الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله30%

الإنفاق في سبيل الله مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 194

الإنفاق في سبيل الله
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63584 / تحميل: 5880
الحجم الحجم الحجم
الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

لهم في إفطارهم لصوم نذره لشفاء ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولم يحدثنا التاريخ ان الرسول الأعظم ، وهو القائد الأعلى للمسلمين والأب الروحي لهم ، وولي الأمر ، ومن بيده بيت المال المسلمين رعى هذا البيت من الجهة المالية بأكثر مما كان يرعى يه بقية البيوت.

ان فاطمة بنت محمد :صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي كان يقبل يديها ويقول مفتخراً ليعلم الناس بمكانتها عنده ( فاطمة أم أبيها ) ، ويسلم عليها عند خروجه من المسجد ، وفي طريق عودته منه عنده كبقية نساء المسلمين.

وعلي : وهو الذي اتخذه أخاً عندما آخى بين المسلمين بعضهم مع البعض عنده من هذه الجهة كفرد من أفراد المسلمين من الجهة المالية.

والحسنان : ولطالما رأى المسلمون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطيل في سجوده لأن ، أحدهما جلس على ظهر جده فلا يريد أن ينحى لئلا ينزعج الطفل فيفسد عليه بسمته ، وفرحته.

هذا البيت الطاهر بهذه الأسرة الكريمة نراه خالياً من ثلاثة أصوع من الشعير يقتات بها أهله.

وهكذا تتجلى الأمانة علىالأموال ، والترفع عن مد اليد إلى أموال المسلمين وإن كان ذلك من مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهوالولي ، والمشرع الذي لا يقف في وجهه شيء.

١٢١

٣ ـ وفاطمة تطحن الشعير ـ ومن خلال هذا العمل تظهر عملية التكافل لتبرز بأجلى صورة عاطفية :

ففاطمة بنت النبي ، وزوجة أمير المؤمنين ، وأم الحسنين ، وسيدة نساء العالمين تتحمل المسؤلية بنفسها ، فتطحن الشعير ، وتخبزه ، وهي صائمة مع وجود خادمتها فضة في البيت.

هكذا فليكن العطف والنحو نحو الخدم ، والمساعدين ان الإسلام لا يريد من الفرد ان يفرض سيطرته على الأفراد بغض النظر عن شخصية هذا الفرد فالناس اكرمهم عند الله اتقاهم ، وهم كأسنان المشط لافضل لأبيضهم على أسودهم ، ولا العكس إلا بالتقوى.

وإنما أجاز أن يخدم بعضهم بعضاً بعنوان المساعدة ، ولقاء أجور يتقاضاها من يقدم الخدمة.

أما أن يكون ذلك سبباً لتسلط أحدهم على لآخر تسلطاً يشوبه الظلم والاستعلاء ، والتكبر فهذا ما لا يريده للمسلمين.

وحري بسيدات المجتمع وأمهات البيوت أن تكون هذه الحادثة هي المقياس للمعاملة مع الخدم والمساعدين ، وكل الطبقات الضعيفة المحرومة.

إن على ربة البيت أن تفكر أن الخادمة انسانة مثلها ، وليس على الله بعزيز ان يمكنها لتكون أم بيت مثلها ، ولكن لحكمة اقتضت هذا التفريق بينهما فتكون هي أم بيت وتلك خادمة.

ان التاريخ يحدثنا عن سيرة أهل البيتعليهم‌السلام مع

١٢٢

خدمهم وجواريهم فيعطينا صوراً رقيقة لمعاملة حسنة تنسي الخادم ، أنه يخدم في البيت.

فهذا أمير المؤمنينعليه‌السلام تقول مصادر التاريخ عنه انه كان يشتري الثوبين له ولغلامه قنبر ، ويخيره أولاً بانتقاء أحسنهما.

وفي صورة أخرى من صور العطف نرى الإمام زين العابدينعليه‌السلام في مشهد من المشاهد المألوفة في تلك الأيام تصب الجارية الماء على يده فيقع الأبريق على رأسه أو يده فيشجه ، وقبل أن يلتفت الإمام إلى الجارية تسارع الجارية والخوف قد أخذ مأخذه منها.

فتقول للإمام : والكاظمين الغيظ.

فيجيب الإمام : كظمت غيظي.

وتعقب الجارية قائلة : والعافين عن الناس.

فيقول الإمام : قد عفوت عنك.

وتطمع الجارية في المسامحة التي تشاهدها من الإمام فتقول :

«والله يحب المحسنين » :

فيبتسم الإمام في وجهها قائلاً : أذهبي فأنت حرة لوجه الله.

صلوات الله عليكم يا أهل بيت النبوة ويا معدن الخلق ، والسماحة ، والكرم. بهذه المعاملة الطيبة تعاملون الطبقات الفقيرة كأنهم اخوان لا خدم فلا تشعرونهم بذلة الخدمة ، بل بعزة الإنسان الذي يتطوع لمساعدة أخيه.

١٢٣

٤ ـ فانطلق الرسول معهم فرأى فاطمة في محرابها وقد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك ! :

يدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ابنته الصائمة التي أخذ الجوع منها مأخذه ، وبدلاً من أن يجدها تولول ، أو تثور في وجهه شاكية من انتقالها إلى مثل هذا البيت الذي لا تضم خباياه ثلاثة اصوع من شعير ، بدلاً من كل هذا ، وغيره يراها في محرابها تتجه إلى خالقها في خلوة حبيبه تقدسه ، وتمجده وتصلي له.

لقد فقدت فاطمةعليها‌السلام الغذاء الجسمي لأنها بذلك ضربت المثل الإعلى للمواساة ، ولكنها عوضت عنه بالغذاء الروحي لتسلم أمرها إلى الله الذي بذلوا كل نفيس في سبيل التقرب إليه.

إن هذا البيت المقدس ليكون بجدارة ، واستحقاق موضع عناية الله ، ورعايته وتقديره ليُذهب عن أهله الرجس ، ويطهرهم تطهيراً.

ولتنال هذه الأسرة الصابرة المحتسبة جزاء حبهم لله وتعلقهم به أن يقول عنهم القرآن لكريم :

( فواقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا *وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا *متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا *ودانية عليهم ظلالها وذُلّلَت قطوفها تذليلا *ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا *قواريرا من فضة قدروها تقديرا *ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا *عيناً فيها تسمى سلسبيلا *ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتم لؤلؤا منثورا *وإذ رأيت ثم رأيت

١٢٤

نعيما وملكاً كبيرا *عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسمقاهم ربهم شرابا طهورا *إن هذا كان لكم جزاء ) (١) .

وبعد كل هذا الجزاء الوافي تلقوا من ربهم الوسام الروحي الذي يفترحون به على مرور الزمن حيث قال سبحانه يختم هذه المشاهد :

( وكان سعيكم مشكورا ) (٢) .

وقبل أن نودع الآيات الكريمة بمشاهدها المثيرة وبما اشتملت عليه من عرض هذه الصور الجزائية نقول : ليس ذلك مختصاً بآل البيتعليهم‌السلام ليحرم منه غيرهم لا ، بل أن أهل البيت إنما نالوا ذلك لأنهم أظهر المصاديق لعباد الله المؤمنين المحبين له ، والمتفانين في ذاته المقدسة ، وقد جعل الله الباب مفتوحاً لكل فرد من الناس يرغب في إنشاء مثل هذه العلاقة معه فهو الغفور الرحيم ، وهو الذي يقبل التوبة من عباده ، وهو الذي يقول عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني إليه ؟.

__________________

(١ و ٢) سورة الدهر / آية : ١١ ـ ٢٢.

١٢٥

الشرط الثاني :

الاعتدال في الانفاق

لقد سبق أن بينا في أول البحث أن الإسلام قد أخذ بعين الاعتبار الاعتدال في الأمور كأساس للنظام الإجتماعي ، وبذلك يمكن التعديل وتسير الأمور على النحو الوسط.

وقد جعل من الآية الكريمة :

( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ) (١) .

مقياساً وضابطاً لتعديل الإنسان في حياته الإجتماعية. والآية الكريمة ، وان كان لسانها هو العطاء والبذل ، والمنع ، والشح ، ولكن ـ كما قلنا ـ آيات القرآن أحكام تشريعية لا تخص بمورد دون آخر ، ولا بوقت دون وقت إلا أن تقوم القرينة على الاختصاص ، ومع عدمها فالقضية تبقى عامة والحكم شامل وسار ، وقد اشتملت الآية الكريمة على مقاطع ثلاث ، ومن مجموعها تثبت القاعدة المذكورة.

١ ـ ( ولا تجعل يدك مغلوقة إلى عنقك ) :

وهذا هو المقياس ، والضابط للإمتناع ، وعدم الاقدام ومسك اليد كما لو كانت يد الإنسان مشدودة إلى عنقه فلا يقدر على

__________________

(١) سورة الاسراء / آية : ٢٩.

١٢٦

البذل ، والعطاء

٢ ـ( ولا تبسطها كل البسط ) :

وهذه هي الصورة المعبرة لإنبساط اليد ، وعدم الادخار بحيث يبذل الإنسان يبقى فلا شيئاً له.

فلا هذا ولا ذاك لأن كلاً من هاتين الحالتين تؤدي بالإنسان إلى عدم الاعتدال ، وحينئذٍ :

٣ ـ( فتقعد ملوماً محسوراً ) :

ملوماً في حالة الإمتناع حيث تلوكه الألسن وتتحدث عن بخله الناس فيلومونه على هذه الحالة.

ومحسوراً في حالة البسط ، والعطاء الكلي لأنه سينقطع عن كل أحد ، والناس كما يقول الشاعر :

والناس من يلق خيراً قائلون له

لك البقا ولأم الخاسر البهل

وقد جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام في توضيح له لهذه الآية :

« أن أمسكت تقعد ملوماً مذموماً ، وان أسرفت بقيت منحسرا مغموماً »(١) .

ومن هذا المنطلق والسير على ضوء هذه القاعدة الكبرى كأساس لحفظ التوازن والتعديل.

تأتي الآيات الكريمة لتضع الشرط الثاني للإنفاق فتقرر

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية ٢٩ من سورة بني اسرائيل.

١٢٧

ضرورة الاعتدال فيه.

( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) (١) .

والآية جاءت في معرض الحديث عن عباد الرحمن حيث قال سبحانه فيما سبق هذه الآية :

( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً *والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً *إنها ساءت مستقراً ومقاماً ) (٢) .

وقال تعالى فيما بعد هذه الآية ، وهو يعدد صفات عباده الذين ارتضاهم لنفسه.

( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما ) (٣) .

هؤلاء هم عباد الرحمن الذين تحدثت عنهم الآيات الكريمة بشيء من الاعتزاز.

سمتهم الاعتدال في كل اعمالهم مع ربهم ، ومع مجتمعهم ، وفي ليلهم ، وفي نهارهم.

أما مع ربهم حيث رأينا الآية تقول عنهم : انهم يبتون لربهم سجداً وقياماً.

__________________

(١) سورة الفرقان / آية : ٦٧.

(٢) سورة الفرقان / آية : ٦٣ و ٦٥ و ٦٦.

(٣) سورة الفرقان / آية : ٦٨.

١٢٨

يحنون إلى الليل كما تحن الطيور إلى أوكارها يقومون بين يدي الله خاشعين مصلين يسبحونه ويعظمونه سجداً وقياماً.

وربما كان منظرهم هذا وانهماكهم بالعبادة موجباً لأن يتخيل الإنسان أن هؤلاء رهباناً عباداً تركوا الدنيا وعزفت نفوسهم عن كل شيء ، واتجهوا إلى الله فأين الاعتدال في أوضاعهم ؟

وسرعان ما يتبدد هذا التصور عندما نراهم يطلبون من الله ، وهم في مثل هذا الحال قائلين :

( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ) (١) .

فهم في الوقت الذي يؤدون ما عليهم اتجاه خالقهم يريدون منه أن يهيء لهم أزواجاً ، ومن الأزواج ذرية طيبة تقر بذلك أعينهم فهم يجمعون بين الغذائين الروحي والجسدي.

وأما مع مجتمعهم فهم يتحسسون مشاكله ويعيشون آلام الطبقات الضعيفة ينفقون مما رزقهم الله ولا يضنون بالمال عليهم ، ولكن بشكل معتدل يرضون به ربهم ويحفظون به على رصيدهم.

( والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) (٢) .

وهذا هو الخط المعتدل في الصرف والانفاق « لم يسرفوا ولم يقتروا » حفاظاً على المال ورعاية له.

__________________

(١) سورة الفرقان / آية : ٧٤.

(٢) سورة الفرقان / آية : ٦٧.

١٢٩

( لم يسرفوا ) :

لأن المال الذي أعطاه الله لهم فيه حق لآخرين من الأهل والعيال والورثة فلا بد من رعايتهم لئلا يتركهم من يعول بهم يتسولون.

( ولم يقتروا ) :

لأن في ذلك جناية على المال وكفراناً لنعمة الله على من ملكه ذلك لأن الله رزق العبد لينتفع به وفي الوقت نفسه لينتفع به الآخرون من أفراد المجتمع لا ليحبسه ويحجر عليه.

وإذاً فلا بد من الاعتدال في الإنفاق والمحافظة على النقطة ، والوسط بين الحالتين ، ولذلك أوصت الآية الكريمة أن يتحلى الإنسان في هذه الحياة بما فيه إنفاقه بمضمون الآية عندما تقرر قوله تعالى :

( وكان بين ذلك قواماً ) :

والقوام الوسط العدل بين الافراط والتفريط وبين الاسراف والشح وبين الاسراع والتباطؤ.

وبعد أن تعدد الآيات صفات هؤلاء المؤمنين المعتدلين تبشرهم بجزاء هذه الصفات ، وهذا الاعتدال الطبيعي في مسيرتهم الحياتية.

( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً *خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً ) (١) .

__________________

(١) سورة الفرقان / آية : ٧٥ ـ ٧٦.

١٣٠

وكان من هؤلاء الذين ذكرت جزاءهم الآية الكريمة : المؤمنون المعتدلون في الانفاق ـ موضوع بحثنا ـ فقد جزاهم ربهم الغرفة ـ الجنة ـ تتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام تكريماً لهم خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً.

التحذير من الوقوع في التهلكة :

وفي وصايا أخرى تتعلق بموضوع بحثنا نرى القرآن الكريم يحذر المنفقين في أن يبسطوا أيديهم في إنفاقهم بما يضر بحالهم ويؤثر على الوضع المالي للمنفقين قال عز وجل :

( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (١) .

أما سبيل الله : هو كل طريق شرعه الله تعالى لعباده ، ويدخل فيه الجهاد والحج ، وعمارة القناطر ، والمساجد ، ومعاونة المساكين ، والأيتام ، وغير ذلك ، بل وكل ما أمر الله به من أبواب الخير ، والبر ، وحينئذٍ فيكون السبيل هو الطريق.

والآية تسير على نفس الخط الذي رسمته الآيات المتقدمة من ضرورة الاعتدال في الانفاق وعدم الإسراف فيه لأن الاسراف وانفاق المال يؤدي إلى التهلكة وهي الضياع إذ أن أصل الهلاك هو الضياع والهالك الفقير بمضيعة(٢) .

وإنما يكون بمضيعة لأنه كان غنياً موسراً فأصبح فقيراً معدماً ، فهو بمضيعة فقد ما يقوم مغاشه يقول الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ١٩٥.

(٢) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٣١

لو أن رجلاً انفق ما في يده في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق لقوله سبحانه :( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (١) .

وعندما يحذر القرآن المنفقين عن إلقاء أنفسهم في التهلكة عند الإنفاق بغير اعتدال فإنه في نفس الوقت يوجههم إلى السير المنظم في الطريق المستقيم كحد وسط بين الاسراف والتقتير لذلك ختمت الآية الموضوع بقوله عز وجل :

( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (٢) .

وقد فسر قوله ( المحسنين ) بالمقتصدين.

والاقتصاد هو الاعتدال في الصرف(٣) .

الإنفاق بدون تبذير :

ولا يقتصر الايصاء من القرآن على الاعتدال في الإنفاق من حيث القلة والكثرة ، بل هناك جهة أخرى لابد من رعايتها ، وهي عدم التبذير فقد قال سبحانه :

( وآت ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً *إن المبذرون كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) (٤) .

قال في المجمع التبذير التفريق بالاسراف ، وأصله أن يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الافساد. وما كان على

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ١٩٥.

(٣) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٤) سورة الاسراء / آية : ٢٦ ـ ٢٧.

١٣٢

سبيل الإصلاح لا يسمى تبذيراً وان كثر(١) .

وهذه النقطة لابد من ملاحظتها ورعايتها لأن النتائج المترتبة على التبذير أخطر من النتائج التي تترتب على الاسراف في الانفاق والذي عبر القرآن عنه بالوقوع بالتهلكة ، أو في الآية المتقدمة أن المسرف يقعد ملوماً محسوراً.

وذلك لأن الاسراف لا يخلف إلا الضرر على المنفق ، ومن يرثه حيث صرف المال كله وجلس معدماً محسوراً ، أما المبذر فإنه لا ينفق المال في حقه.

« وعن مجاهد لو انفق المال في باطل كان مبذراً ».

وفرق كثير بين إنفاقه كله وعلى الأخص لو كان في سبيل الله وبين إنفاقه في الباطل.

ولذا رأينا الآية الكريمة قالت عن المبذرين إنهم.

( كانوا إخوان الشياطين ) :

لأنهم لا ينفقون مالهم في الحق ، وفي طريق الخير ، ولذا كانوا إخواناً للشياطين وليتبوأ مقعده في النار من كان اخاً للشيطان وقريناً له.

أما المسرفون : فلم يرد فيهم مثل ذلك بل أقصى ما جاء فيه ان يدخل الضرر على نفسه فيقعد ملوماً محسوراً.

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٣٣

الشرط الثاث :

الإنفاق من الطيب ومما تحبون

الإنفاق من الطيب :

الإنفاق إحسان من المعطي إلى الفقير وتعاطف بين افراد المجتمع والله من وراء القصد يرعى هذه الأريحية ويبارك هذه الصفقات الخيرة.

وإذا كان الأمر كذلك فمن الأفضل أن يقدم المحسن أطيب ما عنده إلى الفقير.

وليس من اللائق أن يعطيه من الرديء ليتخلص منه.

الرديء الذي إذا قبضه الفقير قبضه وهو يغمض عينيه ويطرق برأسه.

والرديء الذي لو كان المعطي يريد بيعه لما اشتراه منه أحد إلا بأقل من ثمنه.

هذا الرديء هل يصلح ان يقدم هدية إلى الله وتقرباً لنيل مرضاته ؟

وهل بهذا النوع يرجو المعطي ان تكون صفقته مع الله تجارة لن تبور ؟

وهل أن هذا الرديء هو الذي يأمل المعطي أن يأخذه لله منه قبل أن يأخذه الفقير ؟

١٣٤

انها تساؤلات لابد للمنفق ان يجيب عليها أو يتأملها قبل أن يقدم النوع الرديء من المال إلى الفقير.

ولذلك ترى الآية الكريمة تحدد أبعاد نوعية ما يعطيه المحسن إلى المحتاجين.

( يا أيها الذينَ آمنوا أنفقوا من طيّباتِ ما كسبتم وممّا أخرجنَا لكم منَ الأرضِ ولا تيمّمُوا الخبيثَ منه تنفقونَ ولستم بآخذيهِ إلا أن تُغمضُوا فيه واعلمُوا أنَّ اللهَ غنيٌّ حميدٌ ) (١) .

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن قوماً من الانصار في المدينة كانوا يأتون بالحشف من التمر فيدخلونه في تمر الصدقة الجيد فنزلت الآية تنهاهم عن ذلك.

وقد تعرضت كتبت التفسير لهذه الرواية بشكل من التطويل ، والمهم هو ان هذه الرواية تعطينا ان الانفاق بعدما كان تضميداً لجراح الفقير ، ومواساة له في محنته ، فإن الخُلق الرفيع يقتضي أن تكون هذه المواساة على النحو الأحسن لتثمر وتؤثر أثرها الطيب في نفوس الضعفاء والمحرومين ليشعر كل فرد منهم بالعطف والمشاركة لهم في الطيب من العيش لا للتخلص من هذا الذي قدم لهم.

ان شعور الفقير بأن ما دفعه إليه المحسن من النوع الرديء إنما كان للتخلص من رداءته ليترك في نفسه الأثر السيء أزاء المنفق الذي بدل المفاهيم الخيرة.

على انه ـ كما قلنا ـ في البين طرف ثالث دخل في هذه الصفقة وهو ـ الله سبحانه ـ وهو يصرح بأنه عز وجل غني عن صدقاتهم وإنما يريد الخير لهم

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٧.

١٣٥

( واعلموا أن الله غني حميد ) :

فهو غني عما تقدمونه للفقير تقرباً له وحصولاً لمرضاته ، ولكنه ـ في نفس الوقت ـ حميد يشكركم على عطائكم لو أعطيتم.

ولكن هذا الشكر انما يكون لو أعطيتم ، ولو كان ما قدمتوه لوجهه من طيب ما تقدمونه.

ثم يعقب القرآن الكريم لينبه المنفقين بأن هذه الحالة التي تساوركم في دفع الرديء إنما تنشأ من حرصكم على المال وحبكم في المحافظة عليه ولذلك تأبى نفوسكم أن تقدموا الشيء الجيد لئلا تذهب خيار أموالكم فتصبحون معدمين فقراء وهذه وساوس شيطانية لا أساس لها فإن من قدم لله فعليه جزاؤه ، ومن كان جزاؤه على الله فكيف يخشى الفقر ؟.

وتدلل الآيات على ذلك بإجراء مقارنة بين وعدين أحدهما صادر من الشيطان والآخر من الله سبحانه وكم بين الوعدين من الفرق ..

( الشَّيطانُ يعدكمُ الفقرَ ويأمركم بالفحشاءِ واللهُ يعدكمْ مغفرةً منهُ وفضلاً واللهُ واسعٌ عليمٌ ) (١) .

( الشيطان يعدكم الفقر ) :

الشيطان يوحي بأن اعطاء المال الجيد ، أو مطلق بركم وإنفاقكم في سبيل الله يؤدي بكم بالنتيجة إلى الفقر.

( ويأمركم بالفحشاء ) :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٨.

١٣٦

أي المعاصي والرذائل ، وقيل بالإنفاق من الرديء وسماه فحشاء لأن فيه معصية الله حيث أنه لم يخرج مما عينه الله له فإن الغني إذا ترك الإنفاق على ذوي الحاجات من أقرابه وجيرانه ، وبقية أفراد المجتمع أدى ذلك إلى التقاطع ، وكل تركٍ لحقوق الله هو من الفحشاء.

وبذلك تنتهي وعود الشيطان ومغرياته.

( والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ) :

وعدان من الشيطان سبقا.

وها هما وعدان من الله تقررهما الآية الكريمة لمن ينفق عن طيب نفس ويخرج من جيد ماله لينعش به ذوي الدخل المحدود.

أحدهما : أخروي.

والآخر : دنيوي.

أما الأخروي : فهو الوعد بالمغفرة للذنوب وبذلك ينال المنفق الجنة.

وأما الدنيوي : فهو الفضل أي ويعدكم أن يخلف عليكم ما أنفقتموه ويتفضل عليكم بالزيادة.

وقد سبق لنا أن نقلنا الآيات الكريمة التي وعد الله فيها المنفقين بمضاعفة الرزق وأن ما ينفقونه بنسبة كل واحد في قبالة سبعمائة.

وقد جاء عن ابن عباس انه قال إثنان من الله وإثنان من الشيطان فاللذان من الله المغفرة على المعاصي ، والفضل في الرزق

١٣٧

والذان من الشيطان الوعد بالفقر ، والأمر بالفحشاء(١) .

ولنقارن بين الوعدين :

الله يعد بالفضل والزيادة.

والشيطان يعد بالفقر.

والله يعد بالمغفرة رحمة منه.

والشيطان يأمر بالفحشاء والرذيلة.

وليقف الإنسان ويخير نفسه بأي من هذين الوعدين يأخذ ؟.

الوعد المشرق من الله الذي يفتح أمام المنفق النوافذ العريضة ليطل منها على مغفرة الله وآيات فضله.

والوعد القاتم الكئيب من الشيطان ، الذي يغلق في وجه المنفق كل الابواب التي يرجوا أن يدخل منها إلى ساحة الله المقدسة لينعم بآلائه والطافه.

( والله واسع عليم ) :

وتختم الآية الكريمة المقارنة بين الوعدين : وعد الله ووعد الشيطان بهذا العتاب الرقيق ، وان الله واسع ، فلماذا الخوف من الفقر وتصديق الشيطان بما يخوفهم به ، والله واسع في عطيته ، وإنه اذا وعد وفى ؟ وحتى اذا لم يعد فهو الرازق ، وهو الرحيم وهو الودود وإذا صدر منه الوعد فإنما ليطمئن الإنسان بأنه سيلقى الجزاء ، بأحسن وبأكثر مما يتصوره المنفق فلا حاجة لوعد الله بعد

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٣٨

أن علم الإنسان أن مصدر العطاء هو الله سبحانه وان لطفه ورحمته لا يختصان بفئة دون فئة وقد جاء في الاخبار بأن رحمة الله يطمع فيها يوم القيامة حتى أبليس وهو أبغض الخلق إلى الله عز وجل.

وأخيراً فإنه مضافاً إلى سعة عطاء الله فإنه :

( عليم ) :

عليم بكل شيء ، ولا تخفى عليه خافية ، ومن ذلك ما يدفعه الإنسان ويقدمه في سبيله وطلباً لجلب مرضاته ، أو للرياء والسمعة والتقرب إلى الناس.

وعليم بمن يدفع الرديء عن قلة يد وعدم وجود أحسن منه ، أو للتخلص منه مع وجود الأحسن منه.

الإنفاق مما تحبون :

ومن الإنفاق من الطيب ينتقل القرآن الكريم إلى توجيه جديد يوجه به المنفقين إلى مرحلة يربط فيها بين المنفقين والمحتاجين بشكل أكد مما سبق حيث يجعل من الآيتين شخصاً واحداً على نحو يفكر الغني بالفقير كما لو يفكر بنفسه فيختار له ما يختاره لها ويجنبه مما لا يرغب فيه يقول سبحانه :

( لن تنالُوا البرَّ حتّى تنفقُوا ممّا تحبّوُن وما تنفقُوا من شيءٍ فإنَّ اللهَ بهِ عليمٌ ) (١) .

البر هو فعل الخير ، أو التوسع في فعل الخير ، ومن خلال هذه الآية تتجلى روعة التوجيه حيث أغلقت في وجه المنفق طريق

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

١٣٩

الوصول لينهل منها إلا إذا كان شعوره بحاجة أخيه المسلم كشعوره بنفسه وما يعاف منه لا يريده له ، وما رغب فيه يريد تماماً كما يقول الحديث :

« حب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك ».

وهذه هي الوحدة التي تجعل من أفراد المجتمع صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وبهذا النوع من الانصهار بين الطرفين المنفق والفقير تسود روح التعاون بينهما فينظر الغني إلى الفقير نظرة الأخ إلى أخيه فيحب له ما يحبه لنفسه ، وكذلك الفقير ينظر إلى الغني نظر المنعم إليه فيتربص الفرصة ليرد الجميل إليه.

« وقد روي عن الطفيل قال إن أمير المؤمنينعليه‌السلام اشترى فأعجبه فتصدق به وقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة ، ومن أحب شيئاً فجعله لله. قال الله تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافؤن فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافيك اليوم بالجنة »(١) .

وقد تصدق الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام بالسكر على الفقير فقيل له :

« أتتصدق بالسكر ؟ قال : نعم إنه ليس أحب إلي منه وأنا أحبُ أن أتصدق بأحب الأشياء إلي »(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية (٩٢) من آل عمران.

(٢) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٣٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194