توحيد المفضل

توحيد المفضل30%

توحيد المفضل مؤلف:
الناشر: مكتبة الداوري
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 189

توحيد المفضل
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113189 / تحميل: 7367
الحجم الحجم الحجم
توحيد المفضل

توحيد المفضل

مؤلف:
الناشر: مكتبة الداوري
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهو حي ..

فأما من عدم العقل فإنه يلحق بمنزلة البهائم بل يجهل كثيرا مما تهتدي إليه البهائم أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل وسائر الخلال(١) التي بها صلاح الإنسان والتي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل يوافي(٢) خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها فلم كان كذلك إلا أنه خلق بعلم وتقدير.

قال المفضل فقلت: فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله من ذلك مثل ما وصفته يا مولاي قالعليه‌السلام ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه كما يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويتصوب من تدبيرهم ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينالهم منها حتى إنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.

( الأعضاء المخلوقة أفرادا وأزواجا وكيفية ذلك)

فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا وما في ذلك من الحكمة والتقدير والصواب في التدبير.

فالرأس مما خلق فردا ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له

__________________

(١) الخلال: جمع خلة وهي الخصلة.

(٢) يوافي خبر الى صارت المتقدمة قبل سطرين.

٦١

أكثر من واحد ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا إرب فيه ولا حاجة إليه وإن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه وإن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر لم يدر السامع بأي ذلك يأخذ وأشباه هذا من الأخلاط.

واليدان مما خلق أزواجا ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة لأن ذلك كان يخل به(١) فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا ترى أن النجار والبناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته وإن تكلف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت يداه تتعاونان على العمل ..

( الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان وعمل كل منها)

أطل الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت واللسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم ألا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين ومن سقطت شفته لم يصحح الفاء ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء وأشبه(٢)

__________________

(١) يقال: اخل بالشيء إذا قصر فيه.

(٢) يظهر ان الجملة ناقصة وتكملتها: ( مخرج الصوت اشبه شيء )

٦٢

شيء بذلك المزمار(١) الأعظم فالحنجرة تشبه قصبة المزمار والرئة تشبه الزق(٢) الذي ينفخ فيه لتدخل الريح والعضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري الريح في المزامير والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفا ونغما كالأصابع التي تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا غير أنه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالآلة والتعريف فإن المزمار في الحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت

( ما في الأعضاء من المآرب الأخرى)

قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف وفيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو حبس شيئا يسيرا لهلك الإنسان وباللسان تذاق الطعوم فيميز بينها ويعرف كل واحد منها حلوها من مرها وحامضها من مرها ومالحها من عذبها وطيبها من خبيثها وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب والأسنان لمضغ الطعام حتى يلين وتسهل إساغته وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم واعتبر ذلك فإنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة ومضطربها وبالشفتين يترشف(٣) الشراب حتى

__________________

(١) المزمار: الآلة التي يزمر فيها - جمعها مزامير.

(٢) المراد بالزق هنا الجلد الذي يستعمل في المزمار.

(٣) ترشف الشراب اي بالغ في مصه.

٦٣

يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر لا يثج(١) ثجا فيغص به الشارب أو ينكأ(٢) في الجوف ثم همى(٣) بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحها الإنسان إذا شاء ويطبقها إذا شاء وفيما وصفنا من هذا بيان.

أن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف وينقسم إلى وجوه من المنافع كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى وذلك كالفأس تستعمل في النجارة والحفر وغيرهما من الأعمال.

( الدماغ وأغشيته والجمجمة وفائدتها)

ولو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض وتمسكه فلا يضطرب ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما تقيه(٤) هد الصدمة والصكة التي ربما وقعت في الرأس ثم قد جللت الجمجمة بالشعر حتى صارت بمنزلة الفرو للرأس يستره من شدة الحر والبرد فمن حصن الدماغ هذا التحصين إلا الذي خلقه وجعله ينبوع الحس والمستحق للحيطة والصيانة بعلو منزلته من البدن وارتفاع درجته وخطير مرتبته.

__________________

(١) ثج يثج ثجا: اساله.

(٢) لعله أراد انه يقع في غير ما حاجة

(٣) همى الماء سال لا يثنيه شيء

(٤) في نسخة يفته بدلا عن تقيه، ويفته من الفت وهو الكسر

٦٤

( الجفن وأشفاره)

تأمل يا مفضل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء والأشفار(١) كالأشراح(٢) وأولجها(٣) في هذا الغار وأظلها بالحجاب وما عليه من الشعر.

( الفؤاد ومدرعته)

يا مفضل من غيب الفؤاد في جوف الصدر وكساه المدرعة(٤) التي غشاؤه وحصنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لئلا يصل إليه ما ينكؤه(٥)

( الحلق والمريء)

من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم

__________________

(١) الاشفار جمع شفر وهو أصل منبت الشعر في الجفن.

(٢) الاشراح: العرى.

(٣) أولجها: أدخلها.

(٤) كأن المراد بالمدرعة هنا ثوب الجديد فالمدرعة في الأصل جبة مشقوقة المقدم او كما عند اليهود ثوب من كتان كان يلبس عظيم اخبارهم ولكن الذي يريده الامام من حدّ قولهم درع إذا لبس درع الحديد

(٥) نكأه: جرحه وآذاه.

٦٥

المتصل بالرئة والآخر منفذا للغذاء وهو المريء(١) المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها وجعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل

( الرئة وعملها أشراج منافذ البول والغائط)

من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تختل لكيلا تتحير(٢) الحرارة في الفؤاد فتؤدي إلى التلف من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجا(٣) تضبطهما لئلا يجريا جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر.

( المعدة عصبانية والكبد)

من جعل المعدة عصبانية شديدة وقدرها لهضم الطعام الغليظ ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو(٤) اللطيف من الغذاء ولتهضم

__________________

(١) المري: هو العرق الذي يمتلئ ويدر باللبن جمعه مرايا، وقد أبان الامام وظيفة المرى وعمله بتعبير لطيف.

(٢) تحيرت الحرارة: ترددت كأنها لا تدري كيف تجري فتجمعت وفي نسخة تتحيز وليس لها معنى مستقيم.

(٣) الاشراج جمع شرج وهو في الأصل الشقاق في القوس، وقد استعار الامام منها معنى لمنافذ البول والغائط.

(٤) الصفو من كل شيء: خالصه وخياره.

٦٦

وتعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلا الله القادر أترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك كلا بل هو تدبير مدبر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إياها لا يعجزه شيءوَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ .

( المخ والدم والأظفار والأذن ولحم الأليتين والفخذين)

فكر يا مفضل لم صار المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام هل ذلك إلا ليحفظه ويصونه لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف(١) إلا لتضبطه فلا يفيض لم صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها ومعونة على العمل لم صار داخل الأذن ملتويا كهيئة اللولب(٢) إلا ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع وليكسر حمة الريح فلا ينكأ في السمع لم حمل الإنسان على فخذيه وأليتيه هذا اللحم إلا ليقيه من الأرض فلا يتألم من الجلوس عليها كما يألم من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها

( الإنسان ذكر وأنثى وتناسله وآلات العمل وحاجته وحيلته وإلزامه بالحجة)

من جعل الإنسان ذكرا وأنثى إلا من خلقه متناسلا؟ ومن خلقه

__________________

(١) الظروف جمع ظرف وهو كل ما يستقر فيه غيره ويغلب استعماله للقربة والسقاء.

(٢) اللولب! آلة من خشب او حديد ذات محور ذي دوائر وهو الذكر او داخلة وهو الأنثى جمعه لوالب.

٦٧

متناسلا إلا من خلقه مؤملا ومن أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملا ومن خلقه عاملا إلا من جعله محتاجا ومن جعله محتاجا إلا من ضربه بالحاجة(١) ومن ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه(٢) ومن خصه بالفهم إلا من أوجب الجزاء ومن وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول(٣) ومن ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ مدى شكره.

فكر وتدبر ما وصفته هل تجد الإهمال يأتي على مثل هذا النظام والترتيب تبارك الله تعالى عما يصفون.

( الفؤاد وثقبه المتصلة بالرئة)

أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد اعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرئة تروح عن الفؤاد حتى لو اختلفت تلك الثقب وتزايل بعضها عن بعض لما وصل الروح إلى الفؤاد ولهلك الإنسان أفيستجيز ذو فكرة وروية أن يزعم أن مثل هذا يكون بالإهمال ولا يجد شاهدا من نفسه يزعه(٤) عن هذا القول لو رأيت فردا من مصراعين فيه

__________________

(١) أي سبب له أسباب الاحتياج او خلفه بحيث يحتاج.

(٢) أي تكفل يرفع حاجته وتقويم اوده.

(٣) الحول مصدر بمعنى القدرة والقوّة على التصرف وجودة النظر والحذق.

(٤) يزعه: يكفه ويمنعه.

٦٨

كلوب(١) أكنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة وهكذا تجد الذكر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه فتبا(٢) وخيبة وتعسا لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها؟.

( فرج الرجل والحكمة فيه)

لو كان فرج الرجل مسترخيا كيف كان يصل إلى قعر الرحم حتى يفرغ النطفة فيه ولو كان منعضاً(٣) أبدا كيف كان الرجل يتقلب في الفراش أو يمشي بين الناس وشيء شاخص أمامه ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال والنساء جميعا فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت ولا يكون على الرجال منه مؤنة بل جعل فيه قوة الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك لما قدر أن يكون فيه من دوام النسل وبقائه.

__________________

(١) الكلوب - بفتح الأول وتشديد الثاني - المهماز او حديدة معطوفة الرأس يجربها الجمر او خشبة في رأسها عقافة منها او من حديد والجمع كلاليب.

(٢) تبا لفلان تنصبه على المصدر باضمار فعل اي الزمه الله هلاكا وخسرانا.

(٣) المنعض كأنّه مأخوذ من العض وهو القرن يريد أنّه صلب شديد

٦٩

( منفذ الغائط ووصفه)

اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة على الإنسان في مطعمه ومشربه وتسهيل خروج الأذى أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه فلم يجعله بارزا من خلفه ولا ناشزاً من بين يديه بل هو مغيب في موضع غامض من البدن مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء وجلس تلك الجلسة ألفى(١) ذلك المنفذ منه منصبا مهيأ لانحدار الثفل(٢) فتبارك من تظاهرت آلاؤه ولا تحصى نعماؤه

( الطواحن من أسنان الإنسان)

فكر يا مفضل في هذه الطواحن(٣) التي جعلت للإنسان فبعضها حداد(٤) لقطع الطعام وقرضه وبعضها عراض(٥) لمضغه ورضه فلم ينقص واحد من الصفتين إذ كان محتاجا إليهما جميعاً.

__________________

(١) الفى. وجد

(٢) الثفل - بالضم - ما يستقر في أسفل الشيء من كدرة.

(٣) الطواحن جمع طاحن وهو الضرس.

(٤) حداد أي قاطعة.

(٥) عراض جمع عريض ضد طويل، وربما أريد به المعارضة وهي السن التي في عرض الفم او ما يبدو من الفم عند الضحك.

٧٠

( الشعر والأظفار وفائدة قصهما)

تأمل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار فإنهما لما كانا مما يطول ويكثر حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا جعلا عديما الحس لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما ولو كان قص الشعر وتقليم الأظفار مما يوجد له ألم وقع من ذلك بين مكروهين إما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه وإما أن يخففه بوجع وألم يتألم منه.

قال المفضل فقلت فلم لم يجعل ذلك خلقة لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه فقالعليه‌السلام إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعما لا يعرفها فيحمده عليها اعلم أن آلام البدن وأدواءه(١) تخرج بخروج الشعر في مسامه(٢) وبخروج الأظفار من أناملها ولذلك أمر الإنسان بالنورة وحلق الرأس وقص الأظفار في كل أسبوع ليسرع الشعر والأظفار في النبات فتخرج الآلام والأدواء بخروجهما(٣) وإذا طالا تحيراً، وقل خروجهما فاحتبست الآلام والأدواء في البدن

__________________

(١) الادواء جمع داء وهو المرض والعلة.

(٢) المسام من الجلد ثقبه ومنافذه كمنابت الشعر، ومنهم من يجعلها جمع سم اي الثقب مثل محاسن وحسن.

(٣) يؤيد هذا الرأي علم الطبّ الحديث، وان كانت نظرية التطور تقول بان الشعر والاظافر من الزوائد الحيوانية الأولى التي لم يعد لها نفع ولا فائدة.

٧١

فأحدثت عللا وأوجاعا ومنع مع ذلك الشعر من المواضع التي تضر بالإنسان وتحدث عليه الفساد والضر لو نبت الشعر في العين ألم يكن سيعمى البصر ولو نبت في الفم ألم يكن سينغص على الإنسان طعامه وشرابه ولو نبت في باطن الكف ألم يكن سيعوقه عن صحة اللمس وبعض الأعمال ولو نبت في فرج المرأة وعلى ذكر الرجل ألم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع؟ فانظر كيف تنكب(١) الشعر عن هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة ثم ليس هذا في الإنسان فقط بل تجده في البهائم والسباع وسائر المتناسلات فإنك ترى أجسامها مجللة بالشعر وترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه فتأمل الخلقة كيف تتحرز(٢) وجوه الخطإ والمضرة وتأتي بالصواب والمنفعة.

( شعر الركب والإبطين)

إن المنانية(٣) وأشباههم حين أجهدوا في عيب الخلقة والعمد(٤) عابوا الشعر النابت على الركب والإبطين ولم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنفع المياه أفلا ترى إلى هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها؟ ..

__________________

(١) تنكب عنه: عدل عنه وتجنبه.

(٢) احترز منه وتحرز أي تحفظه وتوقاه كأنّه جعل نفسه في حرز منه

(٣) المنانية او المانوية سبق الكلام عنها في اوائل الكتاب.

(٤) يقال فعله عمدا وعن عمد أي قصدا لا عن طريق الصدفة.

٧٢

ثم إن هذه تعد مما يحمل الإنسان من مؤونة هذا البدن وتكاليفه لما له في ذلك من المصلحة فإن اهتمامه بتنظيف بدنه وأخذ ما يعلوه من الشعر مما يكسر به شرته(١) ويكف عاديته(٢) ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر(٣) والبطالة.

( الريق وما فيه من المنفعة)

تأمل الريق وما فيه من المنفعة فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ليبل الحلق واللهوات(٤) فلا يجف فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الأسنان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ(٥) طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه تشهد بذلك المشاهدة واعلم أن الرطوبة مطية الغذاء وقد تجري من هذه البلة إلى مواضع أخر من المرة(٦) فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان ولو يبست المرة لهلك الإنسان.

( محاذير كون بطن الإنسان كهيئة القباء)

ولقد قال قوم من جهلة المتكلمين وضعفة المتفلسفين بقلة التمييز

__________________

(١) الشرة - بكسر فتشديد - الحدة والنشاط او الشر.

(٢) العادية: الحدة والغضب او الشغل او الظلم والشر.

(٣) الاشر - بفتحتين - البطر وشدة الفرح والجمع أشرون واشارى

(٤) اللهوات جمع لهاة وهي اللحمة المشرفة على الحلق في اقصى سقف الفم.

(٥) اساغ الطعام يصيغه سيغا: سهل مطعمه.

(٦) المرة - بالكسر - خلط من اخلاط البدن وهو الصفراء او السوداء والجمع مرار

٧٣

وقصور العلم لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء(١) يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه ألم يكن أصلح من أن يكون مصمتا(٢) محجوبا عن البصر واليد لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول وجس العرق وما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط والشبهة حتى ربما كان ذلك سببا للموت فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا كان أول ما فيه أن كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت وكان يستشعر البقاء ويغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو(٣) والأشر(٤) ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح وتتحلب(٥) فيفسد على الإنسان مقعده ومرقده وثياب بدلته وزينته، بل كان يفسد عليه عيشه ثم إن المعدة والكبد والفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته واليد إلى علاجه لوصل برد الهواء إلى الجوف فمازج الحرارة الغريزية وبطل عمل الأحشاء فكان في ذلك هلاك الإنسان أفلا ترى أن كلما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت

__________________

(١) القباء - بالفتح - ثوب يلبس فوق الثياب جمعه أقبية.

(٢) مصمت اسم مفعول الذي لا جوف له.

(٣) العتو: الاستكبار وتجاوز الحد.

(٤) الأشر - بفتحتين - من أشر اي بطر ومرح فهو اشر وأشران وجمعه اشرون وأشارى.

(٥) ترشح وتحلب بمعنى واحد وهو السيلان.

٧٤

به الخلقة خطأ وخطل(١) .

( أفعال الإنسان في الطعم والنوم والجماع وشرح ذلك)

فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبر فيها فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه ويستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي فيه راحة البدن وقوامه والكرى(٢) يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام(٣) قواه والشبق(٤) يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه ولو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى(٥) عنه أحيانا بالثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك كما يحتاج الواحد إلى الدواء لشيء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض والموت وكذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالفكر في حاجته إلى راحة البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهك بدنه ولو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به.

__________________

(١) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب.

(٢) الكرى: النعاس.

(٣) الاجمام من الجمام وهو الراحة يقال: جم الفرس إذا ذهب اعياؤه.

(٥) يتوانى: يقصر.

(٤) الشبق بفتحتين شدة الشهوة.

٧٥

فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محركا من نفس الطبع يحركه لذلك ويحدوه عليه

واعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة وقوة ماسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها وقوة هاضمة وهي التي تطبخه وتستخرج صفوه وتبثه في البدن وقوة دافعة تدفعه وتحدر الثفل(١) الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والإرب فيها وما في ذلك من التدبير والحكمة فلو لا الجاذبة كيف كان يتحرك الإنسان لطلب الغذاء الذي به قوام البدن ولو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة ولو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ(٢) حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسد خلله(٣) ولو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أولا فأولا أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن والقيام بما فيه صلاحه وسأمثل لك في ذلك مثالا: إن البدن بمنزلة دار الملك له فيها حشم(٤) وصبية

__________________

(١) الثفل هو ما يستقر في اسفل الشيء من كدرة.

(٢) انطبخ مطاوع طبخ تقول طبخ اللحم اي أنضجه.

(٣) الخلل جمع خلة - بالفتح - وهي الثقبة.

(٤) الحشم: الخدم والعيال او من يغضبون له او يغضب لهم من اهل وعبيد وجيرة.

٧٦

وقوام(١) موكلون بالدار فواحد لقضاء حوائج الحشم وإيرادها(٢) عليهم وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيأ وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك العالمين والدار هي البدن والحشم هم(٣) الأعضاء والقوام هم(٤) هذه القوى الأربع. ولعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها بعد الذي وصفت فضلا وتزدادا(٥) وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء ولا قولنا فيه كقولهم لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب وتصحيح الأبدان وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي(٦) كالذي أوضحته بالوصف الشافي والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها

( قوى النفس وموقعها من الإنسان)

تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان،

__________________

(١) لعل القوام جمع قيم إذ القيم على الامر هو المتولى عليه.

(٢) أورده ايرادا اي احضره المورد ثمّ استعمل لمطلق الاحضار.

(٣ - ٤) في بعض النسخ هى.

(٥) لعل الأصل في الكلمة مزيدا من الزيادة أو تزيدا من قولك تزيد الرجل في حديثه اي زخرفه وزاد فيه على الحقيقة، وتزيد في الشيء أي تكلف الزيادة فيه.

(٦) الغي: الضلال والهلاك والخيبة.

٧٧

أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال(١) الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله وكم من خلل كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وما عليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ولا يعتقد دينا ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية.

( النعمة على الإنسان في الحفظ والنسيان)

فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فإنه لو لا النسيان لما سلا(٢) أحد عن مصيبة ولا انقضت له حسرة ولا مات له حقد ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجاء غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان وجعل له في كل منهما ضربا من المصلحة وما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة وقد تراها تجتمع

__________________

(١) الخلال جمع خلة بالفتح - وهي الخصلة والصفة.

(٢) سلا الشيء وسلا عنه: نسيه وهجره وطابت نفسه عنه وذهل عن ذكره.

٧٨

على ما فيه الصلاح والمنفعة(١)

( اختصاص الإنسان بالحياء دون بقية الحيوانات)

انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف(٢) ولم يوف بالعدات ولم تقض الحوائج ولم يتحر الجميل ولم يتنكب(٣) القبيح في شيء من الأشياء حتى إن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس من لو لا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة أفلا ترى كيف وفى الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره.

( اختصاص الإنسان بالمنطق والكتابة)

تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره وما يخطر بقلبه وينتجه فكره

__________________

(١) يقول علم النفس الحديث ان النسيان عمل من أعمال الذهن كالتذكر تماما، وليس في مقدورنا ان نتذكر شيئا الا إذا نسينا اشياء حتى ليمكن القول بان الذاكرة هي أداة النسيان، ونحن نفكر بفضل ما نسينا، كما نفكر بفضل ما تذكرنا.

(٢) قرى الضيف: اضافه.

(٣) يتنكب: يتجنب.

٧٩

وبه يفهم عن غيره ما في نفسه ولو لا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئا وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم وما روي لهم مما لا يسعهم جهله ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة وليست مما أعطيه الإنسان من خلقه وطباعه.

وكذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة وكذلك لكتابة العربي والسرياني والعبراني والرومي وغيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك أن الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة عطية وهبة من الله عز وجل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا ولو لم تكن له كف مهيئة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبداً.

واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل وعز وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب،

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩