الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله20%

الإنفاق في سبيل الله مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 194

الإنفاق في سبيل الله
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63390 / تحميل: 5861
الحجم الحجم الحجم
الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما منع سائلاً قط ، أو ما جاء في مناجاة لله لموسى بن عمران من قوله تعالى :

( يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو ببردٍ جميل ) .

لأن الأخذ بظاهر هذه الأخبار إكرام السائل بإعطائه أو برده رداً جميلاً لو لم يكن المعطي يرغب في إعطائه ، ومعنى ذلك تشجيع السائل على التسول لأنه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد من يكرمه ولا يرد له طلباً.

والجواب عن ذلك : أن الأخبار لم تأمرنا باعطاء المال على كل حال بل خيرت المعطي بين الإعطاء والرد وحينئذٍ فإن عرف حال السائل ، وأنه متسول رد رداً جميلاً أما لو كان محتاجاً ، وفقيراً ، أكرم ، وأعطى.

على أن هذه الأخبار ، وإن أطلق فيها لفظ السائل الشامل لكليهما المتوسل المحترف والمحتاج الحقيقي إلا أن الأخبار المصرحة : بأن النار جزاء المتسول تقيد إطلاق تلك الأخبار فتكون النتيجة : عدم رد السائل الواقعي ، ورد السائل المحترف طبقاً لأخبار التقيد ، وبذلك تنحل مشكلة التسول.

٤ ـ التماس الدعاء من السائل :

بذلك صرحت بعض الأخبار تبين بأن دعوة السائل في حق المنفق تستجاب لذلك نرى الأئمةعليهم‌السلام يحثون المنفق أن يطلبوا ممن يسألهم حاجة أو شيئاً من المال أن يدعو لهم.

وبهذا الصدد نرى أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول :

١٦١

« إذا ناولتم السائل شيئاً فاسألوه أن يدعو لكم »(١) .

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام أن علي بن الحسينعليه‌السلام قال :

« ما من رجل تصدق على مسكين مستضعف ، فدعا له المسكين بشيء تلك الساعة إلا استجيب له »(٢) .

ويقول الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حديث له : « دعوة السائل الفقير لا ترد »(٣) .

وقد تكرر هذا الارشاد منهم ( صلوات الله عليهم ) في حق المعطين ، وان يطلبوا من السائل الدعاء لأنهم يستجاب في حقهم حيث نبه على هذا المعنى الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حديث آخر له فقال :

« إذا اعطيتموهم فلقنوهم الدعاء فإنه يستجاب بهم فيكم ولا يستجاب لهم في أنفسهم »(٤) .

٥ ـ عدم الرجوع في الصدقة :

ومن أدب العطاء أن لا يرد المعطي الصدقة إذا أخرجها ليعطيها إلى الفقير فليس من المستحسن أن يردها من غير فرق في السبب بين أن يكون السائل قد رفضها ، أو لم يجد سائلاً ، أو ما شاكل ذلك من الأسباب.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٩٤ ـ وما بعد.

(٤) وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٦ / ٢٩٤ / ٢٩٥.

١٦٢

« من تصدق بصدقة فردت عليه ، فلا يجوز له أكلها ولا يجوز له إلا انفاقها إنما منزلتها بمنزلة العتق لله ، فلو أن رجلاً أعتق عبداً لله ، فرد ذلك العبد لم يرجع في الأمر الذي جعله لله فكذلك لا يرجع في الصدقة »(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام عندما سئل عن رجل يخرج بالصدقة ليعطيها السائل فيجده قد ذهب فقال :

« فليعطها غيره ، ولا يردها في ماله »(٢) .

إن الأمر بعدم ارجاع الصدقة يجسد لنا الحرص الشديد على أن يبقى الثواب الذي حصل عليه المعطي مجرداً له فلا يفوت ما حصل عليه بإرجاع الصدقة ، بل يبقيها لينال ثوابه.

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٦ / ٢٩٤ / ٢٩٥.

١٦٣

صفات ممدوحة في الفقير

١ ـ أغنياء من التعفف :

( للفقراءِ الّذين أحصروا فِي سبيلِ اللهِ لا يستطيعونَ ضرباً في الأرضِ يحسبهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّفِ تعرفهُم بسيماهُم لا يسألونَ الناسَ إلحافاً ومَا تنفقُوا من خيرٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عليم ) (١) .

مع الآية في مقاطعها :

( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) .

الحصر : هنا بمعنى المنع ، ويقول المفسرون : أن الآية الكريمة تحدثت عن مجموعة من الفقراء كانوا في المدينة ، وهم من أهل الصفة ، وأهل الصفة فقراء يتواجدون حول المسجد النبوي ، أو أمامه في رحبته خارج المسجد حسبوا أنفسهم عن العمل للمعاش.

وقد اختلفوا في سبب هذا الحبس.

فقيل : أنهم فعلوا ذلك لأنهم هيأوا أنفسهم للجهاد خوفاً من الكفار.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

١٦٤

وقيل : إن بعضهم منعه المرض من الكسب ، والتجارة.

وقيل : إنهم انصرفوا للعبادة.

وقيل : غير هذا ، وذاك من الأسباب.

إلا أن الذي لا خلاف فيه هو أن هؤلاء لم يستطيعوا العمل ، والكسب ، وهو المقصود بقوله تعالى :

( لا يستطيعونَ ضرباً في الأرضِ ) .

هؤلاء الفقراء لشدة تحملهم ، وظهورهم بالمظهر اللائق الذي يحفظ لهم كرامتهم ، وعزتهم ، وعدم مد يد الذل إلى الغير هو الذي جعلهم أغنياء في نظر الناس ممن يجهل حالهم ، وإنما عرفوا مما بدأ عليهم ، وظهر من آثار الجوع ، أو رداءة الملبس وإلا فانهم يحملون بين جوانبهم قلوباً ملؤها الإيمان بالله ، ونفوسا أبية تأبى أن تلوي جيداً لغير الله سبحانه.

( لا يسألونَ النّاسَ إلحافاً ) .

أي وعلى فرض طلبهم وسؤالهم من الناس لو الحت الحاجة بشكل اضطرهم إلى السؤال فإنهم يسألون بهدوء ، وبرفق يتناسب مع ما هم عليه من التعفف وما يتحلون به من رفعة ، وإباء.

وليأخذ الفقراء من هذه الآية درساً قيماً يكيفون به أوضاعهم على نحو ما ترسمه من التحدث عنهم ، وليثقوا بأن الله هو الرازق ، وهو المقدر ، وأنه لا يضيع من يتكل عليه.

٢ ـ دعاء السائل للمنفق وحمده لله :

صحيح أن المعطي يعطي لوجه الله ، والتقرب إليه ، ولكن لا

١٦٥

ينافي ذلك أن يجد المنفق من السائل تجاوباً على عطيته ، فيقابله بالشكر لله ، والدعاء له وبذلك يقوم برد بعض الجميل له ، ولعل ذلك يكون تشجيعاً للمعطي فيكرر العطاء له ، أو لغيره من المحتاجين.

نستفيد كل ذلك من الحديث الذي يحدثنا به أحد الرواة قائلا :

« كنا عند أبي عبد اللهعليه‌السلام بمنى ، وبين أيدينا عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله فامر له بعنقود فأعطاه فقال السائل : لا حاجة لي في هذا إن كان درهم فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً فذهب ، ثم رجع فقال : ردوا العنقود فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً ، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبو عبد اللهعليه‌السلام ثلاث حبات عنب ، فناولها إياها فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني.

فقال أبو عبد الله : مكانك فحثا ملأ كفيه عنباً ، فناولها إياه ، فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين. فقال أبو عبد الله : مكانك يا غلام أي شيء معك من الدراهم ؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً أو نحوها فناولها إياه ، فأخذها ثم قال : الحمد لله ، هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبد الله : مكانك ، فخلع قميصاً كان عليه فقال : ألبس هذا ، فلبس ، ثم قال : الحمد لله الذي كساني ، وسترني يا أبا عبد الله. أو قال : جزاك الله خيراً ثم إنصرف وذهب »(١) .

لنقف مع هذه الرواية وندفع عنها ما يرد عليها من إشكال مفاده :

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٧٢.

١٦٦

ما يقال : من أن الإمام كيف يرد السائل الأول لمجرد أنه لم يرغب في أخذ عنقود من العنب بل أراد درهماً ، وما يدرينا ، فلعل السائل كان محتاجاً إلى المال لا للعنب فما معنى رد الإمام له ، ولا أقل أن نطلب من الإمامعليه‌السلام أن يسأل عن سبب رد السائل العنب ، وطلبه الدرهم ؟

والجواب عن هذا الأشكال : بأن الإمام الصادقعليه‌السلام ربما كان يقصد من هذا الرد للسائل أن يعطي درساً لمن حضر ، ولمن يصله الخبر في أدب السؤال ، وذلك بتنبيه السائل بأن أدب السؤال يقتضي عدم رد العنب لأن رده تحقير للمنفق على عطائه ، بل كان أدب السؤال يقضي بقول الهدية ، ثم المطالبة بالمال واظهار الحاجة له أما هذه المقابلة بالرد فإنها غير مستساغة.

وعلى العكس من السائل الأول نرى السائل الثاني بقبوله لحبات العنب الثالثة وحمده لله على الرزق حفز الإمام على الزيادة بالعطاء ، وكرر السائل الحمد فكرر الإمام العطية ، وعاد السائل يحمد الله سبحانه فعاد الإمام بالمال ، وحمد السائل مجدداً فخلع الإمام قميصه عليه فانصرف السائل وقد حصل على العنب ، والدراهم ، والقميص وكان ذلك نتيجة حسن تصرف السائل في قبوله العطاء بينما حرم السائل الأول من كل ذلك نتيجة سوء تصرفه وأسلوبه المعوج في تقبله العطاء.

٣ ـ أن لا يسأل إلا مع الحاجة :

السؤال والتكفف ليس حرفة وليس هو ـ في نفس الوقت ـ هواية ليقصد الإنسان من وراء ذلك جمع المال ، والعيش على حساب الآخرين بل لابد من أن يكون السؤال نابعاً عن حاجة السائل

١٦٧

وعوزه وفي غير هذه الصورة فإن الشارع المقدس يمقت هذا النوع من التكفف ، ومد اليد إلى الآخرين وبالتالي يتوعد السائل لو تكفف من غير حاجة ، ولا احتياج.

يقول الأمام أبو عبد اللهعليه‌السلام :

« ما من عبد سأل من غير حاجة ، فيموت حتى يحوجه الله إليها ، ويثبت الله له بها النار »(١) .

وفي حديث آخر نراه يقول :

« من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الخمر »(٢) .

وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر من بحثنا لابد من الإجابة على السؤال عن هذا التشديد على السائل لو سأل من غير حاجة ، فإن مثل هذا السائل أقصى ما يقال في حقه : أنه نزل إلى المستوى الواطئ فرضي بالعيش ذليلاً يطلب من هذا ، ويسأل من ذاك وهذا أمر يخصه ، وعليه ينطبق عليه قول الشاعر :

« ومن لم يكرم نفسه لم يكرم ».

فلو ارتضى الشخص لنفسه أن لا يكرم فهل يكون جزاءه النار كما في الخبر الأول ، أو انه كمن اكل الخمر ؟ والمراد بالأكل هو شربها.

سؤال ينتظر الإجابة ؟

والجواب عن ذلك : ان الإسلام لا يرضى للفرد أن يكون كلاً على الآخرين ، بل يحبذ للإنسان الاعتماد على النفس ، والجد في

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٥.

(٢) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٦.

١٦٨

هذه الحياة ليأكل قوته من ثمرة جهوده التي يبذلها في الكسب ، والتجارة ، والعمل ، وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد كثيرة نهيه عن السؤال ، وإرشاد السائل بترك التكفف ، والدخول إلى معترك الحياة من الطريق الذي يحبذه الله لعباده وهو الطريق الذي سار عليه الأنبياء ، والأوصياء ، والصالحون كما حدثنا التاريخ عنهم ، وأنهم كانوا يعيشون من أعمالهم اليدوية ، أو البدنية.

يقول الإمام أبو عبد الله الصادق :

« لو أن رجلاً أخذ حبلاً فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكف بها خير له من أن يسأل »(١) .

وعنه أيضاً عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

« الأيدي ثلاثة : يد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد المعطى أسفل الأيدي فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم. إن الأرزاق دونها حجب ، فمن شاء قنى حيائه ، وأخذ رزقه ومن شاء هتك الحجاب ، وأخذ رزقه ، والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلاً ، ثم يدخل عرض هذا الوادي ، فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه ، ثم يدخل السوق ، فيبيعه بمدٍ من تمر فيأخذ ثلثه. ويتصدق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو حرموه ».

رزق حلال حصيلة جهد ، وعمل ، وربح ، وتجارة مع الناس ، ومع الله.

مع الناس : فيما حصله من ثمن ما احتطبه من ثلث المال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٠.

١٦٩

ومع الله : فيما أنفقه من ثلثي الحطب ، أو قيمته إلى الفقراء ، وبذلك يسد حاجته ، وحاجة غيره.

كل ذلك خير له من مد يد الذلة إلى الناس ينتظر ما تدر به عواطفهم نحوه.

على أن السائل بمد يده إنما يقصد إنساناً مثله فهو بهذه العملية يعرض عن التوجه إلى الله سبحانه ويبعد عن ساحته المقدسة ولو كانت ثقته بالله متينة ورصينة لما أعرض إلى غيره.

يقول لقمان الحكيم لولده :

« يا بني ذقت الصبر ، وأكلت لحا الشجر ، فلم أجد شيئاً امر من الفقر ، فأن بُليت به يوماً ، فلا تظهر الناس عليه ، فسيهينوك ، ولا ينفعوك بشيء إرجع الذي ابتلاك به فهو اقدر على فرجك ، واسأله فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه ؟ »(١) .

« فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه » ؟

استفهام إنكاري يحمل بين طياته دروساً قيمةً ، فالسائل هذا الإنسان العبد المخلوق والمسؤول هو الله سبحانه.

الله : الذي كرر في آيات عديدة من كتابه الكريم ضمانه للأجابة لو دعاه العبد.

الله : الذي تطوف ملائكته في أناء الليل ، وهم ينادون :

هل من داعٍ فيستجاب له ؟

هل من طالب حاجة لتقضى له ؟

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٧ ـ ٣١١.

١٧٠

هل من تائب ليقبل الله توبته ؟

لقد نام الملوك ، وغلقوا أبواب قصورهم ، وطاف عليها حراسها ، وبابه مفتوح لمن قصده.

الله : الذي تكفل بأرزاق العباد فقال في كتابه الكريم :

( وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ) .

بغض النظر عن مساويء العباد.

الله : يخاطب عباده في حديث قدسي قائلاً :

« عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني إليه ».

هذا الله العظيم هل يرد سائلاً مد يده إليه ؟

أو يوصد باب رحمته بوجه من طرق ذلك الباب ؟

أو يمنع رزقه عمن اتكل عليه ؟

إذاً لماذا يتجه السائل إلى إنسان مثله فقير إلى ربه ؟

١٧١

الإحسان إلى الأرحام

صلة الرحم ، وقطيعة الرحم ككل تعرضت لهما الآيات الكريمة ، والأخبار بصورة مكثفة ، وكلها تحذر من القطيعة ، وعدم التودد إلى الأرحام.

وقد بينت الأخبار ، وكشفت عن العواقب الوخيمة التي تترتب على التفكك الذي يحصل بين الأقرباء مهما كان السبب في ذلك التقاطع ، والتباعد ، ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ أهابت بأبناء الأسرة الواحدة أن يتقاربوا حول بعضهم وينشدوا ، ويكونوا كالجسم الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله.

يقول سبحانه :

( والّذينَ يصلونَ ما أمر اللهُ به أن يوصلَ ويخشونَ ربَّهم ويخافونَ سوءَ الحسابِ ـ إلى قوله ـأولئكَ لهم عُقبى الدّارِ ) (١) .

وفي آية أخرى :

( والّذين ينقضونَ عهدَ اللهِ من بعدِ ميثاقهِ ويقطعونَ ما أمرَ اللهُ به أن يوصلَ ويُفسدونَ في الأرضِ أولئكَ لهمُ اللّعنةُ ولهم سوءُ الدّارِ ) (٢) .

__________________

(١ و ٢) سورة الرعد / آية : ٢١ ، ٢٢ ، ٢٥.

١٧٢

مقابلة دقيقة بين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وبين الذين يقطعون ما أمر الله أن يوصل ، فلأولئك عقبى الدار ، ولهؤلاء سوء الدار.

والدار في الموضعين هي : الدار الآخرة. وعقبى الدار هي الجنة. وسوء الدار هي ، النار.

وما أمر الله به أن يوصل وإن كان في لسان الآية عاماً مشمولة للآيات والأخبار.

وهكذا الحال في قطيعة الرحم أيضاً فإنها تكون مشمولة إلا أن صلة الرحم من جملة ما أمر الله به أن يوصل فتكون على نحو ما هو الحال في صلة الرحم وبهذا الصدد تقول الآية الكريمة :

( واتّقُوا الله الذي تساءلونَ به والأرحامَ إنّ اللهَ كانَ عليكم رقيباً ) (١) .

وقد سأل أحد الرواة من الإمامعليه‌السلام عن قوله سبحانه :

( واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) .

فأجابعليه‌السلام بأنها أرحام الناس إن الله أمر بها أن توصل ، وعظمها ألا ترى أنه جعلها منه(٢) .

والمراد من قولهعليه‌السلام جعلها منه أي قرنها باسمه في الأمر بالتقوى.

ويقول عز وجل في آية آخرى :

__________________

(١) سورة النساء / آية : ١.

(٢) أصول الكافي : ٢ / ١٥٠.

١٧٣

( واعبدُوا الله ولا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدينِ إحساناً وبذِي القربى واليتامى ) (١) .

ومن خلال هذا الآية تظهر لنا أهمية الإحسان بالوالدين ، وبذي القربى حيث أوص الله بهم وقد قرن هذه الوصية بالأمر بعبادته ، وعدم الشرك به. ومن الواضح ما للأمر بعبادته من الأهمية بالنسبة إليه ، وهكذا عدم الشرك ، قد صرحت الآية الكريمة بذلك في قوله تعالى :

( إنّ اللهَ لا يغفرُ أن يشركَ بهِ ويغفرُ ما دونَ ذلكَ لمن يشاءُ ) (٢) .

وقد استفاضت الأخبار بالإشادة بصلة الأرحام والحث على التودد إليهم يقول الإمام الرضاعليه‌السلام :

« يكون الرجل يصل رحمه ، فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيصيرها الله ثلاثين سنة ، ويفعل الله ما يشاء ».

وعن الإمام محمد الباقرعليه‌السلام قوله :

« صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب وتنسيء في الأجل ».

وفي خبر آخر :

« صلة الرحم تحسن الخلق ، وتسمح الكف ، وتطيب النفس ، وتزيد في الرزق ، وتنشئ في الأجل » جاء ذلك عن

__________________

(١) سورة النساء / آية : ٣٦.

(٢) سورة النساء / آية : ٤٨.

١٧٤

الإمام الصادقعليه‌السلام »(١) .

وليس المراد بصلة الرحم هو الاقتصار على الأمور المالية ومد يد المساعدة إليهم بل القصد من وراء ذلك إظهار العطف والود وعدم الإنقطاع عنهم.

وقد ضرب الإمام الصادقعليه‌السلام مثلاً لأدنى ما يمكن إظهار للأرحام فقال :

« صل رحمك ولو بشربة من الماء »(٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( قوله ) :

« أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله ثم قطيعة الرحم »(٣) .

وقد طفحت كتب الحديث بالأخبار التي تحدثت عن الخلفيات التي تترتب على قطيعة الرحم.

هذه لمحة عن صلة الرحم ، وقطيعتها على نحو العموم.

أما في خصوص الإنفاق عليهم ، ومساعدتهم بالمال ، ونحوه فقد جاء ذلك مصرحاً في الأخبار التالية.

فعن الإمام الصادقعليه‌السلام :

« الصدقة على مسكين صدقة ، وهي على ذي رحمٍ صدقة ، وصلة »(٤) .

وعن الإمام الحسينعليه‌السلام أنه قال :

__________________

(١ و ٢ و ٣) لاحظ لهذه الأخبار أصول الكافي : ٢. ١٥٠ ـ ١٥١ ، وجامع السعادات : ٢ / ٢٥٩.

(٤) البحار : ٩٦ ، ٣٧ ، ١٤٧ ، ١٥٩.

١٧٥

« سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

إبدأ بمن تعول : أمك ، وأباك ، واختك ، وأخاك ، ثم أدناك ، فأدناك وقال : لا صدقة ، وذو رحمٍ محتاج »(١) .

وسئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« عن أي الصدقة أفضل ؟ فقال : على ذي الرحم الكاشح ».

هذا إذا أخذ الإنفاق على الأرحام من الأخبار الشريفة. ومن إطارها الذي يعتبر الصورة الأخرى المعبرة عن الكتاب المجيد.

وأما الانفاق من الناحية الإجتماعية ، فنراه مطابقاً لما تقتضيه الأصول الإجتماعية ذلك لأن الإعراض عنهم يكوم موجباً لزرع بذور الفتنة والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة بينما حرص الإسلام على لمّ شملها ، وجمعها.

على أن الكثير من الناس يتقبل من الرحم ، وتسمح نفسه أن يتقبل من الإقرباء هدية بينما لا يخضع لغيره. ولا تسمح نفسه للجوء إليه مهما كلف الثمن.

ولهذا رأينا الأخبار تؤكد على البدء بالعطاء ، والاحسان إلى القرابة وفي مقدمتهم أهل المحسن كما جاء عن الإمام الحسينعليه‌السلام في حديثه المتقدم.

آيات عامة في الإحسان :

لقد تعرض القرآن الكريم إلى ذكر الإحسان ، والتشويق له ، وحث الناس على عمل الخير بشكل عام من دون بيان لخصوصية

__________________

(١) البحار : ٩٦ ، ٣٧ ، ١٤٧ ، ١٥٩.

١٧٦

تلك الأعمال ، ونوعيتها ، وما يقدمه المحسن من النفع إلى الأخرين بل تركت الباب مفتوحاً أمام المحسنين ليشمل الإحسان كل ما ينفع المجتمع ، وينهض بالأفراد ، ولتعم الفائدة ، وليتسابق الناس إلى تقديم كل شيء يكون إحساناً ، وإلى كل فرد يحتاج لذلك الإحسان.

على أن الآيات الكريمة في عرضها لصور التشويق إلى الإحسان قد تنوعت في العرض المذكور.

تقول الآية الأولى :

( والله يحب المحسنين ) (١) .

وجاء في الثانية :

( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) (٢) .

وفي الثالثة قال سبحانه :

( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (٣) .

من مجموع هذا الآيات الثلاث نستفيد من النقاط التالية :

النقطة الأولى : إطباق الآيات الثلاث على الأخبار بأن الله يحب المحسنين ، ويمنحهم عطفه ووده.

النقطة الثانية : الفرق بين الثوابين الدنيوي ، والأخروي ، وأن

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٤٨.

(٣) سورة البقرة / آية : ١٩٥.

١٧٧

أحدهما غير الآخر ، وإلا فلو كانا شيئاً واحداً لما عطف ثواب الآخرة على ثواب الدنيا كما جاء ذلك في الآية الثانية حيث قال سبحانه :

( فآتاهُم اللهَ ثوابَ الدّنيا وحُسنَ ثوابِ الآخرةِ ) (١) .

ولو أراد وحدة الثواب لأخبر بأن المحسن يجازي بالثواب من دون تفصيل ، ويبقى الثواب على إطلاقه ليشمل كلا الثوابين : الدنيوي والأخروي.

وقد يقال في بيان الفرق بين الثوابين : أن ثواب الدنيا ما يعود إلى الرزق ، وعدم الابتلاء بالحاجة إلى الغير ، وحسن السمعة بين الناس ، ومنح المحسن العمر الطويل ، وما شاكل من القضايا التي يكون النفع فيها واصلاً إلى المحسنين في هذه الحياة.

وأما ثواب الآخرة : فهو الجنة والنعيم الدائم.

النقطة الثالثة : الأمر بالإحسان مضافاً إلى محبة الله للمحسن وقد جاء ذلك في الآية الثالثة في قوله تعالى :

( وأحسِنُوا أن الله يحبُ المحسنينَ ) .

وكما جاء في آية أخرى قال فيه سبحانه :

( إنّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ ) (٢) .

ولو لم نقل بأن الأمر في هذه الآية يدل على الوجوب الإلزامي بالعمل بالإحسان إلى الآخرين فلا أقل من القول بشدة مجبوبيته له سبحانه.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٤٨.

(٢) سورة النحل / آية : ٩٠.

١٧٨

النقطة الرابعة : أن الآية الثانية قد اشتملت على أمرين :

الأول : ان الله يمنح الثواب لمن أحسن في الدنيا قبل الآخرة :

الثاني : بيان أن الله يحب المحسن.

ومن هنا نقول : لسائل أن يطلب التوضيح عما يكتنف هذه الآية من غموض بالنسبة لمحبة الله للمحسن ، وما تأثيرها بعد أن ضمن الله له الثوابين ، وعلى الأخص بعد أن فسر ثواب الآخرة بالجنة ، فمن وعد بالجنة ما يصنع بثواب الدنيا ؟.

والجواب عن ذلك : أن محبة الله لعبده نوع تكريم من الله لعبده فهو بهذا الانعطاف إليه يحيطه بهذه الرعاية الخاصة ، وهذا اللطف الإلهي ، فيجعل المحسن محبوباً إليه.

ان المحسن له الحق أن يفتخر بهذا الشرف الرفيع ، وإن كان قد منحه الله الجنة في الآخرة وهذا هو ثوابه في الدنيا ومحبة الله له.

ويتجلى هذا اللطف الكريم من خلال الآية التي رعت المحسن ، فمنحته شرف رعاية الله له بمعيته فقال سبحانه :

( إنّ اللهَ معض الّذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُم محسنونَ ) (١) .

والإحسان في هذا الآيات ، وإن كان عاماً يشمل الإنفاق وغيره ، ولكن ـ كما قلنا ـ أن الإنفاق أحد مصاديق الإحسان ، ويكفي للمنفق أن يكون من جملة من يشمله اطلاق هذه الآيات الكريمة التي تشكل من حيث المجموع ترغيباً وتشويقاً للإنسان في الإنفاق باعتباره إحساناً إلى الغير.

__________________

(١) سورة النحل / آية : ١٢٨.

١٧٩

أدب العطاء عند أهل البيتعليهم‌السلام

العطاء إلى المحتاجين على قسمين :

١ ـ عطاء بمقدار من المال يرفع به المنفق حاجة الفقير الوقتية ويدفع عنه بعض المصاعب التي يواجهها في حياته اليومية نتيحة فقد انه المال.

٢ ـ وعطاء يتميز بالمال الكثير يقدمه المعطي هدية للفقير ليستعين به على تبديل حالته وتغيير مجاري حياته المالية من الفقر إلى الغنى.

ونحن أمام هذين العطاءين :

فالأول منهما : لا يحل مشكلة الفقير ، ولا يعالج قضية الفقير من الجذر إذ لا يريح المحتاج ، ويخلصه من ويلات الحرمان.

أما الثاني : فإنه يحقق هذه الغاية وينحو نحو هذا الهدف السامي لأنه يتناول المشكلة ، فيعالجها من الأساس بإقتلاع جذورها العميقة ، وبذلك تكون هدية المعطي من القسم الثاني ليس لإنعاش الفقير فقط بل خدمة يقدمها إلى مجتمعه بتبديل عناصر لها خطورتها بعناصر طيبة يرجى منها كل الخير.

١٨٠

لذلك لا عجب إذا رأينا أهل البيتعليهم‌السلام ينحون في عطائهم إلى تحقيق هذه الغاية فنشاهد أغلب الوقائع التي كانوا يقدمون فيها العطاء إلى المحتاجين كان الإنفاق فيها من القسم اثاني فلم يكن عطاؤهم نزراً يقصدون به رفع حاجة الفقير الوقتية ولئلا يرجع السائل عن بابهم بخيبة أمل ، بل كان عطاؤهم وفيراً يقصدون فيه تبديل حالة السائل وتغيير عنوانه من فقير عاطل إلى غني عامل.

تقول مصادر التاريخ أن الإمام الحسن بن عليعليها‌السلام اعطى سائلاً قصده خمسين ألف درهماً وخمسمائة دينارٍ ، وأعطى طيلسانه للحمال الذي جاء ينقل هذا المال وفي واقعة أخرى نراه ( صلوات الله عليه ) يعطي سائلاً قصده عشرين ألف درهم وعندما شاهد السائل هذه الأريحية ، وهذا الكرم قال والحيرة تأخذ عليه مسالك التفكير :

يا مولاي الا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي.

فأجابه الإمام : وهو يردد هذه الأبيات.

نحن أناس نوالنا خضل

يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا

خوفاً على ماء وجه من يسل(١)

إن آل البيت الهاشمي عندما يعطون شعارهم في العطية ( إذا أعطيت فأغني ).

وهذا معنى العطاء الجزل الذي حصل أغنى من وصل إليه.

ولنقف أمام هاتين الواقعتين من عطاء الإمامعليه‌السلام فبالامكان أن نستفيد من خلالهما الأمور التالية :

__________________

(١) لاحظ لهاتين الواقعتين المجالس السنية : ٥ / ٣٥٠.

١٨١

الأمر الأول : أدب العطاء ويظهر ذلك من مبادرة الإمام بالعطاء قبل أن يبدأ السائل بالمسألة وبذلك حفظ له كرامته فلم يمهله ليعرض عليه حاجته وتبدو على وجهه إمارات الذل ، بل بادره بقضاء حاجته.

وقد حصل مثل ذلك لسائل آخر في مجلس الإمام الرضاعليه‌السلام فقد نقل لنا أحد الرواة أن سائلاً سأل الإمام أن يعطيه مقداراً من المال لأنه فقد نفقته فقال له :

« قد افتقدت نفقتي وما معي ما ابلغ به مرحلة فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ».

ويأتي الجواب من الإمام قائلاً : اجلس رحمك الله ، ثم دخل الحجرة ، وخرج ، وقد رد الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، وقال اين الخراساني ؟ فقال : أنا ذا.

فقال : خذ المائتي دينار فاستعن بها في مؤنتك واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج.

وهنا تكلم أحد الحاضرين قائلاً : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال : مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته.

أما سمعت حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتستر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول ، والمتستر بها مغفور له أما سمعت قول الأول :

متى آته يوم أطالب حاجة

رجعت إلى أهلي ووجهي بمائة(١)

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٩.

١٨٢

الأمر الثاني : اغناء السائل. إن الإمام عندما يعطي هذا المقدار من المال وبهذه الكثرة لا يخلوا الحال فيه :

فإما أن يكون من بيت مال المسلمين حيث يتصرف فيه بحسب ولايته الشرعية وهو أعرف بصرفه.

أو أنه من ماله الشخصي ويتصرف فيه تصرفاً شخصياً.

وفي كلتا الحالتين لا يتصرف جزافاً ولا يجوز لنا أن نقول : إنه بعمله هذا يبعثر المال.

ولعل الحكمة من ذلك هو إنعاش الفقير بإغنائه ليكون ما يقدمه له مساعدةً لتغيير حالته من الفقر إلى الغنى فيستعين بذلك المال على الكسب ، والتجارة وشق طريقه في هذه الحياة على نحو أفضل مما هو عليه ، فهو بعمله هذا ينقذ إنساناً شاءت الأقدار أن تسوقه إلى هذا المجرى من العيش الردئ.

شمولية العطاء

ولم يقتصر عطاء الإمام على السائل ، بل كان للحمال الذي جاء لنقل المال حصة من الإحسان حيث قدم له الإمام طيلسانه ، ولا بد أن نعرف أن طيلسان الإمام ليس شيئاً عادياً ، وإلا فلو كان شيئاً عادياً لما قدمه لهذا المسكين ولو كان حمالاً إن الإمامعليه‌السلام بهذه الهدية يريد ارضاء جميع الأطراف ، وعدم خروج فقير من الفقراء من مجلسه كسير النفس ، ولذلك أرضى حتى الواسطة في النقل فطابت نفس الحمال وهو يضع الطيلسان على كتفيه.

هذه لون من العطاء.

١٨٣

وهناك لون آخر نشاهد وقائعه تمر مع مسيرة الإمام علي بن الحسينعليها‌السلام الحياتية فإن عطاءه كان يشتمل على نحوين من الإحسان.

عطاء الإمام من القسم الأول :

تقول مصادر التاريخ ان الإمام زين العابدينعليه‌السلام كان يخرج في الليل وهو يحمل الطعام ، والكساء ، والدراهم ، والدنانير ، وربما حمل الحطب على كتقه ليوزع كل ذلك على الفقراء ، وهو متنكر لا يريد أن يعرفه الفقراء ، ولكنهم عرفوه بعد وفاته لأنهم افتقدوه بعد انقطاعه عنهم.

وليس هذا النوع من العطاء بعيداً عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام فقد تلقاه عن مسيرة جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وشاركه بهذه المسيرة أولاده ، وأحفاده من أئمة أهل البيت ( صلوات الله عليهم ) وكانوا يقولون لمن يعترض عليهم هذه الطريقة لما فيها من الانهاك ، والتعب ، ولربما بعض الشيء من النقص عندما تصدر من أحدهم وهو على جانب كبير من المهابة والأجلال : « صدقة الليل تطفئ غضب الرب ».

وكان كثير من الأئمة يسيرون على هذه الطريقة مع بعض أرحامهم وهم لا يعرفونه ولربما صدر من بعضهم الدعاء عليه لأنه لم يصله ، والإمام يغضي عن ذلك ولا يلتفت إليه لئلا يعرفه.

كل ذلك للحفاظ على كرامة المحتاجين والتستر على الحالة التي هم عليها.

١٨٤

عطاء الإمام من القسم الثاني :

عتق العبيد

لظروف وأسباب قد لا تكون خافية على من درس أوضاع الجزيرة العربية آنذاك وبقية الممالك ، والمدن التي كان سوق العبيد فيها رائجاً ، والتجارة بهم رابحة فإن الإسلام لم يواجه الأمة وهو في أول المسيرة بالغاء الرقيق إذ لم يكن بالإمكان منع ما جرى عليه العرف السائد في وقته.

وبما أن الإسلام حرص على غلق باب الرق ، وكان هذا من الأسس الأولية لبناء المجتمع الإسلامي لذلك عالج هذه المشكلة من طريقين :

الأول : غلق باب الرق ابتداءً إلا في حالة الحرب بين المسلمين والكفار جهاداً ، أو دفاعاً وبشروط يتعرض لها الفقهاء في بحوثهم الفقهية.

الثاني : تصريف ما كان موجوداً من الرقيق بفتح الباب لعتقهم حيث جعل من جملة ما يكفر به عند ارتكاب بعض الخطايا عتق الرقبة.

وهكذا فيمن ملك أحد العمودين جانب الإب ، أو الأم ، فإنه يعتق عليه قهراً.

ومثل ذلك موضوع الطوارئ القهرية التي تحل بالإنسان من الأمراض وغيرها. فإنه يعتق قهراً عند حلول ذلك الطارئ القهري

١٨٥

كما لو قطعت يده ، أو رجله ، أو عمي وما شاكل.

وبعد كل هذا اخذ الإسلام يشوق الناس إلى التقرب إلى الله بعتق العبيد ، وجعل ثواباً عظيماً لمن يحرر نسمة ، ويخلصها من قيود العبودية وبذلك فتح الروافد الكثيرة لتصريف ما كان موجباً من العبيد لينهي مشكلة تأصلت بين الناس في ذلك الوقت(١) .

وعلى هذا سار المحسنون فكانوا يتسابقون على شراء العبيد ، وعتقهم لوجه الله سبحانه وكان من جراء هذه الروافد تخفيف حدة العملية الرقية ، وكساد سوق الرقيق إلى أن وصل الأمر إلى تقلصها بل وانها قد انعدمت في أيامنا هذه.

ولكن الملاحظ من الواقع الذي يعيشه أهل البيتعليهم‌السلام اتجاه هذه المشكلة انهم لم يكتفوا بتصريف العبيد بشرائهم وعتقهم بل كانوا يقومون بأعمال أخرى تربوية واجتماعية مضافاً إلى عملية العتق والتحرير.

ولنبدأ مع الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام من المراحل الأولى التي يشتري فيها العبد ويهيؤه للعتق :

المرحلة الأولى : وتبدأ بتعليم العبد ، وتثقيفه ثقافة إسلامية ، وتأديبية بالأداب التي يريدها الإسلام.

المرحلة الثانية : وبعد ذلك يعتقه لوجه الله لا على نحو الجزاء عن كفارة ليكون الغرض من العمل هو التقرب الصرف لله سبحانه ، ونيل مرضاته.

__________________

(١) لقد تعرضنا لموضوع الرق ومعالجة الإسلام له وحل مشكلته بشكل موسع في كتابنا الحجر وأحكامه في الشريعة الإسلامية / ٤٥٤.

١٨٦

المرحلة الثالثة : تزويده بالمال ليساعده على الاستعانة به في الكسب والتجارة ليشق طريقة في هذه الحياة من جديد لا أن يكون كلاً على الناس كما كان كلاً على مولاه قبل عتقه.

وكانعليه‌السلام يتحين الفرص المناسبة لعتقهم ، ويكون ذلك في موسم الأعياد من شهر رمضان ، أو الأضحى ليضيف إلى فرحة العتق فرحة استقبال العيد بحرية كاملة.

أما معاملته معهم فكانت معاملة رقيقة تنسيهم ذل العبودية والرقية ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن الإمام زين العابدين لم يكن يعاقب عبده لو صدر منه ما يوجب العقوبة بل كان يسجل عليه خطأه ، ويحصيه ، وينتظر إلى أحد العيدين رمضان ، أو الأضحى ، وعندها يجمعهم ، ويقرأ لهم ما ارتكبوه من الأخطاء كل ذلك يجريه معهم بلطف ، وأدب لا بزجز ، وخشونة. وبعد أن يأخذ منهم إعترافهم بما صدر منهم بعد تذكير كل منهم بوقت الخطأ ، ومكانة.

واذا ما تم كل ذلك أصدر حكمه عليهم بقوله :

قد عفوت عنكم.

ولم يكتف بذلك بل يقول لهم بعدها :

فهل تعفون عني ما كان مني إليكم ؟.

فيقولون : قد عفونا عنك وما أسأت.

وهل يكتفي بهذا المقدار من الإعتذار ، والتنازل ؟ ويأتي الجواب : لا ، بل يوقفهم ويكلفهم بإصدار عفوهم عنه بمظهر الدعاء قائلاً لهم :

١٨٧

قولوا : اللهم اعفوا عن علي بن الحسين كما عفا عنا(١) .

وبعد أن يستجيبوا لما طلب منهم من العفو على هذا النحو من الدعاء يحررهم ، ويعتقهم لوجهه تعالى ، ويعطيهم بعض المال ليبدأوا بذلك مسيرتهم في حياتهم الجديدة.

ومن خلال هذه المسيرة مع الإمامعليه‌السلام في معاملة عبيده التي تتكرر كل عام مرة ، أو مرتين نتعرف على مدى ما يتحلى به الإمامعليه‌السلام من لطف ، وأدب ونفس رقيقة ، وروح تربوية عالية ، فهو لم يعاقب عبيده إذا أخطأوا ، بل يطلب منهم العفو ، وهو صاحب العفو ، ولا يتركهم يشعرون بالتقصير او التصاغر أمامه يطلب منهم العفو ، وهو من مصدر القوة.

ويكلمهم بهدوء ، واتزان ، وبلسان يقطر رقة قائلاً لهم :

فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم ؟

ولنرى ما كان منه اليهم ؟ فمن كان يحمل مثل هذه النفسية الرفيعة ماذا يصدر منه طلية المدة التي يكونون ضيوفاً عليه في طريق تسريحهم إلى عالم الحرية.

ان الذي يصدر منه ما هو إلا الحنو ، والشفقة ، واللطف ، والرعاية بكل معانيها ، وقد عودهم أن يجالسهم ، ويأكل معهم ، ويلبسهم أحسن اللباس ، ولا يجور عليهم. كل ذلك ليعلمهم كيف يشقون طريقهم في حياتهم الجديدة بعد العتق.

معاملة طيبة ونتيجة حسنة.

__________________

(١) المجالس السنية : ٥ / ٤٠٣.

١٨٨

فمن العبودية إلى الحرية.

ومن الجهل إلى العلم.

ومن الفقر إلى الغنى.

ولو فتشنا كتب التاريخ لرأينا هذه السيرة هي نفس السيرة التي جرى عليها بقية الائمة من أهل البيتعليهم‌السلام مع العبيد بل مع الفقراء والمحتاجين لا بل ومع كل أحد من الناس بغض النظر عن العناوين التي تميز بعض الناس عن بعضهم الآخر.

سلام الله عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، والتنزيل.

وسلام الله عليكم يوم ولدتم ، ويوم متم ، ويوم تبعثون ، وإن كنتم أحياء عند ربكم ترزقون.

١٨٩

١٩٠

الفهرست

تعال معي نتصفح الكتاب ٩

ملكية الفرد للمال : ١٣

التكافل الإجتماعي : ١٩

١ ـ الأنفاق الإلزامي. ٢٧

أ ـ الضرائب المترتبة على الأموال. ٢٧

أولاً الزكاة ٢٧

ما تجب فيه الزكاة : ٣٣

من تصرف إليه الزكاة : ٣٣

ثانياً الخمس(١) ٣٤

الموارد التي يجب فيه الخمس : ٣٤

من يستحق الخمس : ٣٥

فكرة الخمس من التكافل : ٣٦

١ ـ كفارة القتل : ٣٦

٢ ـ كفارة الأفطار في شهر رمضان : ٣٧

٣ ـ من أفطر يوماً : ٣٧

٤ ـ فدية الأفطار عن مرض : ٣٧

٥ ـ كفارة الظهار : ٣٧

٦ ـ كفارة الايلاء : ٣٧

٧ ـ كفارة اليمين : ٣٧

٨ ـ كفارة النذر : ٣٨

٩ ـ كفارة العهد : ٣٨

١٠ ـ كفارة المخالفة في الاحرام : ٣٨

١٩١

٢ ـ الانفاق التبرعي. ٤٠

قبل أن نبدأ : ٤٠

الطرق التي سلكها القرآن الكريم. ٤٤

للحث على الإنفاق. ٤٤

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه : ٤٤

الصورة الأولى من التشويق : ٤٥

الضمان بالجزاء ٤٥

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط : ٤٥

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء : ٥٠

الصورة الثانية من التشويق : ٥٦

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين. ٥٦

الصورة الثالثة من التشويق : ٦٧

الانفاق ينمي المال. ٦٧

١ ـ الإنفاق ـ تجارة لن تبور : ٦٨

٢ ـ الإنفاق ـ ينمي المال كما تنبت الأرض الزرع : ٧٠

٣ ـ الإنفاق ـ قرض يضاعفه الله : ٧٣

الصورة الرابعة من التشويق : ٨١

الله يأخذ الصدقات.. ٨١

الصورة الخامسة من التشويق : ٨٤

الاسراع بالتصدق قبل فوات الأوان. ٨٤

الصورة السادسة من التشويق : ٨٧

للصدقة مزايا عديدة ٨٧

الفقير هدية الله إلى الغني : ٩٠

تشويق غير المنفقين على التوسط بهذا العمل  ٩٢

أ ـ الإنساني : ٩٢

١٩٢

ب ـ التأنيب على عدم الإنفاق : ٩٥

ج ـ الترهيب والتخويف على عدم الانفاق : ١٠٥

شروط الإنفاق : ١٠٩

الشرط الأول : ١١٢

ابتغاء وجه الله. ١١٢

الشرط الثاني : ١٢٦

الاعتدال في الانفاق. ١٢٦

التحذير من الوقوع في التهلكة : ١٣١

الإنفاق بدون تبذير : ١٣٢

الشرط الثاث : ١٣٤

الإنفاق من الطيب ومما تحبون. ١٣٤

الإنفاق مما تحبون : ١٣٩

الشرط الرابع : ١٤١

أن لا يتبع العطاء بالمن والأذى. ١٤١

صفات ممدوحة في المنفق. ١٥٢

١ ـ صدقة السر : ١٥٢

٢ ـ الإيثار على النفس : ١٥٦

الذين يسخرون من المتصدقين : ١٥٨

٣ ـ عدم رد السائل : ١٥٩

مشكلة التسول : ١٦٠

٤ ـ التماس الدعاء من السائل : ١٦١

٥ ـ عدم الرجوع في الصدقة : ١٦٢

صفات ممدوحة في الفقير ١٦٤

١ ـ أغنياء من التعفف : ١٦٤

٢ ـ دعاء السائل للمنفق وحمده لله : ١٦٥

١٩٣

٣ ـ أن لا يسأل إلا مع الحاجة : ١٦٧

الإحسان إلى الأرحام ١٧٢

آيات عامة في الإحسان : ١٧٦

أدب العطاء عند أهل البيت عليهم‌السلام.... ١٨٠

عطاء الإمام من القسم الأول : ١٨٤

عطاء الإمام من القسم الثاني : ١٨٥

عتق العبيد. ١٨٥

الفهرست.. ١٩١

١٩٤