير إلى أنّ مقام الإمامة شأن إبراهيم، وكانت أسمى من النبوّة؛ لأنّها جاءت متأخّرة عن النبوّة بل في شيخوخته.

وما ذكرناه يتعلّق بإبراهيم الخليل (عليه السلام) ولا يعني أبداً أنّ كلّ إمامة هي أسمى من منزلة النبوّة؛ ذلك أنّ لكلّ منهما درجات ومراتب، فقد تسمو نبوّة بعض الرسل على إمامة غيرهم، ومن الممكن أنْ تكون نبوّة سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أسمى من إمامة إبراهيم الخليل (عليه السلام).

* ويستفاد من الآية أيضاً احتمال اجتماع الإمامة مع النبوّة في شخص واحد، كما رأينا ذلك جليّاً في إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فيكون هذا الشخص:

- مرتبطاً بالله بطريق الوحي، يتلقّى عنه حقائق العالَم.

- ومرتبطاً بالناس والأمّة، على صعيد العمل كقدوة وأُسوة.

* إنّ من شروط الإمامة انتفاء المعاصي والذنوب عن شخص الإمام، وهو ما يصطلح عليه بـ (العصمة) ، فَمَنْ كان ظالماً لا يكون أهلاّ للإمامة.

____________________

(1) البقرة: الآية 124.

٥٣

* إنّ سيِّدنا إبراهيم نال درجة الإمامة بعد أنْ كان نبيّاً، وكان مبلِّغاً للوحي والشريعة وأحكام الله ثمّ اختاره الله إماماً. ومِن هنا نفهم أنّ مقام الإمامة للناس هي هداية خاصّة تختلف عن هداية الأنبياء.

* إنّ الإمامة عهد إلهي يَثْبُت بالنص، وهي ليست من خيارات البشر وآرائهم.

قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (1) .

فالإمامة درجة رفيعة تتطلّب صلاحاً وأهليّة وقابليّة ذاتيّة، فمَن أراد أنْ يكون إماماً يتوجّب عليه أنْ يطوي مراحل من الخلوص الروحي والصفاء النفسي. والآية الكريمة تنطوي على إشارتَين حول هذا الموضوع:

الأولى:

إنّ إحراز الإمامة يتطلّب صبراً عظيماً وثباتاً كبيراً في مواجهة المِحَن والابتلاءات الإلهيّة، والتحلِّي بأقصى درجات ضبط النفس والاستقامة الكاملة في الحياة وفي كلّ الظروف.

الثانية:

إنّها تتطلّب يقيناً عالياً وإيماناً عميقاً، تندمج فيه عوالم الشهادة بالغيب فتتفتّح البصيرة لترى كما يرى البصر الأشياء، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (2) .

____________________

(1) السجدة: الآية 24.

(2) الأنعام: الآية 75.

٥٤

أُولو الأمر

احتدم الجدل في سقيفة بني ساعدة حول مسألة الخلافة وشخص الخليفة، وأبدى كلّ فريق حججه وأدلّته في إثبات حقّه ومحاولة حسم الصراع في صالحه، ودارتْ المناقشات الحامية التي ندر فيها استخدام لفظ الإمام، فيما نجد كلمات أُخرى كَثُر استخدامها من كلا الفريقين، من قبيل:

الأمر.

أولو الأمر وأحقّ بالأمر.

وصاحب الأمر.

ولهذه الكلمة جذورها العميقة منذ فجر الدعوة الإسلاميّة يوم كان سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يدعو قومه إلى الإسلام في مكّة، فقد دعا رسول الله عشيرته الأقربين وأَوْلَمَ لهم طعاماً، ثمّ خطب فيهم وبيّن لهم رسالته، وقال: (أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ووصيّي وخليفتي؟).

فأحجم الجميع والتزموا الصمت، وعندها نهض عليُّ بن أبي طالب وكان يومها فتىً، فهتف بحماس الشباب: (أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك).

وعندها أخذ النبيّ برقبته وقال: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسْمَعُوا لَه وأَطِيْعُوا) (1) .

ويوم جاء المشركون إلى أبي طالب يطلبون منه أنْ يكفّ ابن أخيه وأَلاَّ

____________________

(1) الكامل في التاريخ: ج2 ص63.

٥٥

يتعرّض إلى آلهة قريش بسوء، فقال رسول الله لعمِّه: (يا عمّاه لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أنْ أَتْرُكَ هذا الأمر ما تَرَكْتُهُ حتّى يُظْهِره الله أو أُهْلَكَ دُوْنَه) (1) .

* ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يتمتّع بمقامين:

الأوّل:

كمبلِّغ للرسالة والوحي وشريعة السماء كما أنزلها الله سبحانه.

والثاني:

كحاكم وقائد للمسلمين، ومسؤول عن تنفيذ أحكام الله وتطبيق الشريعة في الأرض، وإدارة المجتمع الإسلامي وهدايته باتّجاه الصلاح وخير الدارَين.

وكان هذا جزءاً من نبوّته ورسالته، حتّى يُمكن القول: إنّ (الأمر) الذي أشار إليه سيِّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) منذ فجر دعوته هو هذا الجانب من الرسالة، ومن المنطقي أنْ نفهم أنّ هذه المسؤوليّة كان يتحمّلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحده ما دام حيّاً لا يشاركه فيها أحد؛ ولذا أسلم المسلمون إليه واستجابوا له مطيعين، فلمّا الْتَحَقَ بالرفيق الأعلى، شبّ النزاع وانفجر الصراع.

وبعد أنْ تمّتْ البيعة لأبي بكر قال أبو عبيدة لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

يابن عمّ إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مِثْل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به، فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك إنْ تَعِشْ ويَطُلْ بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك

____________________

(1) تاريخ الطبري: ج2 ص67.

٥٦

ونسبك وصهرك.

- فقال علي كرّم الله وجهه: (الله الله يا معشر المهاجرين لا تُخْرِجُوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقَعْر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهلَه عن مقامه في الناس وحقّه) (1) .

- وقال معاوية لابن عبّاس: يابن عبّاس، إنّا كنّا وإيّاكم في زمان لا نرجو فيه ثواباً، ولا نخاف عقاباً؛ وكنّا أكثر منكم، فوالله ما ظلمناكم ولا قهرناكم ولا أخّرناكم عن مقام تقدّمناه، حتّى بعث اللهُ رسولَه منكم، فسبق إليه صاحبكم، فوالله ما زال يكره شركنا ويتغافل به حتّى وَلِيَ الأمر علينا وعليكم، ثمّ صار الأمر إلينا وإليكم فأخذ صاحبنا على صاحبكم لسِنِّه) (2) .

- وقال معاوية لعلي وسائرَ الناس: ليسلبنّ أمركم وليُنقلنّ المُلْك من بين أَظْهُرِكُم (3) .

- وكتب عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) إلى أخيه: (فقد قطعتْ قريش رحمي، وظاهرتْ عَلَيَّ وسلبتْني سلطان ابن عمّي) (4) .

- وجاء في رسالة للإمام الحسن إلى معاوية: (فلمّا توفي رسول الله(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تنازعتْ سلطانَه العربُ، فقالتْ قريش: نحن قبيلتُه وأُسرتُه وأَولياؤه ولا يحلّ لكم أنْ تنازعونا سلطان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحقّه، فرأتْ العربُ أنّ القول كما قالتْ قريش وأنّ الحجّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فأنْعَمَتْ لهم العربُ وسلَّمتْ

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص12.

(2) المصدر السابق: ص28.

(3) المصدر السابق: ص30.

(4) المصدر السابق: 55.

٥٧

ذلك) (1) .

وفي السقيفة كان عمر بن الخطّاب يهدر بكلمات، مستنكِراً موقف الأنصار:

مَن ينازعنا سلطان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ مدلّ بباطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هَلَكَة (2) .

وهكذا نجد (الأمر) لا ينفك عن كلّ حديث يتناول خلافة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في الحكم والإدارة، ويمكن القول إنّ (الأمر) هو بمعناه الأساس الذي يفيد إصدار الأوامر، ومِن هنا جاء توظيفه في اصطلاحات متعدِّدة، مثل:

- صاحب الأمر.

- و(أولو الأمر).

- ومَن تكون أوامره نافذة.

- واجبة الطاعة.

ويمكن القول إنّه بمعنى الشأن ، فصاحبه شخص ينهض بمسؤوليّة قيادة الأُمّة ورئاستها.

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يجمع المنصبَين معاً:

إنّ المتأمّل في كتب السيرة النبويّة والكتب التاريخيّة التي تناولتْ فترة صدر الإسلام لا بدّ وأنْ يُدرك أنّ سيّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - وبعد أنْ أَسَّس دولتَه في المدينة المنوّرة بعد الهجرة - كان يتحرّك ويتصرّف كحاكم يتمتّع بصلاحيّات مطلقة، وكان يقود المسلمين في مواجهة المشركين كافّة، فكان يُصدر الأوامر ويقود الجيوش ويُعيِّن القُضاة، وكان المسلمون لا يصدرون إلاّ عن

____________________

(1) مقاتل الطالبيّين: ص35.

(2) الإمامة والسياسة: ج1 ص8.

٥٨

أمره ولا يرجعون إلى أحدٍ سواه.

وإلى جانب شخصيّته ودوره كحاكم فقد كان مبلِّغاً للرسالة والوحي والأحكام الإلهية.

وخلاصة القول:

إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يجمع المهمَّتَين معاً، فهو مبلِّغ للشريعة مسؤول عن تنفيذها وتطبيقها في الحياة.

وإنّ نبوّته تنطوي على المهمَّتَين في آنٍ واحد.

الانفصال:

وبعد أنْ الْتَحَقَ سيِّدُنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرفيق الأعلى، تصدّى لخلافته أفراد لم يدّعوا أبداً النبوّةَ ولا الاتّصال بالسماء، كما لم يَدَّعوا الإمامة أيضاً بإطارها المعنوي والروحي أيضاً، وكانوا يُدْرِكون تماماً أنّ مستوياتهم العلميّة والأخلاقيّة لا تؤهِّلهم ليكونوا أئمّةً هداة ومثالاً للمسلمين.

ولقد أُهْمِلَ هذا الجانب تماماً أثناء الجدل المحتدم في السقيفة، وكان النزاع يدور حول الجانب السياسي والإداري في الزعامة وقيادة المسلمين، وكانوا متحمّسين له بحيث أهملوا جميع الأعمال الأُخرى حتّى مواراة الجثمان الطاهر لسيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان الهمُّ الوحيد هو الاستحواذ على الحُكْم بكلّ وسيلة وبأيّ ثَمَن.

* فقد احتجّ المهاجرون: بـ:

- أنّهم شجرة النبي وأصله.

- وأنّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مكّي المولد والمنشأ.

- وأنّ فيهم مَن هاجر مع النبي ومَن أَمَّ المسلمين يَوْمَ مَرَضِهِ.

- وأنّ الخلافة حقّ قريش وميراثها.

* أمّا أنْ يكون الخليفة:

- عالماً بالقرآن.

- متبحّراً في الأحكام.

- ومدركاً للحلال والحرام.

- مثالاً في الإيمان والإسلام، فهذا ما لم يتطرّق إليه أحد ولم يذكره فرد.

٥٩

ولم يقل أحد إنّ رسول الله كان معصوماً عن الخطأ، منزّهاً عن الإثم، وإنّ خليفته لا بُدّ وأنْ يكون نظيراً له في ذلك.

لم يقل أحد إنّ رسول الله لم يسجد لصنم، ولم يفعل منكراً حتّى قبل بعثته، وكان تاريخه ناصعاً مشرقاً بالرغم من غمرة الظلام.. ظلام الجاهليّة الأُولى، وأنّ خليفته يجب أنْ يكون كذلك، مثالاً في الإنسانيّة؛ ليكون قدوة للمسلمين وأُسوة للمؤمنين.

لم يذكر ذلك أحد سوى شخص واحد هو عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

كان سعد بن عبادة يصول في السقيفة بالرغم من مرضه وعلّته، قائلاً:

يا معشر الأنصار إنّ لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخَلْع الأوثان فما آمن به مِن قومه إلاّ قليل. والله ما كانوا يقدرون أنْ يمنعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولا يعرفوا دينه، ولا يدفعوا عن أنفسهم، حتّى أراد الله تعالى لكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمنع له ولأصحابه، والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على مَن تخلّف عنه منكم، وأثقله على عدوّكم مِن غيركم، حتّى استقاموا لأمر الله تعالى طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داحراً، حتّى أثخن الله تعالى لنبيّه بكم الأرض، ودانتْ له بأسيافكم العرب، وتوفّاه الله تعالى وهو راضٍ عنكم قرير العين، فشدّوا أيديكم بهذا الأمر، فإنّكم أحقّ الناس وأولاهم به) (1) .

وتشاء الأقدار أنْ يكتشف أبو بكر وعمر اجتماع الأنصار، فأسرعوا إلى

____________________

(1) الإمامة والسياسة: ج1 ص5.

٦٠