حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر0%

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 355

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

مؤلف: احمد حسين يعقوب
تصنيف:

الصفحات: 355
المشاهدات: 172172
تحميل: 4856

توضيحات:

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 355 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172172 / تحميل: 4856
الحجم الحجم الحجم
حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

حقيقة الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر

مؤلف:
العربية

الآن يمكننا أن نتعرف

علي المهدي في القرآن الكريم

بعده هذه التوضيحات التي سقناها ، فإننا وبحدود علمنا لا ندعي بأن مصطلح « المهدي المنتظر » أو اسم « محمد بن الحسن » قد وردا في القرآن الكريم صراحة ولكن يمكننا أن نتلمس الآيات الكريمة ، التي تشير إلى المهدي المنتظر في القرآن الكريم.

ولن نتلمس ذلك في الآثار الواردة عن الأئمة الأعلام من أهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب ، لأن القسم الأكبر من المسلمين تربوا تربية ثقافية خاصة أساسها التشكك بكل ما يرد عن طريق أهل بيت النبوة ، والقول بأفضلية غيرهم عليهم ، أو تقديم غيرهم لحكمة « شرعية ». ولكن طمعاً بالشمول والإحاطة نقول أن الجزء الخامس من كتاب : « معجم أحاديث الإمام المهدي » الذي ألفته ونشرته مؤسسة المعارف الإسلامية في قُم والذي أشرفت على إعداده نخبة من العلماء الأعلام ، وقد اشتمل هذا الجزء الواقع في ٥٣٠ صفحة كاملاً على الآيات المفسرة لوجود المهدي ، وجاء توضيحاً لذلك ما يلي : « أن المقصود بالايات المفسرة في هذا المجلد الروايات التي وردت في تفسير ايات ، أو تأويلها ، أو تطبيقها ، أو الإستشهاد بها بحيث ترتبط بقضية الإمام المهدي بعنوانه الخاص أو العام ».

وقد تضمن هذا المجلد ٢٢٠ آية من القرآن الكريم منبثة في ٧٩ سورة من سوره ، مشفوعة بقرابة ٢٢٠ رواية مروية عن أئمة أهل البيت تثبت علاقة المهدي المنتظر بهذه الآيات ، وارتباطها الوثيق بقضيته وبعصره ، وقدرنا أن أذهان العامة وثقافتهم لا تحتمل تلك التأويلات ولا ترقى إليها ، لأن العامة قد أشربت ثقافة التاريخ ومناهجه التربوية والتعليمية المناهضة بالضرورة لخط أهل بيت النبوة ، لذلك قصرنا اهتمامنا على ما توصلت إليه العامة في هذا الموضوع.

أمثلة من القرآن الكريم

١ ـ قال تعالى :( هوَ الذي ارسلَ رسولهُ بالهدى ودينِ الحقِ ليظهرهُ على

٨١

الدينِ كلّهِ ولو كرهَ المُشركونَ ) ( سورة التوبة ، الآية : ٣٣ ).

قال الرازي في التفسير الكبير ج‍ ٦ ص ٤٠ : « واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة ، وقد يكون بالكثرة والوفور ، وقد يكون بالغلبة والاستيلاء ، ومعلوم أنه تعالى بشَّر بذلك ولا بجوز أن يُبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل ، وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم ، فالواجب حمله على الظهور بالغلبة ».

والمروي عن قتادة كما يقول السيوطي في الدر المنثور ج‍ ٤ ص ١٧٦( ليظهرهُ على الدينِ كلّهِ ) قال : الأديان الستة :( الذينَ ءامنوا والذينَ هادوا ومالصابئينَ والنصارى والمجوسَ والذينَ أشركوا ) ( سورة الحج ، الآية : ١٧ ) فالأديان كلها تدخل في دين الاسلام فان الله قضى بما حكم وأنزل أن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون ، وفي المشارق والمغارب » وهذا هو المروي عن أبي هريرة كما نص عليه جملة من المفسرين ، [ تفسير الطبري ج‍ ١٤ ص ٢١٥ ، والتفسير الكبير ج‍ ١٦ ص ٤٠ ، وتفسير القرطبي ج‍ ٨ ص ١٢١ ، والدار المنثور ج‍ ٤ ص ١٧٦ راجع المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي ص ٢٢ ].

وفي الدر المنثور : وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن جابر في قوله :( ليظهرهُ على الدينِ كلّهِ ) قال : لا يكون ذلك حتى لا يبقي يهودي ولا نصراني صاحب ملة إلا الإسلام ، [ راجع الدر المنثور للسيوطي ج‍ ٧٥ ]. وعن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله يقول : « لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله كلمة الإسلام ، إما بعز عزيز ، أو بذل ذليل. إما يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به وإما يذلهم فيدينون له ». [ راجع مجمع البيان ج‍ ٣ ص ٣٥ ].

لم يتم الإظهار

حتي الآن لم يظهر الإسلام على الدين كله لا من حيث كثرة الأتباع ولا من حيث الغلبة. صحيح أن الإسلام ظاهر على الدين كله من حيث الحجة ، لكن الوعد الإلهي يشمل الإظهار مطلقاً ، وهذا ما لم يحدث حتى الآن ، وبما أن وعد

٨٢

الله حق ، وأنه لا يخلف الميعاد ، فلا بد أن ياتي زمن تتولى القيادة الإسلامية المدعومة بالتوفيق الإلهي إظهار الإسلام على الدين كله بحيث يكون الإسلام هو الدين الرسمي للعالم.

الآية دالة على ظهور

المهدي المنتظر

قال الطبرسي في مجمع البيان ج‍ ٥ ص ٣٥ : « ومن هنا ورد في الأثر عن الإمام الباقر بأن الاية مبشرة بظهور المهدي في آخر الزمان ، وأنه بتأييد من الله تعالى سيظهر دين جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله على سائر الأديان ، حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك وهذا هو قول السدي المفسر المعروف ».

قال القرطبي في تفسيره ج‍ ٨ ص ١٢١ ، والرازي في التفسير الكبير ج‍ ١٦ ص ٤٠ قال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام » أي أن الله سبحانه وتعالى يظهر الإسلام على الدين كله في عهد المهدي. وأهل بيت النبوة الذين ورثوا علمي النبوة والكتاب مجمعون على ذلك ، ومن المستحيل أن يجمعوا بغير دليل ، أو قناعة ، لأنهم أحد الثقلين ولأن المهدي المنتظر هو خاتم الأئمة عندهم ، وقناعتهم مطلقة بأن الله تعالى : قد فتح بهم « أي بالنبي » ويختم بهم « أي بالمهدي ».

٢ ـ قال تعالى :( ولو ترى اذ فزعوا فلا فوتَ واخذوا من مكانٍ قريبٍ ) ( سورة سبأ ، الآية : ٥١ ) أخرج الطبري عن حذيفة بن اليمان أن المعنى في هذه الاية منصب على الجيش الذي سيخسف به ، وقد تواترت الأحاديث بأن جيشاً سيرسل للقضاء على المهدي ، وأنه سيخسف بهذا لجيش ، وهذا الخسف لم يحصل للآن ، وحدوثه مرتهن بظهور المهدي. [ راجع تفسير الطبري ج‍ ٢ ص ٧٢ ، وعقد الدرر ٨٤ ب ٤ من الفصل الثاني ، والحادي للفتاوي للسيوطي ج‍ ٢ ص ٨١ ، والكشاف للزمخشري ج‍ ٣ ص ٤٦٧ ـ ٤٦٨ ].

٣ ـ قال تعالى :( وانه لعلمٌ للساعةِ فلا تمترنَّ بها واتبعونِ هذا صراطٌ مستقيمٌ ) ( سورة الزخرف ، الآية : ٦١ ).

٨٣

 لقد ذكر البغوي في معالم التنزيل ج‍ ٤ ص ٤٤٤ والزمخشري في الكشاف ج‍ ٤ ص ٦ والرازي في التفسير الكبير ج‍ ٢٧ ، والقرطبي في تفسيره ج‍ ١٦ ص ١٠٥ والنسفي بهامش تفسير الخازن ج‍ ٤ ص ١٠٨ وتفسير الخازن ج‍ ٤ ص ١٠٩ وابن كثير في تفسيره ج‍ ٤ ص ١٢٤ وتفسير أبي السعود ج‍ ٨ ص ٥٢ بأن هذه الاية بخصوص نزول عيسى بن مريم ، وقال مثل ذلك مجاهد تفسير مجاهد ج‍ ٢ ص ٥٨٣ وإلى هذا أشار السيوطي في الدر المنثور ج‍ ٦ ص ٢٠ ، وقال أخرجه ابن حنبل وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه وسعيد ين منصور عن ابن عباس.

وقال الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان ص ٥٢٨ : « قال مقاتل بن سليمان ومن تابعه من المفسرين في تفسير قوله عز وجل :( انه لعلم للساعة ) هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وإماراتها ».

وتجد مثل ذلك في الصواعق المحرقة لابن حجر ص ١٦٢ ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي ص ١٨٦ ، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج‍ ٢ ص ١٢٦ باب ١٥٩.

وقد ذكر القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع ج‍ ٣ ص ٧٦ باب ٧١ الكثير من الآيات التي فسرها أئمة أهل بيت النبوة بالأمام المهدي وظهوره ، [ راجع المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي ص ٢١ ـ ٢٥ ]. ومن يمعن النظر يجد أن في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي حملت وعوداً إلهية دنيوية ، وربُط تحققها بتوافر ظروف موضوعية معينة ، وفق معايير خاصة لا تعرف إلا بالبيان النبوي ، ومن استعراض الحادثات التاريخية واستقراء الشرع الحنيف ، وما وصل إلينا من الآثار المروية عن الأئمة الأطهار من أهل بيت النبوة يتبين لنا أن الكثير من الوعود الإلهية الدنيوية مرتبط تحقيقها بعصر ظهور المهدي ، وقيادة هذا المهدي. فإذا ظهر الإمام المهدي وآلت قيادة الأمة إليه تبدأ عملية ترجمة الوعود الإلهية من النظر إلى التطبيق من الكلمة إلى الحركة ، لأن ظهور المهدي سيكون في آخر الزمان ، ومن أشراط قيام الساعة ومن المحال عقلا ان تقوم الساعة ولا ينفذ الله وعوده لأنه

٨٤

أصدق القائلين ، ولأنه لا يخلف الميعاد. كل هذه الظروف تجعل من البيان النبوي المفتاح لكل غموض ، والطريق الفرد إلى اليقين ، في كل متشابه والأساس لكل المعارف الدينية التي صاغت نظرية المهدي المنتظر في الإسلام ، والتي بشرت بعصر الظهور. وهذا يستدعي بالضرورة وقفه مطولة عند كل ما صدر عن الرسول حول المهدي المنتظر بالذات وحول عصر ظهوره.

٨٥

الفصل الرابع :

المهدي المنتظر في البيان النبوي

أو السنة المطهرة

التكامل وعمق الارتباط بين القرآن الكريم والسنة النبوية

القرآن الكريم وبيان النبي لهذا القرآن « السنة النبوية » وجهان لعملة واحدة أو لشيء واحد ، فلا يُعرف أحدهما إلا بالآخر ، ولا يفهم أحدهما فهماً يقينياً إلا بالآخر ، ولا بالاثنين معاً. لقد اقتضت حكمة الله وطبيعة الإسلام كآخر دين ، وطبيعة رسالة النبي ، كخاتم للنبيين أن يكون التكامل والترابط بين القرآن والبيان النبوي مطلقاً ، فلنبي خلال حياته المباركة هو المالك الشرعي واليقيني لمفتاح بيان القرآن ، ومعرفة المقاصد الإلهية من كل نص من نصوصه ، وحرف من حروفه يفيض على الناس من هذه المعارف بحجم تطورهم واستيعابهم. وقد أعده الله تعالى وأهّله لهذه المهمة.

وأتم الله نعمته وأكمل دينه يوم أعد وأهل وخصص « طواقم » فنية مهمتها القيادة والبيان من بعد النبي ، وهم الأئمة الكرام من أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وأعلن الله تعالى في القرآن الكريم بأن القرآن كتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون ، أي لا يعرف معناه ولا يجيد بيانه إلا المطهرون وهم أهل بيت النبوة وبين النبي معنى هذه الآية وحدد من هم آل بيت النبوة بكل وسائل التوضيح والبيان ، وفي اجتماع عام للمسلمين أعلن الرسول أن حجته تلك

٨٦

هي حجة الوداع ، وأنه لن يلقى المسلمين بعد هذا العام ، وأنه وبمجرد عودته إلى المدينة سيمرض وسيموت في مرضه ، وأنه أراد أن يلقى القول معذره للمسلمين ، وأنه قد ترك من بعده ثقلين أحدهما كتاب الله وهو الثقل الأكبر وثانيهما أهل بيت النبوة ، وهم الثقل الأصغر ، وأن الأمة لن تهتدي إلا إذا تمسكت بالثقلين معاً ، ولا يمكن أن تتجنب الضلالة إلا بتمسكها بالتين معاً ثم سأل النبي المسلمين المجتمعين في غدير خم قائلاً : ألست وليكم؟ ألست مولاكم؟ فأجاب المسلمون بلسان واحد ، بلي يا رسول الله أنت ولينا ومولانا!! فقال الرسول : من كنت وليه فهذا علي بن أبي طالب وليه ، ومن كنت مولاه فهذا على مولاه. وفهم المسلمون المغزى ، وجلس على وتقدم المسلمون واحداً واحداً وبايعوه بالولاية وقدموا له التهاني ، وعرفوا بأن علياً هو أول أئمة أهل بيت النبوة ، وان نظام الولاية والقيادة من بعد النبي قد انتظم ، فالقائم من الأئمة بعهد بالإمامة لمن يليه وفقاً لترتيب إلهي عهد الله به لنبيه وعهد النبي به لأول الأئمة. وقد وثقنا كل ذلك في كتابينا : « المواجهة مع رسول الله وآله » ونظرية عدالة الصحابة ، فارجع إليهما إن شئت للتيقن من إجماع أصحاب الحديث على كل ما ذكرناه.

الانقلاب والتنكر التام

للرسول ولبيانه ولأهل بيته الكرام

بطون قريش التي قاومت النبي وعادته طوال ال‍ ١٥ سنة التي قضاها في مكة قبل الهجرة وحاربته طوال مدة ٨ سنوات بعد الهجرة ، ثم اضطرت مكرهة للدخول في الإسلام شكلت وأعوانها الأكثرية في المجتمع المسلم. لم ترق هذه الترتبات الإلهية التي أعلنها الرسول لتلك البطون. وبنفس الوقت فإن البطون قد أدركت بأن النبوة قد تمخضت عن ملك عريض ، لذلك طمعت البطون بهذا الملك ، وخططت لغصبه من أهله وأخذت تتحين الفرص لتنفيذ مخططها. لقد أدركت البطون عمق التكامل والترابط بين الكتاب المنزل وبيان النبي المرسل ، وتيقت من استحالة تنفييذ مخططها هذا في حالة بقاء هذا التكامل والترابط بين كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب. لذلك كله قررت بطون قريش وصممت نهائياً

٨٧

علي أن تفرق بين الله ورسوله ، وبين كتاب الله وبيان الله وبيان النبي لهذا الكتاب ، لتجمد عملياً كافة النصوص الشرعية التي أعلنها النبي والمتعلقة بمنصب البيان والقيادة من بعد النبي ، وأن تتجاهل بالكامل هذه النصوص الصادرة عن الني ، وتعتبرها كأنها غير موجودة ، أو في أحسن الأحوال مجرد آراء شخصية لمحمد بن عبد الله الهاشمي ، مثلما قررت بطون قريش ان تهمل بالكامل أهل بيت النبيوة اللذين اعتبرهم الدين أحد الثقلين ، فاعتبرهم بطون قريش مجرد أفراد مسلمين لا ميزة لهم على أحد في مجتمع كل أفراده قد اعتنقوا الإسلام. وبدأت بطون قريش بتنفيذ قرارتها. بعد دقائق من انفضاض الاجتماع التاريخي في غدير خم. وفي كتابنا « المواجهة » أثبتنا أن بطون قريش قد مهدت لقراراتها قبل غدير خم بسنين.

مرض النبي واتهامه بالهجر وإعلان النوايا بوضوح

بعد أيام من عودة النبي إلى المدينة مرض كما أخبر الناس في غدير خم ، وكان سكان المدينة على يقين بأن مرض النبي هو مرض الموت ، وإنه سيموت في مرضه كما أخبرهم النبي بذلك. وقد جرت العادة عند كل زعماء العالم وحتى رؤساء القبائل وعلية القوم أن يلخص الزعيم أو شيخ القبيلة ، أو السيد لأتباعه الموقف من بعد موته ، وأن يعلن توجياته وتعليماته النهائية لأتباعه فضرب النبي موعداً للخلص من أصحابه ليكتب توجيهاته النهائية للأمة. علمت بطون قريش بما عزم عليه النبي ، فجمعت جمعاً كبيراً ، وبالوقت المحدد لكتاب التوجيهات النهائية اقتحم هذا الجمع بيت النبي ، ودخلوه دون استئذان ، فوجيء الخلص من أصحاب النبي ، ولم يكن بوسع النبي أن يتراجع ولا ينبغي له فقال من حوله قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، وما أن أتم النبي كلامه حتى قال جمع البطون بصوت واحد ، إن النبي قد غلبه الوجع ، ولا حاجة لنا بكتابه ، إن النبي يهجر!!! استفهموه إنه يهجر!!! وكرروا هذه الكلمة النابية على مسامعه الشريفة متجاهلين بالكامل وجوده ، وحدث نزاع بين الخلص الذين دعاهم النبي وهم قلة وبين الجمع الكبير الذي حشدته بطون قريش وارتفعت الأصوات ، وأطلت النسوة من وراء الستر فقلن لجمع بطون قريش : ألا بسمعون رسول الله يقول لكم قربوا يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده! فنهر عمر بن الخطاب النسوة لأن رأيه كان كرأي بطون

٨٨

قريش وقال لهن : « إنكن صويحبات يوسف » هنا أتيحت الفرصة للنبي ليتكلم فقال : « أنهن خير منكم ، قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع ، ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ». وأدرك النبي أنه لم يُعد هنالك ما يبرر كتابه توجيهاته النهائية ، فلو أصر النبي على كتابه توجيهاته النهائية ، لأصر جمع بطون قريش على اتهامه بالهجر مع ما يستتبع ذلك من عواقب مدمرة على الدين نفسه ، لذلك صرف النبي النظر عن كتابه هذه التوجيهات ، وخرج جمع البطون وخرج الخلص من أصحاب النبي ، ونجحٍ جمع البطون بالحيلولة بين النبي وبين كتابه ما أراد ، ونجحت بطون قريش عملياً ، ولأول مرة بالتفريق بين الله ورسوله ، وبين كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب ، ورفعت بطون قريش شعار : « حسبنا كتاب الله » أي يكفينا القرآن ، ولسنا بحاجة لبيان النبي أو لوصيته!! وهكذا أعلنت بطون قريش نواياها وبكل سفور ، فعرفها النبي ، وعرفها الخلص من أصحابه. وخرج الرسول عملياً من التأثير على مسرح الأحداث ، وصار الذين آمنوا قلة كما كانوا دائماً ، وسط كثرة تدعي الإسلام!! ومن المدهش حقاً أنه ما من خليفة قط إلا وكتب توجيهاته النهائية وهو على فراش الموت ، وقد اشتد به الوجع أكثر مما اشتد برسول الله ومع هذا لم يقل أحد من المسلمين قط لاحد من الخلفاء قط « حسبنا كتاب الله ، أو أن المرض قد اشتد بك ، ولا حاجة لنا بكتابك ، بل على العكس كانت توجيهات الخلفاء تنفذ كأنها وحي من الله جاء به الله والملائكة قبلاً ».

قد يقول قائل أن هذا غير معقول!! ولا يمكن أن يعامل الرسول بهذه القسوة ، ولكن هذا ما حدث بالفعل فأصح الصحاح عند أهل السنة صحيحا البخاري ومسلم ، وقد سلما بوقوع ذلك كله وفي كتابينا : « نظرية عدالة الصحابة والمواجهة » سقنا ووثقنا كافة الروايات التي ذكرها البخاري ومسلم في صحيحهما. فارجع إليهما إن كنت في شك من ذلك.

منع رواية وكتابة أحاديث رسول الله

قبضت بطون قريش على مقاليد الأمور حتى أن يدفن رسول الله ، وكانت أول المراسيم التي أصدرتها دولة الخلافة أن منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول ـ

٨٩

لان كتابه ورواية أحاديث الرسول ـ تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس!!! هكذا ورد بالمرسوم الأول لدولة الخلافة ، وجاء بالمرسوم أيضاً : « فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله »!!! فلم يعد بوسع أهل بيت النبوة ، ولا بوسع غيرهم أن يروى حديثاً أو يحتج بحديث إلا إذا كان هذا الحديث ، مؤيد لدولة الخالفة أو لسلوكها أو لاتجاهاتها ، أو لسياساتها عندئذٍ يصبح هذا الحديث ، أو ذاك سنداً شرعياً لوجود دولة الخلافة ، أو لسلوكها أو اتجاهها أو سياستها. كذلك لم يعد بوسع مسلم أن يكتب أحاديث الرسول ، بل شجعت الدولة على حرق المكتوب من أحاديث الرسول ، وبدأ الخليفة الأول بنفسه حيث كان قد كتب خمسمائة حديث أثناء حياة الرسول ، قالت أم المؤمنين عائشة فبات الخليفة يتقلب ولما أصبح الصباح أحرق الأحاديث التي كتبها فعلمت أم المؤمنين عائشة ابنته بأنه لن يعدل بكتاب الله شيء ، ولما جاء الخليفة الثاني اشتد في هذه الناحية فناشد الناس أن يأتوه بكل ما كتبوا من أحاديث رسول الله ، وظن الناس أنه يريد أن يدونها ويكتبها فجاءوه بها فلما وضعت بين يديه أمر بتحريقها ، وكان يوصي جيوشه قيل توجهها للقتال بعدم التحديث عن رسول الله!! حتى لا يصدوا الناس عن القرآن الكريم!! وكان يقرع وبشدة الذين يحدثون عن رسول الله!! وكان يحبس بعضهم بتهمة الإكثار من التحديث عن رسول الله ، وأحياناً يضرب بعضهم ، لأنه لا يريد إلا القرآن ، ولأنه مقتنع بأن القرآن وحده يكفي!! وقد سبقت هذا الحملة الرسمية حملة سرية قادتها بطون قريش ، حتى والرسول على قيد الحياة ، ونها أولياءها من أن يكتبوا أحاديث رسول الله بحجة أنه بشر يتكلم في الغضب والرضى!! والأخطر من ذلك أن سنة الرسول الثابتة في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية صارت مجرد اجتهادات شخصية ، وكان بإمكان الخليفة وبكل أعصاب هادئة أن يخالفها تماماً ، فالرسول مجتهد ، ولا حرج أن خالف المجتهد مجتهداً مثله!!! فعلى سبيل المثال كان الرسول يقسّم المال بين الناس بالسوية لأن حاجات البشر الأساسية متشابهة وهكذا فعل الخليفة الاول ولما آلت الخلافة إلى الخليفة الثاني رأى أن الأنسب والأصوب عدم المساواة بين الناس في العطاء بل عطاء الناس حسب منازلهم ، فاجتهد وعمل جدولاً للمنازل ،

٩٠

ووزع العطاء حسب هذا الجدول!! وحسب هذا الجدول لم يساوِ حتى بين زوجات النبي ، وقد أدت عدم التسوية في العطاء إلى نشوء الطبقات فملك بعض الناس الملايين من الدنانير الذهبية بينما كان الآلاف من المسلمين لا يجدون رغيف العيش ، ولما رأى الخليفة الثاني تلك الآثار المدمرة لعدم التسوية في العطاء قال وبكل بساطة : « لئن استقبلت من عامي ما استدبرت لأعملن بسنة النبي وصاحبه ولأُسَوِّيَنَّ بين الناس بالعطاء »!!!

ولما آلت الخلافة للخليفة الثالث كانت أول مراسيمه الإعلان عن عدم السماح برواية أي حديث لم يسمع به في زمن الخليفتين الأول والثاني. واستمر المنع الشامل على كتابه ورواية أحاديث الرسول. خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأُول ترسخت مفاهيم معينة عن الحديث النبوي والسنة النبوية بشكل عام وارتبطت هذه المفاهيم بالسلطة الغالبة التي أرست حجر الأساس العملي للفترة التي تلت موت النبي فإذا استعرضنا الأحاديث التي أذنت السلطة بشيوعها وانتشارها خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول نجدها منصبّة بالدرجة الأولى والأخيرة على تمجيد قريش وإبراز مكانتها كعشيرة النبي ، وعلى فضائل الخلفاء الثلاثة ومصاهرتهم للنبي ، ومكانتهم عنده ، ودورهم البارز في نصرة النبي. والتركيز على أن الرئاسة أو الإمامة أو الخلافة أو القيادة حق خالص للمسلمين ، فهم وحدهم أصحاب الاختصاص ببيعة من يريدون ، أما الأحاديث والسنن المتعلقة بالاحكام والعبادات والمعاملات ، فلا حرج من روايتها إن كانت لا تتعارض مع اجتهادات الخلفاء وعلومهم ، واجتهادات وعلماء أولياء الخلفاء. وهكذا خضعت كتابه ورواية الأحاديث لرقابة السلطة الصارمة ، فمنع رواية الحديث وكتابته شامل وكامل ، ولكن السلطة أذنت بل وشجعت على رواية وكتابة ما يخدم سياستها وتوجهاتها العامة ، وما يرغم أنوف معارضيها ويكبتهم ، وقربت رواة تلك الأحاديث ، فكعب الأحبار الذي أسلم بعد وفاة النبي يصغى إليه ، ويتكلم ويُسأل ، وتقرب مكانته ، وأبو ذر ، وعمار بن ياسر يُجبرون على السكوت ، ويطاردون في الأرض ، ويضربون وينفون من الأرض.

وما يعنينا بأن الأحاديث المتعلقة بالأمامة أو الولاية من بعد النبي ،

٩١

والأحاديث المتعلقة بمكانة أهل بيت النبوة وفضائلهم كانت محظورة ومحصورة حصراً تاماً ، وحيل بين الناس وبين معرفتها ، وثم تجاهل أهل بيت النبوة سياسياً تجاهلاً تاماً ، وتم استبعادهم وأولياؤهم عن كافة مراكز التأثير والخطر فتأخروا وهم المتقدمون ، وتقدم عليهم كافة المتأخرين ، فمع وجود علي بن أبي طالب يتمنى عمر بن الخطاب لو أن سالم مولى أبي حذيفة حياً ليوليه الخلافة ، وسالم هذا مولى لا يعرف له نسب في العرب ، فعمر بن الخطاب يعتقد حسب اجتهاده وموازينه أن سالم مولى أبي حذيفة هو أولى بخلافة النبي من علي بن أبي طالب ابن عم النبي ، وأول المؤمنين به ، وزوج ابنته ووالد سبطيه ، وفارس الإسلام والولي الرسمي لكل مؤمن ومؤمنة ، وسيد العرب وسيد المسلمين وإمامهم بالنص الشرعي!!

وعندما تمنى عمر لو ان سالم أو خالد ، أو أبا عبيدة ، أو معاذ بن جبل أحياء لولي أحدهم الخلافة ، ويوضح عمر الأسباب فيقول فلو سألني ربي عن ذلك لقلت سمعت نبيك يقول ، ويروي حديثاً سمعه عن النبي في كل واحد من أولئك الذين تمنى عمر حياتهم!! والمثير حقاً أن عمر نفسه سمع النبي يقول : « من كنت وليه فهذا علي بن أبي طالب وليه ، ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، وسمع النبي وهو يقول عن علي : « إنه وليكم من بعدي » وسمعه وهو يقول له أنت سيد العرب ، وأنت سيد المسلمين إمام المتقين ، والأهم من ذلك أن عمر نفسه قد هنأ الإمام على بالولاية في غدير خم

لكنها سياسة لجم الحديث النبوي وإلزامه على السير بما يتلاءم مع توجهات السلطة وإرغام أنوف معارضيها.

لما آلت الخلافة لعلي بن أبي طالب ، وبايعته الأكثرية الساحقة التي بايعت الخلفاء الثلاثة ، وجد أن دائرة الحصار والخطر على كتابه أحاديث الرسول محكمة تماماً وانه ليس من اليسير اختراقها وبيان الحقائق الشرعية للناس ، لأن مضامين هذه الدائرة قد استقرت بعد أن أصبحت منهاجاً تربوياً رسمياً للناس خلال عهود الخلفاء الثلاثة الأول ، فأوجد الإمام طريقة خاصة لاختراق تلك الدائرة وفتح نوافذ فيها ، فكان يشهد ويحدث شخصياً بما سمعه من النبي ، وكان يغتنم فرصة

٩٢

تجمع الصحابة في اجتماع عام ويناشد قائلا : « نشدت الله امرءاً مسلماً سمع رسول الله في المكان الفلاني قد قال كذا أن يقوم فيقوم العشرة والعشرون ، ليشهدوا على أن الرسول قد قال كذا بالفعل ، وكان يصدف أن بعض شانئي أهل بيت النبوة الذين سمعوا رسول الله لا يقومون ، وإمعاناً بإقامة الحجة عليهم يسألهم الإمام عن سبب عدم قيامهم مع أنه يعرف أنهم قد سمعوا الرسول وهو يقول فيدّعون النسيان ، ويصدف أن يدعوا الإمام علي بعضهم ، ويستجيب الله لدعوة الإمام ، ويحمل السامع المنكر علامة تشهد بكذبه كما حدث يوم الرجعة ولقد استطاع الإمام علي خلال مدة حكمة أن يكشف للناس ما جهدت السلطة بإخفائه ، طوال السنين التي تلت موت النبي الأعظم خاصة الأحاديث المتعلقة بمنصب القيادة من بعد النبي ، وبمكانة أهل بيت النبوة ، وفضائلهم. وجاء معاوية فسن ما يمكن أن نسميه بحرب الفضائل ، فسخر كافة موارد الدولة وإمكانياتها للحط من مكانة أهل بيت النبوة ، وللتشكيك بكل ما نشره علي بن أبي طالب وأولياءه عن منصب القيادة من بعد النبي ، وللتنكر لكل الفضائل التي قالها رسول الله عن أهل بيته ، ولخلط الأوراق خلطأ عجيباً أمر معاوية كافة ولاته وعماله أن لا يدعوا فضيلة يرويها أحد من المسلمين في علي وأهل بيت النبوة إلا وجاءوا بمثلها لأحد من الصحابة ، فسالت سيول الفضائل ، وانفتحت الأرض عن عشرات الآلاف من الرواة ، فرووا عشرات الألوف من الفضائل ونسبوها للرسول ، ثم أمرت الدولة بتدريس هذه المرويات في المدارس والمعاهد والجامعات ، وفرضت دراستها على العامة والخاصة ، فنشأ جيل يعتقد بصحة هذه المرويات ، ثم انتقلت هذه المرويات من جيل إلى جيل واقتصر اهتمام المسلمين عليها ، وبقي الحظر والمنع على رواية وكتابة أحاديث الرسول سارياً على ما سواها ، وإمعاناً بإرغام أنوف أهل بيت النبوة ومن والاهم أمر معاوية كافة رعاياه أن يلعنوا علياً بن أبي طالب وأهل بيته كما تلعن الشياطين ، وأن لا يجيزوا لأحد ممن يحبهم شهادة ، وأن يقطعوا عطاءهم ويهدموا دور الذين يوالونهم. [ راجع كتاب الأحداث للمدائني ، وقول ابن نفطويه في شرح النهج لابن أبي الحديد ج‍ ٣ ص ٥٩٥ تحقيق حسن تميم ].

ولما تولى الخليفة الأموي الفاضل عمر بن عبد العزيز الخلافة أدرك خطورة

٩٣

منع كتابه ورواية أحاديث الرسول ، وخشي أن يندرس هذا العلم ويموت مات تبقى من أهله ، فكتب إلى واليه على المدينة وكلفه بكتابة أحاديث الرسول ، ولأن الخليفة على علم بتوجهات المجتمع فقد علل قراره بخشيته من موت العلماء واندراس علم الحديث.

فاحتج علماء عصره ، وضج المجتمع الإسلامي الذي تربى على ثقافة معينة!! وتساءل الناس متعجبين؟ كيف يجرؤ عمر بن عبد العزيز على اقتراف ما نهى عنه الخلفاء الثلاثة أبوبكر وعمر وعثمان!!! وأٌهمل أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز عملياً ولم ينفذ ، لأن التوجه العام للمجتمع لا يحتمل ذلك ، فمن غير الممكن أن يسمح بكتابة ورواية أحاديث صدرت عن رسول الله ، تتضمن فضائل علي بن أبي طالب ، مثلاً في الوقت الذي أمرت فيه الدولة كافة رعاياها بلعنه!! والتبروء منه!! ولا يحتمل مجتمع دولة الخلافة إبراز فضائل ومكانة أهل بيت النبوة في الوقت الذي تعتبرهم الدولة أعداء الخليفة وأعداء المجتمع!! ولكن على الرغم من أن أمر الخليفة لم ينفذ عملياً إلا أنه كان ثغرة واسعة في جدار سميك وإعداد علمي للمجتمع ليرقى من طور إلى طور!!

وبعد قرابة مائة عام على موت الرسول اقتنع مجتمع دولة الخلافة بضرورة كتابه ورواية أحاديث الرسول ، ولم تر دولة الخلافة في ذلك ما يهود وجودها أو يمس استقرارها ن فإيديولو جيتها الواقعية قد رتُبت عملياً والستقرت في أذهان خلال مدة المائة العام التي منعت فيها رسمياً كتابه ورواية أحاديث الرسول ، لهذا كله أذنت دولة الخلافة برواية وكتابة أحاديث الرسول ، أو على الأقل لم تعترض عل هذا التوجه الجديد!!

الانطلاقة الکبرى

في رواية وكتابة الحديث

أ ـ على صعيد علماء دولة الخلافة

على ضوء التوجه العام والواقع الجديدين ، انطلق علماء دولة الخلافة ليبحثوا عن كل ما صدر عن نبيهم من قول أو فعل أو تقرير قبل مائة عام!!!

٩٤

وأوجدوا ضوابط علمية لعمليتي كتابه ورواية سنة الرسول من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، وبذلوا جهوداً مضنية للوقوف على كل ما قاله رسول الله بالفعل في كل أمر من الأمور ، وفي أي شخص من الأشخاص ، أو أية جماعة من الجماعات ، حتى أنهم رووا الأحاديث المتعلقة بعلي بن أبي طالب ، وأهل بيت النبوة الذين صبت عليهم دولة الخلافة كل غضبها ونقمتها وقوتها!! فرويت الأحاديث التي تتحدث عن مكانة على ، وقربه من النبي ، وجهاده المميز وسجله الحافل بالأمجاد ، ورويت أحاديث تتحدث عن مكانة أهل بيت النبوة ، وآل محمد تميزهم عن غيرهم من المسلمين التي تبرز دور آل محمد بالدفاع عن دعوة الاسلام ، وإقامة دولة الأولى ، ومعاناتهم الکبرى ، باحتضان النبي والدفاع عنه ، والجهاد بين يديه!! وأبعد من ذلك أن علماء دولة الخلافة قد رووا أحاديثاً عن رسول الله عن عدواة أبي سفيان وبنيه خاصة ، والبطن الاموي عامة لله لرسوله وعن قيادتهم لجبهة الشرك طوال فتره ال‍ ١٥ سنة التي سبقت الهجرة ، وأنهم حاربوا الإسلام ونبيّه طوال مدة الثماني سنوات التي تلت الهجرة ، وأنهم قد استعدوا العرب واليهود على رسول الله ، وأعظم من ذلك ، فقد روى العلماء أحاديثاً عن رسول الله ، بأن الحكم بن العاص وذريته هم أعداء الله ورسوله ، وأن الله قد لعنهم على لسان نبيه ، ومع هذا آلت خلافة الرسول لذرية الحكم ، في الوقت الذي كانت فيه ذرية النبي وآل النبي يتعرضون للتقتيل والتشريد والتطريد!!! بعد أن فرضت الدولة على العامة والخاصة لعنهم.

وروى علماء دولة الخلافة أحاديث عن رسول الله تبين مكانة فاطمة الزهراء ، وابنيها الحسن والحسين ، عند رسول الله ، وقرابتهم القريبة ، ومنزلتهم الرفيعة في قليه الشريف. لقد أذهلت تلك المرويات العامة والخاصة من المسلمين ، وربطوها بالمحن والمآسي والآلام التي تجرعها أهل بيت النبوة مجتمعين ومنفردين!!! وبدأت قلوب المسلمين تتعاطف مع أهل البيت ، وتتيقن أن خللاً كبيراً قد حدث ، وأن لأهل بيت النبوة قضية عادلة لم تلق أبداً آذانا صاغية طوال التاريخ!!

وفجاة قررت جموع دولة الخلافة أن تعتبر علياً بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين ، وأن تعترف به وبابنيه الحسن والحسين ، كعمداء لآل محمد الذين لا

٩٥

تجوز صلاة المسلم غير الصلاة عليهم!! وأنهم والسيدة الزهراء هم أهل بيت النبوة الذين اذهب الله الرجس وطهرهم تطهيراً ، واكتشفت تلك الجموع أنها قد سارت طويلاً بالخط المعاكس للطريق الإلهي ، وشعرت تلك الجموع بالندامة لانها خذلت عليا وحسناً وحسيناً ، وسمت الحسن ، وقتلت الحسين وهما اينا رسول الله ومزقت آل محمد في كربلاء ، أو على الأقل لانهم قتلوا أمامها دون أن تنصرهم أو تحرك ساكناً.

وهذا انقلاب حقيقي وثورة فعلية تحدث في نفسية تلك الجموع التي استجابت لمعاوية ، وخلفاء بني أمية ، ولعنت الإمام على في العشي والإبكار ، وتعبدت بكرهه وكراهية أهل بيت النبوة طمعاً بدنيا معاوية وشيعته!!!

« ولم يجد العلماء صعوبة تذكر بكتابة ورواية الأحاديث التي احتضنتها دولة الخلافة ، والتي كانت منسجمة مع توجهات تلك الدولة ، ومع تاريخها السياسي ، لأن تلك الأحاديث كانت مروية ومكتوبة بالفعل ، وجاهزه ، وكانت تشكل المناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة ، حيث كان تعلمها مفروضاً على الخاصة والعامة ، فنقلها العلماء كما هي ، مسلمين بصحتها سنداً لكثرة تداولها بين الناس ، ولانها جزء لا يتجزأ من وثائق الدولة الرسمية التي عمل بها المجتمع ، بل والاعظم من ذلك أنها قد صارت أحد مقاييس الصحة لما يروى من الحديث ، فإذا تعارض حديث مع الأحاديث التي تبنتها الدولة ، فهذا الحديث موضع شك!!! والمخرج يكمن بتضعيف رواته ، أو أحد رواته أو تكذيبهم ، أو تكذيب بعضهم ، بمعنى أن المناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة كانت بمثابة رقيب ضمني على ما يروى من أحاديث الرسول ، فأي حديث يتفق مع هذه المناهج فهو صحيح وما يعارضها فهو موضع شك ، ومع هذا لم تكن هنالك موانع فعلية من رواية أي حديث ، هذا بحد ذاته إنجاز ، بل وثورة فعلية کبرى أطلّ من ابوابها ونوافذها الرأي الآخر مدعوماً بالسند الشرعي ، وهذا ما كان ممنوعاً طوال التاريخ.

والخلاصة أن علماء دولة الخلافة لم يتوقفوا أبدا عن تقييد كل ما ذكر بأنه قد صدر عن الرسول ، فكانوا يروونه ، ويقيسونه بموازينهم العلمية التي أوجدوها ، خصيصاً لهذه الغاية ، ويخرجونه للناس ويكتبونه بصحاحهم أو مسانيدهم ، أو

٩٦

تواريخهم ، أو سيرهم أو مؤلفاتهم ؛ إنها انطلاقة عظيمة لأحياء كل ما وأدته دولة الخلافة عبر تاريخها السياسي الطويل!!

ومن الطبيعي أن تعترض هذه الانطلافة الکبرى معوقات کبرى أيضاً فظهر الكذابون الذين تعمدوا الكذب على رسول الله ، إما تأييد لتاريخ قد استقر ، أو دفاعاً عما تهوى الأنفس ، أو نكاية وإرغاما لأنف خصم ، وقد يكون الكذب لصالح الرسول كما زعم بعضهم حيث قالوا : « إننا لا نكذب على الرسول إنما نُكذب له » وبرع بعض الرواة بالرواية كماً وكيفاً وخلطوا فهمهم لما سمعوه من الرسول ، بأرائهم الشخصية ، وسوَّقوا الاثنين معاً فإما ان ترفضهما معا أو تقبلهما معاً!!

ومع هذا فقد تمخضت تلك الانطلاقة الکبرى عن ثروة علمية عظمى ، تجد فيها الجزء الاعظم من الحقيقة ، التي تطمئن بها القلوب. لكن لا أحد من علماء دولة الخلافة قد أدعى بأن ما أخرجه من الأحاديث هو عين ما صدر عن رسول الله باللفظ والمعني ، بلا زيادة ولا نقصان والأحاديث التي وصلتنا عن النبي بهذا الوصف : « لفظاً ومعنى ، وبلا زيادة أو نقصان » أندر من النادر!! وهكذا ألحقت دولة الخلافة بالعالم والعلم خسارة فادحة عندما منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول ، بالوقت الذي أجازت فيه رواية وكتابة حتى الخرافات والأساطير ، ولولا جهود العالم لضاع الأثر والعين معاً ولكن الله غالب على امره.

وتمخضت تلك الانطلاقة الکبرى عن تدوين الكم الهائل من الأحاديث في مجموعة كبيرة من كتب الحديث أبرزها عند أهل السنة ستة كتب عُرفت بالصحاح وهي : « صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود ، وسنن ابن ماجة ، وسنن الترمذي ، وسنن النسائي » ، ومنهم من يقدم سنن الدارمي على سنن النسائي ، بالإضافة إلى المستدركات على هذه الصحاح ، ومجموعة من المسانيد.

ب ـ رواية وكتابة الحديث عند أهل البيت وأوليائهم

أهل البيت بما ورثوه من علمي النبوة والکتاب ، وبما خصهم الله به من مكانة ، لا ترقى إليها مكانة ، وبما أسند أليهم من وظائف وتكاليف شرعية ، على يقين تام ومطلق بعمق الارتباط والتكامل والتعاضد بين كتاب الله القرآن الكريم

٩٧

وبين بيان النبي لهذا لكتاب ، مثلما هم على يقين تام بأن أحدهما لا يُغني عن الآخر. وهم على علم بتركيز النبي المكثف والخاص على هذه الناحية.

وقد تحدث أئمة أهل البيت عن مجموعة حقوقية شرعية کبرى قد ورثوها عن رسول الله اسمها « الجامعة » أملاها رسول الله وكتبها الإمام علي بن أبي طالب بخط يده ، وكلف رسول الله علياً أن يحتفظ بها ، وأن يورثها للأئمة من بعده وهي تشتمل على العلم كله ، القضاء والفرائض ، وما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش ، وما خلق الله من حلال ولا حرام إلا وضوابطه بهذه الجامعة ، وأن هذه الجامعة لم تدع لأحد كلاماً. ويبدو أن هذه المجموعة قد أملاها رسول الله خصيصاً للأئمة القادة من أهل البيت ليحكموا بها إذا تولوا حكم الناس ، لأن فيها حكم الله.

وتحدث الإمام على عن صحف كثيرة عنده ، ووصف تلك الصحف بأنها « قطايع » أي مخصصات رسول الله وأهل بيته. ويروي علماء دولة الخلافة أنه بعد فترة من موت رسول الله جاء علي بن أبي طالب وهو يحمل كتاب الله وتفسيره على ظهره ، وأنه قد عرض على قيادة دولة البطون أن يحكم بينهم بما أنزل الله وما أملى رسوله ، وأن هذه الدولة رفضت العرض.

ويبدو من كثير من الأحاديث إن لدى أئمة أهل البيت كتابين اخرين قد كتبا بخط الإمام علي وعلى عهد رسول الله ، ويسمى أحد هذين الكتابين : « بمصحف فاطمة » وفيه أنباء من الحوادث الكائنة والمتعلقة بالأئمة ، أما الكتاب الآخر فيسمى ب‍ « الجفر » وهو يشتمل على أنباء من الحوادث الكائنة عموماً ». [ راجع بصائر الدرجات ص ١٤٤ ـ ١٤٨ ـ ١٥٦ و ١٦٠ ، وأصول الكافي ج‍ ١ ص ٢٤١ وص ٥٧ والوافي ج‍ ٢ ص ١٢٥ ومعالم المدرستين ج‍ ٢ ص ٣٠٠ ـ ٣١٢ وكتابنا الخطط السياسية ص ١٩١ ـ ١٩٧ ]. ومن المؤكد أن ذلك قد حدث بالفعل فرسول الله متيقن أنه ميت لا محالة ، وموقن من حاجة الأمة إلى بيان كافة الأحكام الشرعية بياناً قائماً على الجزم واليقين ، وهو بيانه الشريف ، ولأن علياً بن أبي طالب هو المخول شرعاً بالبيان بعد وفاة الرسول ، ولأنه من الرسول بمنزلة هارون من موسى باعتراف قادة دولة البطون ، ولان الإمام علي أعظم علماء

٩٨

الأمة وأعلمهم بإقرار كافة الخلفاء ، ولأنه قارىء كبير في أمة أمية يندر فيها القارىء ، ولأنه باب مدينة العلم. فقد أملى عليه رسول الله الحكم الشرعي لكل شيء ، وكلف النبي علياً أن يجمع ذلك في كتاب ليكون مرجعاً ، للأمة في بيان القرآن بعد وفاة النبي ، وكلف النبي علياً أن يحتفظ بهذا الكتاب ، وأن يسلمه لأولاده الأئمة ليتوارثوه حسب ترتيب خاص ، ويبينونه للأمة بعد وفاة النبي ، ويحكمون بموجبه إن سلمت الأمة بحقوقهم ، فتكون علوم هذا الكتاب من الأدلة المادية لمرجعيتهم ولحقهم بالقيادة والبيان من بعد النبي. ثم إن سادة أهل بيت النبوة كانوا يقيمون مع النبي في بيت واحد طوال حياة النبي المباركة وكان النبي يزقهم بالعلم زقاً ، ويفيض عليهم من عجائب علمه ومن أخبار المستقبل البعيد ، وكانت تلك المعارف بكل الموازين ثروة کبرى خصهم الله بها فمن غير المعقول أن لا يحفظوا تلك الثروة ويكتبوها!!! ليحتجوا بها القوم ، ولينتفعوا بها ، ويورثوها لذارياتهم تأكيداً للطهر والتميز ، هم إن العلوم التي أفاضها رسول الله على أهل بيته هي بيان للقرآن ومن الضروري أن يحتفظ بها أهل بيت النبوة ليكون لديهم بيان القرآن ، وليحملوا هذا البيان للإنسانية في كل زمن ، إن هذا البيان هو علم النبوة ، وقد كلف الله نبيه أن يورث الأئمة الإعلام من ذريته علمي النبوة والكتاب.

والخلاصة أنه لما قبض الله نبيه ، كان أهل بيت النبوة قد وعوا علمي النبوة والكتاب بالتمام والكمال ، ووثقوا من هذين العلمين كل ما يحتاج إلى توثيق ، فما من سؤال على الإطلاق! إلا ويعرف عميد أهل البيت في زمانه جوابه ، وما من أمر من أمور الدنيا والاخرة إلا ويعرف هذا العميد كلياته وتفاصيله الدقيقة ، وحكم الشرع الحنيف فيه ، وكل هذه المعارف موثقة ومعروفة عندهم ومعلومة علم اليقين.

أثناء مرض النبي الذي قبض منه ، تجاهلت بطون قريش البيان النبوي تجاهلاً كاملاً ، واستولت على السلطة ، وحجَّمت أهل بيت النبوة بالقوة ، وعتمت على كل فضائلهم وتنكرت لمقامهم ومكانتهم تنكراً تاماً ، وجردتهم من كافة حقوقهم ثم أصدرت مراسيم منعت فيها رواية وكتابة أحاديث رسول الله ، وقررت أن القرآن

٩٩

وحده يكفي ، ولا حاجة لبيان النبي ، لأن بإمكان أي إنسان أن يفهم القرآن حسب رأي البطون!! ورواية أحاديث النبي وكتابة هذه الأحاديث تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين ، وقيادة البطون ترى أن منع الاختلاف والخلاف يتحقق عندما تمنع رواية وكتابة أحاديث الرسول!!!

وبدأت قيادة البطون بتطبيق مراسيمها بصراحة تامة ، فكانت تحرق كل ما وصل إليها من أحاديث الرسول ، وكانت تتصيد كل ما هو مكتوب من أحاديث الرسول فتتلفه ، وحرمت مراراً وتكراراً تلك الأحاديث مثلما حرمت روايتها تحريما كاملاً ، إلا ما كان يخدم توجهاتها وسياستها ، وبهذه الظروف خبأ أهل بيت النبوة كنوز العلم الثمينة والنادرة والتي تلقوها من رسول الله مباشرة ، خوفاً عليها ، وتناقلوها كابراً عن كابر ، وأفاضوا منها سراً على أولياهم ، وكانت دولة الخلافة تراقبهم مراقبة دقيقة ، وتتمني لو تجد تلك الکنوز النادرة لتحرقها تحريقاً ، وتتلفها إلى الأبد. ونجح أئمة أهل بيت النبوة بإخفاء تلك الكنوز العلمية ، ورغم المنع المفروض على رواية الحديث إلا أنهم نحجوا بتسريب الكثير الكثير من معارفهم إلى المسلمين عامة ، وإلى أوليائهم خاصة ، بالرغم من رقابة الدولة الصارمة ، وأدعية الإمام زين العابدين المعروفة من الأمثلة الحية فالأدعية أحاسيس عميقة صادقة استوحاها الإمام من علمي النبوة والكتاب ، ومن خلالها بث شكواه ولوعته وحزنه العظيم ، ثم كتبها بخط يده لينقلها إلى الأجيال اللاحقة ، ومع أنها أدعية إلا أنه كان خائفاً عليها كما خافت أم موسى على ولدها ، فكان ينقلها من مكان إلى مكان ، ومن حرز إلى حرز لأن دولة الخلافة الأموية لو عثرت عليها لمزقتها تمزيقاً ولحرقتها تحريقاً. لأن دولة الخلافة أرادت أن تمحو من ذاكرة المسلمين نهائياً ووألي الأبد كل الأحكام الشرعية المتعلقة بمنصب القيادة من بعد النبي والمتعلقة بمكانة أهل النبوة ، حتى لا يبقى الشريعة أثر يدين استيلائها على القيادة بالقوة والتغلب وكثرة الاتباع.

وخلال مدة المائة سنة التي حرمت فيها دولة الخلافة كتابه ورواية أحاديث الرسول ، عاش الإسلام والفئة المتنورة من المسلمين محنة کبرى ، ووطأة عظمى وكان أهل البيت الكرام أكثر الناس أحساساً بالمحنة والوطأة وما زاد الطين بلة أن

١٠٠