دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة0%

دراسة عامة في الامامة مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 282

دراسة عامة في الامامة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ إبراهيم الأميني
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: الصفحات: 282
المشاهدات: 78607
تحميل: 5066

توضيحات:

دراسة عامة في الامامة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78607 / تحميل: 5066
الحجم الحجم الحجم
دراسة عامة في الامامة

دراسة عامة في الامامة

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

البلاد والعباد، فإنّ الله عزّ وجل جعل طاعة وليّ الأمر واجبة؛ حتّى تكون أحكامه نافذة، فلا يحدث خلل في النظام ولا يكون هناك مجال للفوضى.

وهنا يُقال:

من الممكن أنْ يصدر عن وليّ الأمر ما يتعارض وأحكام الدين، ولكنّ هذا ممّا يجعله مسوّغاً؛ لأنّ مصلحةً أكبر اقتضتْ تعطيل حكم من أحكام الشريعة، من أجل حفظ النظام العام، فيكون في ذلك جبرٌ لِمَا كُسِر.

و جواباً على ذلك نقول:

إنّ الإشكال الذي أوردناه في صدر البحث حول التعارض بين صدر الآية والختام ما يزال وارداً.

إنّ مفاد الآية يقطع بوجوب طاعة الله أوّلاً، وأنّه لا اعتبار لآمر يتعارض وحكم الله:

- فكيف يمكن اجتياز هذه النقطة إلى القول بطاعة وليّ الأمر، حتّى مع وجود تعارض في حكمه مع حكم الله؟!

- وكيف يمكن أيضاً تفسير الحشد الهائل من الأحاديث التي أوردنا أمثلة منها، والتي تستنكر طاعة مَن يعصي الله، انطلاقاً من:

(لاَ طاعةَ لِمَخْلُوْقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ)؟!

- وكيف نسوّغ لأنفسنا وجوب طاعة مَن يريد مَحْق القرآن وسَحْق أحكام الدين، ثمّ نبرِّر ذلك بذريعة مصلحة النظام وخدمة للصالح العام؟!

* إشكال:

قد يقول أحدُهم إنّ (أُولي الأمر) تفيد (مَن بِيَدِهِم زِمَام الأَمْر والقِيَادَة) ولا تعني (العِصْمَة) من قريب ولا بعيد، ثمّ إنّ سياق الآية يُشير إلى وجوب طاعة أُولي الأمر بعد طاعة الله سبحانه، وهذا يعني أنّ هناك إطاراً معيّناً لطاعتهم وهو في طاعة الله أوّلاً، وأنّ طاعتهم واجبة ما داموا مطيعين لله، وبالتالي وجود قيد يحدّد الإطلاق العام.

٨١

فمثلاً:

لو قام رئيس دولة بإصدار مرسوم يقضي بتنصيب محافظ أو حاكم لإحدى المُدُن، وتضمّن الحكم دعوة الشعب إلى تنفيذ أوامره وطاعته في تطبيق قوانين البلاد، فهنا سيفهم الشعب أنّ مِن بين هذَين الأمرَين - تنصيب الحاكم ودعوة الشعب إلى الانصياع لأوامره - أنّ طاعته ستكون في حدود قانون البلاد، وليس كلّ ما يصدر عنه حتّى لو تعارض مع الدستور الرسمي للدولة، وسيقولون له إنّك مأمور بتنفيذ القانون لا أنْ تصدر الأحكام جُزَافاً كما تشاء.

مثال آخر:

لو أصدر القائد العام للقوّات المسلّحة أمراً نصّب فيه ضابطاً ما قائداً لإحدى الفِرَق، وأمر أفراد الفرقة بالانصياع لأوامره، فإنّ الجنود وسائر أفراد الفرقة سوف يفهمون أنّ طاعته واجبة في حدود طاعته هو للقيادة العامّة.

ومِن هذَين المثالَين نفهم أنّ طاعة وليّ الأمر نافذة ما دامت في طاعة الله.

وعلى هذا فإنّ أوامر وليّ الأمر ستكون ملزِمة عندما لا تتعارض مع الشريعة، وبالتالي تجوز مخالفته وعصيانه إذا تصرّف تصرّفاً يناقض الشريعة ويُخالف أحكامَ الله.

وفي تلك الحالة يتمّ نصحه أوّلاً، فإذا لم يرعوِ وجب عزله وخلعه، وانتخاب شخص آخر غيره.

وهذا ما أشار إليه أبو بكر عشيّة تصدّيه للخلافة، فقد قال:

(أيُّها الناس قد وليت عليكم ولستُ بخيركم، فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوّموني... أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُ اللهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم).

ومن هنا نفسّر بواعث الثورة ضدّ عثمان ، فلقد طلبوا منه اعتزال الخلافة

٨٢

أوّلاً، فلمّا رفض ذلك اقتحموا قصرَه وقتلوه.

ولو افترضنا الإطلاق في الآية، فهي كسائر الإطلاقات الأُخرى، إذ هناك آيات تضع قيوداً تحدّد من الإطلاق العام من قبيل قوله تعالى:

- ( وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) .

- ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) .

وإذاً، فهناك قيود تحدّد مِن إطلاق آية الطاعة، وبالتالي فلا ضرورة للقول بِحَتْمِيّة عصمة أُولي الأمر.

* الجواب:

إنّ كلّ هذه التفاصيل لا يمكنها أنْ تَسلب الإطلاق العام في الآية كأمر إلهي، فهناك طاعة مطلقة لله وللرسول ولأُولي الأمر، وكلا الأمرَين يفيدان الإطلاق ويتمتّعان بنفس مستوى الوجوب، فما معنى ترجيح أمر على أمر مع أنّ مصدرهما واحد ويتمتّعان بنفس الامتياز.

إنّ انتفاء العصمة سيولّد تناقضاً لا يمكن حلّه، والحلّ الوحيد يكمن في عصمة أُولي الأمر.

ثمّ إنّ الآية لا تفيد شرعيّة وولاية مَن يتسلّط على رقاب العباد والبلاد بالقوّة، بل ولا تفيد أيضاً انتخاب الناس لوليّ الأمر، ويبقى هنا مَن يختاره الله سبحانه ويرتضيه لعباده.

كيف نتصوّر أنّ الله سبحانه - وهو مصدر الحكمة - يمنح الشرعيّة لأُناس غير معصومين، لهم ولِمَا يرتكبونه من ظلمٍ بحقّ عباده؟ أَلاَ يمكن استغلال هذه

٨٣

النظريّة في إنزال أفدح الظلم بالناس مع ضمان سكوتهم إزاءه كَقَدَرٍ إلهي محتوم لا يمكن الاعتراض عليه أو التململ منه؟!

ومعنى هذا فتح الباب على مصراعيه لكلّ الطغاة، يعيثون في الأرض فساداً ويأتون على الدين فلا يُبقون له من باقية، كلّ هذا بذريعة وجوب طاعة وليّ الأمر.

ألم يُذبح الحسين وأهل بيته بذريعة خروجهم على خليفة عصرهم؟!

إنّ أقلّ مطالعة في تلك الحقبة من التاريخ ستشهد إلى أيّ مدى عاث بنو أُميّة وبنو العبّاس باسم الدين والخلافة، فارتكبوا آلاف الجرائم والمذابح.

٨٤

وَلِيّ الأَمْر فِي ضَوء الرُوَايَات

* تُشدّد الأحاديث المرويّة في كتب الشيعة والسُنّة على أنّ أُولي الأمر هم أهل البيت:

- فقد جاء في كتابٍ لعلي (عليه السلام) إلى معاوية حول الآية: ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) أنّها نزلتْ في أهل البيت (عليهم السلام) (1) .

- عن بريد بن معاوية في حديث له عن الإمام الباقر حول تفسير الآية: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، قال(عليه السلام): (إيّانا عَنَى خاصّة) (2) .

- وسئل الإمام الصادق عن تفسيرها فأجاب: قال: (أُولوا الفقه والعلم)، قيل أخاص أَمْ عام؟ فقال: (بل خاصّ لنا) (3) .

- وعن جابر قال سألتُ رسول الله عن تفسير: ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، فقال: (هم خلفائي يا جابر وأولياء الأمر بعدي، أوّلهم أخي

____________________

(1) إثبات الهداة: ج3 ص96.

(2) بحار الأنوار: ج23 ص290.

(3) جامع أحاديث الشيعة: ج1 ص177.

٨٥

علي، ثمّ بعده ولده الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد الباقر، وستدركه يا جابر فإذا أدركتَه فاقرأه منّي السلام، ثمّ جعفر الصادق، ثمّ موسى الكاظم، ثمّ علي الرضا، ثمّ محمّد الجواد، ثمّ علي الهادي، ثمّ الحسن العسكري، ثمّ الخلف الحجّة القائم المنتظر المهدي أئمّة بعدي) (1) .

- وعن عمر بن سعيد قال: سألتُ أبا الحسن عن قوله تعالى: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، قال: (علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده) (2) .

- وعن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، قال: (الأئمّة مِن وُلْدِ علي وفاطمة إلى أنْ تقوم الساعة) (3) .

- وعن جابر الجعفي قال: سألتُ أبا جعفر عن تفسير (الآية) فقال: (الأوصياء) (4) .

- وعن الحسين بن أبي العلاء قال: قلتُ لأبي عبد الله: الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ فقال: (هم الذين قال الله فيهم: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ) (5) .

- وعن سليم بن قيس قال: سمعتُ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (إنّما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر، وإنّما أمر بطاعة أُولي الأمر؛ لأنّهم معصومون

____________________

(1) إثبات الهداة: ج3 ص123.

(2) تفسير العيّاشي: ج1 ص253.

(3) إثبات الهداة: ج3 ص131.

(4) بحار الأنوار: ج23 ص300.

(5) المصدر السابق.

٨٦

مطهّرون لا يأمرون بمعصيته) (1) .

- وعن حكيم، قال: قلتُ لأبي عبد الله: جعلتُ فداك أخبرني مَن أُولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم؟ فقال لي: (أولئك عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر أنا، فاحمدوا الله الذي عرّفكم أئمّتكم وقادتكم حين جحدهم الناسُ) (2) .

- وعن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) سأله عن أُولي الأمر فقال: (هم في علي، والأئمّة جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنّهم لا يحلّون شيئاً ولا يحرّمونه) (3) .

- وعن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أوصى رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى علي والحسن والحسين(عليهم السلام) وهما صبيّان، ثمّ قال: قال الله تعالى: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وأراد الأئمّة مِن وُلد علي وفاطمة (عليهما السلام) إلى أنْ تقوم الساعة) (4) .

- وعن أبان أنّه دخل على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: فسألتُه عن قول الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) فقال: (ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثمّ سكت فلمّا طال سكوته. قلتُ: ثمّ مَنْ؟ قال: الحسن (عليه السلام)، قلتُ ثمّ مَنْ؟ قال: ثمّ علي بن الحسين وسكت، فلم يزل يسكت عند كلّ واحد حتّى أُعيد المسألة فيقول، حتّى سمّاهم إلى

____________________

(1) المصدر السابق: ج25 ص200.

(2) تفسير العيّاشي: ج1 ص252.

(3) تفسير العيّاشي: ج1 ص252.

(4) دلائل الإمامة: ص231.

٨٧

آخرهم صلّى الله عليهم) (1) .

- وعن عيسى بن السري قال: قلت لجعفر الصادق (عليه السلام): حدِّثْني عمّا ثبت عليه دعائم الإسلام إذا أخذتُ بها زَكَا عملي ولم يضرّني جهلُ ما جهلتُ. قال: (شهادة أنْ لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وحق في الأموال من الزكاة، والإقرار بالولاية التي أمر الله بها آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (مَنْ مات لا يعرف إمامه مات ميتةً جاهليّةً). وقال الله عزّ وجل: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) فكان علي صلوات الله عليه، ثمّ صار مِن بعده الحسن، ثمّ مِن بعده الحسين، ثمّ مِن بعده علي بن الحسين، ثمّ مِن بعده محمّد بن علي، وهكذا يكون الأمر أنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام، ومَنْ مات لا يعرف إمامه ماتَ مِيْتَةً جاهليّةً. وأحوج ما يكون أحدكم إلى معرفته إذا بلغت نفسه هاهنا، وأهوى بيده إلى صدره، يقول: حينئذٍ لقد كان على أمر حسن) (2) .

ومن هنا يتبيّن أنّ المراد من أولي الأمر الذين أوجب القرآن الكريم طاعتهم هم الأئمّة المعصومون؛ لأنّهم منزّهون عن الخطيئة والخطأ وهم أُمناء الوحي ومعادن الرسالة.

ملاحظة:

إنّ ما سبق من الحديث لا يعني انتقاء ضرورة الحكم في زمن الغيبة، وإنّ المسلمين غير مكلّفين في تشكيل حكومة تنهض بإقامة دين الله.

كلاّ إنّ المسلمين شأنهم شأن سائر الأُمم الأُخرى، لا بدّ لهم من نظام

____________________

(1) تفسير العياشي: ج1 ص251.

(2) ينابيع المودة: ص137.

٨٨

للحكم، يوفّر لهم أسباب الرخاء ويقيم حكم الله، ويمنع العدوان ويحدّد الواجبات ويعيّن الحقوق، وفي كلّ الأحوال يدافع عن الإسلام من غارات الأعداء.

كما أنّ ضرورة الحكم ليس أمراً ابتدعه الإسلام، بل إنّها ظاهرة عريقة بزغتْ مع بدء التاريخ الإنساني، وكانت في طليعة حاجات الإنسان اجتماعيّاً، والمسلمون لا يمثّلون استثناءً في هذه القاعدة أبداً.

صحيح، إنّ الشيعة يفسّرون أُولي الأمر بالأئمّة المعصومين، وإنّهم وحدهم المؤهّلون للقيادة والحكم، وإنّ الله سبحانه أوجب طاعتهم بعد أنْ اصطفاهم واختارهم لعباده، ولكن هذا لا يعني بطلان جميع الحكومات بذريعة غياب المعصوم، فالمسلمون في كلّ زمان ومكان مكلّفون بتشكيل حكم إسلامي إلهي مِن شأنه أنْ يدير شؤونهم ويحفظ مصالحهم.

من أجل هذا كان موقف علي بن أبي طالب إزاء الخوارج حازماً، بعد أنْ جعلوا الآية الكريمة: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) شعاراً لهم، فردّ الإمام قائلاً: (كلمة حقّ يراد بها باطل، نعم، إنّه لا حكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ لله، وإنّه لا بدّ للناس مِن أمير بَرّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويُقاتل به العدو، وتأمَن به السُبُل، ويُؤخَذ به للضعيف من القوي حتّى يستريح برّ ويُستراح مِن فاجر) (1) .

وإذاً، فلا مناص من تشكيل حكم إسلامي حتّى في زمن غياب المعصوم؛ لأنّ الحكومة ضرورة اجتماعيّة وظاهرة رافقتْ التاريخ البشري منذ القِدَم.

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 40.

٨٩

٩٠

الفصل الثاني

الإمامة في ضوء العقل

٩١

٩٢

النبوّة العامّة

تنسحب البراهين والأدلّة العقليّة التي تثبت وجوب النبوّة على الله عزّ وجل، على الإمامة في غياب الأنبياء والرسل.

فلا بدّ من وجود فرد معصوم اختاره الله واصطفاه لعباده؛ لإقامة الدين وتطبيق الشريعة في حياة الناس. ومن هنا فإنّ بحث مسألة النبوّة العامّة أمر ضروري للتمهيد من أجل بحث الإمامة في ضوء العقل.

* وقبل الخوض في البحث أجد من اللازم إثارة بعض النقاط كمقدّمة:

* الأولى:

أثبتتْ العلوم العقليّة أنّ الإنسان يتألّف من جسد وروح، وهو من ناحية الجسد ينتمي إلى عالم المادّة التي هي عرضة للتغيّر والتبدّل، وهو من ناحية الروح ينتمي إلى عالم المجرّدات، وهو في كلّ هذَين البُعْدَين كائن متوحّد.

وبتعبير أكثر دقّة: إنّ الإنسان في مَنْشَئِهِ ينتمي إلى عالمَين سُفْلِي وعُلْوِي:

- فالسفلي: ما ارتبط بالجسد وحاجاته وغرائزه.

- والعلوي: وثيق الصلة بأعمال الروح.

ولأنّ روح الإنسان متعلّقة بالمادّة، وهي ليست متجرّدة تماماً، فهي تنطوي على قابليّة التكامل والسمو، والروح التي هي واحدة لدى الإنسان في طفولته

٩٣

تتفاوت مع روح الحكيم في منزلتها ودرجة تكاملها.

فالوجود الإنساني يبدأ من نطفة تفتقر إلى الإدراك والشعور، ثمّ تتّحد داخل الرحم لتبدأ حياة جديدة.. حياة جسديّة تنتمي إلى حياة الأُم، وتكون جزءاً من تكوينها البَدَنِي.

غير أنّ هذا الكائن المتناهي في الصِغَر يندرج في مسيرة التكامل، إلى أنْ تصبح له حياة حيوانيّة في إطار الحواس الخمس، ثمّ يتكامل شيئاً فشيئاً حتّى يرقى إلى الحياة الإنسانيّة التي تتسامى على حياة الحيوانات والنباتات، ويرتفع عن عالم المادِّيَّات وهو في حركة دائبة مستمرّة.

على أنّ روح الإنسان - وفي كلّ مراحل تكاملها - لا تعدو كونها حقيقة تتّجه لتحقيق وجودها. وهذا لا يعني أنْ نتصوّر بقاءها على أصلها وجوهرها، وأنّ الكمال أمر طارئ عليها، بل إنّ معنى التكامل هو نمو جوهري للذات وحقيقة الوجود باتّجاه الدرجة الأسمى. وإذن فإنّ طبيعة الخلق الإنساني إنّما تنطوي على قابليّة التكامل من درجة المادّة الفقيرة إلى مراحل الكمال، حيث يتغيّر الجوهر الذاتي شيئاً فشيئاً ليرتقي في عوالم الصفاء والنور والكمال.

* الثانية:

إنّ الإنسان مفطور على التكامل، مزوّد بقابليّة ذلك، وعليه ينبغي أنْ يكون ذلك ممكناً وميسّراً، وإلاّ كان الأمر عبثاً، وهو لا ينسجم مع حكمة الباري عزّ وجل. وكما أنّ كلّ موجود مادّي يتحرّك نحو كماله الممكن الذي أودعه الله في خلقه، فإنّ الإنسان هو الآخر ليس مستثنىً عن هذه القاعدة العامّة، وهو ليس محروماً من هذه النعمة الكبرى، بل إنّ حكمة الله سبحانه تقتضي أنْ تُيَسِّر للإنسان هذه الغاية.

٩٤

* الثالثة:

إنّ الإنسان يتألّف من جسد وروح، وهو بهذا يعيش حياتين:

- إحداهما: دنيويّة ترتبط بالجسد وغرائزه وحاجاته.

- وأُخرى: روحيّة ومعنويّة تتعلّق بنفسه، ولكلّ منهما أسباب للسعادة وعوامل للشقاء.

وهو - شاء أَمْ أَبَى - يحيا هذَين المستَوَيَيْن من الحياة. فقد يستغرق في حياته المادِّيَّة غافلاً عن نفسه وروحه. وهو إذنْ يتحرّك نحو السعادة والكمال الإنساني أو ينحدر في هاوية الشقاء والعذاب.

فالأفكار الطاهرة والأخلاق الحميدة والأعمال الصالحة كلّها تنبع من عالم الوجود، وهي عوامل الرُقِيّ والكمال والسعادة. وفي مقابل هذا، العقائد الباطلة والأخلاق السيِّئة التي تتناقض مع ناموس الوجود، وتدفع بالإنسان عن جادّة الصراط إلى أَوْدِيَة الضياع والشقاء.

فالإنسان الذي يستقيم طريقه إنّما يتحرّك باتّجاه التكامل حيث تنموا ذاته، وتنصقل نفسه، ويتكامل جوهره، ويرتقي سلَّم الكمال الروحي والأخلاقي، بعد أنْ يقهر غرائزه الحيوانيّة المتحفِّزة في أعماقه.

* الرابعة:

إنّ العلاقة الوثيقة بين الروح والجسد تنعكس على مدى علاقة الحياتَين الدنيويّة والأخرويّة للإنسان، فتكسبها ذات الارتباط الوثيق.

- فالنشاط الحيوي للجسد - وكلّ الأفعال البدنيّة - لها تأثيراتها في روح الإنسان، وكذا فإنّ التقلّبات النفسيّة والتغيرات الروحيّة لها آثارها في حركات

٩٥

الإنسان.

- والاستغراق في الآثام والمعاصي يلوّث النفس الإنسانية ويجعلها في جنوح دائم للانحراف، وعلى العكس تماماً فإنّ الاستمرار على أعمال الخير والإحسان يصقل النفس ويزيدها نقاءً وصفاءً، وتجعل قلب الإنسان مضيئاً، وتنمو في أعماقه ملكات الصلاح والخير.

ومن الممكن أنْ يصل الإنسان درجة يسمو فيها فلا يرى شيئاً سوى الصفاء والخير والإحسان، كما أنّ من المحتمل أنْ يتردّى الإنسان إثر ارتكابه الآثام والذنوب في هاوية السقوط، فلا يعرف شيئاً غير الشقاء والشرور.

فكلّ التغيّرات النفسيّة والتبدّلات الروحيّة تنعكس في أعمال جسديّة تنسجم مع طبيعتها وتتماشى مع سِنْخِيَّتِهَا.

فالفعل الإنساني ما هو إلاّ انعكاس للذات، كما المرآة تعكس ما يقابلها تماماً.

ومن هنا لا يمكن الفصل بين الحياتَين: الدنيويّة والأخرويّة، حتّى يمكن حساب كلّ واحدة بمنأىً عن الأُخرى.

فبدون الأعمال الصالحة ومواقف الخير لا يمكن أنْ يرتقي الإنسان إلى درجة التكامل الروحي، وبدون إصلاح النفس وتزكيتها لا يمكن أن ينهض الإنسان بأعمال الخير والإحسان.

ومخطئ مَن يقول إنّه لا جدوى من المداومة على أعمال الخير؛ لأنّ الأصل هو إصلاح النفس وطهارة القلب، فالقميص قد يصنع القِدِّيس إلى حدٍّ ما.

* الخامسة:

هناك مَن يتجاهل الجانب الهام في الإنسان، الجانب الذي يُعَدُّ الأساس في

٩٦

شخصيّته، فلا يرى للكائن البشري سوى حياة تنحصر في إطار ضيّق يدور بين الأكل والنوم، متجاهلاً روحه العظيمة بكلّ ما يزخر فيها من مكنوّنات عميقة.

فمثلاً يقول أحدهم:

إنّ الإنسان إنّما وُجد ليعيش فَيُهيِّئ ما يأكل، ويُوفِّر ما يلبس، ويحافظ على حياته، ويقوم بأنشطته الاجتماعيّة. واذن ينبغي أن يكون الدين في هذا الإطار، فلا يتعدّى بدفع الإنسان إلى التفكير والتعمّق في أسرار الكون، وبالتالي إِلْهَائِهِ عن الحياة وخسارتها (1) .

ولا يحتاج هذا الرأي إلى تعليق، فهو يطيح بكرامة الإنسان وينزله من عليائه الشامخ إلى حضيض الحيوانيّة، التي لا تعرف شيئاً غير غرائزها وميولها ورغباتها.

غير أنّ العلم والفلسفة ترفض مثل هذه الرؤية، وتجعل للإنسان مرتبة سامية ومنزلة رفيعة.

ولقد أثبت العلم والفلسفة أنّ شخصيّة الإنسان إنّما تنهض على الروح، وأنّها الإطار العام الذي تتجسّد من خلاله إنسانيّة الإنسان.

وعلى هذا فإنّ سرّ الخَلْق وغائيّة الوجود الإنساني هي في التكامل الروحي والمعنوي، وإنّ إغفال هذا الجانب الهام في الكائن البشري هو مصادرة تَعَسُّفِيّة لجوهر الإنسان وكيانه العام؛ ذلك أنّ علّة الخَلْق تكمن في التكامل الروحي، وبدون ذلك يتعذّر على الإنسان وصوله إلى الغاية المنشودة.

* السادسة:

إنّ الإنسان وبفطرته يتطلّع إلى الكمال، ويبحث عن الحقيقة، ويسعى من

____________________

(1) روح القوانين: مونتسيكو: عن النسخة الفارسيّة ط5، ص678.

٩٧

أجل الحصول عليها، بل إنّ أفعاله وحركاته تدور حول نيل الكمال لوجوده، فالكلّ يتحرّك في هذا الاتّجاه، وما يحصل مِن تخبّط إنّما ينشأ عن الخطأ في تشخيص الكمال الحقيقي، فقد يظنّ متوهِّماً أنّ كماله يكمن في أشياء لا تَمُتُّ إلى الحقيقة بشيء، فهو ينطلق في خياله خاطئاً.

فهناك مَن يرى كماله في المظاهر البرّاقة من الحياة، وهناك مَن يراه في ما يملكه من مساحات شاسعة مِن الأرض، وآخر يظنّه في الجاه والمنصب والنفوذ، وهناك مَن يتهالك على إشباع غرائزه فيندفع في هذا الطريق، ملبِّياً كلّ رغبة تشتغل في أعماقه وبأيّ ثمن.

وهكذا نرى تخبّطاً في مسار الإنسان وانحرافه عن جادّة الطريق... الطريق الذي يؤدّي إلى سعادته، فإذا به يسقط في هاوية الشقاء دون وعي.

* السابعة:

إنّ الإنسان لا ينطوي على غريزة اجتماعيّة أو هو ليس اجتماعيّاً بالذات، ولكنّه يميل إلى الحياة الاجتماعيّة ويخشى حياة الوحدة والعزلة، مقتنعاً بالحياة مع الآخرين.

وهنا سؤال عن طبيعة البواعث التي أدّت إلى أنْ يحيا الإنسان هذا الشكل من الحياة:

- فهل أنّ ذلك جاء نتيجةً لِمَيْلِهِ للإفادة والاستفادة من أبناء جنسه.

- أَمْ لأنّه يخاف الحيوانات المفترسة.

- أم شعوره بالعجز عن الحياة بمفرده وحاجته للآخرين في توفير متطلّبات العَيش.

- أو لأنّه يريد تسخير الآخرين لمصلحته؟

وبشكل أوضح: هل يهدف الإنسان وراء الحياة الاجتماعيّة مصلحته الخاصّة،

٩٨

أَمْ التعاون وتقديم العون؟

هناك أجوبة عديدة قدّمها علماء الانثربولجيا، وتاريخ الأديان، وعلم النفس ، ولكلٍّ رؤيته وتفسيره في تحليل هذه الظاهرة.

غير أنّه يمكن القول أنّ الحقّ في جانب مَن ينادي بأنّ الإنسان يهدف من خلال حياته الاجتماعيّة الاستفادة من عون الآخرين في تأمين متطلّبات عَيشه.

ولتسليط الضوء أكثر ينبغي القول إنّنا وبالرغم من غيابنا عن تلك الحقبة من الزمن، حيث شهدتْ الأرض أوّل التجمّعات الإنسانيّة، حتى يمكننا اكتشاف ومعرفة بواعث هذه التجمّعات والظروف التي أدّت إلى ذلك، ولكنّ دراسة الإنسان في العصر الحاضر والإلمام بميوله وغرائزه وطريقة تفكيره والغوص في أعماقه ستدلّنا بلا شك على البدايات الأُولى، حيث فكّر الإنسان في أنْ يعيش مع أبناء جنسه في تجمّعات محدودة.

لقد وجد الإنسان نفسه جائعاً فراح يبحث عمّا يسدّ رَمَقَه، ثمّ شعر بالظمأ فراح يبحث عن الماء، ولعلّ هذا الدافع هو أوّل اكتشاف للإنسان وارتباطه الوثيق بما حوله من نباتات وأنهار، ولعلّه لجأ إلى الأغوار؛ لدفع غوائل البرد أو مُحْتَمِيَاً من الحرّ أو المطر، وهكذا بدأ يكتشف العالَم من حوله شيئاً فشيئاً.

ثمّ راح يفكّر بتسخير الحيوانات والاستفادة من لحومها وجلودها وفي تنقّله من مكان إلى آخر.

وبسبب وجود الغريزة الجنسيّة وطغيانها راح الرجل يبحث عن الأُنثى؛ لإطفاء تلك الشهوة المتأجِّجة في أعماقه.

وهكذا استولى الرجل على امرأة واحدة أو أكثر من أجل إشباع غريزته

٩٩

الجنسيّة. وقد اضطرّ ومن أجل الاحتفاظ بالأُنثى إلى الدفاع عنها وتوفير ما تحتاجه من غذاء، ومن هنا بدأت أُولى أشكال التعاون بين أفراد النوع البشري.

فقد نتج عن الحياة المشتركة بين شخصَين ظهور الأُسرة التي تتألّف من الأب والأُم وحضانة صغارهما حتّى سن معيّنة.

وأعقب ظهور الأُسرة تبلور الاجتماع القَبَلِي، ثمّ ظهور التجمّع القروي، إلى ولادة المُدُن، إلى التجمّع على مستوى أكبر في إطار الدولة.

وفي كلّ مراحل التطوّر الاجتماعي هذه، تبرز المصلحة الشخصيّة ومحاولة تحقيق الفرد لذاته كباعث وحيد وراء ذلك.

يقول هويز:

يهدف البشر إلى تسخير بعضهم بعضا ً(1) .

ولأنّ غريزة الأنا غريزة ضاربة في كلّ أفراد الجنس البشري، وهي التي تحرّك الإنسان وتحدِّد سلوكه ومواقفه، فإنّ هذا يعني حدوث الفوضى وبالتالي تعذّر العَيش، فقد وجد الإنسان نفسَه مضطرّاً للحدّ من طغيان الأنانيّة، ثمّ التضحية ببعض مصالحه من أجل استمرار التشكيل الاجتماعي للحياة، وبهذا اختار الإنسان حياة التعاون والمصالح المتبادلة مع أفراد نوعه، وهكذا اضطرّ الإنسان إلى كَبْح النزعات الفرديّة أو التخفيف من حدّتها؛ من أجل استمرار النظام الاجتماعي الذي يحقّق مطامح الأفراد جميعاً.

* الثامنة:

إنّ من نتائج الحياة الاجتماعيّة الحتميّة بروز التصادم في رغبات وطموحات الأفراد؛ ذلك أنّ كلّ فرد يسعى لتحقيق ذاته ولو على حساب

____________________

(1) المصدر السابق: ص88.

١٠٠