الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله30%

الإنفاق في سبيل الله مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 194

الإنفاق في سبيل الله
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63585 / تحميل: 5880
الحجم الحجم الحجم
الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

لذلك لا عجب إذا رأينا أهل البيتعليهم‌السلام ينحون في عطائهم إلى تحقيق هذه الغاية فنشاهد أغلب الوقائع التي كانوا يقدمون فيها العطاء إلى المحتاجين كان الإنفاق فيها من القسم اثاني فلم يكن عطاؤهم نزراً يقصدون به رفع حاجة الفقير الوقتية ولئلا يرجع السائل عن بابهم بخيبة أمل ، بل كان عطاؤهم وفيراً يقصدون فيه تبديل حالة السائل وتغيير عنوانه من فقير عاطل إلى غني عامل.

تقول مصادر التاريخ أن الإمام الحسن بن عليعليها‌السلام اعطى سائلاً قصده خمسين ألف درهماً وخمسمائة دينارٍ ، وأعطى طيلسانه للحمال الذي جاء ينقل هذا المال وفي واقعة أخرى نراه ( صلوات الله عليه ) يعطي سائلاً قصده عشرين ألف درهم وعندما شاهد السائل هذه الأريحية ، وهذا الكرم قال والحيرة تأخذ عليه مسالك التفكير :

يا مولاي الا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي.

فأجابه الإمام : وهو يردد هذه الأبيات.

نحن أناس نوالنا خضل

يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا

خوفاً على ماء وجه من يسل(١)

إن آل البيت الهاشمي عندما يعطون شعارهم في العطية ( إذا أعطيت فأغني ).

وهذا معنى العطاء الجزل الذي حصل أغنى من وصل إليه.

ولنقف أمام هاتين الواقعتين من عطاء الإمامعليه‌السلام فبالامكان أن نستفيد من خلالهما الأمور التالية :

__________________

(١) لاحظ لهاتين الواقعتين المجالس السنية : ٥ / ٣٥٠.

١٨١

الأمر الأول : أدب العطاء ويظهر ذلك من مبادرة الإمام بالعطاء قبل أن يبدأ السائل بالمسألة وبذلك حفظ له كرامته فلم يمهله ليعرض عليه حاجته وتبدو على وجهه إمارات الذل ، بل بادره بقضاء حاجته.

وقد حصل مثل ذلك لسائل آخر في مجلس الإمام الرضاعليه‌السلام فقد نقل لنا أحد الرواة أن سائلاً سأل الإمام أن يعطيه مقداراً من المال لأنه فقد نفقته فقال له :

« قد افتقدت نفقتي وما معي ما ابلغ به مرحلة فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ».

ويأتي الجواب من الإمام قائلاً : اجلس رحمك الله ، ثم دخل الحجرة ، وخرج ، وقد رد الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، وقال اين الخراساني ؟ فقال : أنا ذا.

فقال : خذ المائتي دينار فاستعن بها في مؤنتك واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج.

وهنا تكلم أحد الحاضرين قائلاً : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال : مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته.

أما سمعت حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتستر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول ، والمتستر بها مغفور له أما سمعت قول الأول :

متى آته يوم أطالب حاجة

رجعت إلى أهلي ووجهي بمائة(١)

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٩.

١٨٢

الأمر الثاني : اغناء السائل. إن الإمام عندما يعطي هذا المقدار من المال وبهذه الكثرة لا يخلوا الحال فيه :

فإما أن يكون من بيت مال المسلمين حيث يتصرف فيه بحسب ولايته الشرعية وهو أعرف بصرفه.

أو أنه من ماله الشخصي ويتصرف فيه تصرفاً شخصياً.

وفي كلتا الحالتين لا يتصرف جزافاً ولا يجوز لنا أن نقول : إنه بعمله هذا يبعثر المال.

ولعل الحكمة من ذلك هو إنعاش الفقير بإغنائه ليكون ما يقدمه له مساعدةً لتغيير حالته من الفقر إلى الغنى فيستعين بذلك المال على الكسب ، والتجارة وشق طريقه في هذه الحياة على نحو أفضل مما هو عليه ، فهو بعمله هذا ينقذ إنساناً شاءت الأقدار أن تسوقه إلى هذا المجرى من العيش الردئ.

شمولية العطاء

ولم يقتصر عطاء الإمام على السائل ، بل كان للحمال الذي جاء لنقل المال حصة من الإحسان حيث قدم له الإمام طيلسانه ، ولا بد أن نعرف أن طيلسان الإمام ليس شيئاً عادياً ، وإلا فلو كان شيئاً عادياً لما قدمه لهذا المسكين ولو كان حمالاً إن الإمامعليه‌السلام بهذه الهدية يريد ارضاء جميع الأطراف ، وعدم خروج فقير من الفقراء من مجلسه كسير النفس ، ولذلك أرضى حتى الواسطة في النقل فطابت نفس الحمال وهو يضع الطيلسان على كتفيه.

هذه لون من العطاء.

١٨٣

وهناك لون آخر نشاهد وقائعه تمر مع مسيرة الإمام علي بن الحسينعليها‌السلام الحياتية فإن عطاءه كان يشتمل على نحوين من الإحسان.

عطاء الإمام من القسم الأول :

تقول مصادر التاريخ ان الإمام زين العابدينعليه‌السلام كان يخرج في الليل وهو يحمل الطعام ، والكساء ، والدراهم ، والدنانير ، وربما حمل الحطب على كتقه ليوزع كل ذلك على الفقراء ، وهو متنكر لا يريد أن يعرفه الفقراء ، ولكنهم عرفوه بعد وفاته لأنهم افتقدوه بعد انقطاعه عنهم.

وليس هذا النوع من العطاء بعيداً عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام فقد تلقاه عن مسيرة جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وشاركه بهذه المسيرة أولاده ، وأحفاده من أئمة أهل البيت ( صلوات الله عليهم ) وكانوا يقولون لمن يعترض عليهم هذه الطريقة لما فيها من الانهاك ، والتعب ، ولربما بعض الشيء من النقص عندما تصدر من أحدهم وهو على جانب كبير من المهابة والأجلال : « صدقة الليل تطفئ غضب الرب ».

وكان كثير من الأئمة يسيرون على هذه الطريقة مع بعض أرحامهم وهم لا يعرفونه ولربما صدر من بعضهم الدعاء عليه لأنه لم يصله ، والإمام يغضي عن ذلك ولا يلتفت إليه لئلا يعرفه.

كل ذلك للحفاظ على كرامة المحتاجين والتستر على الحالة التي هم عليها.

١٨٤

عطاء الإمام من القسم الثاني :

عتق العبيد

لظروف وأسباب قد لا تكون خافية على من درس أوضاع الجزيرة العربية آنذاك وبقية الممالك ، والمدن التي كان سوق العبيد فيها رائجاً ، والتجارة بهم رابحة فإن الإسلام لم يواجه الأمة وهو في أول المسيرة بالغاء الرقيق إذ لم يكن بالإمكان منع ما جرى عليه العرف السائد في وقته.

وبما أن الإسلام حرص على غلق باب الرق ، وكان هذا من الأسس الأولية لبناء المجتمع الإسلامي لذلك عالج هذه المشكلة من طريقين :

الأول : غلق باب الرق ابتداءً إلا في حالة الحرب بين المسلمين والكفار جهاداً ، أو دفاعاً وبشروط يتعرض لها الفقهاء في بحوثهم الفقهية.

الثاني : تصريف ما كان موجوداً من الرقيق بفتح الباب لعتقهم حيث جعل من جملة ما يكفر به عند ارتكاب بعض الخطايا عتق الرقبة.

وهكذا فيمن ملك أحد العمودين جانب الإب ، أو الأم ، فإنه يعتق عليه قهراً.

ومثل ذلك موضوع الطوارئ القهرية التي تحل بالإنسان من الأمراض وغيرها. فإنه يعتق قهراً عند حلول ذلك الطارئ القهري

١٨٥

كما لو قطعت يده ، أو رجله ، أو عمي وما شاكل.

وبعد كل هذا اخذ الإسلام يشوق الناس إلى التقرب إلى الله بعتق العبيد ، وجعل ثواباً عظيماً لمن يحرر نسمة ، ويخلصها من قيود العبودية وبذلك فتح الروافد الكثيرة لتصريف ما كان موجباً من العبيد لينهي مشكلة تأصلت بين الناس في ذلك الوقت(١) .

وعلى هذا سار المحسنون فكانوا يتسابقون على شراء العبيد ، وعتقهم لوجه الله سبحانه وكان من جراء هذه الروافد تخفيف حدة العملية الرقية ، وكساد سوق الرقيق إلى أن وصل الأمر إلى تقلصها بل وانها قد انعدمت في أيامنا هذه.

ولكن الملاحظ من الواقع الذي يعيشه أهل البيتعليهم‌السلام اتجاه هذه المشكلة انهم لم يكتفوا بتصريف العبيد بشرائهم وعتقهم بل كانوا يقومون بأعمال أخرى تربوية واجتماعية مضافاً إلى عملية العتق والتحرير.

ولنبدأ مع الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام من المراحل الأولى التي يشتري فيها العبد ويهيؤه للعتق :

المرحلة الأولى : وتبدأ بتعليم العبد ، وتثقيفه ثقافة إسلامية ، وتأديبية بالأداب التي يريدها الإسلام.

المرحلة الثانية : وبعد ذلك يعتقه لوجه الله لا على نحو الجزاء عن كفارة ليكون الغرض من العمل هو التقرب الصرف لله سبحانه ، ونيل مرضاته.

__________________

(١) لقد تعرضنا لموضوع الرق ومعالجة الإسلام له وحل مشكلته بشكل موسع في كتابنا الحجر وأحكامه في الشريعة الإسلامية / ٤٥٤.

١٨٦

المرحلة الثالثة : تزويده بالمال ليساعده على الاستعانة به في الكسب والتجارة ليشق طريقة في هذه الحياة من جديد لا أن يكون كلاً على الناس كما كان كلاً على مولاه قبل عتقه.

وكانعليه‌السلام يتحين الفرص المناسبة لعتقهم ، ويكون ذلك في موسم الأعياد من شهر رمضان ، أو الأضحى ليضيف إلى فرحة العتق فرحة استقبال العيد بحرية كاملة.

أما معاملته معهم فكانت معاملة رقيقة تنسيهم ذل العبودية والرقية ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن الإمام زين العابدين لم يكن يعاقب عبده لو صدر منه ما يوجب العقوبة بل كان يسجل عليه خطأه ، ويحصيه ، وينتظر إلى أحد العيدين رمضان ، أو الأضحى ، وعندها يجمعهم ، ويقرأ لهم ما ارتكبوه من الأخطاء كل ذلك يجريه معهم بلطف ، وأدب لا بزجز ، وخشونة. وبعد أن يأخذ منهم إعترافهم بما صدر منهم بعد تذكير كل منهم بوقت الخطأ ، ومكانة.

واذا ما تم كل ذلك أصدر حكمه عليهم بقوله :

قد عفوت عنكم.

ولم يكتف بذلك بل يقول لهم بعدها :

فهل تعفون عني ما كان مني إليكم ؟.

فيقولون : قد عفونا عنك وما أسأت.

وهل يكتفي بهذا المقدار من الإعتذار ، والتنازل ؟ ويأتي الجواب : لا ، بل يوقفهم ويكلفهم بإصدار عفوهم عنه بمظهر الدعاء قائلاً لهم :

١٨٧

قولوا : اللهم اعفوا عن علي بن الحسين كما عفا عنا(١) .

وبعد أن يستجيبوا لما طلب منهم من العفو على هذا النحو من الدعاء يحررهم ، ويعتقهم لوجهه تعالى ، ويعطيهم بعض المال ليبدأوا بذلك مسيرتهم في حياتهم الجديدة.

ومن خلال هذه المسيرة مع الإمامعليه‌السلام في معاملة عبيده التي تتكرر كل عام مرة ، أو مرتين نتعرف على مدى ما يتحلى به الإمامعليه‌السلام من لطف ، وأدب ونفس رقيقة ، وروح تربوية عالية ، فهو لم يعاقب عبيده إذا أخطأوا ، بل يطلب منهم العفو ، وهو صاحب العفو ، ولا يتركهم يشعرون بالتقصير او التصاغر أمامه يطلب منهم العفو ، وهو من مصدر القوة.

ويكلمهم بهدوء ، واتزان ، وبلسان يقطر رقة قائلاً لهم :

فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم ؟

ولنرى ما كان منه اليهم ؟ فمن كان يحمل مثل هذه النفسية الرفيعة ماذا يصدر منه طلية المدة التي يكونون ضيوفاً عليه في طريق تسريحهم إلى عالم الحرية.

ان الذي يصدر منه ما هو إلا الحنو ، والشفقة ، واللطف ، والرعاية بكل معانيها ، وقد عودهم أن يجالسهم ، ويأكل معهم ، ويلبسهم أحسن اللباس ، ولا يجور عليهم. كل ذلك ليعلمهم كيف يشقون طريقهم في حياتهم الجديدة بعد العتق.

معاملة طيبة ونتيجة حسنة.

__________________

(١) المجالس السنية : ٥ / ٤٠٣.

١٨٨

فمن العبودية إلى الحرية.

ومن الجهل إلى العلم.

ومن الفقر إلى الغنى.

ولو فتشنا كتب التاريخ لرأينا هذه السيرة هي نفس السيرة التي جرى عليها بقية الائمة من أهل البيتعليهم‌السلام مع العبيد بل مع الفقراء والمحتاجين لا بل ومع كل أحد من الناس بغض النظر عن العناوين التي تميز بعض الناس عن بعضهم الآخر.

سلام الله عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، والتنزيل.

وسلام الله عليكم يوم ولدتم ، ويوم متم ، ويوم تبعثون ، وإن كنتم أحياء عند ربكم ترزقون.

١٨٩

١٩٠

الفهرست

تعال معي نتصفح الكتاب ٩

ملكية الفرد للمال : ١٣

التكافل الإجتماعي : ١٩

١ ـ الأنفاق الإلزامي. ٢٧

أ ـ الضرائب المترتبة على الأموال. ٢٧

أولاً الزكاة ٢٧

ما تجب فيه الزكاة : ٣٣

من تصرف إليه الزكاة : ٣٣

ثانياً الخمس(١) ٣٤

الموارد التي يجب فيه الخمس : ٣٤

من يستحق الخمس : ٣٥

فكرة الخمس من التكافل : ٣٦

١ ـ كفارة القتل : ٣٦

٢ ـ كفارة الأفطار في شهر رمضان : ٣٧

٣ ـ من أفطر يوماً : ٣٧

٤ ـ فدية الأفطار عن مرض : ٣٧

٥ ـ كفارة الظهار : ٣٧

٦ ـ كفارة الايلاء : ٣٧

٧ ـ كفارة اليمين : ٣٧

٨ ـ كفارة النذر : ٣٨

٩ ـ كفارة العهد : ٣٨

١٠ ـ كفارة المخالفة في الاحرام : ٣٨

١٩١

٢ ـ الانفاق التبرعي. ٤٠

قبل أن نبدأ : ٤٠

الطرق التي سلكها القرآن الكريم. ٤٤

للحث على الإنفاق. ٤٤

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه : ٤٤

الصورة الأولى من التشويق : ٤٥

الضمان بالجزاء ٤٥

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط : ٤٥

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء : ٥٠

الصورة الثانية من التشويق : ٥٦

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين. ٥٦

الصورة الثالثة من التشويق : ٦٧

الانفاق ينمي المال. ٦٧

١ ـ الإنفاق ـ تجارة لن تبور : ٦٨

٢ ـ الإنفاق ـ ينمي المال كما تنبت الأرض الزرع : ٧٠

٣ ـ الإنفاق ـ قرض يضاعفه الله : ٧٣

الصورة الرابعة من التشويق : ٨١

الله يأخذ الصدقات.. ٨١

الصورة الخامسة من التشويق : ٨٤

الاسراع بالتصدق قبل فوات الأوان. ٨٤

الصورة السادسة من التشويق : ٨٧

للصدقة مزايا عديدة ٨٧

الفقير هدية الله إلى الغني : ٩٠

تشويق غير المنفقين على التوسط بهذا العمل  ٩٢

أ ـ الإنساني : ٩٢

١٩٢

ب ـ التأنيب على عدم الإنفاق : ٩٥

ج ـ الترهيب والتخويف على عدم الانفاق : ١٠٥

شروط الإنفاق : ١٠٩

الشرط الأول : ١١٢

ابتغاء وجه الله. ١١٢

الشرط الثاني : ١٢٦

الاعتدال في الانفاق. ١٢٦

التحذير من الوقوع في التهلكة : ١٣١

الإنفاق بدون تبذير : ١٣٢

الشرط الثاث : ١٣٤

الإنفاق من الطيب ومما تحبون. ١٣٤

الإنفاق مما تحبون : ١٣٩

الشرط الرابع : ١٤١

أن لا يتبع العطاء بالمن والأذى. ١٤١

صفات ممدوحة في المنفق. ١٥٢

١ ـ صدقة السر : ١٥٢

٢ ـ الإيثار على النفس : ١٥٦

الذين يسخرون من المتصدقين : ١٥٨

٣ ـ عدم رد السائل : ١٥٩

مشكلة التسول : ١٦٠

٤ ـ التماس الدعاء من السائل : ١٦١

٥ ـ عدم الرجوع في الصدقة : ١٦٢

صفات ممدوحة في الفقير ١٦٤

١ ـ أغنياء من التعفف : ١٦٤

٢ ـ دعاء السائل للمنفق وحمده لله : ١٦٥

١٩٣

٣ ـ أن لا يسأل إلا مع الحاجة : ١٦٧

الإحسان إلى الأرحام ١٧٢

آيات عامة في الإحسان : ١٧٦

أدب العطاء عند أهل البيت عليهم‌السلام.... ١٨٠

عطاء الإمام من القسم الأول : ١٨٤

عطاء الإمام من القسم الثاني : ١٨٥

عتق العبيد. ١٨٥

الفهرست.. ١٩١

١٩٤