وركبت السفينة

وركبت السفينة0%

وركبت السفينة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 665

وركبت السفينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: مروان خلفيات
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 665
المشاهدات: 282235
تحميل: 5116

توضيحات:

وركبت السفينة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 665 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 282235 / تحميل: 5116
الحجم الحجم الحجم
وركبت السفينة

وركبت السفينة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وورد أنَّ عمر قال على المنبر: " أحرج بالله على رجل سأل عما لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن " وقال: " لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن، إن الله تبارك وتعالى قضى فيما هو كائن، وقال: أحرج عليكم أن لا تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيه شغلا "(١) .

وجاء رجل يوما إلى ابن عمر فسأله عن شئ، لا أدري ما هو، فقال له ابن عمر:

" لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من يسأل عما لم يكن "(٢) .

واستفتى رجل أبي بن كعب فقال: " يا أبا المنذر ما تقول في كذا وكذا؟ قال:

يا بني: أكان الذي سألتني عنه، قال: لا، قال: أما لا، فأحلني حتى يكون فنعالج أنفسنا حتى نخبرك "(٣) .

تعليق

لقد ثبت أنَّ الصحابة كانوا ينهون عن الرواية، ويقلونها، وقاموا بحرق السنن ومحوا الصحف، وحبس عمر بعض الصحابة ليمنعهم من الحديث، وكان الصحابة ينهون عن سؤال ما لم يقع.

" فهل ترى بربك ان ذلك الاتجاه الساذج - إن كانت المسألة مسألة سذاجة - الذي ينفر من السؤال عن واقعة قبل حدوثها ويرفض تسجيل سنن النبي بعد صدورها، كفوءا لزعامة الرسالة الجديدة وقيادتها في أهم وأصعب مراحل مسيرتها الطويلة... وقد أثبتت الأحداث بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن جيل المهاجرين والأنصار لم يكن يملك اي تعليمات محددة عن كثير من المشاكل الكبيرة التي كانت من المفروض ان تواجهها الدعوة

____________

١ - سنن الدارمي: ١/٥٠. جامع بيان العلم: ١/١٤١.

٢ - المصدر السابق.

٣ - سنن الدارمي: ١/٥٦.

٢٠١

بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أن مساحة هائلة من الأرض التي امتد إليها الفتح الإسلامي لم يكن لدى الخليفة والوسط الذي يسنده أي تصور محدد عن حكمها الشرعي وعما إذا كانت تقسم بين المقاتلين أم تجعل وقفا على المسلمين عموما.

فهل يمكننا أن نتصور ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد للمسلمين انهم سوف يفتحون أرض كسرى وقيصر ويجعل من جيل المهاجرين والأنصار القيم على الدعوة والمسؤول عن هذا الفتح ثم لا يخبره بالحكم الشرعي الذي يجب أن يطبَّق على تلك المساحة الهائلة من الدنيا التي سوف يمتد إليها الإسلام "(١) .

إنَّ التقليل من الرواية ومنعها وحرق السنن ومحوها ليس من صفات الدعاة إلى الله. فالمفترض بالصحابة إذا كان قد انتدبهم الله لبيان دينه: أن يقوموا بأعباء هذه المهمة خير قيام، خاصة وأنَّ أمامهم عملا شاقا وطويلا. لكننا وجدنا الصحابة قد عملوا ما يؤثر سلبا على الدعوة. إن الله يريد لدينه أن ينتشر في كل مكان، فما معنى امتناع الصحابة عن الرواية إذا كان الله قد اختارهم لتبليغ دينه؟!

هذا قرظة بن كعب لمّا قدم العراق قالوا له: حدثنا، فقال: " نهانا عمر ". عجبا كيف سيعرف هؤلاء دينهم وسنة نبيهم، وحملة الدين لا يتكلمون؟! إن الداعية يفرح إذا وجد من يصغي له. فلماذا يمتنع هذا الصحابي وغيره عن الدعوة؟ وأين ذهب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " ليبلغ الشاهد الغائب "؟(٢) .

وقوله: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "(٣) .

إن الإسلام لا يقبل بمنع الرواية وتقليلها، بل يشجِّع على نشرها بكل الطرق حتى

____________

١ - بحث حول الولاية: ص ٤٥ - ٤٧.

٢ - صحيح البخاري: كتاب العلم، باب يبلغ العلم الشاهد الغائب، سنن ابن ماجة: ١/٨٥.

٣ - ابن ماجة: ج ١ باب ١٨ حديث ٢٣٦. سنن أبي داود: كتاب العلم، باب فضل نشر العلم.

٢٠٢

تنتشر السنة التي تبين القرآن وتفصل مجمله وتخصص عامه وتقيد مطلقه. قال تعالى:

( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ‌ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) وقال تعالى:( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَ‌حْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٢) فالسنة هي المصدر الثاني بعد القرآن يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معي).

فلماذا امتنع الصحابة عن الرواية واقلوها وأحرقوا السنن وهم حملة الدعوة إلى الناس؟!

إن الله يخاطب نبيه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ‌ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) فمهمة الرسول البيان.

وإذا كان الصحابة خلفاءه في حمل الدعوة فمهمتهم أيضا البيان.

أما أن يقلوا الرواية وينهوا عنها ويحرقوا السنن ويحبسوا... فهذا لم يحصل في تاريخ الدعاة إلى الله!

إن الله لم يبعث أنبياءهعليهم‌السلام دعاة يحتكرون رسالات ربهم ويكتمون ما أمرهم الله بتبليغه ويحرقون السنن ويمحونها.

هذا نوحعليه‌السلام على الرغم من محدودية رسالته مكانا وزمانا ومع بقائه تسعمائة وخمسين سنة في قومه لم يتوان عن الدعوة في أي لحظة، ولم يحرق ويمح ما أمره الله بتبليغه، بل كان يدعو الناس ليلا ونهارا سرا وإعلانا، قال تعالى على لسانه:

( إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارً‌ا ) (٣) ،( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارً‌ا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَ‌رْ‌تُ لَهُمْ إِسْرَ‌ارً‌ا ) (٤) .

____________

١ - النحل: ٤٤.

٢ - النحل: ٦٤.

٣ - نوح: ٥.

٤ - نوح: ٨ و ٩.

٢٠٣

وهذا يوسفعليه‌السلام لم يترك الدعوة وهو في السجن، قال تعالى على لسانه:

( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْ‌بَابٌ مُّتَفَرِّ‌قُونَ خَيْرٌ‌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‌ ) (١) من ذلك يتضح لنا أن الله لم يرض بتقليل العمل الرسالي في الرسالات المحددة مكانا وزمانا، فكيف يصطفي لآخر رسالاته وأخطرها، والتي ينتظرها عمل كثير، دعاة يمنعون الرواية ويحرقونها ويمحونها؟

لقد مر علينا قول ابن أبي ليلى: " أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ".

فلماذا لا يجيب هؤلاء الصحابة عن المسائل التي يسألونها؟ فإذا كانوا يجهلون فلا يصلحون لتبيين الإسلام، وإذا كانوا يعرفون فلم يردون المسائل؟ أهو الورع الذي يمنعهم؟ فهل هم أورع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يرد سائلا في حياته؟(٢) لا أعتقد أن مسلما يقبل بهذا!

أما التعليلات التي تذكر لتبرير موقف الصحابة هذا، فهي مرفوضة.

قيل: إن الصحابة منعوا تداول السنة كيلا تختلط بالقرآن، ومعنى هذا القول: إن الله قد أنزل كتابه المعجز لقوم لا يميزون بين كلام الخالق وكلام المخلوق!! وبهذا يتبين ضعف هذا التعليل الذي نسمعه دائما!

وقيل: إن الصحابة منعوا الرواية كي ينشغل الناس بالقرآن، ولا يتكلون على الصحف.

____________

١ - يوسف: ٣٩.

٢ - قد يقال: إن الرسول معصوم ولهذا كان لا يتحرج في الجواب، أما الصحابة فكانوا يخافون الزيادة والنقص في الحديث. ولكننا نقول: أما كان الله قادرا على أن يختار شخصا معصوما بعد نبيه كي يسير بسيرة النبي في التبليغ بدلا من حرمان الناس من الحديث؟ فذلك خير ضمان لحفظ السنة بلا زيادة ولا نقصان ولا تغيير بالمعنى.

٢٠٤

ولا أدري كيف سينشغل الناس بالقرآن ويفهمونه دون سنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

وبناء على هذا القول يجب ألا تدون السنة مطلقا وأن لا تنشر كي لا يتكل الناس عليها!!

إن السنة موجودة الآن في كتب السنن، ولا نرى المسلمين منشغلين بها دون القرآن.

إذن فما محل هذه التعليلات من الصحة؟!

ولذلك فلابد من التأكيد على أن سيرة الصحابة في تعاملهم مع السنة من حرق ومحو ومنع انتشارها لدليل واضح على أن الله لم يختر الصحابة لبيان دينه...

قلة تلقّي الصحابة عن النبيّ وانشغالهم

إنَّ قلّة تلقي الصحابة عن النبيّ وانشغالهم في طلب المعاش لا يتناسب مع المهمّة الملقاة علی عاتقهم. أنكر عمر بن الخطاب على أُبيِّ قراءته وقال بأنه لم يسمع بها من قبل، فقال له أبي: " إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق "(١) .

وحين شهد أبو سعيد الخدري لأبي موسى الأشعري في قضية الاستئذان قال:

" قد كنا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي عليَّ هذا من أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألهاني الصفق بالأسواق "(٢) .

وقال البراء بن عازب: " ما كل الحديث سمعناه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانت ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب ".

وورد عنه قوله: " ما كل الحديث سمعناه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يحدثنا أصحابنا عنه، كانت تشغلنا رعية الإبل "(٣) .

____________

١ - تاريخ ابن عساكر: ٧/٣٣٩.

٢ - صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الحجة على من قال إن أحكام النبي كانت ظاهرة.

٣ - قال محمد زهو في الحديث والمحدثون: ص ١٥٨: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم...

قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ".

٢٠٥

وقال طلحة بن عبيد الله: "... إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله طرفي النهار ثم نرجع "(١) .

قال ابن حزم في بيان حال الصحابة بأنهم كانوا " مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم بجهد العيش بالحجاز، وأنه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وانه إنما قامت الحجة على سائر من لم يحضره بنقل من حضره وهم واحد أو اثنان ".

" وإذا صح هذا - أي كلام ابن حزم - وهو صحيحٌ جدا لأن التاريخ لم يحدثنا عنه انه - أي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كان يجمع الصحابة جميعا، ويبلغهم بكل ما يجد من أحكام، ولو تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهي من السنة. فماذا يصنع من يريد التمسك بسنته - ولنفترضه من غير الصحابة - أيظل يبحث عن جميع الصحابة وفيهم الولاة والحكام وفيهم القواد والجنود في الثغور ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام؟ أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين، وهو لا يجزيه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص أمام واحد أو اثنين ممن لم يكونوا بالمدينة، والحجة - كما يقول ابن حزم - لا تقوم إلا بهم، والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصصه مادمنا نعلم من طريقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة، فالإرجاع إلى شئ مشتت وغير مدون تعجيز للأمة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.

وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبيا، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح وانتشار الإسلام ومحاولة التعرف على احكامه من قبل غير الصحابة من رواتهم، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث... "(٢) .

____________

١ - تاريخ ابن كثير: ٤/١٠٩، قال: وقد رواه الترمذي بنحوه.

٢ - الاصول العامة للفقه المقارن: محمد تقي الحكيم، ١٧٢. إن هذا الكلام الرائع كاف لإثبات أن النبي لم يفكر بأن يحمل صحابته الدعوة من بعده!

٢٠٦

لقد مرت شهادات الصحابة بأنهم كانوا مشغولين بأعمالهم، وكانوا يأتون النبي طرفي النهار حسب قول طلحة.

ونحن نعلم أنَّ الإسلام هو خاتم الرسالات وللعالم أجمع. لذلك لا بد من القول: إنَّ هناك شخصا ممن رافق الدعوة خطوةً خطوة واستوعب الإسلام استيعابا كاملا بحيث يجسِّده في قوله وسلوكه وهذا هو الواجب، أما الصحابة فقد خفي عليهم الكثير من الرسول، وكانوا يأتون طرفي النهار ولا يحضر إلا الواحد أو الاثنان على حد تعبير ابن حزم.

ولو فكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يعهد للصحابة القيادة الفكرية للامة لقام بتعبئتهم التعبئة الكاملة بالإسلام حتى ينقلوه للأجيال، وحتى لا يصطدموا بالمستجدات.

فقلة تلقي الصحابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتدفعنا الى القول بأنه لم يفكر بأن يسند إليهم حمل الدعوة من بعده. وكيف يمكن لإنسان عاش مع النبي بضعة أشهر(١) أن يستوعب الإسلام الذي بقي ينزل ثلاثا وعشرين سنة؟! والذي يصعب تصديقه هو القول: إنَّ النبي قد حمله أمانته العظمى!

إن "... أي افتراض يتجه إلى القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطط لإسناد قيادة التجربة والقيمومة على الدعوة بعده مباشرة إلى جيل المهاجرين والأنصار يحتوي ضمنا على اتهام أكبر وأبصر قائد رسالي في تاريخ العمليات التغييرية بعدم القدرة على التمييز بين الوعي المطلوب على مستوى القاعدة الشعبية للدعوة، والوعي المطلوب على مستوى قيادة الدعوة وإمامتها الفكرية والسياسية "(٢) .

____________

١ - كمعاوية بن أبي سفيان وأبيه ووفود العرب الذين رأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لساعات.

٢ - بحث حول الولاية.

٢٠٧

الصحابة ينقلون آخر الحديث أحياناً!

قد يسمع الصحابي طرفا من حديث النبي، ولم يكن قد حضر أوله، فيظن أنه سمع حديثا تامّاً، فيحدِّث بما سمع، وهذه واحدةٌ من أخطر علل الحديث.

حدث ابن الجوزي " أن الزبير بن العوام سمع صحابيا يحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستمع إليه حتى قضى حديثه، فقال له: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم، فقال الزبير: هذا وأشباهه مما يمنعانني أن أتحدَّث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد لعمري سمعت هذا من رسول الله، وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث، فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئته أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت انه من حديث رسول الله "(١) .

هذا صحابي يروي حديثا على أنه من النبي مع أنَّ النبي يحكيه عن رجل من أهل الكتاب.

إنه أمر طبيعي أن يأتي بعض الصحابة والرسول يتحدَّث فلا يسمعون منه أول حديثه.

لكن المصيبة الكبرى أن يتحدث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل الكتاب، فيأتي صحابي ويروي كلامهم على أنه تعبير عن الإسلام! فهل نصدق أنَّ الله جعل كل واحد من الصحابة مرجعا لنا نأخذ عنه الدين، وهذا حالهم؟ وهل يقبل الله أن يصبح كلام أهل الكتاب جزءا من الإسلام؟! من قال هذا فهو أظلم اتهام لله بالتفريط في دينه، فالله لم يجعل الصحابة مراجع لنا لأنه يعلم أنهم قد يأخذون كلام النبي على غير حقيقته، كما حدث لهذا الصحابي السالف الذكر.

____________

١ - شبهة التشبيه: ص ٣٨.

٢٠٨

وعن أبي حسان الأعرج: أنَّ رجلين دخلا على عائشة(١) فقالا: إنَّ أبا هريرة يحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنما " الطيرة في المرأة والدابة والدار ".

فطارت شفقا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم!! من حدث بهذا؟! إنما قال رسول الله: كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْ‌ضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَ‌أَهَا ) (٢) (٣) .

انظر أيها القارئ اللبيب إلى هذا الحديث. فأبوهريرة يرويه على أنه من كلام النبي مع أن النبي كان يتكلم على لسان أهل الجاهلية كما ورد. ويعد أبوهريرة راوية الإسلام، فإذا كان هذا حال راوية الإسلام بالنقل فكيف بباقي الرواة؟!

ألا يدفع فينا هذا الحديث الشك والريبة حول الأحاديث الموجودة؟ - ولنقل الأحاديث التي تفرد بها كل صحابي - مَن يدري؟ فلعل بعض الأحاديث التي نعتقد بها، هي من كلام الجاهلية أو أهل الكتاب. ولكن خفي ذلك على الراوي كما خفي على راوية الإسلام أبي هريرة!!

قد يقال: إن أبا هريرة سمع آخر الحديث " إن الطيرة... " وظنه من كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرواه، لا أنه يتعمد الكذب.

قلنا: وما ذنبنا نحن حتى يصل إلينا الإسلام بشكل خاطئ؟

وروى الحاكم في " المستدرك " في كتاب العتق، بإسناده عن عروة بن الزبير، أنه قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أنَّ أبا هريرة يقول: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: " لأن امتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من ان أعتق ولد الزنا " وأن رسول الله قال: " ولد الزنا شر الثلاثة، وأن: الميت يعذب ببكاء الحي ".

____________

١ - الحديد: ٢٢.

٢ - تأويل مختلف الحديث: ص ١٢٦ و ١٢٧.

٢٠٩

فقالت عائشة: رحم الله أبا هريرة، أساء سمعا فأساء إصابةً، أما قوله: " لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إليَّ من أن أعتق ولد الزنا "، إنها لما نزلت( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا الْعَقَبَةُ ) (١) . قيل: يا رسول الله، ما عندنا ما نعتق، إلا أن أحدنا له جارية سوداء، تخدمه وتسعى عليه. فلو أمرناهن - الجواري - فزنين، فجئن بالأولاد فأعتقناهم، فقال رسول الله: " لأن أمتع بسوط في سبيل الله، أحب إلي من أن آمر بالزنا، ثم اعتق الولد ".

وأما قوله: " ولد الزني شر الثلاثة " فلم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: " ومن يعذرني من فلان؟ "، قيل: يا رسول الله مع ما به ولد زنا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " هو شر الثلاثة " والله(٢) يقول:( وَلَا تَزِرُ‌ وَازِرَ‌ةٌ وِزْرَ‌ أُخْرَ‌ىٰ ) ... "(٣) (٤) .

هذا مثال آخر يبين لنا عدم أهلية الصحابة لنقل الإسلام لمن بعدهم. فقد أخفق أبو هريرة في نقل الحديث حتى أصلحت له عائشة خطأه. والذي ينبغي الوقوف عنده أن لأبي هريرة في كتب السنن ٥٣٧٤ حديثا، فمن يضمن لنا أن لا يكون أبو هريرة قد أخطأ في نقلها كما حصل له في هذا الحديث والذي قبله؟ نحن لا نقول: جميع أحاديثه بل لنقل الأحاديث التي تفرد بها. نعم، من يضمن لنا ذلك؟ وإذا لم نجد جوابا فكيف يمكن لنا أن نعتمد على أبي هريرة في نقل سنة النبي؟! إننا في حاجة لجواب يحل لنا هذه المعضلة التي تمس الإسلام أجمعه. وهل حقا أنَّ الله اختار أبا هريرة لتبليغ سنة نبيه؟ أنا لا أتصور مسلما يقول بالإيجاب بعدما عرف إخفاق أبي هريرة في النقل. والذي يقول إن الله اختار أبا هريرة لهذه المهمة متهم لله بأنه فرط في دينه، إذ رضي أن تتغير تعاليم الإسلام بمعتقدات جاهلية...

____________

١ - البلد: ١ و ١٢.

٢ - المستدرك: ٢/٢١٥ وصححه.

٣ - فاطر: ١٨.

٢١٠

وقال بشر بن سعيد: " اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم "(١) !!

الصحابي يأخذ عن مخبر وينسب للنبيّ

ومن الإشكالات التي تظهر لنا في مرجعية الصحابة أنَّ هناك من الصحابة من كان يسمع الحديث من مخبر وينسبه للنبي، كأبي هريرة مثلا، يقول ابن قتيبة فيه:

" وكان مع هذا يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا، وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه "(٢) .

أخرج البخاري: عن الزهري قال أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنَّ أباه عبد الرحمن أخبر مروان أنَّ عائشة واُمُّ سَلَمَه أخبرتاه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم(٣) . وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: أقسم بالله عليك لتقرعن أبا هريرة - لأنه كان يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم - ومروان يومئذ على المدينة. فقال أبو بكر فكره ذلك عبد الرحمن ثم قُدِّر لنا أن نجتمع بذي الحًليفة وكانت لأبي هريرة هناك أرضٌ فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك أمرا ولولا مروان أقسم عليَّ فيه لم أذكره لك. فذكر قول عائشة وأم سلمه، فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم(٤) .

وفي رواية معمر، عن ابن شهاب أنَّ أبا هريرة لما ذكر له عبد الرحمن قول عائشة " تلوَّن وجهه "(٥) .

____________

١ - البداية والنهاية: ٤/١٠٩، سير أعلام النبلاء: ٢/٦٠٦، وليت أحدا يدلنا على هؤلاء الذين كانوا مع بشر بن سعيد، وما أسماؤهم؟ فربما وصلت لنا مروياتهم وهي من كعب!

٢ - تأويل مختلف الحديث: ص ٥٠.

٣ - نحن لانقبل مانسب الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وننزهه من هذا الفعل، ولكن نحتج بالرواية على من يثبتونها.

٤ - صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنبا.

٥ - راجع شيخ المضيرة: ص ١٣٨.

٢١١

هذه مشكلة كبيرة جدا في مرجعية الصحابة، وربما كان يأخذ الصحابي من أحد الصحابة المنافقين المتظاهرين بالتقوى الذين لا يعلمهم إلا الله( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَ‌دُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (١) وهؤلاء المنافقون يسعون لتشويه صورة الإسلام. فلعل بعض الصحابة أخذوا عنهم ونسبوا الحديث للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبي منه برئ. فكيف نحل هذه المعضلة؟!

وقد يأخذ الصحابي عن مخبر يهودي ممن دخلوا الإسلام ليكيدوا له ككعب الأحبار مثلا.

روى أحمد عن أبي هريرة: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون... ".

قال ابن كثير: " لعل أبا هريرة تلقاه من كعب - الأحبار -، فإنه كان كثيرا ما يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه... "(٢) .

قال يزيد بن هارون: " سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس، أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميِّز هذا من هذا "(٣) .

قال رشيد رضا حين تكلم عن كعب الأحبار ووهب بن منبه: " وما يدرينا أن تلك الروايات المرفوعة أو الموقوفة ترجع إليهما، فإن الصحابة(٤) لم يكونوا يذكرون ما يسمع بعضهم من بعض ومن التابعين على سبيل الرواية والنقل. بل يذكرونه من غير عزو غالبا، وكثير من التابعين كذلك، بل أكثر ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث

____________

١ - التوبة: ١٠١.

٢ - تفسير ابن كثير: ٣/١١١.

٣ - رواه ابن عساكر، انظر علوم مصطلح الحديث صبحي الصالح، البداية والنهاية: ٤/١٠٩، وهناك رواية قريبة منها في سير أعلام النبلاء: ٢/٦٠٨.

٢١٢

المرفوعة لم يسمعه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم "(١) .

وقال: " وأنا لا آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة المرفوعة الغريبة المتون - التي لم يصرح فيها بالسماع - مما رواه كعب الأحبار، فقد صرحوا أنه روى عنه "(٢) .

روى مسلم عن أبي هريرة: " أخذ رسول الله بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدمعليه‌السلام بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ".

وقد قدح أئمة الحديث في هذا الحديث. قال البخاري: " الصحيح انه موقوف على كعب الأحبار "(٣) ومع أنَّ هذا الحديث من كعب الأحبار إلا أن أبا هريرة ينسبه للنبي ويؤكِّد ذلك بقوله: " أخذ رسول الله بيدي "!!

وعن أبي هريرة، قال: " سمعت رسول الله يحكي عن موسى على المنبر قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله(٤) ؟ فأرسل الله تعالى إليه ملكا فأرقه ثلاثا، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحدى القارورتين عن الأخرى، حتى نام نومه فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان "(٥) .

قال ابن كثير: " والظاهر أنَّ هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات

____________

١ - مجلة المنار: ١٩/٩٧. راجع شيخ المضيرة: ص ١٥٠.

٢ - وأنا لا آمن!... راجع مجلة المنار: ٢٧/٣٤٢ وشيخ المضيرة.

٣ - تفسير سوة الإخلاص لابن تيمية: ص ١٦.

٤ - تفسير ابن كثير: ٣/٥٦٨.

٢١٣

المنكرة، فإن موسىعليه‌السلام أجل من أن يجَّوز على الله سبحانه وتعالى النوم، وقد أخبر الله(١) في كتابه العزيز بانه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض "(٢) .

لقد كان أبو هريرة يأخذ عن مخبرين ككعب وغيره وينسب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون ذكر لاسم الشخص الذي أخذ عنه، فهل يرضى الله أن نأخذ ديننا عن رواة يأخذون عمن هب ودب من اليهود والمنافقين؟ وإذا كانت أم المؤمنين كذبته في قوله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

" من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم " فكيف نأمن أن لا تكون أحاديث أبي هريرة كهذا؟

وإذا أخطأ في هذا الحديث فهو معرَّض لأن يخطئ في غيره.

فالحق أنَّ جعل الصحابة نقلة للسنة أمرٌ خطير، وأنا لا أريد أن آخذ ديني عن مجهول قد يكون يهوديا ماكرا أو منافقا خبيثا. فعلى علماء الحديث أن يبينوا لنا هؤلاء المخبرين الذين كان يأخذ عنهم أبو هريرة حتى نطمئن بأنهم ليسوا من اليهود أو المنافقين، ثم ننظر فإن لم يقدروا على ذلك فليرحموا أنفسهم بالبحث عن مرجعيّةٍ أفضل..

الصحابة يخطئون بالنقل

كان هناك قسم من الصحابة يغلطون بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا أمر خطير، فلربما نقلوا لنا الكثير من الروايات المغلوطة، ويتعبد بها الملايين، وهي ليست كما قال النبي، والأمثلة على ذلك كثيرة.

عن مطرف قال: " قال لي عمران بن حصين: أي مطرف، والله إن كنت لأرى أني لو شئت حدثت عن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومين متتابعين لا أعيد حديثا، ثم لقد زادني بُطأً عن ذلك وكراهية له، أنَّ رجلا من أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أو من بعض أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - شهدت كما شهدوا وسمعت كما سمعوا يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، ولقد علمت

____________

١ - تفسير ابن كثير: ٣/٥٦٨.

٢ – البداية والنهاية ١٠/١٥.

٢١٤

أنهم لا يألون عن الخير، فأخاف أن يشبه لي كما شبِّه لهم... "(١) .

هذه شهادة لصحابي كبير في أنَّ الصحابة كانوا يخطئون في نقل أحاديث النبي.

وقول عمران هذا يدخل علينا الشك في الأحاديث التي بين أيدينا. فلربما يكون بعضها عن هؤلاء الصحابة الذين كانوا يغلطون. إننا لو علمنا أسماءهم أو علمنا رواياتهم لربما يحل الإشكال بورود رواياتهم عن طريق آخر، ولكن للأسف لا نستطيع إحراز أسمائهم ولا رواياتهم.

فكيف يطمئن المسلم بجعل هؤلاء الصحابة همزة الوصل بينه وبين منبع تعاليم الإسلام؟! وكيف يطمئن بكل الأحاديث التي وصلت إلينا مما قد تكون من الأحاديث الخاطئة؟! وهل يمكن القول أنَّ الله(٢) - وهو الحريص على إيصال دينه الى عباده بصورة صحيحة - وضع لنا بعد نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرجعية تخطئ في النقل؟! لا أعتقد أن مسلما يقول ذلك.

قال زيد بن ثابت: " لعل كل شئ حدثتكم به ليس كما حدثتكم "(٣) !!!

إن زيدا يدعونا الى التشكيك في كل أحاديثه التي وصلت إلينا، فلا ندري كيف نأخذ بأحاديثه بعد هذا؟

إنني لا أستطيع أن آخذ ديني عن زيد بن ثابت بعد شهادته هذه على نفسه. كما أنَّ كل حديث مرسل يواجهنا سنفترض أنه مأخوذ عن زيد وسنشكك به لأنه قد لا يكون كما حدثهم به!!

وإنني أرى في قول زيد هذا أكبر عائق يقف أمامنا ويمنعنا عن جعل زيد والصحابة مراجعنا بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فإذا شك زيد في أحاديثه - وهو من علماء الصحابة - فهذا الشك وارد في حق الصحابة الآخرين ممن هم أقل حفظا وضبطا للحديث من زيد!!

____________

١ - مسند أحمد: ٥/٥٩٩، مجمع الزوائد: ١/١٤١، تأويل مختلف الحديث: ٤٠.

٢ - جامع بيان العلم: ١/٦٥، وذكره عجاج الخطيب في السنة قبل التدوين: ٣١٣ نقلا عن نفس المصدر.

٢١٥

وروي: أنه بلغ عائشة قول ابن عمر: " في القُبلةِ، الوضوء "، فقالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبل وهو صائمٌ، ثم لا يتوضأ "(١) .

هذا صحابي آخر يعتبر من المكثرين، له في كتب السنن ٢٦٣٠ حديثا وقد أخطأ في نقل حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعكس المعنى حتى أصلحت قوله أم المؤمنين. ولولاها لنقل إلينا هذا الحديث على صورته المقلوبة!!

فإذا كان ابن عمر يخطئ في الرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف نطمئن بالأخذ عنه؟

فربما روى أحاديث خاطئة كما فعل في الحديث السابق ووصلت إلينا رواياته على أنها من الإسلام! أليس هذا أمرا جائزا ومحتملا؟ فالأمثلة على ذلك كثيرة.

أخرج أحمد عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القليب يوم بدر قال: يافلان يافلان هل وجدتم ماوعدكم ربكم حقا أما والله إنهم الآن ليسمعون كلامي. قال يحيى: فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن إنه وَهمٌ إنما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم حقا(٢) ...

وأخرج أحمد عن عائشة أنه بلغها أنَّ ابن عمر يحدث عن أبيه عمر بن الخطاب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: " الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه ". فقالت: يرحم الله عمر وابن عمر فوالله ما هما بكاذبين(٣) ولا مكذبين ولا متزيِّدين، انما قال ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجل من اليهود ومر بأهله وهم يبكون عليه، فقال: " إنهم ليبكون عليه وان الله(٤) ليعذبه في قبره "(٥) .

____________

١ - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: الزركشي، ٩٧، ونقله عن الدارقطني.

٢ - مسند أحمد: ٤/٤٢٧.

٣ - حتى لو كانا غير كاذبين، فالله لايعتمد لنقل شريعته من يخطئ في نقل الحديث بالشكل الذي يغير المعنى الأصيل له كله.

٤ - ٦/٢٨١. سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي: ٤/١٨ - ١٩.

٢١٦

وفي " الانصاف " لشاه صاحب، فقضت عائشة بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه(١) .

لقد أخطأ ابن عمر في نقل حديث قليب بدر، وكذا أخطأ عمر بن الخطاب في نقل حديث " الميِّت يعذَّب ببكاء أهله " فمع أنَّ الحديث جاء في رجل من اليهود إلا أنَّ عمر حدَّث به على أنه من نصوص الإسلام، ونقله ابن عمر وحدث به عن أبيه إلى أن صححت له عائشة الحديث.

ألا ترى أن اعتماد هكذا مرجعية بعدالنبي فيه خطر على تعاليم الإسلام ونصوصه؟!

وهل يعقل أن يختار الله لتبليغ دينه من يقلب نصوصه رأسا على عقب - ولو بدون قصد؟!

من عقل ذلك فهو يتهم الله بأنه فرط في دينه، إذ رضي أن يجعل حملته قاصرين عن فهم النص وملابساته.

إنَّ هذه الإشكالات التي وقع فيها ابن عمر وأبوه تجعلنا نشك في أحاديث عمر وابنه، وإذا صححت لهم عائشة بعض أحاديثهم فلا نضمن أنها صححت لهم كل أحاديثهم. مع أنها هي أيضا عرضةٌ للخطأ والسهو فهي غير معصومة!

وقد يرد البعض علينا أمام هذه الإشكالات بقوله: إذا وردت أحاديث عمر وابنه من طرق أخرى فسيحل الإشكال. ويبدو أن هذا الحل غير مجد، فماذا نفعل بالأحاديث التي تفرد بها عمر وابنه؟! بل قل: وأحاديث بقية الصحابة التي تفرّدوا بها؟! فالذي وقع فيه عمر وابنه قد يقع فيه غيرهم.

أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: " إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم "(٢) .

" هذا الحديث مما استدركت به عائشة على ابن عمر وكانت تقول: غلط ابن

____________

١ - الغدير: ١٠/٤٣.

٢ - كتاب الأذان، باب أذان الأعمى اذا كان له من يخبره.

٢١٧

عمر، وصحيحه أنَّ ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال "(١) .

وروي أن ابن عمر " كان يقول: اعتمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرة في رجب، فسمعت بذلك عائشة فقضت عليه بالسهو "(٢) !!

وأخرج أحمد: قال عبد الله بن عمر: " قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشهر تسعة وعشرون، وصفق بيديه مرتين، ثم صفق الثالثة وقبض إبهامه. فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن انه وهمٌ، إنما هجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه شهرا فنزل لتسعة وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك نزلت لتسعة وعشرين فقال: إنَّ الشهر يكون تسعة وعشرين "(٣) .

وهكذا لو لم تصحِّح عائشة هذا الحديث لابن عمر لحلت مشكلة الهلال في رمضان، ولكان العيد بعد اليوم التاسع والعشرين مباشرة ولصمنا تسعة وعشرين يوما لا نزيد عليها وان لم ير هلال رمضان كما كان يفعل ابن عمر(٤) .

إن هناك الكثير من الأحاديث التي لم تصححها عائشة لابن عمر، فماذا نفعل بها، ألا يحتمل فيها الخطأ كما حصل عنده في أحاديثه السابقة؟!

أعتقد أنَّ طريق الخلاص من هذه المشكلة واضحٌ للعيان، وهو اتباع المرجعية التي جعلها الله لنا بعد نبيه وهي ليست مرجعية الصحابة.

عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية وفدٌ من قريش، فقام معاوية فحمد الله، ثم قال: " بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث

____________

١ - الغدير: ١٠/٤٤. قال الأميني: " وبهذا جزم الوليد، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زادان عن خبب بن عبد الرحمن ". وراجع الإجابة: ٩٧ و ٩٨.

٢ - جمع الفوائد: ١/٣٤٥ - ٣٤٦.

٣ - المسند: ٢/٣١، وانظر الإجابة للزركشي: ص ٩٨.

٤ - راجع مسند أحمد: ٢/١٣.

٢١٨

ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله فأولئك جهالكم "(١) .

إذا كانت هذه الأحاديث التي يروونها لا تؤثر عن رسول الله، فمن يضمن لنا أن لا تكون قد وصلت إلينا؟!

فالأحرى بكل مسلم عاقل أن يترك مرجعية الصحابة التي تخطئ في نقل السنن وأن يبحث معنا عن المرجعية التي وضعتها السماء لحفظ الإسلام وإسعاد البشرية.

صحابة مشكوك في روايتهم

روي عن أبي حنيفة أنَّه قال: " أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأي إلا ثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة. فقيل له في ذلك. فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره. وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة، فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ "(٢) .

هذا أنس قد خلط في آخر عمره وأفتى من عقله بشهادة أبي حنيفة الذي أدركه وسمع منه، فهل يستطيع أحدٌ أن يميز لنا الأحاديث التي رواها أنس قبل أن يخلط عن تلك التي رواها بعد أن خلط؟!! فلربما وصل إلينا عنه بعض من أحاديثه التي قالها بعد أن خلط ونقلها الرواة على أنها صحيحة، أليس هذا أمرا محتملا؟ فكل حديث رواه أنس، ليس له طريق آخر ينبغي لنا التوقف عنده لأنه قد يكون من عقله. وليس هذا فحسب، بل إن الأحاديث المرسلة - وهي التي كان يأخذها الصحابة عن بعضهم البعض وينسبوها للنبي دون ذكر لاسم الصحابي الذي أخذوا عنه - هذه الأحاديث المرسلة وما أكثرها نحتمل في كل حديث يواجهنا منها على أنه قد يكون مأخوذا عن أنس!!

____________

١ - ذكره ابن حزم في ملخص ابطال القياس، وراجع صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب قريش.

٢ - مرآة الاصول شرح مرقاة الوصول، محمد بن فراموز المعروف بملا خسرو الحنفي (ت/٨٨٥ هـ‍) وهو مخطوط، راجع شيخ المضيرة: ص ١٤٦، وذكر ذلك أبو شامة الشافعي في مختصر المؤمل: ص ٣١ و ٣٢.

٢١٩

وبعد هذا، هل يجيز المسلم لنفسه الاعتماد على هكذا رواة؟ وهل حدث في منطق الرسالات الإلهية أن بعث الله سفيرا قد اختلط عقله؟! فالحق أنَّ المسلم الغيور على دينه لا يلج من هذا الباب بحثا عن الإسلام!

وروي أن الشافعي " أسر إلى الربيع أن لاتقبل شهادة أربعة من الصحابة، وهم:

معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد "(١) !!

أما الصحابة المشكوك في الثقة برواياتهم فهم كُثر، ونكتفي هنا بواحد وهو أبو هريرة. وقد أنكر عليه السلف رواياته وشكّوا في صحتها. قال له عمر: " لتتركن الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لالحقنك بأرض دوس "(٢) وقال له بعد أن ضربه بالدرة: " أكثرت يا أبا هريرة، وأحرى بك أن تكون كاذبا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم "(٣) .

وأرسل عثمان يقول لأبي هريرة: " لقد أكثرت، لتنتهين أو لألحقنك بجبال دوس "(٤) .

وقال عليعليه‌السلام فيه: " ألا اكذب الناس على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو هريرة الدوسي "(٥) وكان أبو هريرة يقول: " حدثني خليلي، ورأيت خليلي، وقال لي خليلي رسول الله، فبلغ عليا ذلك فقال له: متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة؟! قال ابن قتيبة:

" وكان - عليٌّ - سئ الرأي فيه "(٦) .

وقال: خالفت عائشة أبا هريرة وأنكرت عليه في أكثر من موضع. ففي حديث مَن أصبح جنبا،كذَّبته عائشة وكذا أم سلمة ورجع أبو هريرة إلى قولهما. وروى أبو هريرة

____________

١ - تاريخ الطبري، ابن الأثير، ابن عساكر: ٢/٣٧٩، راجع شيخ المضيرة: ص ١٨٥.

٢ - أخرجه ابن عساكر: ٥/٢٣٩ حديث رقم ٤٨٨٥ من كنز العمال، البداية والنهاية: ٤/١٠٦، سير أعلام النبلاء: ٢/٦٠٠.

٣ - رواه الإسكافي، راجع " أبو هريرة "، شرف الدين: ص ١٩٥.

٤ - المحدث الفاصل، الرامهرمزي: ص ٥٥٤.

٥ - رواه أبو جعفر الإسكافي راجع أبو هريرة، شرف الدين: ص ١٩٥.

٦ - تأويل مختلف الحديث: ٤١، ولم ينكر ابن قتيبة كلام علي في أبي هريرة!

٢٢٠