طرف من الأنباء والمناقب

طرف من الأنباء والمناقب9%

طرف من الأنباء والمناقب مؤلف:
المحقق: الشيخ قيس العطّار
الناشر: انتشارات تاسوعاء
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 653

طرف من الأنباء والمناقب
  • البداية
  • السابق
  • 653 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 210721 / تحميل: 6561
الحجم الحجم الحجم
طرف من الأنباء والمناقب

طرف من الأنباء والمناقب

مؤلف:
الناشر: انتشارات تاسوعاء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الثالث : الإمام الصادق في ظل جدّه وأبيهعليهم‌السلام

ملامح عصر الإمام زين العابدين ومواقفه

لقد واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد استشهاد أبيه الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ التعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعاطفاً كان يفتقد الوعي ويقتصر على الشعور الإيجابي بالولاء مع خلوّه عن الموقف العملي الجادّ .

٢ ـ ثورات انتقاميّة كانت تتحرّك نحو هدف محدود ، وثورات نفعية مصلحيّة ، ونشوء حركات منافقة ، وظهور وعّاظ السلاطين لإسباغ الشرعية على السلطة القائمة .

٣ ـ بروز ظاهرة الشعور بالإثم عند الأمة بسبب ما ارتكبته من خذلان لأبيه الحسين السبطعليه‌السلام لكن هذا الشعور كما هو معروف كان بلا ترشيد واضح ، والعقليات المدبّرة للثورة على الوضع القائم كانت تفكر بالثأر فحسب وهنا خطط الإمام زين العابدينعليه‌السلام لعمله على مرحلتين أو خطوتين :

الخطوة الأولى : تناول الإمامعليه‌السلام ظاهرة الشعور بالإثم وعمل على ترشيدها بعد أن عمّقها بشكل متواصل عبر تذكيره الأمة بمأساة كربلاء والمظالم التي لحقت بآل البيتعليهم‌السلام وقد استغرق هذا التذكير زمناً طويلاً ،

٤١

حيث حاول إعطاء ظاهرة الشعور بالإثم بُعداً فكرياً صحيحاً ليجعل منه أداة دفع وتأثير في عملية البناء والتغيير .

وبعد أن تراكم هذا الشعور شكّل في نهاية الأمر خزيناً داخلياً كانت لا تقوى الأمة أن تصبر عليه طويلاً ، وأصبح الإلحاح على مخرج تعبّر به الأمّة عن ألمها أمراً جدّياً ، حتَّى حدثت الثورة الكبرى وطبيعي أنّ هذا الجو المشحون الذي كان ينبئ بالثورة والإطاحة بالأمويين جعلهم يشددّون الرقابة على الإمام زين العابدينعليه‌السلام باعتباره الرأس المدبّر لهذه المطالبة ولكونه الوريث الشرعي للخلافة بعد أبيه الحسينعليه‌السلام ومن هنا كانت الحكومة الأموية تفسّر أيّ حركة تصدر من الإمامعليه‌السلام على أنّها تمهيد للثورة .

الخطوة الثانية : توزّع نشاط الإمامعليه‌السلام في هذه الخطوة على عدّة اتّجاهات .

الاتجاه الأوّل : قام الإمامعليه‌السلام ببلورة العواطف الهائجة وحاول أن يدفعها باتّجاه الفكر الصحيح ويضع لها الأسس العقائديّة ويجعل منها مقدمة لعملية التغيير التي ينشدها الإمامعليه‌السلام ، وقد تمثّلت في إيجاد الفكر الإسلامي الصحيح الذي طالما تعرّض للتشويه والتحريف ثم إعداد الطليعة الواعية التي تشعر بالمسؤولية وتكون أهلاً لحمل الأمانة الإلهيّة .

الاتّجاه الثاني : تحرّك الإمام زين العابدينعليه‌السلام انطلاقاً من مسؤوليته في حماية الإسلام وبقائه كشريعة دون تحريف وتشويه لمحتواه ضمن عدة نشاطات :

١ ـ النشاط الأول : واجه الإمامعليه‌السلام الحركات الانحرافية والفرق الضالّة والمغالية التي كانت تستهدف الفكر الإسلامي وتعتمد الإسرائيليات والنظريات الهندية واليونانية حول الكون والحياة في فهم القرآن والحديث

٤٢

الشريف ، وقام بنشر مختلف العلوم والفنون وتبيان الصيغة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي كان قد أصابها الفساد ، كما يتّضح ذلك بجلاء في رسالته المعروفة برسالة الحقوق ، كما ساهم في حل المشاكل التي كانت تهدّد كرامة الدولة الإسلامية كما يلاحظ ذلك جليّاً فيما حدث في جوابه على رسالة ملك الروم حين هدّد الخليفة بالحصار الاقتصادي(١) .

النشاط الثاني : إنّ الأمويين كانوا قد ضيّقوا على حركة الإمامعليه‌السلام ونشاطه مع الأمة إلاَّ أنّ الإمامعليه‌السلام استخدم الدعاء سلاحاً للارتباط الفكري والمعنوي بها ، وحيث إنّ هذا السلاح لم يستهدف الأمويين مباشرة ، توفّر للإمامعليه‌السلام مجالٌ أوسع لمعالجة الظواهر المرضية والانحرافات الأخلاقية .

الاتّجاه الثالث : التأكيد على أهمية العمل الثوري ومكافحة الظلم والانحراف ، وإيقاد روح الجهاد التي كانت خمدت في الأمة عبر سنوات الانحراف ، كما يتجلّى ذلك في دعائه للمختار الذي طالب بثأر الحسين وكان على اتصال دائم بالإمامعليه‌السلام أثناء ثورته من خلال عمّه محمد ابن الحنفيّة .

الاتّجاه الرابع : لم يكن موقف الإمامعليه‌السلام من الحكّام موقف المواجهة والتحدّي المباشر ; إذ لو كان قد فعل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ؛ ذلك لما كان يستطيع أن يحقق ما حققه من مكاسب في الأمة في مجال التربية ، ولما توفّرت أجواء سليمة وفرص واسعة لنشاط الإمام الباقرعليه‌السلام من بعده وللجماعة الصالحة التي ربّاها .

لكن هذا لا يعني أن الإمامعليه‌السلام لم يوضح رأيه في الحكومة فلم يترك

ـــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٩/١٢٢ .

٤٣

الأمر ملتبساً على شيعته ، بل كانت للإمام زين العابدينعليه‌السلام مواقف مع الحكّام سوف نشير إلى بعض منها ، وكان هدفه منها إعطاء خطّ في التربية والتغيير حفاظاً على الشيعة من الضياع ; إذ لم تكن الجماعة الصالحة على سبيل المواجهة ولكنها كانت كافية في التحصين في تلك المرحلة على مستوى التربية والإعداد وتأسيساً لمستقبل سياسي أفضل .

ونستطيع أن نلاحظ موقف الإمامعليه‌السلام مع السلطة من خلال رسالته الجوابية إلى عبد الملك حين لامَ عبد الملك الإمامعليه‌السلام على زواجه بأمته التي كان قد أعتقها .

إنّ ردّ الإمامعليه‌السلام على عبد الملك كان يتضمّن تحدّياً للخليفة الذي كان يفكرّ بعقلية جاهلية ; فإنّ الإمامعليه‌السلام وضّح فيها الموقف الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات التي وضعتها الجاهلية بقولهعليه‌السلام :( فلا لؤم على امرئ مسلم إنَّما اللؤمُ لؤم الجاهلية ) .

يظهر هذا التحدّي ممَّا جاء في مصادر التأريخ من أن الخليفة الأموي بعد أن قرأها هو وابنه سليمان ، قال الابن : يا أمير المؤمنين لَشدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين !! فردّ الخليفة على ابنه قائلاً : ( يا بنيّ لا تَقل ذلك فإنّها ألسن بني هاشم التي تَفلق الصخر وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(١) .

وفي هذا الجواب إشارة إلى أنّ المواجهة مع الإمام من قبل الخليفة لا تخدم سلطان بني أمية .

ومن مواقف الإمام زين العابدينعليه‌السلام تجاه السلطة أيضاً موقفه من

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦/١٦٥ ، والعقد الفريد : ٧/١٢١ .

٤٤

الزهري ذلك المحدث الذي كان مرتبطاً بالبلاط الأموي ـ فقَد أرسل إليه الإمامعليه‌السلام رسالة قَرعه فيها على شنيع فعله(١) ، وان كان قد علم الإمام بأنّه غارق إلى هامته في موائد السلطان ولهوه ، إلاَّ أنّها رسالة للأجيال .

ومن الأحاديث التي وضعها هذا الرجل دعماً لسياسة بني أمية حينما منعوا حج بيت الله الحرام لمّا كان ابن الزبير مسيطراً على الحرمين الشريفين ما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .

ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

استشهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام سنة ( ٩٥ هـ ) في أيام حكم الوليد ابن عبد الملك وتوّلى الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام مسؤولية الإمامة بوصية من أبيه حيث أعلن عن إمامته أمام سائر أبنائه وعشيرته حين سلّمه صندوقاً فيه سلاح رسول اللهعليه‌السلام وقال له :( يا محمَّد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ، ثم قالعليه‌السلام :أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه مملوءٌ علم ) (٢) .

إذن فهو صندوق يرمز لمسؤولية القيادة الفكرية والعلمية كما أنّ السلاح يرمز لمسؤولية القيادة الثورية .

وبالرغم من توالي الثورات التي تلت واقعة الطف والتي كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد عاصرها جميعاً مع أبيهعليه‌السلام بقي موقف الأعمّ الأغلب من الناس الاستجابة لمنطق السيف الأموي إلى جانب القسم الآخر الذي آمن بأنّ الحكّام الأمويين يمثّلون الخلافة الإسلامية .

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ .

(٢) بصائر الدرجات ٤/٤٤ و٤٨ ، وأصول الكافي ١/٣٠٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦/٢٢٩ .

٤٥

كما أنّه عاصر عمليات الهدم الفكري والتحريف والمسخ الثقافي الذي مارسه الأمويون بحق الرسالة والقيم الإسلامية .

وعند مجيء سليمان بن عبد الملك إلى الحكم بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ( ٩٦ هـ ) أصدر قرارات جديدة استراحت الأمة بسببها قليلاً حيث أمر بالتَنكيل ( بآل ) الحجاج بن يوسف الثقفي وطرد كلّ عمّاله وولاته(١) كما أطلق سراح المسجونين في سجون الحجّاج(٢) .

وفي سنة ( ٩٩ هـ ) تقلّد الحكم الأموي عمر بن عبد العزيز فازدادت الحريّات في مدّة خلافته القصيرة ، كما يراه بعض المؤرّخين ، كما أنّه عالج مشكلة الخراج التي قال عنها بأنّها سنّة خبيثة سنّها عمّال السوء(٣) .

وعامل العلويين معاملة خالف فيها أسلافه فقد جاء في كتابه لعامله على المدينة : ( فأقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم )(٤) ورَدَّ فدكاً ـ التي كان قد صادرها الخليفة الأوّل ـ على الإمام الباقرعليه‌السلام (٥) ورفع سبّ الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان قد سنّه معاوية(٦) .

أمّا الناحية الفكرية : فتبعاً للتغيّرات السياسية نلمس تطوّراً في الجانب الفكري أيضاً ؛ فقد برزت في هذا الظرف تيارات فكريّة جديدة واتجّه الناس

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل ، ابن الأثير : ٤/١٣٨ .

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٤/٨٠ .

(٣) الكامل : ٥/٢٩ وتاريخ الطبري : ٨/١٣٩ .

(٤) مروج الذهب : ٣/١٩٤ .

(٥) الكامل : ٤/١٦٤ والمناقب : ٤/٢٠٧ وسفينة البحار : ٢/٣٧٢ .

(٦) انظر الفكر السامي ١/٢٧٦ عن صحيح مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٣ و٢٣٠ و٢٣٥ و٣٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ٥/٩٨ تاريخ الخميس : ٢/٣١٧ .

٤٦

للبحث والدرس وتلقّي المعرفة الإسلامية ورفع المنع الحكومي عن تدوين الحديث النبوي وبدأت تتميّز مدرسة أهل الحديث عن مدرسة أهل الرأي ومال الموالي من غير العرب إلى مدرسة أهل الرأي في الكوفة ، وتزعّم أبو حنيفة هذه المدرسة في حينها ضد مدرسة أهل الحديث في المدينة(١) .

وكنتيجة طبيعية للإخفاق الذي سجّلته الحركات الفكرية ، ظهرت فكرة الاعتزال التي نادى بها ( واصل بن عطاء ) في البصرة عندما اعتزل حلقة درس أستاذه ( الحسن البصري ) وهي تعتبر تعديلاً لفكرة الخوارج التي لم تلقَ رواجاً حينما قالت بكفر مرتكب الكبيرة(٢) ، والمرجئة التي قالت بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية(٣) فقال واصل ( مؤسس اتّجاه الاعتزال والمتوفى في ١٣١هـ ) : إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق بل هو في منزلة بين منزلتين أي إنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر لكنّه فاسق والفاسق يستحق النار بفسقه(٤) .

هذه صورة مجملة عن الواقع الذي عايشه الإمام الصادقعليه‌السلام خلال مرحلة قيادة أبيه الباقرعليه‌السلام .

متطلّبات عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

ونلخّص دور الإمام الباقرعليه‌السلام في ثلاثة خطوط أساسية :

الخط السياسي ، وإكمال بناء الجماعة الصالحة ، وتأسيس جامعة أهل البيتعليه‌السلام العلمية .

ـــــــــــــــــ

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين : ٢/١٧٨ .

(٢) الملل والنحل : ١/١٥٨ .

(٣) تاج العروس ، مادة رجأ .

(٤) الأغاني : ٧ / ١٥ .

٤٧

١ ـ الخط السياسي للإمام الباقر عليه‌السلام

لقد كان الخيار السياسي للإمام الباقرعليه‌السلام في فترة تصدّيه للإمامة هو الابتعاد عن الصدام والمواجهة مع الأمويين وهذا واضح من خلال تصريحه الذي تضمّن بياناً للجوّ السائد وحالة الأمة ومستوى وعيها آنذاك :( إنْ دَعَوْناهم لم يستجيبوا لنا ) (١) .

كما نجده فيما بعد يستوعب سياسة الانفتاح والاعتدال التي أبداها عمر ابن عبد العزيز ، سواء كان هذا الاعتدال بدافع ذاتي لعلاقته بالإمامعليه‌السلام ، أم بدافع الضغوط الخارجيّة وخوفه من انهيار الدولة الأموية .

إنّ الإمام قد رسم خطّه السياسي في هذه المرحلة بأسلوبين :

الأسلوب الأول : تصريح الإمامعليه‌السلام برأيه حول عمر بن عبد العزيز وحكومته قبل تصدّي عمر للخلافة فعن أبي بصير ، قال : كنت مع أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في المسجد ودخل عمر بن عبد العزيز وعليه ثوبان ممصّران متكئاً على مولى له فقالعليه‌السلام :( لَيَلِيَنَّ هذا الغلام [ أي سوف يتولّى السُلطة ]فيظهر العدل ) (٢) .

ولكن الإمامعليه‌السلام قدح في ولايته باعتبار وجود مَن هو أولى منه .

الأسلوب الثاني : أسلوب المراسلة واللقاء فقد روي أنّ عمر بن

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد : ٢٨٤ .

(٢) سفينة البحار : ٢/١٢٧ .

٤٨

عبد العزيز كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وقد أرسل خلفه فنون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عُبّاد أهل الكوفة فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً واحتفى به وجَرَت بينهما أحاديث وبقي الإمام أيّاماً في ضيافته(١) .

ومن المراسلات ما جاء أنّه : كتب عمر للإمامعليه‌السلام بقصد الاختبار فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له(٢) ، ولكن سياسة الابتعاد عن الصدام المباشر لم تمنع الإمام الباقرعليه‌السلام من أن يقف من الأمة بشكل عام ومن الأمويين وهشام بن عبد الملك بشكل خاص موقف التحدّي الفكري والعقائدي والعلمي لبيان الحق المغتصب وكشف ستار الباطل الذي كان قد أسدله الحكّام على الحق ورموزه .

وحين حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام وابنه جعفر ، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام في بعض كلامه :( الحمد لله الذي بعث محمّداً نبيّاً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده فالسعيد مَن اتّبعنا والشقيّ مَن خالفَنَا ، ومن الناس مَن يقول : إنّه يتولاَّنا وهو يتولّى أعدائنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به ) (٣) .

فبيّنعليه‌السلام مفهوم القيادة الإلهية ومصداقها الحقيقي الذي يمثّلها آنئذ .

وهذا الطرح وان كان فيه نوع مجابهة صريحة للحاكم وما يدور في

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ٥١/٣٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٥ .

(٣) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٤٦/٣٠٦ .

٤٩

أذهان الناس لكنّه لم يكن مغامرة ; لأنّ الظرف كان بحاجة إلى مثل هذا الطرح والتوضيح ، بالرغم من أنّه قد أدّى إلى أن يستدعي هشام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام فيما بعد .

٢ ـ إكمال بناء الجماعة الصالحة

لم تكن عملية بناء الجماعة الصالحة وليدة عصر الإمام الباقرعليه‌السلام فقد باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لإمام عليعليه‌السلام ، حيث نجد لأشخاص أمثال مالك الأشتر وهاشم المرقال ، ومحمد بن أبي بكر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، وكميل بن زياد ، وعبد الله بن العباس ، دوراً كبيراً في الصراع الذي خاضه الإمام عليعليه‌السلام مع مناوئيه .

واستمرت عملية البناء بشكل فاعل في عصر الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم تقلّص النشاط المباشر في بناء هذه القاعدة وتوسيعها ، ثم استمرّت عملية البناء في العقود الأخيرة من حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتكاملت في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام حيث سنحت الفرصة له بأن يتحرك نحو تطوير الجماعة الصالحة بتوضيح أهدافها التي تمثّلت في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية من التحريف إلى جانب توسيع القاعدة كمّاً مع تطويرها كيفاً .

ونقتصر فيما يلي على بعض ما قام به الإمام الباقرعليه‌السلام من خطوات :

الخطوة الأولى : أخذ الإمامعليه‌السلام يعمّق ويوضّح صفات الجماعة الصالحة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام ودورها في المجتمع ، فقد جاء في وصفه لهذه الجماعة قولهعليه‌السلام :( إنّما شيعتنا ـ شيعة علي ـالمتباذلون في ولايتنا المتحابّون في

٥٠

مودّتنا ، المتزاورون لإحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على مَنْ جاوروا ، سلم لمَن خالطوا ) (١) ، وقال أيضاً :( شيعتنا من أطاع الله ) (٢) .

وبهذا أراد الإمامعليه‌السلام أن يرسّخ الكمالات الإنسانية في جانبي الأخلاق والعبادة التي تعرّضت للضياع طيلة سنوات المحنة ، ويوضّح أن الانتماء لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام هو بالعمل والتحلّي بهذه الصفات .

الخطوة الثانية : قام الإمامعليه‌السلام ـ بالإضافة إلى توضيح مستوى الروح الإيمانية التي ينبغي أن يتَمتّع بها أفراد الجماعة الصالحة ـ بشحذِ هممها وتربيتها على روح الصبر والمقاومة لكي تمتلك القدرة على مواصلة العمل في سبيل الله ومواجهة التحدّيات المستمرّة وعدم التنازل أمام الإغراءات أو الضغوط الظالمة ، فقد جاء في كلامهعليه‌السلام لرجل حين قال له : والله إنّي لأحبّكم أهل البيت فقالعليه‌السلام :( فاتّخذ للبلاء ، جلباباً ، فو الله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم ) (٣) .

هكذا رسم الإمامعليه‌السلام معالم الطريق الشائك أمامه ، إنّه طريق مفروش بالدماء والدموع ، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أوّلاً قبل أن يصيب شيعتَه .

وقد كان الإمامعليه‌السلام يذكّرهم بمعاناة الشيعة قبل هذا الظرف بقولهعليه‌السلام :( قتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ونُهب مالُه وهُدِمَت داره ) (٤) .

ومن الأعمال التي قام بها الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة هو إلزام

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦/٣٦٠ ، وأمالي الشيخ الطوسي : ٩٥ .

(٤) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام دراسة وتحليل : ٢/٢٥٧ .

٥١

أتباعه وخاصّته بمبدأ التقية ؛ حفاظاً عليهم من القمع والإرهاب والإبادة التي طالما تعرّضوا لها وقد اعتبر هذا المبدأ من الواجبات الشرعية ذات العلاقة بالإيمان ، فكان يوصيِهم بالتقية قائلاً :( التقيّة ديني ودين آبائي ، ومَن لا إيمان له لا تقيّة له ) (١) .

ومن المبادئ التي تتداخل مع التقيّة : كتمان السرّ ، فقد جاء عنهعليه‌السلام في وصيّته لجابر بن يزيد الجعفي في أوّل لقاء له بالإمامعليه‌السلام : أن لا يقول لأحد أنّه من أهالي الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة وجابر الجعفي هذا قد أصبح فيما بعد صاحب سرّ الإمامعليه‌السلام ، ولشدّة فاعليّته وتأثيره في الأمة أمر هشام بن عبد الملك واليه في الكوفة بأن يأتيه برأس جابر ، لكنّ جابراً قد تظاهر بالجنون قبل أن يصدر الأمر بقتله حسب إرشادات الإمام الباقرعليه‌السلام التي كانت تصله سرّاً ، فقد جاء في كتاب هشام إلى واليه : أن أُنظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .

فالتفت إلى جلسائه فقال لهم : مَن جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : أصلحك الله ، كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم .

قال : فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله(٢) .

وكان في هذه المرحلة رجال كتموا تشيّعهم وما رسوا نشاطات مؤثرة في حياة الأمة فكرية وعسكرية وفقهية مع الاحتفاظ بعلاقاتهم ، فمن فقهاء الشيعة : سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد ، فقد كانا بارزين بين علماء ذلك العصر

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢/١٧٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٦/٢٨٢ ، والكافي : ١/٣٩٦ .

٥٢

في الفقه وغيره إلاَّ أنّه لم تكن لهم صبغة التشيّع الصريح ، فقد شاع عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يجيب أحياناً برأي غيره من علماء عصره أو برأي مَن سبقه من الصحابة ؛ مخافة أن يصيبه ما أصاب سعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل وغيرهما ممّن تعرّضوا للقتل والتشريد بسبب تشيّعهم .

وهذا موسى بن نصير من رجالات الكوفة العسكريين وزهّادها المؤمنين ممّن عرف بولائه لأهل البيتعليهم‌السلام هو وأبوه نصير ، ولقد غضب عليه معاوية إذ لم يخرج معه لصفِّين ، وموسى هو الذي فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وكان تحت إمرته مولاه طارق بن زياد وولده عبد العزيز وبسبب تشيّعه غضب عليه سليمان بن عبد الملك وقبل أن يقتله عرّضه لأنواع العذاب فقتل ولده أمامه وألزمه بدفع مبلغ كبير(١) .

وكان لجابر الجعفي وزرارة وأبان بن تغلب وغيرهم دور بالغ في نجاح حركة الإمام الفكريّة ، وأصبحوا ـ فيما بعد ـ النواة لجامعته ، وبقي هؤلاء بعد وفاة الإمام الباقرعليه‌السلام بصحبة ولده الصادقعليه‌السلام ليمارسوا مسؤولياتهم بحجم أكبر كما سيأتي توضيحه .

٣ ـ تأسيس جامعة أهل البيت عليهم‌السلام

جاءت فكرة زرع البذرة الفكرية وتشكيل النواة الأولى لجامعة علمية إسلامية في هذهِ المرحلة كضرورة حضارية لمواجهة التحدّي الحاضر ونسف البنى الفكرية لكل الأطروحات السابقة التي وجدت من ظروف المحنة مناخاً مناسباً لبثّ أفكارها .

كما تأتي ضرورة وجود تيّار فكري يبلور الأفكار الإسلامية الأصيلة

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٢٩٤ .

٥٣

ويعبّئ بها ذهن الأمة ويفوّت الفرصة على الظالمين في حالة تبدّل الظروف .

ويمكن تلخيص الأسباب التي شكّلت عاملاً مهمّاً في التهيئة لنجاح هذه الجامعة فيما يلي :

١ ـ لقد عُزلت الأمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواص في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية .

٢ ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الأمة لها حلاًّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين .

٣ ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم ; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة ، بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة .

٤ ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس والاستحسان ، زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة(١) لا تفي بالغرض ، الأمر الذي تسرّب فيه العنصر الذاتي للمجتهد ودخل الإنسان بذوقه الخاص إلى التشريع(٢) ، كما ظهرت مدرسة الحديث قِبال

ـــــــــــــــــ

(١) هذا في غير مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الذين حرصوا على نقل تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجهوا منع تدوين السنّة النبوية بالحث على التدوين والنقل والتعليم ؛ لئلاَّ تندرس معالم الدين .

(٢) فقد عرف حسن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول الفقهية سوى سبعة حشر حديثاً راجع مقدمة ابن خلدون : ٣٧٢ .

٥٤

مدرسة الرأي والتي عرفت بالجمود على ظاهر النص ولم تتفرّغ لتمييز صحيح النصوص من غيره .

٥ ـ غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكّل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الأمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

في هذا الظرف الذي ذهب فيه الخوف واستطاع المسلم أن يبحث عن المعرفة وعن حل لمشكلاته الفكرية ، قام الإمام الباقرعليه‌السلام بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فكان وجودهعليه‌السلام مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملاً أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الأمة المسلمة وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادقعليه‌السلام المرتقب ، فتناول الإمامعليه‌السلام أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية .

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الأمة بعد أن عبّأه بكل المؤهّلات التي تمكّنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب :( اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك ) (١) .

وعندما يدرك الأصحاب مغزى هدف الإمام من هذا التوجيه وضرورة الحضور مع الناس ؛ يتصدّى هؤلاء بأنفسهم لمعالجة المشكلات الفكرية وإبطال الشبه عن طريق الحوار والمناظرة حسب الخط الذي رسمه لهم الإمامعليه‌السلام في وقت سابق .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي ٢/٦٢٢ ، ح ٦٠٣ .

٥٥

قال عبد الرحمن بن الحجاج : كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له : يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأدرك أبان مراده فانبرى قائلاً : كأنّك تريد أن تعرف عليّاً بمَن تبعه من أصحاب رسول الله ؟ فقال هو ذاك .

فأجابه أبان : والله ما عرفنا فضلهم ـ أي الصحابة ـ إلاَّ باتّباعهم إيّاه .

وتعميقاً لهذا التوجيه وبنفس السياق يبادر محبوب أهل البيت ولسانهم مؤمن الطاق ليواجه أفكار حركة الخوارج ويردّ على جرأتها في التشكيك بموقف الإمام عليعليه‌السلام من مسألة التحكيم(١) .

يدخل مؤمن الطاق على بعض زعماء الخوارج في الكوفة فيقول له : أنا على بصيرة من ديني وقد سمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معك ، فيقول الخارجي لأصحابه إن دخل هذا معكم نفعكم.

فيقول له مؤمن الطاق : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله ؟

يجيبه الخارجي : لأنّه حكّم الرجال في دين الله .

فيقول له : وكلَّ من حكّم في دين الله استحللتم قتله ؟

فيجيب الخارجي : نعم .

فيقول له : أخبرني عن الدين الذي جئت أُنظارك به لأدخل معك فيه ، إن غَلَبَتْ حجّتي حجّتك ، من يوقِفُ المخطئ منّا عن خطئه ويحكم للمصيب بصوابه ؟

فيشير الضحّاك إلى رجل من أصحابه ويقول : هذا هو الحكم بيننا .

ـــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث : ١/٢١ ـ ٢٢ وتنقيح المقال : ١/٤ .

٥٦

هنا يتوجّه مؤمن الطاق إلى مَن كان حاضراً من الخوارج ويقول : زعيمكم هذا قد حكّم في دين الله(١) وهكذا يفحمهم بحجّته البالغة ومنطقه القويم .

وقبل أن ننتهي من حياة الإمامعليه‌السلام نشير إلى ثلاث وقائع تاريخية لها صلة بالمرحلة التي سوف يتصدّى لها الإمام الصادقعليه‌السلام .

الواقعة الأولى : إنّ هشام بن عبد الملك هو واحد من الحكّام الأمويين الَّذين نصبوا العداوة لأهل البيت ، بل نراه قد زاد على غيره حتَّى أنّه على أثر الخطبة التي خطبها الإمام الصادقعليه‌السلام في مكة والتي أوضح فيها معنى القيادة ولمَن تكون القيادة ، يأمر هشام فور رجوعه إلى الشام بجلب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى دمشق لغرض التنكيل بهما .

وبعد اللقاء بهشام تفوّق الإمام الباقرعليه‌السلام في البلاط الأموي في الحوار الذي أجراه مع هشام ثم حواره مع عالم النصارى في الشام ، يسمح لهما هشام بالرجوع إلى المدينة ولكنّه يأمر أمير ( مدين ) ـ وهي المدينة الواقعة في طريقهما ـ بإيذائهما فقد جاء في رسالته : إنّ ابن أبي تراب الساحر محمّد بن علي وابنه جعفر الكذابين فيما يظهران من الإسلام ، قد وردا عليّ فلمّا صرفتهما إلى يوم الدين مالا إلى القسسين والرهبان ، وتقربّا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال لقربهما ، فإذا مرّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس : برئت الذمّة ممّن باعهما وشاراهما وصافحهما وسلّم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابّهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام(٢) .

ولم يترك هشام الإمام الباقرعليه‌السلام حُرّاً يتحرّك في المدينة ، ولم يسترح

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/ ٧٢ .

(٢) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ وبحار الأنوار : ٤٦ ـ ٣٠٦ .

٥٧

من تواجده في الساحة الإسلامية حتَّى أقدم على قتله غيلةً بالسمّ سنة (١١٤هـ)(١) .

الواقعة الثانية : في هذهِ الفترة تحفّز زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وصمّم على الثورة ضد هشام بن عبد الملك على أثر تصرّفات الأمويين ، ولا سيّما تصرّف هشام المهين بحق زيد ، والنيل من كرامته ، وما كان يفعله هشام بحق الشيعة بشكل خاص .

لقد دخل زيد على هشام فسلّم عليه بالإمرة فلم يردّ السلام إهانةً له ، بل أغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس .

فقال زيد : السلام عليك يا أحول ، فإنّك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم فغضب هشام وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل ، وخرج زيد وهو يقول : ما كره قومٌ حرّ السيوف إلاَّ ذلّوا .

وأمر هشام بردّه وقال له : اُذكر حوائجك ، فقال زيد : أما وأنت ناظر على أمور المسلمين فلا وخرج من عنده وقال : مَن أحبّ الحياة ذلّ(٢) .

ومضى زيد إلى الكوفة ثمّ خطّط للثورة واستشار بذلك الإمام الباقرعليه‌السلام .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :إنّ عمّي أتى أبي فقال إنّي أريد الخروج على هذا الطاغية .

ولمّا أزمع على الخروج أتاه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إنّي سمعت أخاك أبا جعفر يقول :إنّ أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق فالويل لمَن خذله ، والويل لمَن حاربه ، والويل لمَن يقتله فقال له زيد : يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى

ـــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب : ١/١٤٩ ، تاريخ بن الأثير : ٤/٢١٧ ، طبقات الفقهاء : ٣٦ .

(٢) تاريخ الطبري : حوادث سنة ( ١٢١ ) ، وتاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٨

وتحوكم بالجبت والطاغوت(١) .

الواقعة الثالثة : ولمّا قربت وفاة الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام دعا بأبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام فقال له :إنّ هذه الليلة التي وُعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له :يا أبا عبد الله ، الله الله في الشيعة فقال أبو عبد الله :لا تركتهم يحتاجون إلى أحد ... (٢) .

بهذا العرض ننتهي من تصوير حياة الإمام الصادق مع أبيه لتبدأ مرحلة تصدّيه للإمامة ، وبها يبدأ عصر جديد من العمل والجهاد والإصلاح .

ـــــــــــــــــ

(١) راجع تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) إثبات الهداة : ٥/٣٣٠ .

٥٩

الباب الثالث :

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثاني : دور الإمامعليه‌السلام في تثبيت معالم الرسالة .

الفصل الثالث : دور الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فقال له: فبأمر من الله أوصيت أم بأمرك؟!

أكّد رسول الله ولاية عليّ ٧ وإمامته في مواضع شتّى، وفي مناسبات مختلفة، أوّلها بيعة الدار، وأخذصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤكد الأمر تأكيدا عظيما قبيل وفاته والتحاقه بربّه، فأخذ على المسلمين عموما والمهاجرين خصوصا البيعة لعلي والتسليم عليه بإمرة المؤمنين، فأخذ عليهم البيعة وأمرهم بالتسليم بذلك قبل حجّة الوداع وبعدها كما في كتاب سليم بن قيس (١٦٧) وفي غدير خمّ كما في تفسير القمّي ( ج ١؛ ١٧٣، ٣٨٩ ) وإرشاد القلوب (٣٣١) وفي المدينة في نخيل بني النجّار كما في إرشاد القلوب ( ٣٢٥، ٣٢٦ ) واليقين (٢٧٢) وعند دخولهما على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته أو في بيت عليّعليه‌السلام كما في الكثير من المصادر الآتي سردها، وعند ما كان عليّ مريضا فجاءوا لعيادته كما في اليقين (٣١٢) وعند ما دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله تسعة رهط للبيعة فيهم الشيخان، وذلك قبل وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقليل كما في التحصين (٥٣٧) وعند ما كانوا ثمانين رجلا من العرب وأربعين من العجم كما في كتاب سليم بن قيس (١٦٤).

وكان الشيخان في كلّ ذلك يقولون: أمن الله ومن رسوله؟!، وفي بعضها يقولون: والله لا نسلّم له ما قال أبدا، وفي بعضها: ما أنزل الله هذا في عليّ وما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه، وفي بعضها - بعد أن قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام : وسألت ربّي أن يجعلك وصيّي - قالا: والله لصاع من تمر في شنّ بال أحبّ إلينا ممّا سأل محمّد ربّه، بل إنّ قريشا قالت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : اعفنا من ولاية عليّ، كما في الكافي ( ج ١؛ ٤٣٤ ) إلى غير ذلك من العبارات الّتي صدرت منهما في تلك المواطن.

ففي إرشاد القلوب ( ٣٣٠، ٣٣١ ) عن حذيفة بن اليمان، قال: ورحل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأغذّ في السير مسرعا على دخول المدينة لينصب عليّا علما للناس، فلمّا كانت اللّيلة الرابعة هبط جبرئيل في آخر اللّيل فقرأ عليه( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (١)

__________________

(١) المائدة؛ ٦٧

٣٢١

وهم الذين همّوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أما تراني يا جبرئيل أغذّ في السير مجدّا فيه لأدخل المدينة فأعرض ولاية عليّ على الشاهد والغائب؟

فقال له جبرئيل: الله يأمرك أن تفرض ولاية عليّ غدا إذا نزلت منزلك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم يا جبرئيل، غدا أفعل ذلك إن شاء الله، وأمر رسول الله بالرحيل من وقته، وسار الناس معه، حتّى نزل بغدير خمّ وصلّى بالناس، وأمرهم أن يجتمعوا إليه، ودعا عليّاعليه‌السلام ، ورفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يد عليّ اليسرى بيده اليمنى، ورفع صوته بالولاء لعلي على الناس أجمعين، وفرض طاعته عليهم، وأمرهم أن لا يختلفوا عليه بعده، وخبّرهم أنّ ذلك عن الله، وقال لهم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.

ثمّ أمر الناس أن يبايعوه، فبايعه الناس جميعا ولم يتكلّم منهم أحد، وقد كان أبو بكر وعمر تقدّما إلى الجحفة فبعثصلى‌الله‌عليه‌وآله وردّهما، ثمّ قال لهما النبي متجهّما: يا ابن أبي قحافة ويا عمر بايعا عليّا بالولاية من بعدي، فقالا: أمر من الله ورسوله؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : وهل يكون مثل هذا من غير أمر من الله ومن رسوله؟! نعم أمر من الله ومن رسوله، فبايعا وانصرفا ....

وفي إرشاد القلوب ( ٣٢٥، ٣٢٦ ) قال بريدة: كنت أنا وعمّار أخي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في نخيل بني النجّار، فدخل علينا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فسلّم، فردّ عليه رسول الله ورددنا، ثمّ قال له: يا عليّ اجلس هناك، فدخل رجال فأمرهم رسول الله بالسلام على عليّ بإمرة المؤمنين، فسلّموا وما كادوا.

ثمّ دخل أبو بكر وعمر فسلّما، فقال لهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : سلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، فقالا: الإمرة من الله ورسوله؟! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم [ واعترض كذلك طلحة وسعد بن مالك وعثمان وأبو عبيدة ] ثمّ أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: اسمعوا وعوا، إنّي أمرتكم أن تسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، وإن رجالا سألوني عن ذلك « عن أمر الله عزّ وجلّ أو أمر

٣٢٢

رسول الله »؟ ما كان لمحمّد أن يأتي أمرا من تلقاء نفسه، بل بوحي ربّه وأمره، والّذي نفسي بيده لئن أبيتم ونقضتموه لتكفرنّ ولتفارقنّ ما بعثني به ربّي( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (١) .

وانظر تفسير القمّي ( ج ١؛ ١٧٣، ٣٨٩ ) وكتاب سليم بن قيس ( ٨٢، ٨٨، ١٦٤، ١٦٧، ٢٥١ ) والمسترشد ( ٥٨٤، ٥٨٥ ) وتفسير العيّاشي ( ج ٢؛ ٢٩٠ ) وتقريب المعارف (٢٠٠) واليقين ( ٢٠٧، ٢٣٠، ٢٧٢، ٢٨٥، ٢٨٦، ٣٠٧، ٣٠٩، ٣١٠، ٣١٢، ٣١٦، ٣١٧، ٣٨٨، ٤٠٧ ) والتحصين ( ٥٣٧، ٥٧٤ ) وأمالي الطوسي ( ٢٨٩، ٢٩٠ ). وانظر في أقوالهم الأخرى تفسير القمّي ( ج ١؛ ٣٢٤ ) والكافي ( ج ١؛ ٢٩٥، ٤٣٤ ) و ( ج ٨؛ ٣٧٨ ) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ٣؛ ٣٨ ).

وانظر نزول قوله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) (٢) في مناقب ابن شهرآشوب حيث نقله عن أبي عبيدة والثعلبي والنقّاش وسفيان بن عيينة والرازيّ والقزويني والنيسابوريّ والطبرسي والطوسي في تفاسيرهم، وأيضا عن شرح الأخبار، ثمّ قال:

ورواه أبو نعيم الفضل بن دكين. وانظر فرائد السمطين ( ج ١؛ ٨٢، ٨٣ ) وشواهد التنزيل ( ج ٢؛ ٣٨١ - ٣٨٥ ) ففيه خمسة أحاديث، وخصائص الوحي المبين (٥٥) نقلا عن تفسير الثعلبي والنقاش. وانظر كتاب الغدير ( ج ١؛ ٢٣٩ - ٢٤٦ ) حيث نقله عن ثلاثين مصدرا. ونفحات الأزهار ( ج ٨؛ ٣٢٥ - ٣٦٠ ).

والرواية كما في الخصائص ( ٥٥ - ٥٦ ) نقلا عن الثعلبي: سئل سفيان بن عيينة عن قول الله عزّ وجلّ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) (٣) فيمن نزلت؟ فقال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك، حدّثني جعفر بن محمّد، عن آبائهعليهم‌السلام ، قال:

لمّا كان رسول الله بغدير خمّ نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّعليه‌السلام ، فقال: من كنت

__________________

(١) الكهف؛ ٢٩

(٢) المعارج؛ ١

(٣) المعارج؛ ١

٣٢٣

مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ناقته حتّى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، ثمّ أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمّد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نحجّ البيت فقبلناه، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضّلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شيء منك أم من الله؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : والّذي لا إله إلاّ هو إنّه من أمر الله، فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله سبحانه وتعالى( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) (١) .

من عصاني فقد عصى الله، ومن عصى وصيّي فقد عصاني، ومن أطاع وصيّي فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله

انظر ما مرّ في الطّرفة السادسة عند قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « وطاعته طاعة الله ورسوله والأئمّة من ولده ».

إنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام هو العلم، فمن قصر دون العلم فقد ضلّ، ومن تقدّمه تقدّم إلى النار، ومن تأخر عن العلم يمينا هلك، ومن أخذ يسارا غوى

ومثله قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الطّرفة العشرين: « خلّفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين ونور الهدى وصيّي عليّ بن أبي طالب ».

في مجمع البحرين ( ج ٦؛ ١٢٣ ) قال الطريحي: وفي الحديث ذكر « الأعلام والمنار »،

__________________

(١) المعارج؛ ١ - ٣

٣٢٤

فالأعلام جمع علم؛ وهو الجبل الذي يعلم به الطريق وأعلام الأزمنة هم الأئمّةعليهم‌السلام ؛ لأنّهم يهتدى بهم، ومنه حديث يوم الغدير « وهو الذي نصب فيه أمير المؤمنينعليه‌السلام علما للناس ».

والذي يؤيّد هذا المعنى ما رواه ابن طاوس في التحصين (٦٠٩) بسند ينتهي إلى أبي ذرّرحمه‌الله أنّه قال في حقّ العترة الطاهرة: فهم فينا كالسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، والكعبة المستورة، والشجرة الزيتونة. ومثله في تفسير فرات ( ٨١، ٨٢ ).

وفي كتاب سليم بن قيس (٢٤٤) قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ أنت علم الله الأكبر. وفي هامش النسخة « العلم هنا بمعنى الراية ».

وقال العلاّمة المجلسي في مرآة العقول - في شرح قول الإمام الرضاعليه‌السلام في الكافي ( ج ١؛ ٩٩ ) « وأقام لهم عليّا علما » -: أي علامة لطريق الحقّ. وهذا التفسير جامع للمعنيين السابقين، لأنّ الجبل هو علامة على الطريق، والراية أيضا علامة يجتمعون إليها.

ونحن نذكر ما ورد من الروايات بلفظ « العلم » ثمّ نذكر ما ورد بلفظ « الراية ».

فأمّا ما ورد بلفظالعلم:

ففي بشارة المصطفى (٥٤) بسنده عن عبد الله بن عبّاس، أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّعليه‌السلام : يا عليّ أنت العلم المرفوع لأهل الدنيا، من تبعك نجا، ومن تخلف عنك هلك.

وفيه (٣١) بسنده عن الرضاعليه‌السلام ، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن الله سبحانه، قال: واصطفيت عليّا وجعلته العلم الهادي من الضلالة.

وفي الكافي ( ج ١؛ ٤٣٧ ) بسنده عن الباقرعليه‌السلام ، قال: إنّ الله نصب عليّا علما بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالاّ، ومن نصب معه شيئا كان مشركا، ومن جاء بولايته دخل الجنّة.

وفي أمالي الصدوق (٢٣٤) بسنده، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : معاشر أصحابي إنّ الله يأمركم

٣٢٥

بولاية عليّ والاقتداء به، فهو وليّكم وإمامكم من بعدي، لا تخالفوه فتكفروا، ولا تفارقوه فتضلّوا، إنّ الله جعل عليّا علما بين الإيمان والنفاق.

وفي إثبات الوصيّة (١١٠) قال عليّعليه‌السلام : فو الله لأقولنّ قولا لا يطيق أن يقوله أحد من خلقك، أنا علم الهدى، وكهف التقى، ومحل السخاء، وبحر الندى، وطود النهى، ومعدن العلم، والنور في ظلم الدجى.

وانظر روضة الواعظين ( ٩٠، ١٠٣ ) وكتاب سليم بن قيس (٢٤٤) وبصائر الدرجات (٤٣٣) وبشارة المصطفى (٣٣) وكشف اليقين (٢٣٠) والتحصين (٥٥١) وتفسير فرات ( ١١٨، ٢٠٦، ٢٦٥ ) وأمالي الطوسي ( ٣٦٥، ٤٨٦، ٤٨٧ ) وتفسير القمّي ( ج ١؛ ١٩٣ ) و ( ج ٢؛ ٥٧ ) والكافي ( ج ١؛ ١٩٩، ٢٠٣ ) وينابيع المودّة ( ج ١؛ ٢٣ ) و ( ج ٣؛ ١٤٧ ) وتذكرة الخواص (٥٠) ودرّ بحر المناقب (٤٥).

والأئمّةعليهم‌السلام كلّهم أعلام للهداية، ففي بصائر الدرجات (٨٣) بسنده عن الباقرعليه‌السلام ، قال: نحن أئمّة الهدى، ونحن مصابيح الدجى، ونحن منار الهدى، ونحن السابقون، ونحن الآخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق.

وفي دلائل الإمامة (١٦٩) بسنده عن أبي بصير، أنّه سأل الإمام الكاظمعليه‌السلام : بم يعرف الإمام؟ قالعليه‌السلام : بخصال؛ أمّا أوّلهن فبشيء تقدّم من أبيه فيه وعرّفه الناس، ونصبه لهم علما حتّى يكون عليهم حجّة؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصّب أمير المؤمنين علما وعرّفه الناس، وكذلك الأئمّة؛ يعرّفونهم الناس وينصبونهم لهم حتّى يعرفوهم ....

وفي ينابيع المودّة ( ج ١؛ ٢٣ ) و ( ج ٣؛ ١٤٨ ) قال: وفي المناقب: خطب الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام فقال: إنّ الله أوضح بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيه دينه، وأبلج بهم باطن ينابيع علمه، فمن عرف من الأمّة واجب حقّ إمامه وجد حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، لأنّ الله نصب الإمام علما لخلقه، وحجّة على أهل أرضه فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسينعليه‌السلام من عقب كلّ إمام، يصطفيهم لذلك، وكلّما مضى منهم إمام نصب الله لخلقه من عقبه إماما علما بيّنا ومنارا نيّرا.

٣٢٦

وفي ينابيع المودّة ( ج ٣؛ ١٤٧ ) نقلا عن فرائد السمطين ( ج ٢؛ ٢٥٣ ) بإسناده إلى الباقرعليه‌السلام قال: ونحن العلم المرفوع للحقّ، من تمسّك بنا لحق، ومن تأخر عنّا غرق ....

وأمّا ما ورد بلفظالراية :

ففي كشف اليقين: ٢٣٠ قال العلاّمة الحلّي: ومن كتاب كفاية الطالب للحافظ أبي عبد الله الشافعي، بإسناده عن أبي بردة، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عهد إليّ عهدا في عليّ، فقلت: يا ربّ بيّنه لي؟ فقال: اسمع، فقلت: سمعت، فقال: إنّ عليّا راية الهدى، وإمام الأولياء، ونور من أطاعني ....

وفي المسترشد (٦٢٧) أسند عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرئيل، أنّه قال: إنّ عليّ بن أبي طالب راية الهدى من بعدك.

وهو كثير جدّا في المصادر الإماميّة، استغنينا عن الإطالة في تخريجاته بما مرّ بلفظ العلم، ونقتصر هنا على ما ورد في المصادر العامّة بلفظ « راية الهدى ». فانظر في ذلك تاريخ دمشق ( ج ٢؛ ١٨٨، ٢٢٩، ٣٣٩ ) وحلية الأولياء ( ج ١؛ ٦٦ ) وكفاية الطالب (٧٢) ومناقب ابن المغازلي (٤٦) ومناقب الخوارزمي (٢٢٠) وفرائد السمطين ( ج ١؛ ١٤٤، ١٥١، ١٥٨ ) وشرح النهج ( ج ٩؛ ١٦٧ ) والكامل لابن عدي ( ج ٧؛ ٢٦٠ ) ولسان الميزان ( ج ٦؛ ٢٣٧ ) وينابيع المودّة ( ج ١؛ ٧٨ ). وانظر خلاصة عبقات الأنوار ( ج ٥؛ ٢٨٢ ).

والأئمّةعليهم‌السلام كلهم رايات للهدى؛ ففي الإمامة والتبصرة (١٣٢) بسنده عن عبيد بن كرب، قال: سمعت عليّا يقول: إنّ لنا أهل البيت راية، من تقدّمها مرق، ومن تأخّر عنها محق، ومن تبعها لحق. ورواه الصدوق في إكمال الدين ( ٦٥٤ / الحديث ٢٣ ).

وفي ينابيع المودّة ( ج ١؛ ٢٢ ) قال: وأخرج الحافظ عمرو بن بحر في كتابه: حدّثني أبو عبيدة، عن جعفر الصادقعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام : أنّ عليّا خطب بالمدينة بعد بيعة الناس له، وقال: ألا إنّ أبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلمهم كبارا، ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول الصادق سمعنا، فإن تتّبعوا آثارنا

٣٢٧

تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلككم الله، ومعنا راية الحقّ، من تبعها لحق، ومن تأخّر عنها غرق، ألا وبنا يدرك كلّ مؤمن ثواب عمله، وبنا يخلع ربقة الذلّ من أعناقكم، وبنا فتح الله وبنا يختم. ومثله في الإرشاد (١٢٨) حيث قال: « ما رواه الخاصة والعامّة عنهعليه‌السلام ، وذكر ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره » ثمّ ساق الرواية المتقدّمة.

٣٢٨

الطّرفة الثانية عشر

روى هذه الطّرفة - عن كتاب الطّرف - العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٧٨ ) ونقلها العلاّمة البياضي باختصار في الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩١ ). وسيأتي في الطّرفة الرابعة عشر ما يتعلّق بالصحيفة المختومة.

والبيت فيه جبرئيل والملائكة معه، أسمع الحسّ ولا أرى شيئا

في نهج البلاغة ( ج ٢؛ ٧١ ) من كلام للإمام عليّعليه‌السلام قال فيه: ولقد وليت غسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه، حتّى واريناه في ضريحه. وهو في ربيع الأبرار ( ج ٥؛ ١٩٧ ).

قال ابن أبي الحديد في شرحه ( ج ١٠؛ ١٨٣ ) في شرح قوله « فضجت الدار والأفنية »: أي النازلون في الدار من الملائكة؛ أي ارتفع ضجيجهم ولجبهم، يعني أنّي سمعت ذلك ولم يسمعه غيري من أهل الدار. وقال في ( ج ١٠؛ ١٨٥، ١٨٦ ): وأمّا حديث الهينمة وسماع الصوت، فقد رواه خلق كثير من المحدّثين عن عليّعليه‌السلام .

وفي نهج البلاغة أيضا ( ج ٢؛ ١٥٧، ١٥٨ ) قول عليّعليه‌السلام في الخطبة القاصعة: ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته؛ إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي، ولكنك وزير وإنّك لعلى خير.

٣٢٩

وفي ينابيع المودّة ( ج ١؛ ٧٨ ) قال: وفي المناقب، عن جعفر الصادق، عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: كان عليّعليه‌السلام يرى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت. ونقله ابن أبي الحديد في شرح النهج ( ج ١٣؛ ٢١٠ ) أيضا، عند شرحه لقولهعليه‌السلام في نهج البلاغة ( ج ٢؛ ١٥٧ ) « ولقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة ».

وفي بصائر الدرجات (٣٤١) بسنده عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ عليّا كان يوم بني قريظة وبني النضير، كان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره يحدّثانه.

وانظر سماع عليّ صوت الملائكة عند موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتغسيله ودفنه في أمالي الطوسي (٥٤٧) وتفسير العيّاشي ( ج ١؛ ٢١٠ ) والتهذيب ( ج ١؛ ١٣٢ ) وحلية الأولياء ( ج ٤؛ ٧٨ ) ومستدرك الحاكم ( ج ٣؛ ٦٠ ) وتاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ١١٤ ) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ٢؛ ٢٤٥ ).

والأئمّة الاثنا عشر كلّهم محدّثون، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص والصورة، ففي الكافي ( ج ١؛ ١٧٦ ) بإسناده عن الرضاعليه‌السلام قال: والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص.

وفي بصائر الدرجات (٣٤٣) بإسناده عن محمّد بن مسلم، قال: ذكرت المحدّث عند أبي عبد الله، قال: فقالعليه‌السلام : إنّه يسمع الصوت ولا يرى.

وفي بصائر الدرجات أيضا ( ٣٣٩، ٣٤٠ ) بسنده، عن الحكم بن عيينة، قال: دخلت على عليّ بن الحسين يوما، فقال لي: يا حكم، هل تدري ما الآية الّتي كان عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يعرف بها صاحب قتله ويعلم بها الأمور العظام الّتي كان يحدّث بها الناس؟

قال الحكم: فقلت في نفسي: « قد وقفت على علم عليّ بن الحسين، أعلم بذلك تلك الأمور العظام »، فقلت: لا والله لا أعلم به؛ أخبرني بها يا بن رسول الله.

٣٣٠

قالعليه‌السلام : والله قول الله:( وَما أَرْسَلْنا ) (١) ( مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) ولا محدّث(٢) فقلت: وكان عليّ بن أبي طالب محدّثا؟ قال: نعم، وكلّ إمام منّا أهل البيت فهو محدّث.

وكتب في هامش البصائر تعليقا على هذه القراءة: قال العلاّمة المجلسي طيب الله رمسه: قوله ولا محدّث ليس في القرآن، وكان في مصحفهم. أقول: بل هو موجود في مصحفنا بناء على قراءة كما يأتي روايته آنفا المصحح. انتهى ما في الهامش.

أقول: هذه القراءة نقلت أيضا عن ابن عبّاس في معجم القراءات القرآنيّة ( ج ٤؛ ١٩١ ) في قراءة الآية (٥٢) من سورة الحجّ.

وانظر بصائر الدرجات ( ٣٤١ - ٣٤٤ / الباب السادس من الجزء السابع « في أنّ المحدّث كيف صفته وكيف يصنع به، وكيف يحدّث الأئمّة » )، وانظره أيضا في ( ٣٨٨ - ٣٩٤ ) الباب الأوّل من الجزء الثامن « في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمّة ومعرفتهم وصفتهم وأمر الحديث »، والكافي ( ج ١؛ ١٧٦، ١٧٧ / « باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث » ).

__________________

(١) الحجّ؛ ٥٢.

(٢) الحجّ؛ ٥٢.

٣٣١

٣٣٢

الطّرفة الثالثة عشر

روى هذه الطّرفة - عن كتاب الطّرف - العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٨١، ٤٨٢ ) ونقلها العلاّمة البياضي في الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩١ ) باختصار.

وضمانه على ما فيها على ما ضمن يوشع بن نون لموسى بن عمران

إنّ وصي موسى بن عمران هو أخوه هارون؛ بنصّ القرآن الكريم والروايات عند المسلمين، لكن لمّا مات هارون كان وصي موسى يوشع بن نون. انظر المسترشد (٥٧٤) والإمامة والتبصرة (٢٣) وإكمال الدين (٢١١) ومن لا يحضره الفقيه ( ج ٤؛ ١٧٤ ) وأمالي الصدوق (٣٢٨) وبشارة المصطفى (٨٢) عن الصدوق، وأمالي الطوسي ( ٤٤٢، ٤٤٣ ) وبشارة المصطفى (٨٣) عن الطوسي، وكفاية الأثر ( ١٤٧ - ١٥١ ) ومشارق أنوار اليقين ( ٥٨، ٥٩ ). والاختلاف في الأسماء بحسب الإعجام والنقط وتقارب الأسماء كثير جدّا فلا حظ.

وضمن واري بن برملا وصي عيسى بن مريم

الّذي في المصادر أنّ وصي عيسى هو شمعون بن حمون الصفا. انظر المسترشد ( ٢٨٣ و ٥٧٤ ) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ١؛ ٢٥١ ) وأمالي الصدوق (٣٢٩) وبشارة المصطفى (٨٣) وينابيع المودّة ( ج ٢؛ ٧٧ ) وجميع المصادر الآنفة في وصي موسى.

٣٣٣

وفي مناقب ابن شهرآشوب ( ج ٣؛ ٤٧، ٤٨ ) عن المسعوديّ بسنده إلى أمّ هاني، قال لها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله جعل لكلّ نبي وصيّا، فشيث وصي آدم، ويوشع وصي موسى، وآصف وصي سليمان، وشمعون وصي عيسى، وعليّ وصيّي، وهو خير الأوصياء في الدنيا والآخرة.

وفي بشارة المصطفى ( ٥٧، ٥٨ ) بسنده عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : يا عليّ أنت خليفتي على أمّتي في حياتي وبعد موتي، وأنت منّي كشيث من آدم، وكسام من نوح، وكإسماعيل من إبراهيم، وكيوشع من موسى، وكشمعون من عيسى.

فعلى هذا لعلّ واري بن برملا كان وصيّا لعيسى بعد شمعون، كما أنّ يوشع كان وصي موسى بعد هارون.

وفي تفسير القمّي ( ج ٢؛ ٤١٣، ٤١٤ ) في تفسير قوله:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ) (١) قال: كان سببهم أنّ الذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذو نواس، وهو آخر من ملك من حمير، تهوّد واجتمعت معه حمير على اليهوديّة، وسمّى نفسه يوسف، وأقام على ذلك حينا من الدهر، ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانيّة، وكانوا على دين عيسى وعلى حكم الإنجيل، ورأس ذلك الدين عبد الله بن بريا، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهوديّة ويدخلهم فيها، فسار حتّى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانيّة، ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كلّه، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهوديّة والدخول فيها، واختاروا القتل، فخدّ لهم أخدودا جمع فيه الحطب وأشعل فيه النار، فمنهم من أحرق بالنار، ومنهم من قتل بالسيف، ومثّل بهم كلّ مثلة فقال الله:( قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ ) (٢) وانظر مجمع البيان ( ج ٥؛ ٤٦٦ ).

__________________

(١) البروج: ٤.

(٢) البروج؛ ٤ و ٥

٣٣٤

هذا كلّه بناء على ما في نسخنا، وفي نسخة العلاّمة المجلسي في البحار ( ج ٢٢؛ ٤٨٢ ) ورد النص هكذا « وضمانه على ما فيها على ما ضمن يوشع بن نون لموسى بن عمران، وعلى ما ضمن وأدّى وصي عيسى بن مريم » وعلى هذا فيكون المتبادر هو شمعون بن حمون الصفا، ويكون المراد واضحا جليّا.

ويؤيد هذا ما في ينابيع المودة ( ج ١؛ ٨٤ ) حيث قال: وفي المناقب، عن مقاتل بن سليمان، عن جعفر الصادقعليه‌السلام ، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ أنت مني بمنزلة شيث من آدم، وبمنزلة سام من نوح، وبمنزلة إسحاق، من إبراهيم - كما قال تعالى( وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) (١) - وبمنزلة هارون من موسى، وبمنزلة شمعون من عيسى، وأنت وصيّي ووارثي ....

وما في روضة الواعظين (١٠١) قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ أنت مني بمنزلة هبة الله من آدم، وبمنزلة سام من نوح، وبمنزلة إسحاق من ابراهيم، وبمنزلة هارون من موسى، وبمنزلة شمعون من عيسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي ....

وما في كتاب اليقين (٢٢٦) من قول جبرئيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمّد، ونجا من تولّى شمعون الصّفا وصي عيسى بشمعون، ونجا شمعون بعيسى، ونجا عيسى بالله وغيرها من الأحاديث المشبّهة وصاية علي بوصاية شمعون الصّفا.

على أنّ محمّدا أفضل النبيّين، وعليّا أفضل الوصيّين

ورد هذا الحديث بهذا اللفظ في كثير من المصادر، وورد أيضا بلفظ « سيّد الأوصياء » و « خير الأوصياء » و « أكرم الأوصياء » أو ما يقاربها من العبارات في مصادر المسلمين شيعة وسنّة.

انظر اليقين ( ١٣٨، ١٧٩، ١٨٦، ١٩٧، ٢١٩، ٢٢٧، ٣٠١، ٣٥٣، ٣٦٧ ) وأمالي المفيد

__________________

(١) البقرة ٨٨؛ ١٣٢

٣٣٥

( ٧٧، ٩٠، ١٠٥، ٣٤٦ ) وأمالي الطوسي ( ١٩٩، ٢٧٠، ٢٨٣، ٢٩٢، ٤٤٢ ) وتفسير فرات ( ١٤٣، ٥٨٦ ) والكافي ( ج ١؛ ٤٥٠ ) و ( ج ٨؛ ٤٩، ٥٠ ) وأمالي الصدوق ( ١٩، ٢٨، ٣١، ٤١، ٣٢٨، ٤٤٨، ٥١٠ ) والاحتجاج ( ج ١؛ ٦٧ ) وبشارة المصطفى ( ١٢، ٣٤ ) والخصال ( ٤١٢، ٥٧٢ - ٥٨٠، ٦٠٧ ) وشرح النهج ( ج ١٣؛ ٢١٠ ) وفرائد السمطين ( ج ١؛ ١٣٤ ) وتحفة المحبّين بمناقب الخلفاء الراشدين ( ١٨٥ / مخطوط ) وكفاية الطالب (٢١١) وميزان الاعتدال ( ج ١؛ ٤٦ ).

٣٣٦

الطّرفة الرابعة عشر

روى هذه الطّرفة بزيادة في صدرها الكليني في الكافي ( ج ١؛ ٢٨١، ٢٨٣ ) بسنده إلى عيسى بن المستفاد / كتاب الحجّة - باب « أن الأئمّة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله » الحديث الرابع، ونقلها عنه العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٧٩ - ٤٨١ ) ثمّ أشار إلى أن السيّد ابن طاوس رواها في الطّرف مجملة؛ وذلك لعدم نقله صدر الطّرفة.

ونقل المسعوديّ مضمونها في إثبات الوصيّة ( ١٠٤، ١٠٥ ) ورواها عن كتاب الطّرف العلاّمة البياضي في الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩١ ) باختصار، وسيأتي في آخر هذه الطّرفة حديث هذه الصحيفة المختومة الّتي نزل بها جبرئيل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

يا عليّ توفي فيها على الصبر منك والكظم لغيظك على ذهاب حقّك

لقد أوصى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا بالصبر من بعده، وأخبره أنّ القوم سيتأمرون عليه، وأنّه لا بدّ له من الصبر، فأجاب عليّعليه‌السلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالطاعة والتسليم والصبر، وصرّح عليّعليه‌السلام في مواطن كثيرة أنّه لا يجوز وصيّة رسول الله ولا ينقضها ولو خزموه بأنفه، وصرّح أيضا أنّهعليه‌السلام إنّما سكت عن قتال القوم التزاما بوصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه أمره بالصبر وكظم الغيظ؛ لأنّ الأمّة حديثة عهد بالإسلام، وأنّ القتال يؤدي بهم إلى الردّة عن الإسلام.

ففي مناقب ابن شهرآشوب ( ج ٣؛ ٢١٦ )، عن الحارث بن حصين، قال: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

٣٣٧

يا عليّ إنّك لاق بعدي كذا وكذا، فقالعليه‌السلام : يا رسول الله إنّ السيف لذو شفرتين، وما أنا بالقليل ولا الذليل، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : فاصبر يا عليّ، فقال عليّعليه‌السلام : أصبر يا رسول الله.

وفي تفسير العيّاشي ( ج ٢؛ ١٠٥ ) في حديث زيد بن أرقم - بعد تآمر الثلاثة على صرف الخلافة عن عليّعليه‌السلام ، واستدعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاهم، فأنكروا ما قالوا - قال زيد: وقال عليّعليه‌السلام عند ذلك: ليقولوا ما شاءوا، والله إنّ قلبي بين أضلاعي، وإنّ سيفي لفي عنقي، ولئن همّوا لأهمّنّ، فقال جبرئيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : قل له: اصبر للأمر الّذي هو كائن، فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا بما أخبره به جبرئيل، فقالعليه‌السلام : إذن أصبر للمقادير ....

وفي التحصين (٦٠٧) بسند إلى أمّ سلمة أنّها دخلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت: فدخلت وعليّعليه‌السلام جاث بين يديه، وهو يقول: فداك أبي وأمّي يا رسول الله، إذا كان لدى ولدى فما تأمرني؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : آمرك بالصبر.

وفي الكافي ( ج ٨؛ ٣٣ ) بسنده إلى الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال في خطبته الطالوتية في المدينة: أما والبيت والمفضي إلى البيت - وفي نسخة: والمزدلفة والخفاف إلى التجمير - لو لا عهد عهده إليّ النبي الأمّي لأوردت المخالفين خليج المنيّة، ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت، وعن قليل سيعلمون.

وفي المسترشد (٤١١) بسنده عن عليّعليه‌السلام ، أنّه قال: إنّ عندي من نبي الله العهد، وله الوصيّة، وليس لي أن أخالفه، ولست أجاوز أمره وما أخذه عليّ الله، لو خزموا أنفي لأقررت سمعا وطاعة لله.

وفي المسترشد (٤١٧) في الكتاب الّذي أخرجه عليّعليه‌السلام للناس حينما سألوه عن أمره وأمر من تقدّمه ومن قاتلهعليه‌السلام ، وفيه: وكان نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إليّ فقال: يا بن أبي طالب لك ولاية أمّتي من بعدي، فإن ولّوك في عافية واجتمعوا عليك بالرضا، فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه.

وفي التهاب نيران الأحزان (٩٤) قول عليّعليه‌السلام : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ، أنّ الحقّ لنا لا لغيرنا، ولكنّي أصبر حتّى آخذ بحقّي وصبرت على كظم الغيظ على شيء أمرّ من العلقم.

٣٣٨

وفي كتاب سليم بن قيس (٨٤) قول عليّعليه‌السلام لعمر: والّذي أكرم محمّدا بالنبوّة يا بن صهاك، لو لا كتاب من الله سبق، وعهد عهده إليّ رسول الله، لعلمت أنّك لا تدخل بيتي.

وانظر كتاب سليم ( ٧٢، ٨٧، ١٩٣، ٢٥١ ) وإرشاد القلوب ( ٣٨٣، ٣٩١ ) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ١؛ ٢٧٢ ) و ( ج ٣؛ ٢١٦، ٣٣٧ ) والخصال ( ٣٧١، ٤٦٢، ٥٧٥ ) وكفاية الأثر (١٢٤) واليقين (٣٣٧) وبشارة المصطفى (٥٨) وأمالي الطوسي (٩) وكامل الزيارات ( ٣٣٢ - ٣٣٥ ) والمسترشد ( ٣٧٠، ٣٧١ ) وشرح النهج ( ج ٦؛ ١٨ ) وأمالي المفيد (٢٢٤).

هذا، وقد دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه دعوات في عليّعليه‌السلام فأجيبت كلّها، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلهي وسيدي فاجمع الأمّة عليه، فأبى سبحانه وقال: يا محمّد إنّه المبتلى والمبتلى به. انظر في ذلك اليقين ( ١٦٠، ٤٢٦ ) وأمالي الطوسي ( ٣٢٧، ٣٤٤، ٣٥٤ ) وكشف الغمّة ( ج ١؛ ١٠٨ ) وبشارة المصطفى (٦٥) والتحصين ( ٥٤٣، ٥٤٥، ٦١٥ ) وحلية الأولياء ( ج ١؛ ٦٦ ) ومناقب ابن المغازلي (٤٧) وكفاية الطالب (٧٣) ولسان الميزان ( ج ٦؛ ٢٣٧ ).

وسيأتي المزيد في الطّرفة السادسة والعشرين عند قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فقد أجمع القوم على ظلمكم ».

وغصب خمسك وأكل فيئك

أخبر النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا وأهل بيته بما سيحلّ بهم بعد وفاته، وكان ممّا أخبرهم أنّهم يغصبون حقّهم في الخمس الّذي نزل به كتاب الله في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (١) ، وقد تحقّق إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك، إذ غصب الشيخان هذا الحقّ من أهل البيت بشتّى الاختلافات والمعاذير.

ففي أمالي المفيد (٢٢٤) بإسناده عن عليّعليه‌السلام ، أنّه قال: إنّ أوّل ما انتقصناه بعده [ أي بعد حقّنا في الخلافة ] إبطال حقّنا في الخمس ...

__________________

(١) الأنفال؛ ٤١

٣٣٩

وفي تفسير العيّاشي ( ج ٢؛ ٦٦ ) بسنده عن الباقرعليه‌السلام ، قال: لنا حقّ في كتاب الله في الخمس، فلو محوه - فقالوا: ليس من الله - أولم يعملوا به، لكان سواء.

وفي تفسير القمّي ( ج ٢؛ ٣٠٨ ) بإسناده عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) (١) في أمير المؤمنين( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) (٢) يعني في الخمس أن لا يردّوه في بني هاشم.

وقال دعبل بن عليّ الخزاعي في تائيّته العصماء الّتي أنشدها عند الإمام الرضاعليه‌السلام :

أرى فيئهم في غيرهم متقسّما

وأيديهم من فيئهم صفرات

قال ابن شهرآشوب في مناقبه ( ج ٤؛ ٣٣٨ ) أنّه لمّا بلغ دعبل هذا القول، بكى الإمام الرضاعليه‌السلام وقال له: صدقت يا خزاعي. وانظر ديوان دعبل (١٢٣).

وفي وسائل الشيعة ( ج ٩؛ ٥١٧ / الحديث ١٢٦١٥ ) عن أحدهماعليهما‌السلام ، قال: فرض الله في الخمس نصيبا لآل محمّد، فأبى أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم الحديث.

وفيه أيضا ( ج ٩؛ ٥٤٩ / ١٢٦٨٨ ) عن الصادقعليه‌السلام في حديث له مع نجبة، قال فيه: يا نجبة إنّ لنا الخمس في كتاب الله، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال، وهما والله أوّل من ظلمنا حقّنا في كتاب الله ....

وانظر وسائل الشيعة ( ج ٩؛ ٥١٢ - ٥١٣ / الحديث ١٢٦٠٦ ) و ( ج ٩؛ ٥٣٠ - ٥٣١ / الحديث ١٢٦٤٣ ) ( ج ٩؛ ٥٣٦ / الحديث ١٢٦٦١ ) و ( ج ٩؛ ٥٤٦ / الحديث ١٢٦٨١ ) ومستدرك الوسائل ( ج ٧؛ ٢٧٧ ) ومصباح الكفعمي ( ٥٥٢ / دعاء صنمي قريش ) ومرآة العقول ( ج ١؛ ١٤٤ ) وتفسير العيّاشي ( ج ١؛ ٢٢٥ ) وكتاب سليم بن قيس (١٣٨) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ٢؛ ٢١٠ ) وأمالي الطوسي (٩) وتفسير فرات ( ١٣٥، ٣٢٣ ) ومجمع البيان ( ج ٢؛ ٥٤٥ ) والكشاف ( ج ٢؛ ٢٢٢ ) وتفسير القرطبي ( ج ٨؛ ١٠ )

__________________

(١) محمّد؛ ٢٦

(٢) محمّد؛ ٢٦

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653