توحيد المفضل

توحيد المفضل30%

توحيد المفضل مؤلف:
الناشر: مكتبة الداوري
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 189

توحيد المفضل
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113164 / تحميل: 7367
الحجم الحجم الحجم
توحيد المفضل

توحيد المفضل

مؤلف:
الناشر: مكتبة الداوري
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ .(١)

( إعطاء الإنسان ما يصلح دينه ودنياه ومنعه مما سوى ذلك)

فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه وما منع فإنه أعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة وبر الوالدين وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك مما قد توجد معرفته والإقرار والاعتراف به في الطبع والفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة وكذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراس واستخراج الأرضين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط المياه ومعرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وما هو كائن وبعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء وما تحت الأرض وما في لجج البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب عن الناس علمه.

__________________

(١) كلام الامام في بحث اللغات وشأنها هاهنا يشعر بان الإنسان هو الذي وضع اللغات، بما خطره الله من قابلية المنطق وتعلم الكلام.

٨١

وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم فيما يقضون عليه ويحكمون به فيما ادعوا عليه.

فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيها صلاحه

( ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته)

تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فني ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله ألا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة ويرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه ولم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور وفي كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أوليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شيء يكون من الإنسان لغلبة

٨٢

الشهوات له وتركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه ويبني عليه أمره فيصفح الله عنه ويتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف(١) التلذذ في العاجل ويعد ويمني نفسه التوبة في الآجل ولأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه والتلذذ ومعاناة(٢) التوبة ولا سيما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب ولا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل وقد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل وقد نفذ المال، فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي ويؤثر العمل الصالح فإن قلت وها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته وصار يترقب الموت في كل ساعة يقارف(٣) الفواحش وينتهك المحارم(٤) قلنا إن وجه

__________________

(١) التسلف: الاقتراض كأنّه يجرى معاملة مع ربّه، بان يتصرف في اللذات عاجلا ويعد ربّه في عوضها التوبة ليؤدي إليه آجلا وفي بعض النسخ يستسلف وهو طلب وبيع الشيء سلفا.

(٢) المعاناة: مقاساة العناء والمشقة.

(٣) في الأصل المطبوع يفارق ولا يستقيم المعنى بها بل يكون عكسيا. ولما رجعنا إلى البحار وجدناها يقارف.

(٤) المحارم جمع محرم وهو الحرام.

٨٣

التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي(١) ولا ينصرف عن المساوئ فإنما ذلك من مرحه ومن قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره ولا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته ولم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه ولئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه ولا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم وينزعون عن المعاصي ويؤثرون العمل الصالح ويجودون بالأموال والعقائل(٢) النفيسة في الصدقة على الفقراء والمساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها.

( الأحلام وامتزاج صادقها بكاذبها وسر ذلك)

فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها

__________________

(١) الارعواء: الكف عن الشيء، او الندم على الشيء والانصراف عنه وتركه.

(٢) العقائل جمع عقيلة والعقيلة من الإبل هي الكريمة، والعقيلة من كل شيء هي اكرمه.

٨٤

بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر منها وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.

( الأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان وإيضاح ذلك)

فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم فالتراب للبناء والحديد للصناعات والخشب للسفن وغيرها والحجارة للأرحاء(١) وغيرها والنحاس للأواني والذهب والفضة للمعاملة والذخيرة والحبوب للغذاء والثمار للتفكه واللحم للمأكل والطيب للتلذذ والأدوية للتصحح(٢) والدواب للحمولة والحطب للتوقد والرماد للكلس(٣) والرمل للأرض وكم عسى أن يحصي المحصي من هذا وشبهه أرأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس ورأى كلما فيها مجموعا معدا لأسباب معروفة أكان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال ومن غير عمد فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم وما أعد فيه من هذه الأشياء

__________________

(١) الارحاء جمع رحى وهي الطاحونة.

(٢) التصحح من صحح المريض: أزال مرضه.

(٣) الكلس: - بالكسر - ما يقوم به الحجر والرخام ونحوهما ويتخذ منها باحراقها.

٨٥

اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان وما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه وكلف طحنه وعجنه وخبزه وخلق له الوبر لكسوته فكلف ندفه وغزله ونسجه وخلق له الشجر فكلف غرسها وسقيها والقيام عليها وخلقت له العقاقير لأدويته فكلف لقطها(١) وخلطها وصنعها وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال.

فانظر كيف كفي الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة وترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل وحركة لما له في ذلك من الصلاح لأنه لو كفي هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل لما حملته الأرض أشرا وبطرا(٢) ولبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه ولو كفي الناس كلما يحتاجون إليه لما تهنئوا(٣) بالعيش ولا وجدوا له لذة ألا ترى لو أن امرءا نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم ومشرب وخدمة لتبرم بالفراغ ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة ولتكفه عن تعاطي ما لا يناله ولا خير فيه إن ناله.

__________________

(١) اللقط مصدر من لقط الشيء: اخذه من الأرض بلا تعب، ولقط الطائر الحب: أخذه بمنقاره

(٢) الاشر والبطر « كلاهما بالفتح » بمعنى واحد.

(٣) وفي نسخة البحار تهنوا.

٨٦

( الخبز والماء رأس معاش الإنسان وحياته)

واعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان وحياته الخبز والماء فانظر كيف دبر الأمر فيهما فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى الخبز وذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش والذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز لأنه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه وتكلفه وجعل الخبز متعذرا لا ينال إلا بالحيلة والحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والعبث ألا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب وهو طفل لم تكمل ذاته للتعليم كل ذلك ليشتغل عن اللعب والعبث اللذين ربما جنيا عليه وعلى أهله المكروه العظيم وهكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر والعبث والبطر إلى ما يعظم ضرره عليه وعلى من قرب منه واعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة(١) ورفاهية العيش والترفه والكفاية وما يخرجه ذلك إليه.

( اختلاف صور الناس وتشابه الوحوش والطير وغيرها)

( من الحكمة في ذلك)

اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش والطير وغير ذلك فإنك ترى السرب من الظباء والقطا تتشابه حتى لا يفرق

__________________

(١) الجدة - بالتخفيف - الغنى.

٨٧

بين واحد منها وبين الأخرى وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة والعلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه وحليته ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئا وليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأم(١) تشابها شديدا فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر(٢) وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصور فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلا من وسعت رحمته كل شيء.

لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط وقال لك قائل إن هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أكنت تقبل ذلك بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد ولا تنكر في الإنسان الحي الناطق

__________________

(١) التوأم: المولود مع غيره في بطن واحد جمعه توائم. وفي جميع النسخ توأمان وورودها هنا خطأ ظاهر، إذ لا يجوز فيها لأكثر من فردين، ومجيئها بهذا النصّ دلالة على التثنية فيكون معناها أربعة افراد

(٢) أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر كثوب او دينار فيصير سببا للاشتباه والتشاجر والتنازع فضلا عن تشابه الصورة فانه أعظم فسادا.

٨٨

( نمو أبدان الحيوان وتوقفها وسبب ذلك)

لم صارت أبدان الحيوان وهي تغتذي أبدا لا تنمي بل تنتهي إلى غاية من النمو ثم تقف ولا تتجاوزها لو لا التدبير في ذلك فإن تدبير الحكيم فيها أن تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير وصارت تنمي حتى تصل إلى غايتها ثم تقف ثم لا تزيد والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ولو تنمي نموا دائما لعظمت أبدانها واشتبهت مقاديرها(١) حتى لا يكون لشيء منها حد يعرف.

( ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة والمشي لو لم يصبها ألم)

لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة والمشي وتجفو عن الصناعات اللطيفة(٢) إلا لتعظيم المئونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع والتكفين وغير ذلك لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطف على الناس ...

__________________

(١) أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه مقداره، فيشتبه الامر عليه، فيما يريد أن يهيئه لنفسه من دار وثياب وزوجة.

(٢) أي يبتعد ويجتنب ولا يداوم على الصناعات اللطيفة أي التي فيها دقة ولطافة. والمراد ان الله تعالي جعل اجسام الإنسان بحيث تثقل عن الحركة والمشى قبل سائر الحيوانات، وتكل عن الاعمال الدقيقة لتعظم عليه مئونة تحصيل ما يحتاج إليه، فلا يبطر ولا يطمع، او ليكون لهذه الاعمال اجر، فيصير سببا لمعايش أقوام يزاولونها.

٨٩

أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في العافية وبسط يده بالصدقة ولو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار(١) ويذل العصاة المردة وبم كان الصبيان يتعلمون العلوم والصناعات وبم كان العبيد يذلون لأربابهم ويذعنون لطاعتهم أفليس هذا توبيخ ابن أبي العوجاء(٢) وذويه الذين جحدوا التدبير.

( والمانوية ) الذين أنكروا الوجع والألم.

( انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا وإناثا)

ولو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو أنثى فقط ألم يكن النسل منقطعا وباد مع أجناس الحيوان فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا وبعضها يأتي إناثا ليدوم التناسل ولا ينقطع.

( ظهور شعر العانة عند البلوغ ونبات اللحية للرجل دون)

( المرأة وما في ذلك من التدبير)

لم صار الرجل والمرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة ثم تنبت اللحية للرجل وتتخلف عن المرأة لو لا التدبير في ذلك فإنه لما جعل الله تبارك

__________________

(١) الدعار جمع داعر وهو الخبيث وفي النسخة المطبوعة الذعار بالذال وهذا تصحيف.

(٢) تقدمت ترجمة ابن أبي العوجاء في مقدّمة الكتاب.

٩٠

وتعالى الرجل قيما ورقيبا على المرأة وجعل المرأة عرسا وخولا(١) للرجل أعطى الرجل اللحية لما له من العز والجلالة والهيبة ومنعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة(٢) والمضاجعة أفلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء وتتخلل مواضع الخطإ(٣) فتعطي وتمنع على قدر الإرب(٤) والمصلحة بتدبير الحكيم عز وجل

قال المفضل: ثم حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر(٥) إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت من عنده مسرورا بما عرفته مبتهجا بما أوتيته حامدا لله تعالى عز وجل على ما أنعم به علي شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي وتفضل به علي فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه محبور بما علمنيه.

__________________

(١) الخول - بفتحتين - العبيد والإماء وغيرهم من الحاشية وهو يستعمل بلفظ واحد للجميع، وربما قيل للواحد خائل.

(٢) المفاكهة: هى الممازحة والمضاحكة.

(٣) يحتمل أن تكون الجملة حالية، اي تأتي بالصواب مع انها تدخل مواضع هي مظنة الخطأ من قولهم تخللت القوم اي دخلت خلالهم ويحتمل أن يكون المراد بالتخلل التخلف أو الخروج من خلالها، لكن تطبيقها على المعاني اللغويّة يدعو الى التكلف.

(٤) الارب - بفتحتين -: الحاجة والغاية والجمع آراب.

(٥) بكر - بالتشديد - أتاه بكرة.

٩١

المجلس الثاني

قال المفضل فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأمرني بالجلوس فجلست فقال: -

الحمد لله مدبر الأدوار(١) ومعيد الأكوار(٢) طبقا(٣) عن طبق وعالما بعد عالم -( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) عدلا منه تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه( لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يشهد بذلك قوله جل قدسه( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) في نظائر(٤) لها في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء و( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ولذلك

__________________

(١) الادوار جمع دور مصدر بمعنى الحركة.

(٢) الاكوار جمع كور - بالفتح - مصدر بمعنى الجماعة الكثيرة او القطيع من الإبل والبقر ويقال كل دور كور والمراد اما استيناف قرن بعد قرن وزمان بعد زمان.

(٣) الطبق: وجه الأرض ولعلّ المراد به معنى الحال يقال: الدهر اطباق - اى أحوال تختلف.

(٤) أي قالها في ضمن نظائرها او مع نظائرها.

٩٢

قال سيدنا محمد صلوات الله عليه وعلى آله: « إنما هي أعمالكم ترد إليكم »

ثم أطرق الإمام هنيئة وقال يا مفضل الخلق حيارى عمهون(١) سكارى في طغيانهم يترددون وبشياطينهم وطواغيتهم يقتدون بصراء عمي لا يبصرون نطقاء بكم(٢) لا يعقلون سمعاء(٣) صم(٤) لا يسمعون رضوا بالدون(٥) وحسبوا أنهم مهتدون حادوا(٦) عن مدرجة(٧) الأكياس(٨) ورتعوا في مرعى الأرجاس(٩) الأنجاس كأنهم من مفاجأة الموت آمنون وعن المجازاة مزحزحون يا ويلهم

__________________

(١) عمهون، جمع عمه - بفتح فكسر - وهو المتردد في الضلال والمتحير في أمره أو طريقه.

(٢) بكم، جمع أبكم وهو الاخرس.

(٣) سمعاء، جمع سميع بمعنى السامع والمسمع وهو للمبالغة.

(٤) الصم، جمع أصم وهو الذي انسدت اذنه وثقل سمعه او ذهب عنه بتاتا.

(٥) الدون، أريد به هنا معنى الخسيس الحقير السافل.

(٦) حادوا: مالوا.

(٧) مدرجة جمع مدارج: ما يساعد على التوصل الى ما هو أفضل او أعلى منه.

(٨) الاكياس: جمع كيس بتشديد الياء - اي الفطن الحسن الفهم والأدب

(٩) الارجاس لعله جمع رجس - بالكسر - القذر والمأثم او كل ما استقذر من العمل والعمل المؤدي الى العذاب.

٩٣

ما أشقاهم وأطول عناءهم وأشد بلاءهم( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ ) .

قال المفضل: فبكيت لما سمعت منه فقال لا تبك تخلصت إذ قبلت ونجوت إذ عرفت.

( أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها وإيضاح ذلك)

ثم قال: أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره فكر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة ولو كانت كذلك لا تنثني(١) ولا تتصرف في الأعمال ولا هي على غاية اللين والرخاوة فكانت لا تتحامل ولا تستقل بأنفسها فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب وعروق تشده وتضم بعضه إلى بعض وغلفت(٢) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله وأشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلف بالخرق وتشد بالخيوط وتطلى فوق ذلك بالصمغ فتكون العيدان بمنزلة العظام والخرق بمنزلة اللحم والخيوط بمنزلة العصب والعروق والطلاء بمنزلة الجلد فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان.

__________________

(١) لا تنثني: لا تنعطف ولا تميل.

(٢) في نسخة وعليت.

٩٤

( أجساد الأنعام وما أعطيت وما منعت وسبب ذلك)

وفكر يا مفضل بعد هذا في أجساد الأنعام(١) فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب أعطيت أيضا السمع والبصر ليبلغ الإنسان حاجته فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان ولا تصرفت في شيء من مآربه ثم منعت الذهن والعقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد وحملها الحمل الثقيل فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون ويذعنون بالكد الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن فيقال في جواب ذلك إن هذا الصنف من الناس قليل فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ولا يغرون(٢) بما يحتاج إليه منه ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد إلى عدة أناسي فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم والضيق والكد في معاشهم.

__________________

(١) الأنعام جمع نعم - بفتحتين - الإبل وتطلق على البقر والغنم.

(٢) لا يغرون - بالغين على بناء المفعول - اي لا يؤثر فيهم الاغراء والتحريض على جميع الاعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي تأتى به الدوابّ.

٩٥

( خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان)

فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها فالإنس لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة والخياطة وغير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء وأوكدها هذه الصناعات.

( آكلات اللحم من الحيوان والتدبير في خلقها)

وآكلات اللحم لما قدر أن تكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة(١) ذوات براثن(٢) ومخالب(٣) تصلح لأخذ الصيد ولا تصلح للصناعات وآكلات النبات لما قدر أن يكونوا لا ذوات صنعة ولا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى ولبعضها حوافر ململمة(٤) ذوات قعر(٥)

__________________

(١) مدمجة أي مستقيمة محكمة متداخلة.

(٢) البراثن جمع برثن بالضم - من السباع والطير بمنزلة الاصبع من الإنسان.

(٣) المخالب جمع مخلب - بالكسر - وهو الظفر خصوصا من السباع

(٤) ململمة اي مجموعة بعضها الى بعض.

(٥) قعر كل شيء اقصاه.

٩٦

كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة.

تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد وبراثن شداد وأشداق(١) وأفواه واسعة فإنه لما قدر أن يكون طعمها(٢) اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك وأعينت بسلاح وأدوات تصلح للصيد وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة لفعلها ولو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه لأنها لا تصيد ولا تأكل اللحم ولو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش أفلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته بل ما فيه بقاؤه وصلاحه.

( ذوات الأربع واستقلال أولادها)

انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها(٣) مستقلة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس فمن أجل أنه ليس عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوة عليها بالأكف والأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها وكذلك

__________________

(١) الاشداق جمع شدق - بالفتح او الكسر - زاوية الفم من باطن الخدين.

(٢) الطعم - بالضم - الطعام.

(٣) الامات جمع أم وقيل انها تستعمل في البهائم، واما في الناس فهي أمّهات

٩٧

ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج والدراج(١) والقبج(٢) تدرج وتلقط حين تنقاب عنها البيضة فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام(٣) والحمر(٤) فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها فصارت تمج(٥) الطعام في أفواهها بعد ما توعيه(٦) حواصلها(٧) فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلا أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير.

__________________

(١) الدراج - بضم فتشديد - طائر شبيه بالحجل وأكبر منه ارقط بسواد وبياض قصير المنقار يطلق على الذكر والأنثى، جمعه دراريج وواحدته دراجة والتاء للوحدة لا للتأنيث.

(٢) القبج - بفتحتين - طائر يشبه الحجل وفي القاموس هو الحجل والواحدة قبجة تقع على الذكر والأنثى.

(٣) اليمام: الحمام الوحشى.

(٤) الحمر - بضم فتشديد - طائر احمر اللون والواحدة حمرة.

(٥) تمج الطعام اي ترمي به.

(٦) توعيه من اوعى الزاد ونحوه - اي جعله في الوعاء.

(٧) الحواصل كأنّها جمع حوصلة وحوصلاء وهي من الطير بمنزلة المعدة من الإنسان.

٩٨

( قوائم الحيوان وكيفية حركتها)

انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي ولو كانت أفرادا لم تصلح لذلك لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على واحدة وذو الأربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كما يثبت السرير وما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره وينقل الأخريين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض ولا يسقط إذا مشى.

( انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان وسببه)

أما ترى الحمار كيف يذل للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا منعما والبعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير(١) على عنقه ويحرث به والفرس الكريم يركب(٢) السيوف والأسنة بالمواتاة لفارسه والقطيع من الغنم يرعاه واحد ولو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في

__________________

(١) النير - بالكسر - الخشبة المعترضة في عنقي الثورين بأداتها والجمع انيار ونيران.

(٢) يركب السيوف والاسنة اي يلقى نفسه عليها.

٩٩

ناحية لم يلحقها وكذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان كانت كذلك إلا بأنها عدمت العقل والروية فإنها لو كانت تعقل وتتروى في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع الجمل على قائده والثور على صاحبه وتتفرق الغنم عن راعيها وأشباه هذا من الأمور.

( افتقاد السباع للعقل والروية وفائدة ذلك)

وكذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل وروية فتوازرت(١) على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمور والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس أفلا ترى كيف حجر(٢) ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ثم لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل فهي مع صولتها كالخائف من الإنس بل مقموعة(٣) ممنوعة منهم ولو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيقت عليهم.

( عطف الكلب على الإنسان ومحاماته عنه)

ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه ومحاماة

__________________

(١) توازرت أي اجتمعت واتحدت.

(٢) حجر عليه الأمر: حرّمه ومنعه.

(٣) مقموعة: مقهورة ذليلة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189