اليتيم في القرآن والسنّة

اليتيم في القرآن والسنّة50%

اليتيم في القرآن والسنّة مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 119

اليتيم في القرآن والسنّة
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47550 / تحميل: 17191
الحجم الحجم الحجم
اليتيم في القرآن والسنّة

اليتيم في القرآن والسنّة

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

اليتيم في القرآن والسنة

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مع الكتاب في طبعته الثانية

قارئي الكريم :

عذراً إذا لم يوف حق اليتيم في الطبعة الأولى من كتابنا هذا « اليتيم في القرآن والسنّة » فقد فوجئت في حينها من قبل إدارة « دار الزهراء للطباعة والنشر » الموقرة بطلب طبع مالي من نتاج كتابي ، وكنت يومها في سفرة إلى ربوع لبنان ، ولم أكن قد صحبت معي في تلك السفرة إلا هذا الموضوع ، وهو محاضرة من سلسلة محاضرات كنت ألقيها على بعض الأخوان من طلاب العلوم الدينية ممن تضمهم الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

والقارئ العزيز يدرك أن طبيعة المحاضرات في مثل هذه الجلسات لا تسمح للمحاضر بالكتابة الشاملة لاستيعاب الموضوع من جميع جوانبه التي تحيط به ، لذلك كانت على جانب من الإختصار وأخيراً طلبت مني الدار ـ مشكورة ـ الإذن في إعادة طبع الكتاب بعد أن نفذت النسخ التي طبعت منه.

٥

لذا رأيت لزاماً عليّ ـ وأنا ألبّي الطلب ـ أن أعيد النظر في بعض فصوله وإضافة مواضيع جديدة له تعميماً للفائدة. ولعلني ـ في الوقت نفسه ـ أكون قد أديت بعض ما لليتيم من حق في التنويه عن حقوقه المادية ، والاجتماعية بشكل أوسع مما سبق في الطبعة الأولى.

والله الموفق ، وهو المسدد للصواب.

النجف الأشرف : عز الدين السيد علي بحر العلوم

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الطفل :

للطفل في الشرائع السماوية مكانة محفوفة باللطف ، والرعاية ، فهي تستثنيه من التكاليف التي لا تمس حقوق المكلفين كما توجه أبنائها إلى الإِهتمام بتوجيهه ، وتربيته وله حقوقه الثابتة فيها ، ويستطيع معرفتها كل من يراجع الكتب السماوية ، ولا سيما القرآن الكريم ، والسنة النبوية. ولا تحتاج معرفة سبب هذا الإِهتمام إلى دراسة ، وتفكير. فأهمية الطفل في المجتمع الإِنساني العام واضحة تماماً ، فهو اللبنة المقومة لبناء المجتمع. والعناية به عناية بالبناء نفسه.

وبما أن الطفل في عالمه الطفولي لا يتمكن من تربية نفسه وتوجيهها إلى صالحه ، وصالح مجتمعه لذلك نرى العناية الإِلهية تولي هذه الناحية الإِهتمام الوافر ، فتوجد في نفس الأبوين عاطفة جياشة تشدهما شداً وثيقاً إلى الطفل من اللحظات الأولى التي تبدأ فيها مسيرته التكوينية ، فعواطف الأبوين هي المادة الحيوية في توجيه حياة الطفل ، وتقويمها.

وفي سبيل تنمية هذه العواطف ، وتصعيدها نرى الرسول الاكرم (ص) يخاطب زوجته أم سلمه قائلاً :

« إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم. القائم. المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعِظَمه ، فإذا أرضعت كان لها بكل مصةٍ كعدل عتق محررٍ من ولد إسماعيل ، فاذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها وقال :

 

٧

إستأنفي العمل فقد غفر لك »(١) .

لقد تناول الحديث الشريف مرحلتين من أهم المراحل التي يمر بها الوليد ، وهما :

مرحلة الحمل ، ومرحلة التغذية في دورها الرضاعي. وعلى هاتين القاعدتين تبتني الحياة.

ويأتي التشويق للمحافظة على الجنين في المرحلة الاولى في أروع صورة عندما يقول النبي (ص) إذا حملت المرأه كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد ».

لقد منح الحديث المرأة الحامل ثواب :

١ ـ الصائم.

٢ ـ القائم : وهو الذي يقضي وقته بالعبادة لله سبحانه.

٣ ـ المجاهد : ولم يحدد الحديث الجهاد ، بل كان مطلقاً يشمل الجهاد على الصعيدين : بالنفس ، وبالمال في سبيل الله.

وثواب هؤلاء : طفحت ببيانه كتب الحديث من جميع المذاهب فأسهبت في تقديره.

كل ذلك تناله المرأة الحامل ، ولكن لماذا كانت موضع عناية الله في الحصول على كل هذا الثواب ؟

فهل قضت تلك المرأة أيامها صائمة ؟.

أو هل اتعبت بدنها بالعبادة المتواصلة ؟.

أو هل ضربت بسيف في معركة جهادية مع الكفار ؟.

__________________

(١) وسائل الشيعة : حديث (١) من الباب (٦٧) من أبواب أحكام الأولاد.

٨

أو هل أنفقت من مالها إلى الفقراء ، والمعوزين لتنال بواحدٍ من هذه الأمور ، أو بأكثر كل هذا الثواب ؟.

ويأتي الجواب عقب هذه التساؤلات بكلمة ( لا ) ..

وإذا فلماذا نالت المرأة كل ذلك ؟.

ونتلمس الجواب واضحاً من خلال الحديث نفسه في قوله (ص) : « إذا حملت المرأة » الخ ...

فالحمل : هو السبب في نيلها هذه الدرجات الرفيعة. وأي إمرأة لا تحافظ على حملها إذا كان الأجر بهذا النوع من العطاء الجزل من الله سبحانه ؟.

أما في المرحلة الثانية : وهي المرحلة المتعقبة للولادة فنرى الحديث يشوق الأم لتغذية الطفل وضمه إلى صدرها بأن يمنحها بكل مصةٍ من ثديها ثواب عتق رقبة مؤمنة. وأخيراً يختتم الحديث بأن يزف إلى تلك الام المرعضة البشرى الكبرى بأنه بانتهاء عملية الرضاع لكل وجبة غذاء يقول لها ملك كريم : « إستأنفي العمل فقد غفر لك ».

بهذا الأسلوب الرقيق جاءت الشريعة لتحث الوالدة لتتولى بنفسها تغذية الولد في أدواره الاولى من هذه الحياة ولا تتركه عرضة تتلاقفه المرضعات بين أحضانهن لان لبنها مكيف تكييفاً مناسباً لحال الطفل ، وبنيته فالام تعذي الطفل بلبن دافىء معقم طبيعي حي غير متغير بالتسخين ، أو فاسد بالجراثيم أو مختلف عليه لو كان من مرضعة أخرى.

والطفل حين تضمه الأم إلى صدرها تلاعبه وتلاطفه وتغذيه من لبنها تشعره بدفء الحنان الأنثوي ، وبعاطفة الأمومة فيأنس الطفل بهذه العاطفة ، ويطمئن إلى مصدر هذا اللطف.

ولهذا نرى الأطباء ينصحون الامهات اللاتي يرضعن أولادهن

٩

بالزجاجة أن لا يحرمن الطفل من هذه المداعبة والملاطفة لئلا يفقد الصغير الغذاء الروحي كما فقد اللبن منها.

وبنفس التقام الطفل لحلمة الثدي فائدة عظيمة حيث تتهيج الام بدغدغة هذا الموضع منها فتهيج عواطفها مما يبعثها على تقريب الطفل ، وضمه إليها وهي تشعر بالعطف المتزايد عليه وبهذا تشتد أواصر المحبة بينهما.

ويستمر التوجيه من الشارع المقدس للأبوين ليكملا ما بعد هذا الدور من أدوار الطفولة لينال الطفل تربية صالحة فالتربية الصالحة كفيلة بخلق جيل يحقق للأمة سعادتها وهنائها.

أما الأهمال ، وعدم الرعاية فنتيجته الحتمية هو ايجاد جيل ينخر في كيان الامة مما يؤدي إلى تدهورها ، وسقوطها.

ومن خلال هذه العناية بالطفل نرى اللطف الإِلهي يتجلى في أظهر صوره حيث يتبنى مشكلة يعاني المجتمع منها في جميع الادوار والمراحل تلك هي مشكلة ( اليتامى ) الذين يفقدون اليد التي تحنو عليهم ، ويبقون عرضة لاعاصير هذه الحياة العاتية ومورداً خصباً لتجمع الرذائل ، والموبقات وبذلك تفقد الامة من أعضائها ما بهم تشد أزرها ، ويخسر المجتمع أفراداً كانت الاستفادة منهم حتمية لو حصل لهم من يبادلهم العطف ، واللطف ، والرعاية الطيبة.

ولذلك نرى الدين الاسلامي الحنيف يفرض على مجتمعه ويكلف كل فردٍ من أبنائه برعاية اليتيم ، والعناية به في سائر شؤون الحياة لئلا ينشأ فاقد التوجيه ، ويصبح عاهة في المجتمع العام ، فإهمال اليتيم يساوي إهمال المجتمع ، وهدم كيانه الحافظ للحياة الإِنسانية العامة.

وإذاً فلكي نحافظ على مجتمعنا ، وندافع عن مصالحه يلزمنا القيام

١٠

برعاية اليتيم ، وسد الفراغ العاطفي منه ، وذلك باشغال شعور الطفل بما ينسى به فقد أبيه.

من هو اليتيم ؟

اليتيم : كما تطالعنا به كتب اللغة هو :

الفرد من كل شيء. يقال : بيت يتيم ، وبلد يتيم. ومن الناس من فقد أباه.

ومن البهائم من فقد أمه.

وحيث كانت الكفالة في الإِنسان منوطة بالاب كان فاقد الاب يتيماً دون من فقد أمه.

وعلى العكس في البهائم ، فإن الكفالة حيث كانت منوطة بالام كذلك كان من فقد أمه يتمياً.

وقد حدد اللغويون نهاية هذا العنوان فقال الليث : اليتيم ، الذي مات أبوه ، فهو يتيم حتى يبلغ الحلم فإذا بلغ زال عنه إسم اليتم.

وهكذا قال غيره من علماء اللغة.

تحديد عنوان اليتيم :

ويتفق الفقهاء مع اللغويين بتحديد اليتيم إلى هذا الحد ، فهم يرون أن هذا العنوان يتمشى مع الطفل إلى حد البلوغ الشرعي ، والذي تقرره الشريعة المقدسة بظهور واحدٍ من علامات ثلاث :

١ ـ إنهاء الطفل خمسة عشر عام من عمره إذا كان ذكراً ، وتسعة إذا كان إنثى.

١١

٢ ـ إنبات الشعر على عانته.

٣ ـ الإِحتلام بخروج المني منه ، أو الحيض من الأنثى.

حيث تنبىء هذه العلامات بوصوله إلى مدارك الرجال. وحينئذٍ ، فينتقل من مرحلة الطفولة ، وهي مرحلة عدم المسؤولية إلى مرحلة العبء الإِجتماعي ، والمسؤولية الشرعية التي تفرض على الرجال البالغين.

ولم يقتصر إطلاق عنوان اليتيم على الطفل قبل بلوغه بل أطلق على البالغين أيضاً ، ولكنه إطلاق مجازي ، وليس باطلاق حقيقي كما كانوا يسمون النبي (ص) وهو كبير : « يتيم أبي طالب » ( عليه السلام ) لانه رباه بعد موت أبيه وفي الحديث : « تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو أدنها ».

أراد باليتيمة : البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها ، فلزمها إسم يتيم ، فدعيت به ، وهي بالغة مجازاً.

سبب التسمية باليتيم :

الذي يظهر مما يقوله أهل اللغة في هذا الصدد هو : أن التسمية بهذا الاسم منشأها عدم الاعتناء الذي يلاقيه من فقد كفيله وهو بهذا السن من العمر حيث صرح بمثل ذلك من تضلع بتتبع هذا النوع من المصطلحات.

يقول المفضل : أصل اليتم الغفلة ، وبه سمي اليتيم يتيماً لانه يتغافل عن بره.

أما أبو عمر فقال اليتم : الإِبطاء ، ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطىء عنه(١) .

__________________

(١) لاحظ للموضوع من ناحيته اللغوية : لسان العرب / مادة يتم. ومن الناحية الفقهية كافة المصادر الفقهية لجميع المذاهب.

١٢

اليتيم في القرآن والسّنة :

ليس من السهل ضبط حصة اليتيم من السنة الكريمة على النحو الدقيق.

أمّا حصته في القرآن الكريم فقد تعرضت الآيات له في اثنين وعشرين آية(١) مقسّمة إلى أقسام ثلاثة :

تعرض القسم الأول منها إلى بيان شمول اللطف الإِلهي له في الشرائع السابقة ، والايصاء به.

أمّا القسم الثاني : فقد تعرض إلى بيان حقوقه الاجتماعية. وقد تركز القسم الثالث على بيان حقوقه المالية.

كما وقد تناولت الآيات الكريمة بشكل خاص يتامى آل النبي محمد (ص) تمييزاً لهم في بعض الحقوق المالية عن بقية اليتامىٰ لاداء بعض ما للنبي الاكرم (ص) من حقٍ على الناس.

اليتيم في الشرائع السابقة :

لو لاحظنا اليتيم لرأيناه : طفلاً من الاطفال فقد كفيله ، وحرم من تلك العواطف الابوية ، ولكنه لم يفقد الرحمة الإِلهية حيث إحاطته فكانت

__________________

(١) وهي كما يلي :

سورة البقرة : آية (٨٣ ، ١٧٧ ، ٢١٥ ، ٢٣٠).

وسورة النساء : آية (٢ ـ ٣ ، ٦ ، ٨ ، ١٠ ، ٣٦ ، ١٣٧).

وسورة الأنعام : (١٥٣) ، وسورة الانفال آية (٤١) وسورة الاسراء آية : (١٧) وسورة الكهف : آية (٨٢) ، وسورة الحشر : آية (٧) وسورة الإِنسان : آية (٨) وسورة الفجر : آية (١٧) وسورة البلد : آية (١٥) وسورة الضحى آية (٦ ، ٩) وسورة الماعون آية (٢).

١٣

له الحصة الوافرة في التشريع من الحث على ضرورة التزامه ، والامن بعدم التجاوز على حقوقه ، والترغيب في جلب مودته ، والتلطف به لئلا يشعر بالوحدة والانعزال ، ولئلا يكون فريسة لشهوات أولئك الذين لم تجد الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً.

ولم يكن هذا المعنى من مختصات شريعتنا الاسلامية المقدسة بل كانت هذه الرعاية سنة الله في خلقه قبل أن يقوم للاسلام كيان ، فرعاية اليتيم ، والمحافظة عليه كانت من جملة بنود الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل من قبل. فالقرآن الكريم يحدث النبي (ص) عن هذا الميثاق المقدس ويوضح له ذلك في الآية الكريمة التالية :

( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (١) .

ولسنا الآن بصدد بيان أين ، ومتى أخذ هذا الميثاق ، بل المهم هو أن القرآن الكريم يعرض بنود هذا الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل ، والذي هو ميثاق إلى جميع البشر من غير الاسرائيليين لعدم إختصاصهم به لانه الركائز الحقيقية لدين الله الحنيف في جميع شرائعه المقدسة ، وهي الاصول الثابتة لبناء مجمتمع متماسك الاطراف.

ومع الميثاق في بنوده :

١ ـ لا تعبدون إلا الله:

الاقرار بالله ، والتوحيد لذاته المقدسة هو البند الاول في هذا الميثاق الانساني ، وهو كل شيء ، وقبل كل شيء في هذه الحياة. فلا عبادة لغير

__________________

(١) سورة البقرة آية (٨٣).

١٤

الله ، ولا خضوع لغير ذاته المقدسة ، فاليه لابد من الاتجاه في كل صغيرة وكبيرة. وفي السراء والضراء لا بد من التوكل عليه ، والاتجاه لغيره هو الشرك الذي يفسد على الكون نظامه.

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (١) .

فلا يستقيم نظام الكون لو فسحنا المجال لشريك يعبده الفرد. وكيف نتصور كوناً تحكمه إرادتان ، ولنفرض ان إحدى الارادتين توجهت لسلب شيء ، بينما كانت الاخرى تريد الايجاب. وهكذا في بقية المجالات التي يحصل فيها الاختلاف فأي الارادتين تتقدم ؟.

إذاً فلا بد من السير على النهج الذي يضمن للحياة استقامتها وللمجتمع سعادته ، وهذا ما لا يحصل إلا بتوحيد الله سبحانه والعبودية له.

( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ .اللهُ الصَّمَدُ .لَمْ يَلِدْ .وَلَمْ يُولَدْ .وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (٢) .

والشرك بعد كل هذا يسد طريق المغفرة على الانسان( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٣) .

وإذا انسدّ باب المغفرة في وجه الفرد ، فمصيره جهنم. وإذاً فالتوحيد هو اللبنة الاولى في سعادة الفرد ومن وراء ذلك سعادة المجتمع الموحد المتماسك الاطراف وإذا ما انتقلت الآية الكريمة تطالع الرسول الاعظم ببيان البند الثاني من ذلك الميثاق فاذا بها تصرح :

__________________

(١) سورة الانبياء : آية (٢٣).

(٢) سورة الاخلاص : الآيات (١ ـ ٤).

(٣) سورة النساء : آية (٤٨).

١٥

٢ ـ وبالوالدين إحساناً :

لقد تكفلت الفقرة الاولى من هذا الميثاق ببيان عرى الوحدة الإِلهية وأن الفرد لا بد أن يتخذ إلهاً واحداً لا شريك له ، لذلك جاء البند الثاني يبين للاجيال عرى الوحدة الاجتماعية ، وفي مقدمتها الاحسان إلى المجموعة البشرية.

فبالاحسان إلى الآخرين تتماسك أواصر المجتمع ، وبالعطف على الضعيف تموت العوامل التي تهدم بناء الامم ، فتحل بمكانها المحبة ، والسلام ، والعطف ، والرعاية من البعض إلى الآخرين حيث يتحسس القوي أحوال الضعيف ، فيبادله الآخر عطفه ومحبته ، وبذلك يجد الخير طريقه إلى قلوب الوادعة الآمنة دون أن تكون موطناً للحسد ، والنفاق ، والحقد ، وبقية الموبقات التي تجر على المجتمع آلاماً ومصائب.

ولكن للاحسان درجات يتقدم البعض منها على البعض الآخر طبقاً لقانون : تقديم الاهم ، ورعاية لما يقتضيه تأخير المهم. فالاحسان حسن ، ولكن في الدرجة الاولى لا بد وان يكون إلى الابوين لانهم الاصل الطيب لهذا الفرع ، وعلى هذا الأصل يتكيء الفرع وما تليه من ثمرات.

فالابوان : مصدر العاطفة ، ومنبع الحنان ، ومهد اللطف والرعاية ، ولا بد من مقابلة جهودهما المبذولة بالبر ، والاحسان وهما ـ في الوقت نفسه ـ أقرب حلقة إلى الانسان لذلك نرى الاهتمام بهما من قبل الشارع المقدس ملحوظاً في أكثر من مورد.

ونستعرض إلى عرض الكثير من هذه الموارد في فصل قادم.

٣ ـ وذي القربى :

فقرابة الانسان هم الاوراق المتدلية من أغصان شجرة الاسرة. وهم

١٦

ـ في الوقت نفسه ـ الحواشي ، والاطراف والايصاء بهم من جملة ما يحقق البر والاحسان ، ويحقق الرحمة ، والتآلف بين الافراد.

يقول أحد الرواة قلت لأبي عبدالله الصادق ( عليه السلام ) « إن آل فلان يبر بعضهم بعضاً »(١) ويتواصلون فقال : إذاً تنمىٰ أموالهم ، وينمون ، فلا يزالون في ذلك حتى يتقاطعوا ، فاذا فعلوا ذلك انقشع عنهم.

والمجتمع ليس إلا هؤلاء الافراد المجتمعون ، وسعادته تتوقف على ما يربط بينهم من التودد ، والتحابب ، وهذا ما يتمثل في صورة الاحسان ، والخير. وحواشي المحسن بعد أصوله مقدمون على غيرهم.

٤ ـ واليتامى :

وحيث تم الايصاء بالاحسان بوشائج النسب ، ولحمته من الأصل ، والحواشي كانت الآية الكريمة تنحو بفقراتها الميثاقية إلى الايصاء بما يتعدى الأصل ، والاسرة النسبية فتشمل موارد الاحسان افراداً آخرين من أسرته الكبرى في هذه الحياة ، وهم : أبناء نوعه من البشر دون أن تقتصر بالاحسان على سبب قريب من أب ، أو رحم.

بل هناك في الناس من يحتاج إلى الاحسان وتتوقف حياته على الرعاية به خصوصاً إذا كان ( يتمياً ).

واليتامى هؤلاء الناس الابرياء الذين شاءت الحكمة الإِلهية أن يختطف الموت اليد الكفيلة فتعوضهم بأيدٍ أخرى محسنة تحوطهم بكل معنى الرعاية ، والمحبة فجعلت الرحمة ، والعناية من جملة القواعد التي يتركز عليها دين الله القويم ، فكانت رعاية اليتيم من جملة بنود الميثاق المأخوذ على بني اسرائيل والذي هو صورة مرسلة إلى جميع البشر لئلا

__________________

(١) أصول الكافي : حديث (٢٠) من باب صلة الرحم.

١٧

يفقد اليتيم من يرعاه ، فيبقى نتيجة الإِهمال عضواً عاطلاً ، عالة على الآخرين.

ومن خلال بعض المشاهد نرى الرحمة الإِلهية تشمل اليتيم بنحو من الرعاية حيث لم تكتف بالايصاء به ، وأخذ ذلك في الميثاق على بني إسرائيل ، بل ينتقل من الايصاء ، والترغيب إلى التطبيق ، والاظهار للآثار المترتبة على معاملة اليتيم بالحسنىٰ ، ورعاية حقوقه لتظهر إلى الناس مدى التأثير الذي يخلفه هذا العمل الانساني.

فعن رسول الله (ص) أن عيسى بن مريم ( عليه السلام ) مر بقبر يعذب صاحبه ، ثم مر به من قابل ، فإذا هو ليس يعذب فقال : يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب ، ثم مررت به العام ، فاذا هو ليس يعذب فأوحى الله عز وجل إليه : يا روح الله أنه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً ، وأوى يتيماً ، فغفرت له بما عمل إبنه(١) .

من الايصاء ، والصعيد الكلامي تنتقل الشريعة ـ كما قلنا ـ الى الصعيد العملي لترغب الافراد في التسابق على أعمال الخير ، فقد غفر الله لعبده المعذب لانه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً يمر به الناس ، وأوى يتمياً صغيراً لا كافل له ، فمنحه من عطفه ما أنساه مرارة اليتم ، فكان جزأوه من الله النجاة من العذاب لينال بذلك ثمار تربيته لذلك الولد. أما جزاء ذلك الولد على تلك الرعاية فذاك موكول إلى لطف الله سبحانه ، وهو الكريم.

وفي مشهد آخر من المشاهد التي نرى فيها رعاية اليتيم واضحة عبر الشرائع السابقة نرى القرآن الكريم يتعرض لقصة النبي موسى (ع) مع العبد الصالح ( الخضر ) (ع) حيث وجدا في سفرهما « جداراً يريد أن

__________________

(١) سفينة البحار : مادة ( يتم ).

١٨

ينقضي فأقامه » وأصلحه الخضر بدون أجر يأخذه على ذلك العمل. لذلك كان هذا المنظر غريباً على موسى.

( قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) (١) .

وتمر لحظات ينتظر فيها موسى الجواب الشافي من الخضر فاذا به يكشف الحقيقة قائلاً :

( وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) (٢) .

لقد حفظ الله بعنايته لهذين اليتيمين كنزهما المذخور جزاءً لصلاح ابيهما وقد ذكرت كتب التفسير أنه كان ذلك جزاء صلاح أب لهما بينهما ، وبينه سبعة آباء.

وهكذا كان صلاح الآباء مثمراً في حفظ حقوق الذرية ورعاية ما أودع لهما من كنز مالي ، أو علمي على اختلاف ما جاء في التفسير من هذه الجهة ، وبيان نوعية الكنز.

كما كان صلاح الولد مثمراً في رفع العذاب عن الاب المقبور فيما سبق من قصة عيسى ـ عليه السلام ـ ومروره على أحد القبور.

أن هذه الآثار الدنيوية هي النتائج المترتبة على حسن نية المرء في حياته اتجاه الآخرين فكما تدين تدان.

وجلت عظمته حيث يقول :

__________________

(١) سورة الكهف : آية (٧٧).

(٢) سورة الكهف : آية (٨٢).

١٩

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ،وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وفي موضع آخر من كتابه الكريم قال

( وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) (٢) .

ولا بد للمرء أن يحب لغيره نفس ما يرغب به لنفسه ، ويدفع عن الباقين نفس ما لا يرغب به لنفسه لينتظم بذلك الاجتماع ، ويأمن الباقون من الشرور التي تصدر من الأفراد ، وبذلك تسير الحياة هادئة مطمئنة ، فيؤدي كل فردٍ الدور الذي يناط به ، ويتحمل أعباء مسؤوليته.

اليتيم في الاسلام :

لقد أولت الشريعة الاسلامية اليتيم عناية فائقة ، وحثت على رعايته والمحافظة على أمواله ، وحذرت من التجاوز على حقوقه.

ومن جهة أخرى فقد أهابت بالمحسنين أن يقوموا بتهذيبه وتأديبه كما يراعي الوالد أبنائه.

ولكن الملاحظ من المشرع أنه أكد بشكل ملحوظ على رعاية حقوقه المالية ، ولربما كان هذا بشكل يفوق بقية الجهات المطلوبة في رعاية اليتيم وقد ظهر ذلك من الآيات الكريمة والاخبار الشريفة والتي تشكل بدورها مجموعة كبيرة تلفت نظر الباحثين.

ولا غرابة في هذا التأكيد المتواصل من الشريعة على هذه الجهة لو

__________________

(١) سورة الزلزلة : آية (٧ ـ ٨).

(٢) سورة لقمان : آية (١٦).

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وزكرياء، وميمون بن إبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له: أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له: يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما، وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً، كما أخذ فضلاً فحبس، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتماه، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد، وقبضا أمتعته كلها، وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه الخ. ».

أقول: هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص)، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه!

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « 1 / 51 » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ، قال: « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ، فذكر فيه حديثاً طويلاً، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.

قال سليمان بن وهب: وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي. وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى، ليتقوى به على الأتراك، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان، وشدة شوكتهم، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوي ففصل عظامه! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب، فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحوعشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ، وهي: مصر، والكوفة، والحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة. « النجوم الزاهرة: 2 / 275 ».

٦٣

قال: « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم، كاتب الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام، فطُرحت في آخر المجلس، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشر ـ ة آلاف ألف درهم، تؤديها في عشرة أشهر، كل شهر ألف ألف درهم، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة، ووكل على فيها بإحسان وإجلال، واستدعيتُ كل من أردت، وتسامع الناس بأمري، وجاؤني ففرج عني، ومضت سبعة وعشرون يوماً، وقد أعددت ألف ألف درهم الخ. »!

٦٤

الفصل الثالث:

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع)

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!

من ثوابت الخليفة القرشي: أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم، أوبالمكيدة، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!

وكان شعار معاوية المعروف: إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / 352، وغيره .

وقال معاوية: لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو: أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه، فتزيحه من طريقك! « محاضرات الراغب: 1 / 531 ».

قال في جمهرة الأمثال « 2 / 376 »: « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! « ورواه في الأمثال للميداني: 1 / 630، والمستقصى للزمخشري / 334، وطبقات الأطباء: 1 / 154: والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب: 1 / 172، والتذكرة الحمدونية / 1497، وتاريخ دمشق: 19 / 189 ».

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع)، فقد رأى أمه تطلب دعاءه، وتنذر له النذور!

٦٥

1. سَجَنَ المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله:

روى الصدوق في الخصال / 395: « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال: فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خيرٌ أيها الأستاذ. فقال: أقعد، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجئ! قال: فوحى الناس عنه، ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخير ما، فقال: لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال: أسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك، فقلت: الحمد لله. قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال: فسلمت فرد، ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لي: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ثم قلت: يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه، قال وما هو؟ فقلت قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم، ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع)، والإثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع): وَدِّعْ واخرج، فلا آمن عليك ».

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: أو لم يسيروا في الأرض، قال: معناه أو لم ينظروا في القرآن ».

ملاحظات

1. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء، في أوائل خلافة المتوكل، ولم يسجن في سامراء بعدها.

2. أما الصقر بن أبي دلف، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد: الكرخ وبراثا، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه، وكان يميل الى الشيعة، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.

3. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية: قبيلة عِجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة، وبقي قسم منهم في الجبل، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.

4. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني، وتفسير قوله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . « التوبة: 36 ».

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي، قالوا: « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ». « خلاصة الأقوال للعلامة / 364 ».

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع)، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.

قال الطوسي في الغيبة / 414: « وكان الكرخيون مُخمسة، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه، أكثر من أن تحصى، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ».

أقول: أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.

2. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه:

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى، بل وعظه فبكى المتوكل، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!

وقد روت ذلك عامة المصادر، ومنها المسعودي في مروج الذهب « 4 / 10 » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني. فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « 18 / 199 » ، فقال: « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب ». واليافعي في مرآة الجنان: 2 / 119، والقلقشندي في معالم الخلافة: 1 / 232، والأبشيهي في المستطرف: 2 / 874، وغيرهم، وغيرهم .

3. وكان يقول: أعياني أمرُ ابن الرضا!

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « 1 / 502 »: « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة، وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً، حتى يزوره هوفيه!

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.

فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل، فإنما أراد هتكك، فأبى عليه، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!

فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال: قد سكر فبكِّر، فيبكر. فيقال: شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه عليه ».

أقول: لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع)، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!

هذا، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.

4. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع):

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال: بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك، فقال للرسول: قل له إني راكب، فلما خرج الرسول قال لنا: كذب، ما يريد إلا غير ما قال! قالا: قلنا: يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد؟ قال: يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه، ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول: أين ابن عمى المدني؟ فيقول له: سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش، فيقول: ألحقوه بنا، ووردنا النهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، ورُسل المتوكل تحثُّه، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر الجيش ودوابنا، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر، وعثر المتوكل فلحقوا به، ورجع سيدنا، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال: أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به، فقال أبو الحسن (ع): صدق الملعون ».

5. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له:

روى في الكافي « 1 / 499 »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه.

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح، واحمله إليَّ.

قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة، لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته: عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة، على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.

فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له: يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي: وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

أقول: البطحائي العلوي، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).

6. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار:

من غطرسة المتوكل وبذخه: أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها، وكان يعطيهم نفقاتها، أو قسماً منها.

فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / 320: « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر، وأعوانه عليه الترك ...

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم، وأمره أن يستعين بها على بناء دار، وركب المتوكل يطوف على الأبنية، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها: لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه، وقال له: تحدثه بما جرى، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال: إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك، فقال عبيد الله: ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء: إن المتوكل لن يركب، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!

٧٥

7. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه:

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم، ويَخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال: يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني، أوقال بأعظم قدراً مني، ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.

فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه، والفتح بن خاقان جميعاً، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته!

فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهودعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله ». « مهج الدعوات / 267 ».

وفي الخرائج: 1 / 402: ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال: « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».

وفي الثاقب / 539: « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال: دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت: يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك، وكان سعيد يتشيع. فقال: هيهات! قلت: بلى والله. فقال: وكيف ذلك؟ قلت: بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال: يا سعيد، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية، فسألت عنه فقيل: قتل المتوكل، فرجعنا وقلتُ بها ».

أقول: كذب سعيد، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس، ثم ادعى التشيع!

وفي الخرائج: 1 / 412: « حدثنا ابن أرومة قال: خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله، فلما دخلت عليه، قال: تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت: سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال: هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت: ما أكره ذلك. قال: قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال: أدخل، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً، قال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى. قال: لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال: إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».

8. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية:

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / 322: « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني، قال: دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط، وعيونهم تفيض من الدمع، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال: هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا: حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال: نعم، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته: تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة، والقدرة لا تكون إلا لله، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له: وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.

فأطرق ثم قال: إنك لتروي لكم قدرة دوننا، ونحن أحق به منكم، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه، لأنه أراد أن يبين جبره بي، فنهضت فقال: لتقعدن وهو مغضب، فخالفت أمره وخرجت، فأشار إلى من حوله: الآن خذوه، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح: الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!

٧٩

فسقط لوجهه، وخرجتُ فقلت: في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.

فلما كان من غد ذلك اليوم، فأذن لنا فدخلنا فقال: هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به، ولن يقدر على ذلك.

فقلنا: يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال: أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال: وجاءته الرسل من دار المتوكل، فركب وهويقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا: أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي، ومن مولاي أبي الحسن (ع)، فقلنا له: سُرَّنَا سَرَّك الله، فقال: إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به، وقد أخليت المجلس وأبطأت، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119