حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر0%

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 355

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

مؤلف: احمد حسين يعقوب
تصنيف:

الصفحات: 355
المشاهدات: 172114
تحميل: 4856

توضيحات:

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 355 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172114 / تحميل: 4856
الحجم الحجم الحجم
حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

مؤلف:
العربية

الفصل الرابع :

المهمة الكبرى للمهدي

المنتظر

بعد انتقال النبي الأعظم إلى جوار ربه ، واستيلاء بطون قريش على منصب الخلافة بالقوة والتغلب ، وحيازتها الفعلية للملك الذي تمخضت عنه النبوة ، حدثت تغييرات هائلة وشاملة وجذرية ، طالت كل شيء كان النبي قد مسّه ، فنقلته من مكان إلى آخر ، وعدلت وبدلت فيه ، حتى غيرت حقيقته تماماً ولم يبق منه إلا اسمه أو رسمه الإسلامي.

فقد حلت عرى الإسلام كلها سريعاً عروة بعد عروة ، ورفعت مضامينه ومفاهيمه الجوهرية من واقع الحياة تماماً أو حيّدتها!! ولم يبق من الإسلام إلا اسمه والاطار العام أو الشكل اللازم لبقاء الملك ، وتوسيع رقعة المملكة أو الأمبراطورية ولكن باسمه ، أما الإسلام الحقيقي بجوهره ومضمونه فقد صار غريباً لا يعرفه المجتمع أبداً!! ولا شيء يدل عليه أو يرمز إليه إلا الفئة المؤمنة القليلة والمتكوّنة من آل محمد وأهل بيته وقدامى المحاربين المؤمنين الذين قامت دولة النبوة على أكتافهم ، وانتشرت دعوة الإسلام بسيوفهم وألسنتهم ، وصحبوا النبي فـحسنوا الصحبة ووالوه فأخصلوا بالولاء ، واستوعبوا ووعوا علوم الإسلام ، فلما مات النبي تمسّكوا بالقرآن وبأهل بيت كما أمروا فنقمت عليهم دولة الخلافة ، وصبت جام غضبها عليهم فعزلتهم مع أهل بيت النبوة ، وحرّمت عليهم

٦١

تولي الوظائف العامة وكممت أفواهم ، وضيقت عليهم معيشتهم ، ونفّرت الناس منهم ، فأُذلوا وعزُلوا تماماً وصاروا غرباء کغربة الإسلام والإيمان!! وهم من عناهم النبي بقوله: «فطوبي للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس ». [ راجع سنن الدارمي ج‍ ٢ ص ٣١١ ـ ٣١٢ وصحيح مسلم ج‍ ١ ص ١٣٠ وصحيح الترمذي ج‍ ٥ ص ١٨ ] اسم الإسلام ورسمه ، والقرآن الكريم بين دفتين ، وأهل بيت النبوة ، القليلة المؤمنة الغريبة المستضعفة هم جميعاً كل ما تبقى من الإسلام وعمق الشعور بالإحباط وجذّر المصيبة وضاعفها ان دولة الخلافة قد أجبرت أهل بيت النبوة وآل محمد وقدامى المحاربين وكافة أفراد الفئة المؤمنة على الجلوس على مقاعد التلاميذ وقصرت دورهم على الاستماع والموافقة بعد أن سلمت الأمرة والقيادة ومنصب « الاستاذية والتعليم » إلى الطلقاء وحديثي العهد بالاسلام مع أنه لا علم لهم بالدين ويجهلون تاريخ رجالاته!! فقدمت دولة الخلافة المتأخرين بالقوة وأمّرتهم ، وأخّرت المتقدمين السابقين بالقوة وأجبرتهم على الاعتراف بأنهم متأخرون بالقوة أيضاً!!!

ولم تكتف بذلك إنما خلطت الأوراق خلطاً عجيباً!! فلم يعد المراقب المنصف يدري بالفعل أياً من أي كما قال الرسول وحذّر!!

وهكذا اقتصرت مهمة الدين على حراسة تاريخ عصر ما بعد النبوة وإثبات شرعية وقائعه وظواهره التي تمخضت عنها الحركة السياسية لمسيرة الخلفاء المتغلبين من بعد النبي!!! وهرولت وراءهم الأكثرية الساحقة من الأمة طمعاً برغيف العيش وبقياً منها على الحياة وتربت هذه الأكثرية تحت قبّة الرأي والتأويل المفضي مباشرة إلى فقه الهوى ، ونشأ فقه الهوى بالفعل وصار هو القانون النافذ في المجتمع ، وتمكن هذا الفقه من النفوس ، وظهر أو أُظهر بصورة الدين الإسلامي وثوبه ، وألقى هذا الفقه أجرانه في ديار الإسلام!! فعليك أن تقبل به وبتاريخ ما بعد النبوة معاً ، أو ترفض الدين وهذا التاريخ معا!! فهما وجهان لعملة واحدة ، وكل جيل كان يسلم راية فقه الهوى للجيل الذي يليه ، فأشربت قلوب المسلمين كليات وتفاصيل هذا الفقه بما كسبت أيديهم ، وكانت الأجيال كلها تتحرك تحت إشراف وسطوة الخلفاء المنقلبين الذين صنعوا هذا الفقه ورعوه ،

٦٢

ومنه استمدوا شرعية وجودهم وسلطتهم!!

ومع أن المسلمين يعترفون بأن عرى الإسلام كلها قد حلت عروة بعد عروة ، وأنه لم يبق من الإسلام عروة بدون حل!! وهم يعترفون أيضاً بأن الإسلام قد أخرج من واقع الحياة ومسرحها وصار تاريخاً ، وهم يقرون أن الإسلام والإيمان والمسلمين والمؤمنين الصادقين قد صاروا جميعاً غرباء وأن حكم الله قد رفع من الأرض ، وأن الأمة الإسلامية لم تُعد أمة وسطاً وأنها لم تعد مؤهلة لتكون الشاهدة على الناس ، وكان هذا واضحاً للناس جميعاً من اللحظة التي اصبح فيها الذين عادوا الله ورسوله هم الحكام والمعلمون وأجبر أهل بيت النبوة وأولياء الله ورسوله على أن يكونوا تابعين ومحكومين ومقتصر دورهم على الإصغاء والسكوت أو مواجهة الموت الزؤام!!

مع أن المسلمين يعرفون كل ذلك معرفة تامة ، ويقرون بحدوثه ووقوعه إلا أنه ليست لأحد من المسلمين الرغبة لمعرفة : مَن الذي فكك الإسلام ، وحلّ عراه ، وتسبب بإخراجه من واقع الحياة ، وجعله والمتمسكين به في حالة غربة وهو صاحب الدار ، ومن الذي مكّن أعداء الله والمتأخرين من أن يصبحوا هم القادة وفرض على أهل بيت النبوة وقدامى المحاربين المؤمنين والفئة المؤمنة التأخر والذل؟!!

مع أن معرفة أولئك الذين تسببوا بكل هذه المصائب أمر ضروري!! وتشخيص لا بد منه لوصف الدواء!!

وإذا رغب المسلمون بمعرفة من الذي فعل بهذه الأمة هذه الأفاعيل وتسبب بدمار الإسلام والمسلمين فإن رغبتهم تصطدم مع فقه الهوى الذي أُشربته قلوبهم ، وحسب قواعد هذا الفقه ، فإن طاعة ومحبة الذين حلّوا عرى الأسلام وجعلوه غريباً واجبة ، ومعصيتهم ، أو كراهيتهم ، أو الخروج عليهم حرام بالإجماع!!! فمحبتهم واجبة وهم أموات ، والاقتداء بهم دين حتى وإن كانوا مخلئين!!

وهكذا تصطدم الرغبة بتشخيص الداء ومعرفة الأعداء بفقه الهوى الذي تمكّن من النفوس واستقر فيها بعد ١٤ قرناً من المداومة على حفظه على ظهر قلب

٦٣

والإيمان به وتصطدم مع اللاشعور المسكون بالرعب والخوف من سيوف المتغلبين وأعوانهم ، والخشية من قطع العطاء ، والحرمان من الجاه والنفوذ!! فلاشعور الأمة ما زال تحت سطوة معاوية والخلفاء الأمويين.

لهذا كلما سأل المسلم نفسه التساؤلات التي طرحناها قبل قليل يسيطر على قلبه وسمعه وعقله عالم لاشعوره المملوء بالرعب والعائش بالفعل تحت سلطة معاوية وحكمه ، عندئذ يلعن هذا المسلم الشيطان ويعود لنفس الدائرة التي سجن المسلمون فيها أنفسهم طوال التاريخ!!!

فنكون أمام مشكلة حقيقية مستعصية الحل ، فلو عاش الناس مليون قرن فلن يخرجوا من هذه الدائرة التي سجنوا أنفسهم فيها ، ولن تفارقهم أشباح الرعب التي تتحكم بلا شعورهم!! فنحن أمام عقبة کبرى لا يمكن أن يقتحمها إلا نبي أو ولي مجرب ومدعوم إلهياً ، وبما أن محمداً هو رسول الله وخاتم النبيين ولا نبي بعده ، فيكون الولي العارف المجرب المطّلع هو القادر على حل مشكلة المسلمين واجتياز هذه العقبة الكؤود ، وإخراجهم من الدائرة التي سجنوا أنفسهم فيها.

وقد اختار الله سبحانه وتعالى عبده محمد بن الحسن ليكون هو المهدي المنتظر ، لحل المشكلة العالمية من عقالها وتجاوز العقبة ، وإخراج الناس من دائرة التقليد الأعمى( انّا وَجَدْنا ءاباءنا على أُمّةٍ ) إلى دائرة الإبداع الملتزم! وقد وهب الله تعالى للمهدي المنتظر عمراً طويلاً ، وقدرةً هائلة على التنقل والاستيعاب ، والتخفي ، فهو يعيش بين الناس ، ويفهم كليات وتفاصيل ما يجري في العالم وهو ينتظر اكتمال الأسباب وأمر الله له بالظهور والخروج فعندما يخرج المهدي المنتظر تکون أسباب النجاح قد هيئت تماماً ، فيقوم المهدي المنتظر تكون أسباب الجاح قد هيئت تماماً ، فيقوم المهدي المنتظر بإعادة عن بعضها البعض ، ويضع النقاط على الحروف ويسمى الأشياء بأسمائها ، ويقدم الإسلام على حقيقته للعالم ، فتزول الغشاوات عن العيون ، والرين عن القلوب ، ويشكل المهدي حكومته العالمية من المؤمنين الصادقين أصحاب القوة والأمانة من رجال العالم ونسائه ، وتصبح كل أقاليم العالم « دوله » ولايات لدولته ويصبح كل أبناء الجنس البشري رعايا ومواطنين في دولته

٦٤

تعاملهم بكل المحبة والاحترام لا فرق بين لون ولون أو بين عرق وعرق ، أو بين قوم وقوم ، وتؤول إلى خزينة دولة المهدي كافة موارد العالم الاقتصادية ، فيوزعها بين الناس بالسوية دون أن يميز أحداً عن أحد ، لأن الحاجات الأساسية لبني البشر متشابهة ، وخلال عهده تُعطي السماء كل بركاتها ، وتخرج الأرض كل كنوزها وخيراتها ويقصم المهدي كل جبار في الأرض. ويتحرر الإنسان من الخوف والعوز معاً ، وتتفتح أمام أبناء الجنس البشري أبواب ومنافذ العصر الذهبي الدنيوي الذي لا يضاهيه عصر في الدنيا ، فلا عدوان ولا بغي ولا ظلم ، ولا خوف ولا عوز ، ولا مرض ولا قلق

هذه هي الخطوط العريضة لتوجهات المهدي المنتظر واتجاهاته وهذه هي المهمة الکبرى التي اختار الله عبده المهدي المنتظر ولإنجازها وهذا هو المهدي الذي طالما بشر به النبي ، ووعد المؤمنين والجنس البشري بالخلاص على يديه ، وهذا هو خاتم الأئمة الذين اختارهم الله لقيادة العالم!

٦٥

٦٦

الباب الثاني

الاعتقاد بالمهدي المنتظر

٦٧

٦٨

الفصل الأول :

الاعتقاد بالمهدي المنتظر

شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره

شاع الاعتقاد بحتمية ظهور المنقذ « المهدي » وانتشر في كافة أرجاء المعمورة ، وأخذ أشكالاً مختلفة ، ولكنها تتعلق بالمآل بذات الفكرة. وسلمت بفكرة ظهوره كافة التيارات الکبرى في كافة المجتمعات البشرية القديمة.

وأجمعت على حتمية هذا الظهور الطلائل المستنيرة من أتباع الديانات السماوية الثلاث ، وعلى الأخص الديانة الإسلامية ، والطلائع المستنيرة من أتباع الملل الأخرى الشائع بين الناس بأنها غير سماوية.

فعلى الرغم من اختلافهم في المنابت والأصول واختلاف عقائدهم وتوجهاتهم وأديانهم ، ومصادر معارفهم ، إلا أنهم قد اتفقوا على حتمية ظهور المنقذ ، وأن هذا المنقذ مختلف ومميز من جميع الوجوه ، وآمنوا بقدرته على الإنقاذ ، واعتقدوا بأن عهده هو عهد العدل والكفاية والعزة ، تلك هي الفكرة الرئيسة التي لا خلاف عليها ، والتي شاعت وانتشرت على مستوى العالم ، وطوال التاريخ البشرى. وتوارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل.

ويتعذر على أي باحث منصف ، في مجال الفكر السياسي العالمي أن يتجاهل حجم ومدى شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره ، حيث يجد له موقعاً في كافة العقائد والأديان.

٦٩

حقيقة هذا الاعتقاد

من العسير على أي باحث موضوعي ، بل على أي إنسان سوّي الفطرة أن يتصور ولو للحظة واحدة بأن هذا الإجماع العالمي على الفكرة الرئيسة ، قد حدث جزافاً أو أنه وليد وَهْم خرافة أو أسطورة ، أو أن هذا الإجماع كان صدفة!! لأن الثابت بأن هذا الاعتقاد بالفكرة الرئيسة له منابع ومصادر دينية وعقلية وتاريخية وواقعية تؤكده وتؤيده ، وتجمع عليه وتنفي بالضرورة صلة هذه الفكرة الرئيسة بالوهم أو بالأسطورة أو بالصدفة ، ومن الممكن حدوث زيادة أو نقصان أو اختلاط الاجتهاد بالتفاصيل ، أما الفكرة الرئيسة المتثلة بظهور المهدي المنقد ، فهي فكرة أصيلة وصحيحة ومتواترة ، ويعتقد بها أتباع الديانات السماوية الثلاث ، كما يعتقد بها غيرهم من أتباع الملل الأخرى الشائع بيننا ، بأنها غير سماوية ، ويعتقد بها عقلاء وفلاسفة العالم ، ويرسلها الجميع إرسال المسلمات ، ويعتبرها أتباع كل عقيدة جزءاً لا يتجزء من عقيدتهم ، تقرأ معها ، وتحسب عليها. تلك هي طبيعة القوة التي يتمتع بها هذا الاعتقاد.

تعدد أشكال ونماذج هذا الاعتقاد

مع أن كافة العقائد والديانات السماوي منها وغير السماوي قد أجمعت على حتمية ظهور المهدي المنقذ ، وعلى تميز هذا المنقذ ، وقدرته الفائقة على الإنقاذ ، وأن عهده الزاهر هو المأمول ، إلا أنها اختلفت في التفاصيل ، وهذا الاختلاف ناتج عن وضوح فكرة الظهور أو غموضها في أذهان معتنقيها ، فبعضهم يرى بأن مهمة المهدي تنحصر في إنقاذ هذا المجتمع أو ذاك ، فهو منقذ خاص لجماعة من الناس من حيث المبدأ!! بينما يرى البعض الآخر ، بأن مهمة المهدي منصبّة على إنقاذ العالم كله إنقاذاً شاملاً ، وإقامة دولة عالمية ، تصبح أقاليم العالم كله ولايات لها ، وأبناء الجنس البشري ، بمختلف ألوانهم وأعراقهم رعايا لها ، وأصحاب القوة والأمانة من رجال العالم ونسائة هم قادة تلك الدولة وأمرائها. دولة عالمية تحقق العدل المطلق ، والرخاء التام ، والاكتفاء الذي لا عوز معه ، والسعادة لجميع أبناء الجنس البشري ، ولم نر مثل هذه الرؤيا الشمولية إلا في الإسلام ، ربما لأنه آخر الأديان ، ولأنه المرشح بطبيعته ليكون الدين العالمي الأوحد.

٧٠

 وكما اختلفت العقائد والديانات ، بحجم ومدى عملية الإنقاذ ، اختلفت أيضاً في تحديد من هو المهدي بالفعل؟ وأين يظهر؟ ومتى يكون زمن ظهوره؟ ويكمن سر هذا الاختلاف في أن هذه التساؤلات من تفاصيل الفكرة الرئيسة ، وأن هذه التفاصيل قد خضعت للزيادة والنقصان وللاجتهاد لدى الأغلبية من أتباع الملل الأخرى ، وبالتالي تعدد منابع ومراجع المعلومات التي بنيت تلك التفاصيل على أساسها ، أو لعدم وثوق بعضها. فقد اكتفت الديانة اليهودية ، أو ما وصل إلى علمنا منها على الأقل ، بتأكيد الفكرة الرئيسة ، والإشارة العامة إلى أصول المهدي ، وأنه من نسل إسماعيل ، وأنه أحد اثني عشراً عظيماً ، وأشارت أيضاً إلى الظروف والمخاطر التي أحاطت بولادة هذا المنقذ العظيم ، وصرحت بأن الله تعالى قد غيّب هذا المنقذ ليحفظه ، ثم يظهر في اللحظة المناسبة ، وبالرغم من إجمال تلك المعلومات ، إلا أنها على جانب كبير من الأهمية ، كما سنرى. أما الديانة المسيحية فقد أشارت إلى عهد الظهور ، وأبرزت من هذا العهد ظهور السيد المسيح ، فركزت عليه تركيزاً خاصاً ، وأهملت ما سواه.

أما الديانة الإسلامية ، وهي أحدث وآخر الديانات السماوية ، فقد غطت نظرية ظهور المهدي تغطية كاملة ، فعلي الرغم من المحنة التي تعرض لها الحديث النبوي ، حيث مُنعت كتابته وروايته مدة طويلة من الزمن ، إلا أن ما وصلنا من الأحاديث النبوية قد وصف المهدي وصفاً دقيقاً ، وحدد علامات ظهوره تحديداً وضحاً ، ووصفت مهمته موضوعياً كما سنرى.

وهذا الاختلاف بين العقائد والأديان على التفاصيل بعد الاتفاق على الفكرة الرئيسة أفرز نماذج وأشكالاً متعددة ، للاعتقاد بالمهدي المنتظر ، أو المنقذ الأعظم ، وسنستعرضها بما أمكن من الأيجاز طمعاً باستكمال دائرة البحث.

أشكال هذا الاعتقاد

١ ـ عند اتباع الملل الأخرى « غير السماوية »

لقد اعتقد الزرادشتيون بفكرة الظهور ، واعتقدوا أن المنقذ الذي سيظهر هو بهرام شاه. واعتقد المجوس بعودة أرشيدو ، واعتقد البوذيون بعودة بوذا ، واعتقد

٧١

الأسبان بعودة ملكهم روذريق ، واعتقد المغول بعودة جنكيزخان ، وقد وُجد مثل هذه الاعتقادات عند قدماء المصريين وفي كتب الصينيين القديمة. راجع المهدية في الإسلام سعيد محمد حسن ص ٤٣ ، ٤٤ وقائم القيامة للدكتور مصطفى غالب ص ٢٧٠ والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي إصدار مركز الرسالة ص ٨ ، ٩.

والملفت للانتباه أن أصحاب تلك المعتقدات الآنفة الذكر قد آمنوا بفكرة ظهور أشخاص كانوا معروفين بعدما اختفوا في ظروف اكتنفها الغموض. لقد اتفق أصحاب تلك الاعتقادات على حالات اختفاء لرجال مشهورين جداً ، ثم آمنوا بحتمية عودتهم وظهورهم لغايات الإنقاذ وتحقيق أهداف يتوقف تحقيقها على وجودهم بالذات!!

٢ ـ عند اليهود والنصارى

لقد آمن اليهود بهذا الاعتقاد « ظهور المهدي » قال كعب الأحبار : مكتوب في أسفار الانبياء : « المهدي ما في عمله عيب » قال سعيد أيوب الكاتب المصري الشهير في ص ٣٧٠ ـ ٣٨٠ من كتابه المسيح الدجال ما نصه : « وأشهد أنى وجدت كذلك في كتب أهل الكتاب ، لقد تتبع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جده محمد »صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشارت أخبار سفر الرؤيا ألي إمرأة يخرج منها إثنا عشر رجلاً ، وأشار إلى امرأة أخرى وهي تلد الأخير. وجاء في سفر الرؤيا ١٢ / ٣ « والتنين وقف أمام المرأة الأخيرة حتى تلد ليبتلع ولدها متى ولدت » وجاء في سفر الرؤيا ١٢ / ٥ « واختطف الله ولدها » ويقول باركلي في تفسيره « وعندما هجمت عليها ـ أي المرأة ـ المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه أي أن الله قد غيب هذا الطفل ». وذكر سفر الرؤيا أن غيبة هذا الغلام ستكون ألفاً ومائتي سنة وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب ، وقال باركلي عن نسل المرأة عموماً : « إن التنين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة » ، وجاء في سفر الرؤيا ١٢ / ١٣ « فغضب التنين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله ».

ولا تنطبق أوصاف المرأة الاولى ونسلها ألا على السيدة الزهراء ونسلها عمداء أهل بيت النبوة الأعلام ، فقد طاردتهم السلطة « التنين » طوال التاريخ. أما المرأة الثانية وطفلها فلا تنطبق أوصافهما إلا على المهدي وأمه ، فالمهدي هو حفيد

٧٢

الزهراء ، وقد ترقب العباسيون ولادته يوماً بيوم حتى يقتلوه ، لأنهم قد عرفوا أنه المهدي المنتظر ، ولكن الله سبحانه وتعالى نجّا الطفل وغيّبه بالفعل ليحفظه ، وليهيء الأسباب لاقامة دولته العالمية ، ثم يظهره. ويؤيد ما ذهبنا إليه ما جاء بسفر التكوين ١٧ / ٢٠ : « وأما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه ، وها أنا أباركه وأنميه ، وأكثره جداً جداً ، ويلد اثني عشر رئيساً ، واجعله امة عظيمة » ومن المسلم به أن رسول الله محمد من نسل إسماعيل ، وأن عمداء أهل بيت النبوة الاثنى عشر هم ذرية النبي وعصبته ، وأنهم أعلام الأمة وورثة علمي النبوة والكتاب ، فإذا لم يكن هؤلاء العمداء هم الرؤساء المعنيون ، فمن هم الرؤساء إذن؟ ومن هو الأولى منهم بالنبي ، أو الأقرب إليه منهم؟ بل ومن هم ورثته غيرهم؟ قد يقول قائل ربما كان المقصود من الاثنى عشر رئيساً « الخلفاء » الذين تعاقبوا على رئاسة دولة الخلافة التاريخية ، وحسب تسلسلهم الزمني!! وهذا غير معقول لأن بعضهم قد هدم الكعبة ، واستباح المدينة المنوّرة أموالاً وأعراضاً واعلن كفره جهاراً ونهاراً ، وبعضهم قد نفذ خطة لإبادة المؤمنين الصادقين!! فهل يعقل أن يعد الله سيحانه وتعالى برئاسة مثلهم ، وأن يباركهم ، ويعتبر رئاستهم منّة ونعمة!! وقد يقال أن الاثنى عشر هم الصفوة المنتقاة من الخلفاء التاريخيين!! ولكن ما هو الدليل على ذلك؟ ومن هم المخوّل بانتقائهم؟ ثم إنا لو وزنَّا الخلفاء التاريخيين بموازين الشرع الحنيف لما صمد منهم ربع هذا العدد!! وقد يقال بأن الرئيس هو الملك فعلا!! لقد كان النمرود ملكاً كان إبراهيم مواطناً في مملكته!! فمن هو العظيم والرئيس بالمعايير الشرعية هل هو إبراهيم أم النمرود الطاغية!!! لقد عاصر كل الأنبياء ملوكاً بيدهم الحول والطول فهل كان الملوك هم الرؤساء العظماء ، وهل كان الأنبياء عامة!! إن العبرة بالرئاسة هي الأهلية والمرجعية الشرعية فالأنبياء ، والاولياء هم الرؤساء الذين اختارهم الله وفقاً لموازين عدله وفضله ، والملوك المتجبرون هم الذين فرضوا أنفسهم على العباد بالغلبة والقهر فخرجوا وأخرجوا الناس من دائرة الشرعية والمشروعية الإلهية.

وما يعنينا في هذا المقام هو حتمية الصلة بين الرؤساء الاثنى عشر من نسل إسماعيل الذين وعد الله بهم وبين أئمة أهل بيت النبوة الكرام. ويعنينا أيضاً هو النصوص الواردة بالاسفار بان الله سبحانه وتعالى قد غيب الرئيس الثاني عشر

٧٣

ليحفظه ويوطد له ، ثم يظهره ، وتنطبق تلك الأوصاف انطباقاً تاماً على العميد الثاني عشر من عمداء بيت النبوة وهو محمد بن الحسن حفيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك إشارة في سفر أرميا ٢ / ٤٦ ـ ١١ تتحدث عن قائد إسلامي عظيم يقود جند الله ، وينتقم من أعداء الله عند نهر الفرات وهو المكان الذي ذبُحت لله فيه « ذبيحة » ولا تنطبق أوصاف هذا وتتبنى الديانة المسيحية بالطبع نفس الإشارات الواردة في الأسفار عن المهدي المنتظر ، وتؤمن بفكرة الظهور ، ومع أن ظهور المهدي يتزامن ويتكامل مع نزول السيد المسيح إلا أن اعتقاد المسيحية منصب بالدرجة الأولى والاخيرة على السيد المسيح ، ويتجاهل ما سواه!! واعتقد مسيحيو الأحباش بعودة ملكهم ثيودور كمهدي في آخر الزمان.

٣ ـ عند بعض فلاسفة اليهود والنصارى في العصر الحديث

قال الفيلسوف الأنکليزي « برتراند راسل » إن العالم بانتظار مصلح يوحد العالم تحت علم واحد وشعار واحد. راجع المهدي للسيد الشهرستاني ص ٦ والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص ٩.

وقال أنيشتاين صاحب النظرية النسبية المشهور. « إن اليوم الذي يسود العالم كله الصلح والصفا ويكون الناس متحابين ليس ببعيد ». راجع المهدي الموعود ودفع الشبهات للسيد الشهرستاني ص ٧ ، والمهدي في الفكر الإسلامي ص ٩.

وقد بشر به الفيلسوف الإنكليزي « برنارد شو » في كتابه الإنسان والسوبرمان ، Man & Superman وعلّق عباس محمود العقاد على هذه البشري بالقول : « يلوح لنا أن سوبرمان « شو » ليس بالمستحيل ، وأن دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة ».راجع برنارد شو لعباس محمود العقاد ص ١٢٤ ـ ١٢٥ والمهدي في الفكر الإسلامي ص ٩.

وأنت تلاحظ أن راسل يبرز حاجة العالم للمصلح ، وانتظار العالم لذلك المصلح ، بينما يتحدث أينشتاين عن بعض مظاهر عهد ذلك المصلح وبشرى برنارد شو سندها العقل المستند إلى فكرة عالمية موروثة ومتواتره.

٧٤

الفصل الثاني :

المهدي المنتظر في الإسلام

احتل الاعتقاد بالمهدي مكانة بارزة في الإسلام كدين ، على صعيدي القرآن والسنّة المطهرة ، فقد برزت نظرية الاعتقاد بالمهدي المنتظر بصورتها الكاملة والواضحة والبعيدة عن التوهم والغموض. حيث أكد دين الإسلام حقيقة وصحة هذا الاعتقاد العالمي المتواتر ، ثم أبرز كلياته وتفاصيله الدقيقة ، وأزال ما لحق بهذا الاعتقاد من نقص وزيادة وتوهُّم واجتهاد ، وأبقى على الحقائق النقية القادرة على الوقوف في كل زمان ، ووضع تحت تصرف عشّاق الحقائق المجردة نظرية متكاملة واضحة تغطي بالكامل كل ما يتعلق بالاعتقاد بالمهدي المنتظر ، فما من سؤال في هذا المجال إلا وتجد له في الإسلام جواباً مستنداً إلى القرآن الكريم أو السنة المطهرة. وقد قدم الإسلام هذه النظرية كجزء لا يتجزأ من النظام السياسي الذي أنزله الله على عبده ومصطفاه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله . فالمهدي المنتظر عند شيعة أهل بيت النبوة هو الأمام الثاني عشر من الأئمة أو القادة الشرعيين الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى وأعلنهم النبي كقادة للأمة ، ويجمع أهل السنة « شيعة الخلفاء » على صحة وتواتر قول رسول الله بأن الأئمة أو الأمراء أو النقباء أو القادة العظام من بعده اثنا عشر ، وأخالهم بالضرورة يعتبرون المهدي المنتظر أحدهم. ثم إن أهل بيت النبوة وهم أحد الثقلين ومن والاهم قد أجمعوا على أن الاعتقاد بالمهدي الموعود المنتظر هو جزء لا يتجزأ من دين الإسلام ، ثم أن الخلفاء التاريخيين ومن والاهم قد أجمعوا أيضاً على أن الاعتقاد بالمهدي المنتظر هو جزء من عموم المعتقدات الإسلامية المنبثقة عن القرآن الكريم والسنّة المطهرة والتي أجمعت الأمة على صحتها. فإن المنكر لهذا الاعتقاد هو بحكم المنكر لما هو

٧٥

ثابت من الدين ، وقد ألف المتقي الهندي (ت ٩٧٥ هـ) صاحب كتاب كنز العمال كتاباً عنوانه « البرهان في علامات مهدي آخر الزمان » أورد فيه فتاوى المذاهب الأربعة في زمانهم وهم ابن حجر الهيثمي الشافعي وأحمد أبي السرور بن الصبا الحنفي ، ومحمد بن محمد الخطالي المالكي ، ويحيى بن محمد الحنبلي ، وقال : « إن هؤلاء هم علماء أهل مكة وفقهاء الإسلام على المذاهب الاربعة ، ومن راجع فتاواهم عَلِمَ عِلّمَ اليقين أنهم متفقون على تواتر أحاديث المهدي ، وأن منكرها يجب أن ينال جزاءه ، وصرحوا بوجوب ضربه وتأديبه وإهانته حتى يرجع إلى الحق رغم أنفه ، ـ على حد تعبيرهم ـ وإلا فيهدرون دمه » [ البرهان على علامات مهدي آخر الزمان ص ١٧٨ ـ ١٨٣ والمهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ث ٤١ ـ ٤٢ ].

الاعتقاد بالمهدي المنتظر

عند المسلمين

شق الاعتقاد بالمهدي المنتظر طريقه بيسر وسهولة إلى قلوب كل المسلمين وعقولهم ، واعتبره المسلمون جزءًا من عقيدتهم الإسلامية وحكماً من أحكامها ، وواحداً من تعاليمها كالتسبيح أو التهليل أو الصلاة أو الصوم أو الايمان بالغيب.فكافة المسلمين مع اختلاف منابتهم وأصولهم وتوجهاتهم السياسية وثقافاتهم المختلفة يعتقدون بحتمية ظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان ، وأن هذا المهدي من عترة النبي ، وأن عهده من أزهى العهود حيث سيملأ الأرض عدلاً ، وسينقذ الامة الاسلامية والعالم كله إنقاذاً شاملاً ، وأن الله تعالى سيرد بالمهدي الدين ، ويفتتح له العالم كله ، وأنه سينشر الرخاء في الأرض. وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى المتشككين بهذا الاعتقاد. فابن خلدون مثلاً أحد المتشككين ومع هذا فهو يشهد قائلاً « أعلم أن المشهور بين الکافة من أهل الاسلام على ممر العصور أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ، ويظهر العدل ، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الاسلامية ويسمى المهدي [ راجع تاريخ ابن خادون ج‍ ١ ص ٥٥٥ الفصل ٥٢ ]. وأحمد أمين الأزهري المعروف من المتشككين أيضاً بهذا الاعتقاد ومع هذا فهو يشهد قائلا : « وأما أهل السنة فقد آمنوا بها أيضاً » أي آمنوا بحقيقة المهدي. [ راجع كتابه المهدي والمهدية

٧٦

ص ٤١ ] وبعد أن أدلى بشهادته ساق قول ابن خلدون الآنف الذكر. فإذا كانت هذه شهادة المتشككين فيعني أن شيوع هذا الاعتقاد وانتشاره بين كافة المسلمين العامة والخاصة من الحقائق الاسلامية المسلم بصحتها على مستوى المسلمين جميعاً ، وليس بإمكان عاقل أن يتجاهل عموم وشمول هذا الاعتقاد لكافة أتباع الملة الاسلامية. ولقد أدرك الحكام الذين استولوا على قيادة الأمة طوال التاريخ السياسي الاسلامي ، خطورة هذه الفكرة على حكمهم ، وقدرتها الفائقة على شق طريقها إلى قلوب المسلمين ، ودور هذه الفكرة بنقد الظلم وفضح الظالمين ، فسخروا كافة موارد الدولة التي استولوا على قيادتها للتشكيك بالفكرة الاساسية تمهيداً لاقتلاعها من جذورها!! ومع أن الحكام قد نجحوا نجاحاً ساحقاً بحل عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة ، ومع أنهم قد نجحوا بإخضاع الأمة لمشيئتهم ، إلا أنهم قد فشلوا فشلاً ذريعاً باقتلاع الاعتقاد بالمهدي المنتظر من قلوب الناس وعقولهم ، بل إن هذا الاعتقاد كان يترسخ ويتجذر طردياً كلما زاد ظلم الحكام وبطشهم ، ويزداد المسلمون يقيناً بحتمية ظهور المهدي!!. وتوارثت الأجيال هذا الاعتقاد ، وتوارثت صلته الحميمة بالدين الاسلامي.

مصادر ومنابع الاعتقاد بالمهدي المنتظر

لقد استمد المسلمون الاعتقاد بالمهدي المنتظر واستقوه من منبع أو مصدر واحد وهو الإسلام. فالاسلام هو الذي جاء بنظرية المهدي بكل تفاصيلها وكلياتها ، وهو الذي كلف أتباعه ومعتنقيه بالاعتقاد بها ، والالتزام التام بهذا الاعتقاد كغيره من المعتقدات النابعة من صميم الإسلام.

ويُعنى الإسلام على الصعيد القانوني أو الحقوقي « الآمر والناهي والمحلل والمحرم » كل ما جاء به القرآن الكريم ، وبيان النبي لهذا القرآن سواء أمكان البيان بالقول أو بالفعل أو بالتقدير ، ويسمى هذا البيان بالسنة المطهرة. وكل واحد من هذين المصدرين مكمل للآخر ، ولا غنى لإحدهما عن الآخر ، لأن أُولى مهمات النبي أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم بياناً قائماً على الجزم واليقين.

ولأن الإسلام آخر الأديان السماوية ، ولأن محمداً خاتم النبيين فقد أجاب الإسلام على كافة التساؤلات البشرية في ما مضى ، وفي ما يأتي ، وعطى كافة

٧٧

الاحتياجات الإنسانية على كل الأصعدة اللازمة لنمو الحياة الإنسانية وتطورها ورقيها ، فما من شيء ، على الإطلاق إلا وجاء به القرآن ، وبينه النبي بالقدر الذي يستوعبه كل المكلفين وتصديق ذلك قوله في سورة النحل آية ٨٩( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) .

وأحكام الإسلام وتعاليمه ما شرعت لمعالجة مشكلات قومية أو إقليمية إنما هي منصية بالأصل على معالجة مشكلات العالم كله بأرضه وسكانه ، وكانت الوحدة التاريخية والدينية والسياسة للعالم هي محور عناية واهتمام الإسلام. حيث وضع الإسلام تحت تصرف العالم أيضاً قيادة سياسية وروحية لا مثيل لها. فالإمام القائد في زمانه هو الأفضل وهو الأقرب لله ولرسوله ، فإذا أراد العالم أن يهتدي فعليه بموالاة القيادة الإلهية والعمل بالنظام الإلهي فهما ثقلان يتكامل أحدهما مع الآخر ويتمم أحدهما الآخر وهذا هو المقصود الشرعي من حديث الثقلين.

وشاءت حكمة الله أن يكون المهدي هو آخر جيل القيادة الإلهية المسماة ، وهو الذي سيتولى توحيد العالم دينياً وسياسياً ويترجم جهد الأنبياء وخاتمهم ويحقق هدفهم بتحقيق وحدة العالم الدينية والسياسية. بحيث تكون كل أقاليم الكرة الأرضية ولايات لدولته وكل سكان المعمورة رعايا لتلك الدولة ، وكل أهل القوة والأمانة من رجال العالم ونسائه بطانة له يستعين بهم لتنفيذ النظام الإلهي ، فيكون عهده الزاهر عهد الرخاء الذي حلم به النبيون ، وعهد العدل الذي جاهد لتحقيقه النبيون ، والنموذج الرمز لوحدة الجنس البشري التي بشر بها النبيون ورمز انتصار الحق على الباطل على المستوي العالمي عبر الصراع الطويل بينهما وهنا يكمن سر تركيز الإسلام تركيزاً خاصاً على نظرية المهدي المنتظر ، وتكمن عناية النبي الفائقة بإبرازها وتوضيحها والتبشير بها ، بل ويكمن سر فخره بالمهدي المنتظر لانه المؤهل إليها لعملية التغيير الکبرى ولانه ابنه وقرة عينه وحفيده.

والخلاصة أن الإسلام بركنية الكتاب والسنة هما المصدر والمنبع الوحيد للاعتقاد بالمهدي المنتظر ، وعلى ذلك أجمع المسلمون.

٧٨

الفصل الثالث :

المهدي المنتظر في القرآن الكريم

لكي نجد المهدي في القرآن

قال تعالى وهو أصدق القائلين :( ونزلنا عليكَ الكتب تبياناً لكلّ شيءٍ ) (سورة النحل ، آية : ٨٩) ، ومعنى هذا أنه ما من شيء على الإطلاق إلا وقد بينه الله في هذا القرآن.

لكن عملية استخراج وتحديد بيان كل شيء أو أي شيء في القرآن الكريم عملية فنية من جميع الوجوه ، بمعنى أنها تحتاج إلى رجل مؤهل أليهاً ، ومختص ومزود بالقدره على معرفة مواضع بيان أي شيء في القرآن الكريم. وهنا يكمن سر التكامل والترابط العضوي الوثيق بين كتاب الله المنزل ، ونبي الله المرسل ، فالكتاب يحتوي بيان كل شيء ، والنبي يعرف حصة كل شيء من هذا البيان معرفة يقينية وبلا زيادة ولا نقصان أي تماماً على الوجه الذي أراد الله.

لذلك كانت مهمة الرسول الأساسية منصبة على بيان ما أنزل الله ، قال تعالى مخاطباً نبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وانزلنا اليکَ الذّكرَ لِتُبيّنَ للناسِ ما نُزِّل اليهمْ ) وقال تعالى :( وما انزلنا عليكَ الكتبَ الا لتُبينَ لهمُ الذي اختلفوا فيه ) ( سورة النحل ، الآيتان ٤٤ و ٦٤ ). فلا يعرف بيان الكتاب لأي شيء على الوجه اليقيني القاطع إلا النبي ، أو الشخص المؤهل إليها القائم مقام النبي بعد وفاته. ولأن الرسول خاتم النبيين ، ولأن الإسلام آخر دين ، ولانه لا بد من بيان القرآن فقد خصص الله سبحانه وتعالى اثني عشر إماماً ، أو خليفة ، أو نقيباً أو أميراً وسماهم بأسمائهم ،

٧٩

وعهد إليهم ببيان القرآن خلال الفترة الواقعة بين موت النبي وقيام الساعة. فكل واحد من هؤلاء الاثني عشر مخول ومؤهل ليكون المختص الوحيد لبيان القرآن وقيادة العالم في زمانه.

فالقرآن كمعجزة بيانية باقية ببقاء الحياة الدنيا ، له أسلوبه البياني الخاص ، فكلمة الصلاة يعرفها جميع البشر بأنها تُعني الدعاء ، وقد تكررت هذه الكلمة في القرآن الكريم عشرات المرات ، دون تفصيل ولا بيان محدد لما ينبغي أن يقال فيها ، لقد ترك القرآن كافة هذه الأمور والتفصيلات لبيان النبي ، ويعتقد كل المؤمنين أن الله تعالى هو الذي أوحى للنبي وعلمه كافة هذه الأمور.هذا حال الصلاة وهي عماد الدين ، ويقال مثل ذلك عن الزكاة والحج والصوم والشهادة ، وهي أركان الإسلام ، وكل ما يحتج به المسلمون بهذه الامور وأمثالها يسندونه للرسول ، وقد توخى القرآن من ذلك في ما توخى أبراز التكامل والترابط العضوي الوثيق ، بين ما أنزله الله وما بينّه نبيه ، وإبراز الخط العام المتمثل بأن النبي يوحى إليه ، وهو يتبع ما يوحى إليه تماماً ، وأن طاعة الرسول كطاعة الله ، ومعصية الرسول كمعصية لله ، وموالاة الرسول كموالاة الله ، واتباع أوامر الرسول تماماً كاتباع أوامر الله ، ومخالفة أوامر الرسول هي مخالفة لأوامر الله ، هي تهدف في ما تهدف لخلق حالة نفسية عند المسلمين تقر بتميز الرسول ، أو القائم الشرعي مقامه بعد وفاته كشخص مختص بالبيان ، وأن مكانته لا ترقى إليها مكانة ، وأن علاقتهم به هي التجسيد العملي لعلاقتهم بالله سبحانه وتعالى ، فكل قول دون قوله ، وكل مكانة دون مكانته ، وكل فهم دون فهمه ، يتجاوز قول النبي وفهمه أو أمره ونهية ، ومن يعتقد أن « اجتهاده » أو رؤيته للأمور الدنيوية ، أو الأخروية هي أقرب للصواب مما بين النبي ، فهو منحرف وضال كائناً من كان ، صحابياً أم خليفة. ثم إن تسليم مفاتيح بيان ما أُنزل من بعد النبي إلى الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة ، فيه إبراز لمكانتهم ، وتقديم لقولهم وفهمهم على كل قول وفهم ، لإن الواحد منهم لا يقول برأيه ، فإذا حدث فإنما يحدث بحدود علمي النبوة ، والكتاب ، وبنفس الوقت تأكيد نفسي لاستمرار وجود النبي ، لأنهم بنوه وأحفاده.

٨٠