توحيد المفضل

توحيد المفضل30%

توحيد المفضل مؤلف:
الناشر: مكتبة الداوري
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 189

توحيد المفضل
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113187 / تحميل: 7367
الحجم الحجم الحجم
توحيد المفضل

توحيد المفضل

مؤلف:
الناشر: مكتبة الداوري
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

في بحار الفكر فرجعت خاسئات وهي حسر فلما استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء دخل الناس في دينه أفواجا فقرن اسمه باسم ناموسه(١) فصار يهتف به على رءوس الصوامع في جميع البلدان والمواضع التي انتهت إليها دعوته وعلتها كلمته وظهرت فيها حجته برا وبحرا سهلا وجبلا في كل يوم وليلة خمس مرات مرددا في الأذان والإقامة ليتجدد في كل ساعة ذكره ولئلا يخمل أمره فقال ابن أبي العوجاء دع ذكر محمد ص فقد تحير فيه عقلي وضل في أمره فكري وحدثنا في ذكر الأصل الذي نمشي له ثم ذكر ابتداء الأشياء وزعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ولا صانع ولا مدبر بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال

( محاورة المفضل مع ابن أبي العوجاء)

قال المفضل فلم أملك نفسي غضبا وغيظا وحنقا فقلت يا عدو الله ألحدت في دين الله وأنكرت الباري جل قدسه الذي خلقك( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) وصورك في أتم صورة ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت فلو تفكرت في نفسك وصدقك(٢) لطيف حسك لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة وشواهده جل وتقدس في خلقك

__________________

(١) الناموس: الشريعة.

(٢) صدقك: اي قال لك صدقا.

٤١

واضحة وبراهينه لك لائحة فقال يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك فإن ثبتت لك حجة تبعناك وإن لم تكن منهم فلا كلام لك وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ولا بمثل دليلك تجادل فينا ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق(١) ولا طيش ولا نزق(٢) يسمع كلامنا ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا حتى إذا استفرغنا(٣) ما عندنا وظننا أنا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردا فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه

( سبب إملاء الكتاب على المفضل)

قال المفضل فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلي به الإسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها(٤) فدخلت على مولايعليه‌السلام فرآني منكسرا فقال: ما لك فأخبرته بما سمعت من الدهريين(٥) وبما

__________________

(١) الخرق: ضعف الرأي وسوء التصرف والحمق.

(٢) النزق: هو الطيش والخفة عند الغضب.

(٣) لعله من الافراغ بمعنى الصب. يقال: استفرغ مجهوده، أي بذل طاقته

(٤) التعطيل: مصدر، وفي الاصطلاح الديني هو انكار صفات الخالق الباري، والمعطلة: هم أصحاب مذهب التعطيل.

(٥) واحده الدهري، وهو الملحد الذي يزعم بان العالم موجود ازلا وابدا.

٤٢

رددت عليهما فقال يا مفضل لألقين عليك من حكمة الباري جل وعلا وتقدس اسمه في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكل ذي روح من الأنعام والنبات(١) والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول من ذلك وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون ويسكن إلى معرفته المؤمنون ويتحير فيه الملحدون فبكر علي غدا

__________________

(١) العطف التشريكي هنا يكشف عن رأي الإمام الصّادق في النبات وان له روحا، وبعبارة اخرى ان لديه حسا وحركة. ولم تكتشف هذه النظرية العلمية إلاّ في اواخر القرن الثامن عشر الميلادي، واول من فاك بان في النبات حسا تشله السموم وتميته الكهربية هو « بيشا » العالم الفصيولوجي الفرنسي المتوفى عام ١٨٠٢ م ( عجائب الخلق لزيدان ص ١٩٣ ) وقد ثبتت هذه النظرية بوجود بعض الأزهار المتفتحة نهارا والمقفلة ليلا ( ص ٦٢٥ من كتاب التأريخ الطبيعي ) وقام عالم هندي هو ( السرجفادس بوز ) بوضع آلة دقيقة تظهر بها حركات النبات، وما يتأثر به من المؤثرات الخارجية، كالمنبهات والمخدرات، وانشأ هذا العالم معهدا كبيرا في ( كلكتة ) لدرس حركات النبات، وانفعاله بالحر والبرد والظلمة والنور - فصول في التاريخ الطبيعي للدكتور يعقوب صروف ص ٤٩ - وقد أصبح من المشهور وجود بعض نباتات تفترس بعض الحشرات والحيوانات الصغيرة، وتوجد أيضا ازهار تضحك واخرى تبكي - ص ١٠٢٠ من السنة السادسة والثلاثين لمجلة الهلاك - وامثلة ذلك النبتة المستحبة وندى الشمس واعجوبة القدر والاباريق ومصيدة الذباب واللقاح وغير هذه. -

٤٣

المجلس الأول

قال المفضل فانصرفت من عنده فرحا مسرورا وطالت علي تلك الليلة انتظارا لما وعدني به فلما أصبحت غدوت فاستوذن لي فدخلت وقمت بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم نهض إلى حجرة كان يخلو فيها ونهضت بنهوضه فقال اتبعني فتبعته فدخل ودخلت خلفه فجلس وجلست بين يديه فقال يا مفضل كأني بك وقد طالت عليك هذه الليلة انتظارا لما وعدتك فقلت أجل يا مولاي فقال يا مفضل إن الله تعالى كان ولا شيء قبله وهو باق ولا نهاية له فله الحمد على ما ألهمنا والشكر على ما منحنا فقد خصنا من العلوم بأعلاها ومن المعالي بأسناها واصطفانا على جميع الخلق بعلمه وجعلنا مهيمنين(١) عليهم بحكمه فقلت يا مولاي أتأذن لي أن أكتب ما تشرحه وكنت أعددت معي ما أكتب فيه فقال لي افعل يا مفضل

( جهل الشكاك بأسباب الخلقة ومعانيها)

إن الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة وقصرت أفهامهم

__________________

- وفي مقدمات كتابنا ( في دنيا النبات ) وضعنا فصلا طريفا عن طبائع النبات وحركاته، ومنه اقتبسنا هذه الكلمات.

(١) جمع مهيمن، وهو الأمين والمؤتمن والشاهد.

٤٤

عن تأمل الصواب والحكمة فيما ذرأ(١) الباري جل قدسه وبرأ(٢) من صنوف خلقه في البر والبحر والسهل والوعر فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود حتى أنكروا خلق الأشياء وادعوا أن تكونها بالإهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر ولا صانع تعالى الله عما يصفون و( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (٣) فهم في ضلالهم وغيهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه وفرشت بأحسن الفرش وأفخره وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها ووضع كل شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير وحكمة من التدبير فجعلوا يترددون فيها يمينا وشمالا ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار وما أعد فيها وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه وأعد للحاجة إليه وهو جاهل للمعنى فيه ولما أعد ولما ذا جعل كذلك فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة فإنهم لما عزبت(٤) أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى فلا يفهمون

__________________

(١) ذرأ الله الخلق: خلقهم.

(٢) برأه: خلقه من العدم.

(٣) أي ينصرفون عن الحق.

(٤) أي غابت.

٤٥

ما هو عليه من إتقان خلقته وحسن صنعته وصواب هيئته وربما وقف بعضهم على الشيء يجهل سببه والإرب(١) فيه فيسرع إلى ذمه ووصفه بالإحالة والخطإ كالذي أقدمت عليه المنانية(٢) الكفرة وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة وأشباههم من أهل الضلال المعللين أنفسهم بالمحال(٣) فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته وهداه لدينه ووفقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب التقدير بالدلالة القائمة الدالة على صانعها أن

__________________

(١) الارب: - بالفتح - المهارة او الحاجة.

(٢) او المانوية: هم أصحاب الحكيم الفارسيّ مانى بن فاتك الذي ظهر في أيّام سابور « ثانى ملوك الدولة الساسانية » ومذهبة مزيج من المجوسية والنصرانية، وقد تبعه في معتقده خلق كثير، وبقى قسم كبير منهم في الدور العباسيّ الأول ثمّ تسربت آراؤه إلى أوربا وبقية الاقطار الاسيوية ومانى هذا كان راهبا بحران ولد حوالي عام ٢١٥ م وقتله بعدئذ بهرام بن هرمز. انظر في ذلك الملل والنحل للشهرستانى ج ٢ ص ٨١ ومروج الذهب ج ١ ص ١٥٥، والفهرست ص ٤٥٦، ومعرب الشاهنامه ج ٢ ص ٧١، والفرق بين الفرق ص ١٦٢ و٢٠٧، والآثار الباقية للبيرونى ص ٢٠٧، وتاريخ الفكر العربى لإسماعيل مظهر ص ٣٩، وحرية الفكر لسلامة موسى ص ٥٥.

(٣) أي الشاغلين انفسهم عن طاعة ربهم بأمور يحكم العقل السليم باستحالتها.

٤٦

يكثر حمد الله مولاه على ذلك ويرغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه فإنه جل اسمه يقول -( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (١)

( تهيئة العالم وتأليف أجزائه)

يا مفضل أول العبر والدلالة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها(٢) على ما هي عليه فإنك إذا تأملت العالم بفكرك وخبرته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم مضيئة(٣) كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وكل شيء فيها لشأنه معد والإنسان كالملك ذلك البيت والمخول(٤) جميع ما فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة وأن الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون وجل وعظم عما ينتحله الملحدون.

__________________

(١) سورة إبراهيم آية ٧.

(٢) الضمير راجع إلى الاجزاء.

(٣) في نسخة منضودة اي جعل بعضها فوق بعض فهي منضودة.

(٤) من التخويل وهو الاعطاء والتمليك.

٤٧

( خلق الإنسان وتدبير الجنين في الرحم)

نبدأ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم وهو محجوب( فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة(١) حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه الماء والنبات فلا يزال ذلك غذاؤه

( كيفية ولادة الجنين وغذائه وطلوع أسنانه وبلوغه)

حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه(٢) على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق(٣) بأمه فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى يولد فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثديها وانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ(٤) وحرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثدي أمه كالإداوتين(٥) المعلقتين لحاجته فلا يزال يتغذى باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء -

__________________

(١) المشيمة: غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة، جمعه مشيم ومشايم.

(٢) الاديم: الجلد المدبوغ.

(٣) الطلق « بسكون الثاني » وجع الولادة.

(٤) تلمظ: إذا أخرج لسانه فمسح به شفتيه.

(٥) الاداوة: - بكسر ففتح - إناء صغير من جلد يتخذ للماء، جمعه أداوى.

٤٨

حتى إذا يحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس(١) ليمضغ(٢) بها الطعام فيلين عليه ويسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به من جد الصبا وشبه النساء وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجل لما فيه دوام النسل وبقاؤه.

اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة هل ترى مثله يمكن أن يكون بالإهمال أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوي ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموءود(٣) في الأرض ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه ولو لم تطلع له الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته أو يقيمه على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح لعمل ثم كان يشغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد،

__________________

(١) الطواحن: هي الأضراس، وتطلق الأضراس غالبا على المآخير والأسنان على المقاديم، كما هو الظاهر هنا، وان لم يفرق اللغويون بينهما.

(٢) مضغ الطعام: لاكه بلسانه.

(٣) وأد البنت: دفنها في التراب وهي حية، كما كان العرب يفعلون ذلك في العهد الجاهلي.

٤٩

( حال من لا ينبت في وجهه الشعر وعلة ذلك)

ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء فلا ترى له جلالة ولا وقاراً؟

قال المفضل فقلت له يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ الكبر فقالعليه‌السلام ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (١) فمن هذا الذي يرصده(٢) حتى يوافيه بكل شيء من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن ثم توكل له بمصلحته بعد أن كان فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطإ والمحال لأنهما ضد الإهمال وهذا فظيع من القول وجهل من قائله لأن الإهمال لا يأتي بالصواب والتضاد لا يأتي بالنظام(٣) تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيراً

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٨٢.

(٢) يرصده: أي يرقبه.

(٣) أي إذا لم تكن الأشياء منوطة باسبابها، ولم ترتبط الأمور بعللها، فكما جاز ان يحصل هذا الترتيب والنظام التام بلا سبب، فجاز أن يصير التدبير في الأمور سببا لاختلافها. وهذا خلاف ما يحكم به العقلاء لما يرون من سعيهم في تدبير الأمور وذمهم من يأتي بها على غير تأمل وروية ويحتمل أن يكون المراد ان الوجدان يحكم بتضاد آثار الأمور -

٥٠

( حال المولود لو ولد فهما عاقلا وتعليل ذلك)

ولو كان المولود يولد فهما(١) عاقلا لأنكر العالم عند ولادته ولبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم.

واعتبر ذلك بأن من سبي من بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع إلى تعلم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي سبي صغيرا غير عاقل ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة(٢) إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى(٣) في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا(٤) غافلا عما فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا

__________________

- المتضادة، وربما أمكن اقامة البرهان عليه أيضا، فإذا أتي الاهمال بالصواب يجب ان يأتي ضده وهو التدبير بالخطإ، وهذا أفظع وأشنع.

( من تعليقات البحار )

(١) الفهم: - بفتح فكسر - السريع الفهم.

(٢) الغضاضة: هى الذلة والمنقصة - جمعها غضائض.

(٣) التسجية: هى التغطية بثوب يمد على الجسم.

(٤) على وزن فعيل - وهو القليل الفطنة.

٥١

قليلا وشيئا بعد شيء وحالا بعد حال حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطرار إلى المعاش بعقله وحيلته وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية وفي هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم(١) ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه وأمه ولا يمتنع من نكاح أمه وأخته وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن وأقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن أمه وهو يعقل أن يرى(٢) منها ما لا يحل له ولا يحسن به أن يراه أفلا ترى كيف أقيم كل شيء من الخلقة على غاية الصواب وخلا من الخطإ دقيقه وجليله(٣)

__________________

(١) أي بان يبر الابناء بآبائهم والعطف عليهم عند حاجة الآباء إلى ذلك في كبرهم وضعفهم، وجزاء لما عانوا من الشدائد في سبيل تربية الابناء

(٢) خبر لقوله: أقل ما في ذلك.

(٣) ان بعض هذا البيان البديع من الامام عن تدرج الإنسان في نموه، ونموه في أوقاته، كاف في حكم العقل، بان له صانعا صنعه عن علم وحكمة وتقدير وتدبير. ( عن كتاب الإمام الصّادق ) للشيخ محمّد حسين المظفر ج ١ ص ١٧١.

٥٢

( منفعة الأطفال في البكاء)

اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة واعلم أن في أدمغة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة وعللا عظيمة من ذهاب البصر وغيره والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان(١) ليسكتانه ويتوخيان(٢) في الأمور مرضاته لئلا يبكي وهما لا يعلمان أن البكاء أصلح له وأجمل عاقبة فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنه لا منفعة فيه من أجل أنهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون(٣) وكثيرا ما يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جل قدسه وعلت كلمته.

فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حد البله والجنون والتخليط إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة كالفالج(٤)

__________________

(١) الدءوب: الجد والتعب.

(٢) التوخي. التحرّي والقصد

(٣) أي ان ذلك ممّا لا يقصر عن ادراكه ذو العلم والفهم.

(٤) الفالج: داء يحدث في أحد شقى البدن، فيبطل احساسه وحركته.

٥٣

واللقوة(١) وما أشبههما فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم فتفضل على خلقه بما جهلوه ونظر لهم بما لم يعرفوه ولو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك من التمادي في معصيته فسبحانه ما أجل نعمته وأسبغها على المستحقين وغيرهم من خلقه تعالى عما يقول المبطلون(٢) علوا كبيراً.

( آلات الجماع وهيئتها)

انظر الآن يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك عليه فجعل للذكر آلة ناشرة تمتد حتى تصل النطفة(٣) إلى الرحم إذا كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره وخلق للأنثى وعاء قعرا(٤) ليشتمل على الماءين جميعا ويحتمل الولد ويتسع له ويصونه حتى يستحكم أليس ذلك من تدبير حكيم لطيفسُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ؟.

( أعضاء البدن وفوائد كل منها)

فكر يا مفضل في أعضاء البدن أجمع وتدبير كل منها للإرب

__________________

(١) اللقوة: - بفتح فسكون - داء يصيب الوجه، يعوج منه الشدق إلى أحد جانبي العنق، جمعه لقاء والقاء.

(٢) يقال: أبطل اي جاء بالباطل.

(٣) النطفة: ماء الرجل او المرأة، والجمع نطاف ولطف.

(٤) القعر من كل شيء: عمقه ونهاية أسفله.

٥٤

فاليدان للعلاج والرجلان للسعي والعينان للاهتداء والفم للاغتذاء والمعدة للهضم والكبد للتخليص والمنافذ(١) لتنفيذ الفضول والأوعية لحملها والفرج لإقامة النسل وكذلك جميع الأعضاء إذا ما تأملتها وأعملت فكرك فيها ونظرك وجدت كل شيء منها قد قدر لشيء على صواب وحكمة

( زعم الطبيعيين وجوابه)

قال المفضل فقلت يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة فقالعليه‌السلام : سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذه صنعته(٢) وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم فإن الذي سموه طبيعة هو سنته في خلقه الجارية على ما أجراها عليه(٣) .

__________________

(١) المنافذ هنا بمعنى النوافذ من الإنسان، اى كل سم او خرق فيه كالفم والأنف، والظاهر ان المراد بها هنا محل خروج البول والغائط.

(٢) لعل المراد انهم إذا قالوا بذلك فقد اثبتوا الصانع، فلم يسمونه بالطبيعة، وهي ليست بذات علم ولا إرادة ولا قدرة؟.

(٣) أي ظاهر بطلان هذا الزعم، والذي صار سببا لذهولهم إلى ان الله تعالى اجرى عادته بأن يخلق الأشياء باسبابها، فذهبوا إلى استقلال

٥٥

( عملية الهضم وتكون الدم وجريانه في الشرايين والأوردة)

فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق واشجة(١) بينهما قد جعلت كالمصفي للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكاها(٢) - وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ثم إن الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما وينفذه إلى البدن كله في مجاري مهيأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء ليطرد في الأرض كلها وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفايض(٣) قد أعدت لذلك

__________________

- تلك الأسباب في ذلك. وبعبارة أخرى ان سنة الله وعادته قد جرت لحكم كثيرة، فتكون الأشياء بحسب بادي النظر مستندة إلى غيره تعالى، ثم - يعلم - بعد الاعتبار والتفكر - ان الكل مستند إلى قدرته وتأثيره تعالى، وانما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك ومن هنا تحير وافي الصانع تعالى

« من تعليقات البحار »

(١) الواشجة: مؤنث الواشج اسم فاعل بمعنى المشتبك، يقال: وشجت العروق والاغصان إذا اشتبكت. والمراد بالواشجة هنا الموصلة او الواصلة.

(٢) نكأ القرحة قشرها قبل ان تبرأ فندبت.

(٣) المفايض: المجارى، مأخوذة من فاض الماء، وفي بعض النسخ بالغين من غاض الماء غيضا، أي نضب وذهب في الأرض.

٥٦

فما كان منه من جنس المرة(١) الصفراء جرى إلى المرارة(٢) وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة(٣) .

فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير وله الحمد كما هو أهله ومستحقه.

( أول نشوء الأبدان تصوير الجنين في الرحم)

قال المفضل فقلت صف نشوء الأبدان ونموها حالا بعد حال حتى تبلغ التمام والكمال قالعليه‌السلام : أول ذلك تصوير الجنين في

__________________

(١) المرة: بكسر ففتح - خلط من اخلاط البدن وهو الصفراء أو السوداء، جمعه مرار.

(٢) المرارة: هنة شبه كيس لاصقة بالكبد تكون فيها مادة صفراء هي المرة أشار إليها الامام، جمعها مرائر ومرارات.

(٣) في كلام الإمامعليه‌السلام هنا معان صريحة عن الدورة الدموية - التي اكتشفها العالم الانكليزي وليم هار في « ١٥٧٨ - ١٦٥٧ » بل ان الامام قد فصل القول - كما ترى هنا - عن جريان الدم في الاوردة والشرايين، وان مركزه هو القلب فنستطيع إذن ان نقول بان الامام هو المكتشف الأول للدورة الدموية ...

٥٧

الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد ويدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح والعوامل إلى ما في تركيب أعضائه من العظام واللحم والشحم والعصب والمخ والعروق والغضاريف(١) فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمو بجميع أعضائه وهو ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ أشده إن مد في عمره أو يستوفي مدته قبل ذلك هل هذا إلا من لطيف التدبير والحكمة

( اختصاص الإنسان بالانتصاب والجلوس دون البهائم)

انظر يا مفضل ما خص به الإنسان في خلقه تشرفا وتفضلا على البهائم فإنه خلق ينتصب قائما ويستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما فلو كان مكبوبا على وجهه كذوات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال

( تخصص الإنسان بالحواس وتشرفه بها دون غيره)

انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس(٢) التي خص بها الإنسان في خلقه وشرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء ولم تجعل في الأعضاء

__________________

(١) الغضاريف: جمع غضروف وهو كل عظم رخص لين.

(٢) هى الأعضاء التي تؤمن مناسباتنا مع المحيط الخارجي، وهى خمسة أعضاء اللمس والذوق والشم والبصر والسمع

٥٨

التي تحتهن كاليدين والرجلين فتعترضها الآفات ويصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر تقلبها واطلاعها نحو الأشياء.

( الحواس الخمس وأعمالها وما في ذلك من الأسرار)

فلما لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواس وهو بمنزلة الصومعة لها فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها لم تكن فيها منفعة وخلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن فيها إرب وكذلك سائر الحواس ثم هذا يرجع متكافيا فلو كان بصر ولم تكن الألوان لما كان للبصر معنى ولو كان سمع ولم تكن أصوات لم يكن للسمع موضع.

( تقدير الحواس بعضها يلقى بعضاً)

فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا فجعل لكل حاسة محسوسا(١) يعمل فيه ولكل محسوس(٢) حاسة تدركه ومع هذا فقد جعلت

__________________

(١ - ٢) لعل الأصل في كلمة محسوس هنا هو « حس » ولا تأتي كلمة محسوس هنا، لان حس بمعنى شعر وعلم فعل لازم، ومن البديهي عدم جواز صيغة اسم المفعول من الفعل اللازم، إلاّ إذا عدي بحرف -

٥٩

أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات لا تتم الحواس إلا بها كمثل الضياء والهواء فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت فهل يخفى على من صح نظره وأعمل فكره أن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضا وتهيئة أشياء أخر بها تتم الحواس لا يكون إلا بعمل وتقدير من لطيف خبير

( فيمن عدم البصر والسمع والعقل وما في ذلك من الموعظة)

فكر يا مفضل فيمن عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في أموره فإنه لا يعرف موضع قدميه ولا يبصر ما بين يديه فلا يفرق بين الألوان وبين المنظر الحسن والقبيح ولا يرى حفرة إن هجم عليها ولا عدوا إن أهوى إليه بسيف ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة حتى أنه لو لا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى.

وكذلك من عدم السمع يختل في أمور كثيرة فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ويعدم لذة الأصوات واللحون المشجية والمطربة وتعظم المئونة على الناس في محاورته حتى يتبرموا به ولا يسمع شيئا من أخبار الناس وأحاديثهم حتى يكون كالغائب وهو شاهد أو كالميت

__________________

- الجر او جاء مع المصدر او للظرف، ويأتي فعل حس متعديا بغير هذا المعنى، فيقال: حصه إذا قتله واستأصله.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩