دروس في الاخلاق

دروس في الاخلاق0%

دروس في الاخلاق مؤلف:
الناشر: نشر الهادي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 279

دروس في الاخلاق

مؤلف: الشيخ علي المشكيني
الناشر: نشر الهادي
تصنيف:

الصفحات: 279
المشاهدات: 66609
تحميل: 6518

توضيحات:

دروس في الاخلاق
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 279 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66609 / تحميل: 6518
الحجم الحجم الحجم
دروس في الاخلاق

دروس في الاخلاق

مؤلف:
الناشر: نشر الهادي
العربية

وأنه ما حبس عبد نفسه على الله إلا أدخله الله الجنة(١) .

وأن رجلاً اسمه مجاشع قال : يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : معرفة النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : مخالفة النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى رضا الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : سخط النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى طاعة الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : عصيان النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : نسيان النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى قرب الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : التباعد عن النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى اُنس الحق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : الوحشة عن النفس ، فقال : فكيف الطريق إلى ذلك؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الاستعانة بالحق على النفس »(٢) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧١.

٢ ـ عوالي اللئالي : ج١ ، ص٢٤٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٢ ـ مستدرك الوسائل : ج١١ ، ص١٣٨.

٤١

٤٢

الدرس الرابع

في ترك اتباع الأهواء والشهوات

قال تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه )(١) . وقال تعالى :( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) (٢) . وقال تعالى : ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن أضل ممن اتبع هواه )(٣) . وقال تعالى :( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) (٤) .

أقول : الهوى : ميل النفس إلى الشهوة ، وقد يطلق على النفس المائلة إلى الشهوة أيضاً ، ولعله سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية ، فإن من معاني هذه المادة : السقوط ، وقوله :( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) قدم المفعول الثاني إعظاماً لذم اتباع الهوى وعناية لتعظيمه الهوى بحيث

__________________

١ ـ الجاثية : ٢٣ ، الفرقان : ٤٣.

٢ ـ ص : ٢٦.

٣ ـ القصص : ٥٠.

٤ ـ النازعات : ٤٠.

٤٣

جعله إلهاً يعبد من دون الله.

وفي الآيات الشريفة إشارة إلى أن اتباع هوى النفس عبادة لها وأنه سبب للضلالة عن سبيل الله ، وأنه لا ضلالة فوقه ، وأنه يدعوا إلى عدم إجابة رسل الله وأن منع النفس عن هواها سبب لدخول الجنة.

وهنا نصوص كثيرة موضحة لهذا المعنى. فقد ورد : أن الله أقسم بجلاله وجماله وبهائه وعلاه أنه لا يؤثر عبد هوى الله تعالى على هواه إلا جعل غناه في نفسه وهمه في آخرته وضمن رزقه(١) .

وأنه لو آثر هواه على هوى الله شتت أمره ، ولبس عليه دنياه وشغل قلبه بها(٢) .

وأن اتباع الهوى من أخوف ما كان يخاف منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوليعليه‌السلام على الأمة(٣) .

وأنه : طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود لم يره(٤) .

وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يرجوا النجاة لصاحب الهوى(٥) .

 وأن أشجع الناس من غلب هواه(٦) .

وأن الهوى أقوى سلطان على الإنسان ، وهو الذي يصده عن الحق(٧) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٥.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٨٥.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٥ و ٧٧.

٤ ـ ثواب الأعمال : ص٢١١ ـ الخصال : ص٣ ـ الأمالي : ص٥١ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص١٦٤ ـ بحار الأنوار : ج١٤ ، ص٣٢٧ ، وج٧٠ ، ص٧٤ و ج٧٧ ، ص١٥٣ ـ مستدرك الوسائل : ج١١ ، ص٣٤١.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٦.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٦ ـ مستدرك الوسائل : ج١٢ ، ص١١١.

٧ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ٧٦.

٤٤

وأن من أطاع هواه أعطى عدوه مناه(١) .

وأن راكب الشهوات لا تستقال عثراته(٢) .

وأن من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته(٣) .

وأنه استرحم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه(٤) .

وأن الصادقعليه‌السلام قال : « إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فإنه ليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم »(٥) . وأنه قال : « لا تدع النفس وهواها فإن هواها في رداها وترك النفس وما تهوى أذاها وكف النفس عما تهواه دواها(٦) .

تبصرة : ينبغي أن يعلم أنه ليس كلما تهاه النفس وتشتهيه منهياً عنه من قبل الله تعالى ومبغوضاً عنده ، كما أنه ليس كلما لا تهواه وتبغضه محبوباً عنده ، بل الحق أن ما تهواه النفس على قسمين : محرّم ومبغوض ، ومكروه مذموم. والأول ما تهواه وتشتهيه من المحرمات التي حرمها الله وأبغضها. والثاني ما تهواه وتشتهيه مما كرهه الله ولم يحرمه وكان ارتكاب الإنسان له لمجرد الشهوة النفسانية غير قاصد به نفعاً ، حتى تأثيره في إغناء النفس عن الحرام وعما لا يليق بحالها ولا ينبغي لها ، فما يرتكبه الإنسان من الملاذ التي تهواه النفس ولم يحرمه الشرع كالانتفاع بالأغذية والألبسة المحللة والمساكن المجللة والنساء والبنين والأموال ونحوها ليس مشمولاً للنواهي المذكورة ، كيف والشرع الأنور قد حث على الزواج ، بل على اختيار المرأة

__________________

١ ـ نزهة الناظر : ص١٣٤ ـ أعلام الدين : ص٣٠٩ ـ بحار الأنوار : ج٧٨ ، ص٣٦٤ ـ مستدرك الوسائل : ١٢ ، ص١١٢.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٧٨.

٣ ـ غرر الحكم ودرر الكلم : ج٥ ، ص٣٦٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٨.

٤ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٧٨ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٧٦.

٥ ـ الكافي : ج٢ ، ص٣٣٥ ـ الوافي : ج٥ ، ص٩٠١ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٣٤٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٨٢.

٦ ـ الكافي : ج٢ ، ص٣٣٦ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٨٩.

٤٥

الحسناء والأكل من الطيبات ، وكثيراً ما يتلذذ بعض العلماء بعلمهم أكثر مما يتلذد الفساق بفسقهم ويستلذ العباد بمناجاتهم أكثر من أهل اللهو بمعاصيهم ، كما أنه ليس كل ما لا تشتهيه النفس مرغوباً إليه في الشرع ، وإلا لاستلزم وجوب تناول كل مالا تشتهيه من الأطعمة والأشربة والزواج بمن لا يميل إليها الطبع من النساء ولا أقل من إستحبابه مع أنه ليس كذلك. فما ورد من النواهي عن اتباع الهوى والتعابير الحاكية عن كراهته ومبغوضيته خطابات إرشادية تهدي إلى وجود مضار ومفاسد في اتباع الهوى وارتكاب ما تعلقت به النواهي التحريمية والتنزيهية وترتب عقوباتها الدنيوية والأخروية.

٤٦

الدرس الخامس

في اليقين

قال تعالى :( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) (١) .

وقال تعالى :( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (٢) .

وقال تعالى :( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (٣) .

وقال تعالى :( وليكون من الموقنين ) (٤) .

وقال تعالى :( وبالآخرة هم يوقنون ) (٥) .

اليقين من صفات العلم ، وهو سكون العلم وثباته وإتقانه بانتفاء الشك والشبهة عنه بالاستدلال أو الإشراق. ومتعلقه في هذا الباب مطلق ما يجب

__________________

١ ـ البقرة : ١١٨.

٢ ـ الذاريات : ١٩ ـ ٢٠.

٣ ـ السجدة : ٢٤.

٤ ـ الأنعام : ٧٥.

٥ ـ البقرة : ٤.

٤٧

الإذعان به من المبدء تعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجميع آياته وما أنزله على أنبيائه من شرائعه ، وهو بهذا المعنى أشرف صفات النفس وأعلاها وأفضلها وأسماها ، وهو الذي عبر عنه بالأطمئنان في قصة إبراهيم الخليل. فإنه لما استدعى من ربه أن يريه إحياء الموتى قال تعالى( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي ) (١) . فأقر أولاً بالايمان الذي هو : التصديق والعلم ، ثم سأل ما يزداد به الإيمان حتى يكون يقيناً ، وببيان آخر أنه سأل أن يرتقي بمشاهدة العيان من علم اليقين إلى عين اليقين ، وقد ذكر تعالى في الآية الثانية : أن الآيات الآفاقية والأنفسية لا تنفع كما ينبغي ولا تكشف عن وجه الحقيقة كما يليق إلا لمن تزين بهذه الفضيلة النفسية والكرامة الالهية. وذكر في الآية الثالثة : أن الملاك في اختيار الصفوة من الناس للإمامة وهداية المجتمع الانساني هو : الصبر واليقين ، وهما وصفان فاضلان لكل منهما تأثير متقابل في الآخر ، فالصبر في إقامة أحكام الدين وحدوده يزيد في اليقين ، واليقين يزيد في الصبر.

وفي النصوص الواردة عن أهل البيت في المقام ما يغني عن كل شيء. فقد ورد أن اليقين أفضل من الإيمان(٢) ، فإن الإيمان فوق الإسلام ، والتقوى فوق الإيمان واليقين فوق التقوى ، فما من شيء أعز من اليقين(٣) ؛ وذلك لأن الإقرار بالشهادتين إسلام ، والأذعان بالقلب بعده إيمان ، والعمل بالأذعان تقوى ، وكمال الإيمان بالعمل يقين.

وأن الصادقعليه‌السلام قال ـ لمن لم يحصل له اليقين ـ : إنما تمسكتم بأدنى الإسلام ،

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ج١ ، ص٢٨٠ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٨١ ـ مستدرك الوسائل : ج١١ ، ص١٩٧.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤٨

فإياكم أن ينفلت من أيديكم(١) .

 وأنه لم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين(٢) .

وأن اليقين تظهر آثاره وتتجلى حقيقته في الموقن بأمور أكملها أربعة : التوكل والتسليم والرضا والتفويض(٣) . التوكل على الله في تنجز مقاصده عند التوسل بأسبابها ، والتسليم لأحكامه وحكومة ولاة أمره ، والرضا بما قضى عليه ربه في الحوادث الجارية عليه في حياته ، والتفويض الكامل في كل ذلك بحيث يرى نفسه وقدرته مضمحلة في جنب إرادة ربه وقدرته ، وهذا من مراتب القانتين.

وأنه ليس شيء إلا وله حد ، وحد اليقين أن لا تخاف مع الله شيئاً(٤) .

وأن من صحة اليقين وتمامه أن لا يرضي الناس بسخط الله ، وأن لا يلومهم على مالم يؤتهم ربهم. فإن الأمر بيد الله(٥) .

وأن الله جعل الروح والراحة في اليقين(٦) .

وأن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل من العمل الكثير على غير يقين(٧) .

وأن من الكنز الذي كان لغلامين يتيمين تحت الجدار صحيفة فيها ذكر اليقين وبعض آثاره(٨) .

وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى شاب في المسجد يخفق ويهوي برأسه مصفراً لونه

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٣٧.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٣٨.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٤٢.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٤٣.

٦ ـ نفس المصدر السابق.

٧ ـ الكافي : ج٢ ، ص٥٧ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٤٧.

٨ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٥٢.

٤٩

قد نحف جسمه ، فقال : كيف أصبحت؟ قال : أصبحت موقناً ، فعجبصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله ، وقال : إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ قال : إن يقيني هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري. فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون ، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم معذبون مصطرخون ، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا عبد نور الله قلبه بالأيمان ، ثم قال له : الزم ما أنت عليه(١) .

وأن اول صلاح هذه الأمة كان بالزهد واليقين(٢) .

وأن خير ما ألقي في القلب اليقين(٣) .

وأن النبي سأل جبرئيل عن تفسير اليقين ، قال : المؤمن يعمل لله كأنه يراه(٤) .

وأنه كفى باليقين غنىً(٥) .

وأن علياًعليه‌السلام قال : سلوا الله اليقين ، وخيرما دام في القلب اليقين ، والمغبوط من غبط يقينه(٦) .

وأن اليقين يوصل العبد إلى كل مقام سنيّ(٧) .

وأنه ذكر عند النبي أن عيسى بن مريم كان يمشي على الماء ، فقال : لو زاد يقينه لمشى في الهواء ، فالأنبياء يتفاضلون على اليقين وكذا المؤمنون(٨) .

__________________

١ ـ الكافي : ج٢ ، ص٥٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٥٩.

٢ ـ الأمالي : ج١ ، ص١٨٩ ـ الخصال : ص٧٩ ـ وسائل الشيعة : ج٢ ، ص٦٥١ و ج١١ ، ص٣١٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٧٣ وج٧٣ ، ص١٦٤ ـ نور الثقلين : ج٣ ، ص٣.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه : ج٤ ، ص٣٧٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٧٣.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٧٣.

٥ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص١٧٦.

٦ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص١٧٦ ، وج٧٨ ، ص٤٤.

٧ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٧٩.

٨ ـ نفس المصدر السابق.

٥٠

وأن النوم على اليقين خير من الصلاة في الشك(١) .

وأنه إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق. وأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين(٢) .

وأنه يجب طرح واردات الأمور بحسن اليقين(٣) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٩٧ ـ جامع الأسرار ومنبع الأنوار : ص٦٠١.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٣٨.

٣ ـ نهج البلاغة : الكتاب ٣١.

٥١

٥٢

الدرس السادس

في النية وتأثيرها وثوابها

النية : هي القصد والإرادة المحركة للإنسان نحو الفعل ، وليس الغرض من البحث عنه في المقام مجرد إثبات صدور الفعل عنها ، فإنه لا إشكال في ذلك في الأفعال الاختيارية ، بل يرجع البحث هنا إلى ملاحظتها من جهة عللها ومعاليلها اعني : مناشئ صدورها من إقتضاء العقل والايمان والغرائز وآثارها وكيفية تأثيرها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة ، وإلى أنواعها من خالصها ومشوبها ، ومراتب خلوصها وشوبها ، والى ترتب الثواب والعقاب عليها وعدمه وغير ذلك.

فعن المحقق الطوسيقدس‌سره : النية : هي القصد إلى الفعل ، وهي واسطة بين العلم والعمل ، اذ ما لم يعلم الشيء لم يمكن قصده ، وما لم يقصده لم يصدر عنه ، ثم لما كان غرض السالك العامل الوصول إلى مقصد معين وهو الله تعالى لابد من إشتماله على قصد التقرب به إنتهى. فالأولى ذكر نصوص الباب.

٥٣

قال تعالى :( قل كل يعمل على شاكلته ) (١) .

الشاكلة : الطبيعة والسجية كما مرت ، وقد فسرت في عدة من النصوص بالنية ، ولعله لأن النية تنشأ عن الشاكلة ، فمعنى الآية : أن مبنى عمل كل إنسان وما يصدر منه فعله ، نيته الصادرة عن شاكلته ، فالنية مصدر الأعمال وملاكها ولها دخل تام في حسنها وقبحها وخيرها وشرها ، وهذا مما تشير إليه أخبار الباب وتوضحه وتفسره.

فقد ورد :

أنه لا قول ولا عمل إلا بنية ، ولا نية إلا بإصابة السنة(٢) ، أي : لا صحة ولا ثواب لأي قول أو فعل يصدر من المكلف إلا إذا قصد كونه لله ورجاء وجهه ورضاه ، أو طلب ثوابه ، أو الخلاص من عقابه. وهذا معنى إصابة السنة.

وأن نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله(٣) النية هنا بمعنى : الاعتقاد والإيمان ، وهو خير من العمل الخارجي ، كما أن الكفر القلبي شر من الفسق العملي ، أو أن نية الخير من المؤمن إذا لم يقدر عليه خير من العمل إذا قدر ؛ لأن النية خالصة لله ، والعمل ربما كان رئاءً ونحوه. والكافر ينوي من الشر فوق ما قد يعمل به ، أو أن النية لما كانت أمراً قلبياً كثير الشوب بالأغراض النفسية والدنيوية وإخلاصها وتصفيتها وتمحيصها بحيث لا يشوبها أي غرض غير رضا الله تعالى ، أمر صعب جداً لا يناله إلا الاوحديّ من الناس ومع ذلك لها عندهم مراتب كثيرة ، فمع ملاحظة أن حسن العمل وكماله ينشئان من حسنها وكمالها يعلم

__________________

١ ـ الإسراء : ٨٤.

٢ ـ المحاسن : ص٣٤٩ ـ بحار الأنوار : ج١ ، ص٢٠٧.

٣ ـ الأمالي : ج٢ ، ص٣١٥ ـ المحجة البيضاء : ج٨ ، ص١٠٩ ـ الوافي : ج٤ ، ص٣٦٧ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٣٧ وج٨٤ ، ص٣٧٢ ـ مستدرك الوسائل : ج١ ، ص٩٤.

٥٤

أن طيبعة النية وجوهرتها تغاير طبيعة العمل ، وأنها خير بالاصالة والعمل خير بالتبع ، ومنه يعلم شرية نية الكافر ، وقيل في هذا المقام معان أخر.

وأنه يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة(١) ، المراد بها : العقائد الاصولية فيحشرن مؤمنين أو كفاراً أو منافقين كيفما كانت النيات ، أو يحشرون في اتصافهم بجزاء الأعمال على وفق نياتهم في تلك الأعمال.

وأن صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم(٢) .

وأن حد العبادة حسن النية بالطاعة(٣) .

وأن العبادة لله رغبة في ثوابه عبادة التجار وعبادة العبد المطمع ، إن طمع عمل وإلا لم يعمل. والعبادة رهبة وخوفاً من النار عبادة العبيد ، إن لم يخافوا لم يعملوا. والعبادة له تعالى لكونه أهلاً لها وشكراً لأياديه وإنعامه عبادة الأحرار.

وقوله : « عبادة التجار » قد يتخيل بطلان العبادة إذا قصد بها طلب الجنة أو الفرار من النار لكنه فاسد ؛ فإن أكثر الناس يتعذر منهم العبادة لمجرد كونه تعالى أهلاً لها ، أو لابتغاء ذات الله ووجهه ، فإنهم لا يعرفون الله تعالى إلا بعنوان أنه صاحب جنة ونار ونحوه من الأوصاف ، فيتذكرون الجنة ويعملون لطلبها ، والنار فيعملون للفرار عنها ، كما أنه ليس غرضهم تأثير العمل تكويناً بلا واسطة الرب تعالى ، بل يعتقدون أن له الخيرة كلها في بذل الثواب ودفع العقاب لكونهما بيده وهذا المقدار كاف في الصحة وترتب الأثر ، كيف وقد قال الحكيم تعالى :( وادعوه خوفاً وطمعاً ) (٤) وقال :( ويدعوننا رغباً ورهباً ) (٥) . وهذا أمر وترغيب في العبادة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٩.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢١٠ ـ نور الثقلين : ج٤ ، ص٥٨.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٩٩.

٤ ـ الأعراف : ٥٦.

٥ ـ الأنبياء : ٩٠.

٥٥

للخوف والرهبة والطمع والرغبة. وقد كتب عليعليه‌السلام : « هذا ما أوصى به وقضى به عبد الله علي ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ويصرفني به عن النار ». ولو لم يكن ذلك صحيحاً لما فعله عليعليه‌السلام ولما لقن به غيره.

وأن العبد المؤمن الفقير إذا قال : يا رب ارزقني حتى أفعل كذا من وجوه البر وعلم الله ذلك منه بصدق نيته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله فإن الله واسع كريم(١) .

وأنه يحتج عبد يوم القيامة ويقول : يا رب لم أزل أوسع على خلقك لكي تنشر علي هذا اليوم رحمتك ، فيقول الرب : صدق عبدي أدخلوه الجنة(٢) .

وأن علياًعليه‌السلام كتب في صحيفة بعض صدقاته : « هذا ما أمر به علي في ماله ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ويعطيني الأمنة »(٣) .

وأن من صام يوماً تطوعاً ابتغاء ثواب الله وجبت له المغفرة(٤) .

وأن من عمل الخير لثواب الدنيا أعطاه الله ثوابه في الدنيا وكان له في الآخرة النار(٥) لقوله تعالى :( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) (٦) .

وأن المؤمن إذا أوقف يوم القيامة بين يدي الله يقول للملائكة : هلموا الصحف التي فيها أعماله التي لم يعملها فيقرأها ويقول : وعزتك إني لم أعمل منها

__________________

١ ـ المحاسن : ص٤٠٧ ـ الكافي : ج٢ ، ص٨٥ ـ وسائل الشيعة : ج١ ، ص ٣٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص١٩٩ ، وج ٧١ ، ص٢٦١ ، وج٧٢ ، ص٥١.

٢ ـ الكافي : ج٤ ، ص٤٠ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٣.

٣ ـ نهج البلاغة : الكتاب ٢٤.

٤ ـ الأمالي : ج١ ، ص٤٤٣ ـ وسائل الشيعة : ج٧ ، ص٢٩٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٣ و ج٩٦ ، ص٢٤٧.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٤.

٦ ـ هود : ١٥.

٥٦

شيئاً ، فيقول : صدقت ، نويتها فكتبناها لك ، ثم يثاب عليها(١) .

وأنه ما ضعف بدن عبد عما قويت عليه النية(٢) .

 وأن من حسنت نيته زاد الله في رزقه(٣) .

وأن صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم(٤) .

وأن عون الله على العباد على قدر نياتهم. فمن صحت نيته تم عون الله له ، ومن قصرت نيته قصر عون الله(٥) .

وأنه لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى الدنيا فهجرته إلى ما هاجر إليه(٦) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٤ ، وج٧١ ، ص٢٤٢ ـ مرآة العقول : ج٨ ، ص١٩١ ـ مستدرك الوسائل : ج١ ، ص٩١.

٢ ـ الأمالي : ج١ ، ص٢٧٠ ـ من لا يحضره الفقيه : ج٤ ، ص٤٠٠ ـ وسائل الشيعة : ج١ ، ص٣٧ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٨.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٠٥.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢١٠.

٥ ـ الأمالي : ص٦٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص ٢١١.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢١١.

٥٧

٥٨

الدرس السابع

في الإخلاص والقربة

قال تعالى :( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ) (١) .

وقال تعالى :( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) (٢) .

الدين : الطاعة والعبادة ، والحنيف : المائل إلى الحق ، والحنفاء : المائلون إلى ربهم في أعمالهم الراغبون عن غيره إليه في طاعاتهم.

وقال تعالى :( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العاليمن ) (٣) .

النسك : العبادة ، واللام في قوله : « لله » للملكية والسلطنة ، والمعنى : أن عملي ونفسي جميعاً لله تعالى ، وليس لغيره فيهما نصيب.

وقال تعالى :( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) (٤) .

__________________

١ ـ الزمر : ١١.

٢ ـ البينة : ٥.

٣ ـ الأنعام : ١٦٢.

٤ ـ الإسراء : ٢٣.

٥٩

هذا البحث لبيان لزوم إخلاص العبد قصده لله في جميع ما يعمله له ، وعدم شوب أي غرض فيه ، وأن لا يعبد غيره تعالى من الوثن والشيطان والنفس ، ولا يشرك غيره فيما هو عبادة له.

فالإخلاص يكون ـ تارة ـ واجباً عقلاً وشرعاً ، ويكون تركه شركاً وكفراً كعبادة غير الله تعالى فقط أو إشراكه في عبادته ، و ـ أخرى ـ واجباً وتركه فسقاً مبطلاً للعمل كالرئاء ونحوه. و ـ ثالثة ـ مندوباً مطلوباً وتركه مسقطاً للعمل عن درجة الكمال ، كشوب الضمائم المباحة التبعية لنية العبادة ، ويقرب منه العبادة لله طمعاً في جنته أو خوفاً من ناره كما مر.

والنصوص الدالة على لزوم إخلاص الأعمال وتزكيتها وتمحيصها والسعي في كونها خالصة لله تعالى بحيث لا يشوبها أي غرض غيره كثيرة جداً بألسنة مختلفة ، بعضها وارد في تفسير الآيات الشريفة ، وبعضها مستقل.

فقد ورد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أيها الناس ، إنما هو الله والشيطان ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والرشد والغي ، والعاجلة والعاقبة ، والحسنات والسيئات ، فما كان من حسنات فلله ، وما كان من سيئات فللشيطان »(١) . والضمير في « هو الله » راجع إلى مقصد كل عامل ونيته ، والمعنى : أن الغرض الباعث إلى العمل في الناس لا يخلوا من أحد أمرين : إما هو الله تعالى فهو إذا حق وهداية ورشد وعاقبة وحسنة ، أو هو الشيطان فهو باطل وضلالة وغي وعاجلة وسيئة. وقوله : « فما كان من حسنات » تفريع لما قبله ، والمعنى : أن كل حسنة نراها فهي من الأول ، وكل سيئة فهي من الثاني.

وورد أنه : طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى

__________________

١ ـ المحاسن : ص٣٩١ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٦ ـ الوافي : ج٤ ، ص٣٧٣ ـ وسائل الشيعة : ج١ ، ص٤٩ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٢٢٨.

٦٠