اليتيم في القرآن والسنّة

اليتيم في القرآن والسنّة50%

اليتيم في القرآن والسنّة مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 119

اليتيم في القرآن والسنّة
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47586 / تحميل: 17200
الحجم الحجم الحجم
اليتيم في القرآن والسنّة

اليتيم في القرآن والسنّة

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

اليتيم في القرآن والسنة

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مع الكتاب في طبعته الثانية

قارئي الكريم :

عذراً إذا لم يوف حق اليتيم في الطبعة الأولى من كتابنا هذا « اليتيم في القرآن والسنّة » فقد فوجئت في حينها من قبل إدارة « دار الزهراء للطباعة والنشر » الموقرة بطلب طبع مالي من نتاج كتابي ، وكنت يومها في سفرة إلى ربوع لبنان ، ولم أكن قد صحبت معي في تلك السفرة إلا هذا الموضوع ، وهو محاضرة من سلسلة محاضرات كنت ألقيها على بعض الأخوان من طلاب العلوم الدينية ممن تضمهم الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

والقارئ العزيز يدرك أن طبيعة المحاضرات في مثل هذه الجلسات لا تسمح للمحاضر بالكتابة الشاملة لاستيعاب الموضوع من جميع جوانبه التي تحيط به ، لذلك كانت على جانب من الإختصار وأخيراً طلبت مني الدار ـ مشكورة ـ الإذن في إعادة طبع الكتاب بعد أن نفذت النسخ التي طبعت منه.

٥

لذا رأيت لزاماً عليّ ـ وأنا ألبّي الطلب ـ أن أعيد النظر في بعض فصوله وإضافة مواضيع جديدة له تعميماً للفائدة. ولعلني ـ في الوقت نفسه ـ أكون قد أديت بعض ما لليتيم من حق في التنويه عن حقوقه المادية ، والاجتماعية بشكل أوسع مما سبق في الطبعة الأولى.

والله الموفق ، وهو المسدد للصواب.

النجف الأشرف : عز الدين السيد علي بحر العلوم

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الطفل :

للطفل في الشرائع السماوية مكانة محفوفة باللطف ، والرعاية ، فهي تستثنيه من التكاليف التي لا تمس حقوق المكلفين كما توجه أبنائها إلى الإِهتمام بتوجيهه ، وتربيته وله حقوقه الثابتة فيها ، ويستطيع معرفتها كل من يراجع الكتب السماوية ، ولا سيما القرآن الكريم ، والسنة النبوية. ولا تحتاج معرفة سبب هذا الإِهتمام إلى دراسة ، وتفكير. فأهمية الطفل في المجتمع الإِنساني العام واضحة تماماً ، فهو اللبنة المقومة لبناء المجتمع. والعناية به عناية بالبناء نفسه.

وبما أن الطفل في عالمه الطفولي لا يتمكن من تربية نفسه وتوجيهها إلى صالحه ، وصالح مجتمعه لذلك نرى العناية الإِلهية تولي هذه الناحية الإِهتمام الوافر ، فتوجد في نفس الأبوين عاطفة جياشة تشدهما شداً وثيقاً إلى الطفل من اللحظات الأولى التي تبدأ فيها مسيرته التكوينية ، فعواطف الأبوين هي المادة الحيوية في توجيه حياة الطفل ، وتقويمها.

وفي سبيل تنمية هذه العواطف ، وتصعيدها نرى الرسول الاكرم (ص) يخاطب زوجته أم سلمه قائلاً :

« إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم. القائم. المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعِظَمه ، فإذا أرضعت كان لها بكل مصةٍ كعدل عتق محررٍ من ولد إسماعيل ، فاذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها وقال :

 

٧

إستأنفي العمل فقد غفر لك »(١) .

لقد تناول الحديث الشريف مرحلتين من أهم المراحل التي يمر بها الوليد ، وهما :

مرحلة الحمل ، ومرحلة التغذية في دورها الرضاعي. وعلى هاتين القاعدتين تبتني الحياة.

ويأتي التشويق للمحافظة على الجنين في المرحلة الاولى في أروع صورة عندما يقول النبي (ص) إذا حملت المرأه كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد ».

لقد منح الحديث المرأة الحامل ثواب :

١ ـ الصائم.

٢ ـ القائم : وهو الذي يقضي وقته بالعبادة لله سبحانه.

٣ ـ المجاهد : ولم يحدد الحديث الجهاد ، بل كان مطلقاً يشمل الجهاد على الصعيدين : بالنفس ، وبالمال في سبيل الله.

وثواب هؤلاء : طفحت ببيانه كتب الحديث من جميع المذاهب فأسهبت في تقديره.

كل ذلك تناله المرأة الحامل ، ولكن لماذا كانت موضع عناية الله في الحصول على كل هذا الثواب ؟

فهل قضت تلك المرأة أيامها صائمة ؟.

أو هل اتعبت بدنها بالعبادة المتواصلة ؟.

أو هل ضربت بسيف في معركة جهادية مع الكفار ؟.

__________________

(١) وسائل الشيعة : حديث (١) من الباب (٦٧) من أبواب أحكام الأولاد.

٨

أو هل أنفقت من مالها إلى الفقراء ، والمعوزين لتنال بواحدٍ من هذه الأمور ، أو بأكثر كل هذا الثواب ؟.

ويأتي الجواب عقب هذه التساؤلات بكلمة ( لا ) ..

وإذا فلماذا نالت المرأة كل ذلك ؟.

ونتلمس الجواب واضحاً من خلال الحديث نفسه في قوله (ص) : « إذا حملت المرأة » الخ ...

فالحمل : هو السبب في نيلها هذه الدرجات الرفيعة. وأي إمرأة لا تحافظ على حملها إذا كان الأجر بهذا النوع من العطاء الجزل من الله سبحانه ؟.

أما في المرحلة الثانية : وهي المرحلة المتعقبة للولادة فنرى الحديث يشوق الأم لتغذية الطفل وضمه إلى صدرها بأن يمنحها بكل مصةٍ من ثديها ثواب عتق رقبة مؤمنة. وأخيراً يختتم الحديث بأن يزف إلى تلك الام المرعضة البشرى الكبرى بأنه بانتهاء عملية الرضاع لكل وجبة غذاء يقول لها ملك كريم : « إستأنفي العمل فقد غفر لك ».

بهذا الأسلوب الرقيق جاءت الشريعة لتحث الوالدة لتتولى بنفسها تغذية الولد في أدواره الاولى من هذه الحياة ولا تتركه عرضة تتلاقفه المرضعات بين أحضانهن لان لبنها مكيف تكييفاً مناسباً لحال الطفل ، وبنيته فالام تعذي الطفل بلبن دافىء معقم طبيعي حي غير متغير بالتسخين ، أو فاسد بالجراثيم أو مختلف عليه لو كان من مرضعة أخرى.

والطفل حين تضمه الأم إلى صدرها تلاعبه وتلاطفه وتغذيه من لبنها تشعره بدفء الحنان الأنثوي ، وبعاطفة الأمومة فيأنس الطفل بهذه العاطفة ، ويطمئن إلى مصدر هذا اللطف.

ولهذا نرى الأطباء ينصحون الامهات اللاتي يرضعن أولادهن

٩

بالزجاجة أن لا يحرمن الطفل من هذه المداعبة والملاطفة لئلا يفقد الصغير الغذاء الروحي كما فقد اللبن منها.

وبنفس التقام الطفل لحلمة الثدي فائدة عظيمة حيث تتهيج الام بدغدغة هذا الموضع منها فتهيج عواطفها مما يبعثها على تقريب الطفل ، وضمه إليها وهي تشعر بالعطف المتزايد عليه وبهذا تشتد أواصر المحبة بينهما.

ويستمر التوجيه من الشارع المقدس للأبوين ليكملا ما بعد هذا الدور من أدوار الطفولة لينال الطفل تربية صالحة فالتربية الصالحة كفيلة بخلق جيل يحقق للأمة سعادتها وهنائها.

أما الأهمال ، وعدم الرعاية فنتيجته الحتمية هو ايجاد جيل ينخر في كيان الامة مما يؤدي إلى تدهورها ، وسقوطها.

ومن خلال هذه العناية بالطفل نرى اللطف الإِلهي يتجلى في أظهر صوره حيث يتبنى مشكلة يعاني المجتمع منها في جميع الادوار والمراحل تلك هي مشكلة ( اليتامى ) الذين يفقدون اليد التي تحنو عليهم ، ويبقون عرضة لاعاصير هذه الحياة العاتية ومورداً خصباً لتجمع الرذائل ، والموبقات وبذلك تفقد الامة من أعضائها ما بهم تشد أزرها ، ويخسر المجتمع أفراداً كانت الاستفادة منهم حتمية لو حصل لهم من يبادلهم العطف ، واللطف ، والرعاية الطيبة.

ولذلك نرى الدين الاسلامي الحنيف يفرض على مجتمعه ويكلف كل فردٍ من أبنائه برعاية اليتيم ، والعناية به في سائر شؤون الحياة لئلا ينشأ فاقد التوجيه ، ويصبح عاهة في المجتمع العام ، فإهمال اليتيم يساوي إهمال المجتمع ، وهدم كيانه الحافظ للحياة الإِنسانية العامة.

وإذاً فلكي نحافظ على مجتمعنا ، وندافع عن مصالحه يلزمنا القيام

١٠

برعاية اليتيم ، وسد الفراغ العاطفي منه ، وذلك باشغال شعور الطفل بما ينسى به فقد أبيه.

من هو اليتيم ؟

اليتيم : كما تطالعنا به كتب اللغة هو :

الفرد من كل شيء. يقال : بيت يتيم ، وبلد يتيم. ومن الناس من فقد أباه.

ومن البهائم من فقد أمه.

وحيث كانت الكفالة في الإِنسان منوطة بالاب كان فاقد الاب يتيماً دون من فقد أمه.

وعلى العكس في البهائم ، فإن الكفالة حيث كانت منوطة بالام كذلك كان من فقد أمه يتمياً.

وقد حدد اللغويون نهاية هذا العنوان فقال الليث : اليتيم ، الذي مات أبوه ، فهو يتيم حتى يبلغ الحلم فإذا بلغ زال عنه إسم اليتم.

وهكذا قال غيره من علماء اللغة.

تحديد عنوان اليتيم :

ويتفق الفقهاء مع اللغويين بتحديد اليتيم إلى هذا الحد ، فهم يرون أن هذا العنوان يتمشى مع الطفل إلى حد البلوغ الشرعي ، والذي تقرره الشريعة المقدسة بظهور واحدٍ من علامات ثلاث :

١ ـ إنهاء الطفل خمسة عشر عام من عمره إذا كان ذكراً ، وتسعة إذا كان إنثى.

١١

٢ ـ إنبات الشعر على عانته.

٣ ـ الإِحتلام بخروج المني منه ، أو الحيض من الأنثى.

حيث تنبىء هذه العلامات بوصوله إلى مدارك الرجال. وحينئذٍ ، فينتقل من مرحلة الطفولة ، وهي مرحلة عدم المسؤولية إلى مرحلة العبء الإِجتماعي ، والمسؤولية الشرعية التي تفرض على الرجال البالغين.

ولم يقتصر إطلاق عنوان اليتيم على الطفل قبل بلوغه بل أطلق على البالغين أيضاً ، ولكنه إطلاق مجازي ، وليس باطلاق حقيقي كما كانوا يسمون النبي (ص) وهو كبير : « يتيم أبي طالب » ( عليه السلام ) لانه رباه بعد موت أبيه وفي الحديث : « تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو أدنها ».

أراد باليتيمة : البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها ، فلزمها إسم يتيم ، فدعيت به ، وهي بالغة مجازاً.

سبب التسمية باليتيم :

الذي يظهر مما يقوله أهل اللغة في هذا الصدد هو : أن التسمية بهذا الاسم منشأها عدم الاعتناء الذي يلاقيه من فقد كفيله وهو بهذا السن من العمر حيث صرح بمثل ذلك من تضلع بتتبع هذا النوع من المصطلحات.

يقول المفضل : أصل اليتم الغفلة ، وبه سمي اليتيم يتيماً لانه يتغافل عن بره.

أما أبو عمر فقال اليتم : الإِبطاء ، ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطىء عنه(١) .

__________________

(١) لاحظ للموضوع من ناحيته اللغوية : لسان العرب / مادة يتم. ومن الناحية الفقهية كافة المصادر الفقهية لجميع المذاهب.

١٢

اليتيم في القرآن والسّنة :

ليس من السهل ضبط حصة اليتيم من السنة الكريمة على النحو الدقيق.

أمّا حصته في القرآن الكريم فقد تعرضت الآيات له في اثنين وعشرين آية(١) مقسّمة إلى أقسام ثلاثة :

تعرض القسم الأول منها إلى بيان شمول اللطف الإِلهي له في الشرائع السابقة ، والايصاء به.

أمّا القسم الثاني : فقد تعرض إلى بيان حقوقه الاجتماعية. وقد تركز القسم الثالث على بيان حقوقه المالية.

كما وقد تناولت الآيات الكريمة بشكل خاص يتامى آل النبي محمد (ص) تمييزاً لهم في بعض الحقوق المالية عن بقية اليتامىٰ لاداء بعض ما للنبي الاكرم (ص) من حقٍ على الناس.

اليتيم في الشرائع السابقة :

لو لاحظنا اليتيم لرأيناه : طفلاً من الاطفال فقد كفيله ، وحرم من تلك العواطف الابوية ، ولكنه لم يفقد الرحمة الإِلهية حيث إحاطته فكانت

__________________

(١) وهي كما يلي :

سورة البقرة : آية (٨٣ ، ١٧٧ ، ٢١٥ ، ٢٣٠).

وسورة النساء : آية (٢ ـ ٣ ، ٦ ، ٨ ، ١٠ ، ٣٦ ، ١٣٧).

وسورة الأنعام : (١٥٣) ، وسورة الانفال آية (٤١) وسورة الاسراء آية : (١٧) وسورة الكهف : آية (٨٢) ، وسورة الحشر : آية (٧) وسورة الإِنسان : آية (٨) وسورة الفجر : آية (١٧) وسورة البلد : آية (١٥) وسورة الضحى آية (٦ ، ٩) وسورة الماعون آية (٢).

١٣

له الحصة الوافرة في التشريع من الحث على ضرورة التزامه ، والامن بعدم التجاوز على حقوقه ، والترغيب في جلب مودته ، والتلطف به لئلا يشعر بالوحدة والانعزال ، ولئلا يكون فريسة لشهوات أولئك الذين لم تجد الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً.

ولم يكن هذا المعنى من مختصات شريعتنا الاسلامية المقدسة بل كانت هذه الرعاية سنة الله في خلقه قبل أن يقوم للاسلام كيان ، فرعاية اليتيم ، والمحافظة عليه كانت من جملة بنود الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل من قبل. فالقرآن الكريم يحدث النبي (ص) عن هذا الميثاق المقدس ويوضح له ذلك في الآية الكريمة التالية :

( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (١) .

ولسنا الآن بصدد بيان أين ، ومتى أخذ هذا الميثاق ، بل المهم هو أن القرآن الكريم يعرض بنود هذا الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل ، والذي هو ميثاق إلى جميع البشر من غير الاسرائيليين لعدم إختصاصهم به لانه الركائز الحقيقية لدين الله الحنيف في جميع شرائعه المقدسة ، وهي الاصول الثابتة لبناء مجمتمع متماسك الاطراف.

ومع الميثاق في بنوده :

١ ـ لا تعبدون إلا الله:

الاقرار بالله ، والتوحيد لذاته المقدسة هو البند الاول في هذا الميثاق الانساني ، وهو كل شيء ، وقبل كل شيء في هذه الحياة. فلا عبادة لغير

__________________

(١) سورة البقرة آية (٨٣).

١٤

الله ، ولا خضوع لغير ذاته المقدسة ، فاليه لابد من الاتجاه في كل صغيرة وكبيرة. وفي السراء والضراء لا بد من التوكل عليه ، والاتجاه لغيره هو الشرك الذي يفسد على الكون نظامه.

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (١) .

فلا يستقيم نظام الكون لو فسحنا المجال لشريك يعبده الفرد. وكيف نتصور كوناً تحكمه إرادتان ، ولنفرض ان إحدى الارادتين توجهت لسلب شيء ، بينما كانت الاخرى تريد الايجاب. وهكذا في بقية المجالات التي يحصل فيها الاختلاف فأي الارادتين تتقدم ؟.

إذاً فلا بد من السير على النهج الذي يضمن للحياة استقامتها وللمجتمع سعادته ، وهذا ما لا يحصل إلا بتوحيد الله سبحانه والعبودية له.

( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ .اللهُ الصَّمَدُ .لَمْ يَلِدْ .وَلَمْ يُولَدْ .وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (٢) .

والشرك بعد كل هذا يسد طريق المغفرة على الانسان( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٣) .

وإذا انسدّ باب المغفرة في وجه الفرد ، فمصيره جهنم. وإذاً فالتوحيد هو اللبنة الاولى في سعادة الفرد ومن وراء ذلك سعادة المجتمع الموحد المتماسك الاطراف وإذا ما انتقلت الآية الكريمة تطالع الرسول الاعظم ببيان البند الثاني من ذلك الميثاق فاذا بها تصرح :

__________________

(١) سورة الانبياء : آية (٢٣).

(٢) سورة الاخلاص : الآيات (١ ـ ٤).

(٣) سورة النساء : آية (٤٨).

١٥

٢ ـ وبالوالدين إحساناً :

لقد تكفلت الفقرة الاولى من هذا الميثاق ببيان عرى الوحدة الإِلهية وأن الفرد لا بد أن يتخذ إلهاً واحداً لا شريك له ، لذلك جاء البند الثاني يبين للاجيال عرى الوحدة الاجتماعية ، وفي مقدمتها الاحسان إلى المجموعة البشرية.

فبالاحسان إلى الآخرين تتماسك أواصر المجتمع ، وبالعطف على الضعيف تموت العوامل التي تهدم بناء الامم ، فتحل بمكانها المحبة ، والسلام ، والعطف ، والرعاية من البعض إلى الآخرين حيث يتحسس القوي أحوال الضعيف ، فيبادله الآخر عطفه ومحبته ، وبذلك يجد الخير طريقه إلى قلوب الوادعة الآمنة دون أن تكون موطناً للحسد ، والنفاق ، والحقد ، وبقية الموبقات التي تجر على المجتمع آلاماً ومصائب.

ولكن للاحسان درجات يتقدم البعض منها على البعض الآخر طبقاً لقانون : تقديم الاهم ، ورعاية لما يقتضيه تأخير المهم. فالاحسان حسن ، ولكن في الدرجة الاولى لا بد وان يكون إلى الابوين لانهم الاصل الطيب لهذا الفرع ، وعلى هذا الأصل يتكيء الفرع وما تليه من ثمرات.

فالابوان : مصدر العاطفة ، ومنبع الحنان ، ومهد اللطف والرعاية ، ولا بد من مقابلة جهودهما المبذولة بالبر ، والاحسان وهما ـ في الوقت نفسه ـ أقرب حلقة إلى الانسان لذلك نرى الاهتمام بهما من قبل الشارع المقدس ملحوظاً في أكثر من مورد.

ونستعرض إلى عرض الكثير من هذه الموارد في فصل قادم.

٣ ـ وذي القربى :

فقرابة الانسان هم الاوراق المتدلية من أغصان شجرة الاسرة. وهم

١٦

ـ في الوقت نفسه ـ الحواشي ، والاطراف والايصاء بهم من جملة ما يحقق البر والاحسان ، ويحقق الرحمة ، والتآلف بين الافراد.

يقول أحد الرواة قلت لأبي عبدالله الصادق ( عليه السلام ) « إن آل فلان يبر بعضهم بعضاً »(١) ويتواصلون فقال : إذاً تنمىٰ أموالهم ، وينمون ، فلا يزالون في ذلك حتى يتقاطعوا ، فاذا فعلوا ذلك انقشع عنهم.

والمجتمع ليس إلا هؤلاء الافراد المجتمعون ، وسعادته تتوقف على ما يربط بينهم من التودد ، والتحابب ، وهذا ما يتمثل في صورة الاحسان ، والخير. وحواشي المحسن بعد أصوله مقدمون على غيرهم.

٤ ـ واليتامى :

وحيث تم الايصاء بالاحسان بوشائج النسب ، ولحمته من الأصل ، والحواشي كانت الآية الكريمة تنحو بفقراتها الميثاقية إلى الايصاء بما يتعدى الأصل ، والاسرة النسبية فتشمل موارد الاحسان افراداً آخرين من أسرته الكبرى في هذه الحياة ، وهم : أبناء نوعه من البشر دون أن تقتصر بالاحسان على سبب قريب من أب ، أو رحم.

بل هناك في الناس من يحتاج إلى الاحسان وتتوقف حياته على الرعاية به خصوصاً إذا كان ( يتمياً ).

واليتامى هؤلاء الناس الابرياء الذين شاءت الحكمة الإِلهية أن يختطف الموت اليد الكفيلة فتعوضهم بأيدٍ أخرى محسنة تحوطهم بكل معنى الرعاية ، والمحبة فجعلت الرحمة ، والعناية من جملة القواعد التي يتركز عليها دين الله القويم ، فكانت رعاية اليتيم من جملة بنود الميثاق المأخوذ على بني اسرائيل والذي هو صورة مرسلة إلى جميع البشر لئلا

__________________

(١) أصول الكافي : حديث (٢٠) من باب صلة الرحم.

١٧

يفقد اليتيم من يرعاه ، فيبقى نتيجة الإِهمال عضواً عاطلاً ، عالة على الآخرين.

ومن خلال بعض المشاهد نرى الرحمة الإِلهية تشمل اليتيم بنحو من الرعاية حيث لم تكتف بالايصاء به ، وأخذ ذلك في الميثاق على بني إسرائيل ، بل ينتقل من الايصاء ، والترغيب إلى التطبيق ، والاظهار للآثار المترتبة على معاملة اليتيم بالحسنىٰ ، ورعاية حقوقه لتظهر إلى الناس مدى التأثير الذي يخلفه هذا العمل الانساني.

فعن رسول الله (ص) أن عيسى بن مريم ( عليه السلام ) مر بقبر يعذب صاحبه ، ثم مر به من قابل ، فإذا هو ليس يعذب فقال : يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب ، ثم مررت به العام ، فاذا هو ليس يعذب فأوحى الله عز وجل إليه : يا روح الله أنه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً ، وأوى يتيماً ، فغفرت له بما عمل إبنه(١) .

من الايصاء ، والصعيد الكلامي تنتقل الشريعة ـ كما قلنا ـ الى الصعيد العملي لترغب الافراد في التسابق على أعمال الخير ، فقد غفر الله لعبده المعذب لانه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً يمر به الناس ، وأوى يتمياً صغيراً لا كافل له ، فمنحه من عطفه ما أنساه مرارة اليتم ، فكان جزأوه من الله النجاة من العذاب لينال بذلك ثمار تربيته لذلك الولد. أما جزاء ذلك الولد على تلك الرعاية فذاك موكول إلى لطف الله سبحانه ، وهو الكريم.

وفي مشهد آخر من المشاهد التي نرى فيها رعاية اليتيم واضحة عبر الشرائع السابقة نرى القرآن الكريم يتعرض لقصة النبي موسى (ع) مع العبد الصالح ( الخضر ) (ع) حيث وجدا في سفرهما « جداراً يريد أن

__________________

(١) سفينة البحار : مادة ( يتم ).

١٨

ينقضي فأقامه » وأصلحه الخضر بدون أجر يأخذه على ذلك العمل. لذلك كان هذا المنظر غريباً على موسى.

( قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) (١) .

وتمر لحظات ينتظر فيها موسى الجواب الشافي من الخضر فاذا به يكشف الحقيقة قائلاً :

( وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) (٢) .

لقد حفظ الله بعنايته لهذين اليتيمين كنزهما المذخور جزاءً لصلاح ابيهما وقد ذكرت كتب التفسير أنه كان ذلك جزاء صلاح أب لهما بينهما ، وبينه سبعة آباء.

وهكذا كان صلاح الآباء مثمراً في حفظ حقوق الذرية ورعاية ما أودع لهما من كنز مالي ، أو علمي على اختلاف ما جاء في التفسير من هذه الجهة ، وبيان نوعية الكنز.

كما كان صلاح الولد مثمراً في رفع العذاب عن الاب المقبور فيما سبق من قصة عيسى ـ عليه السلام ـ ومروره على أحد القبور.

أن هذه الآثار الدنيوية هي النتائج المترتبة على حسن نية المرء في حياته اتجاه الآخرين فكما تدين تدان.

وجلت عظمته حيث يقول :

__________________

(١) سورة الكهف : آية (٧٧).

(٢) سورة الكهف : آية (٨٢).

١٩

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ،وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وفي موضع آخر من كتابه الكريم قال

( وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) (٢) .

ولا بد للمرء أن يحب لغيره نفس ما يرغب به لنفسه ، ويدفع عن الباقين نفس ما لا يرغب به لنفسه لينتظم بذلك الاجتماع ، ويأمن الباقون من الشرور التي تصدر من الأفراد ، وبذلك تسير الحياة هادئة مطمئنة ، فيؤدي كل فردٍ الدور الذي يناط به ، ويتحمل أعباء مسؤوليته.

اليتيم في الاسلام :

لقد أولت الشريعة الاسلامية اليتيم عناية فائقة ، وحثت على رعايته والمحافظة على أمواله ، وحذرت من التجاوز على حقوقه.

ومن جهة أخرى فقد أهابت بالمحسنين أن يقوموا بتهذيبه وتأديبه كما يراعي الوالد أبنائه.

ولكن الملاحظ من المشرع أنه أكد بشكل ملحوظ على رعاية حقوقه المالية ، ولربما كان هذا بشكل يفوق بقية الجهات المطلوبة في رعاية اليتيم وقد ظهر ذلك من الآيات الكريمة والاخبار الشريفة والتي تشكل بدورها مجموعة كبيرة تلفت نظر الباحثين.

ولا غرابة في هذا التأكيد المتواصل من الشريعة على هذه الجهة لو

__________________

(١) سورة الزلزلة : آية (٧ ـ ٨).

(٢) سورة لقمان : آية (١٦).

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119